الفصْل التّاسع
المَلك دَاوُد في حَبْرون
1 : 1 – 4 : 12
أ- المقدّمة
عرف داود بموت شاول، فذهب إلى حبرون، ولكن أحسّ أنّ الصعوبات كثيرة، سيما وأنّ ابنير، قائد جيش شاول، لا يزال يشد عَضدَ ايشبوشت ابن شاول. وطالت الحرب بين بيت شاول وبيت داود، غير أنّ أبنير سيتخلّى عن ذُرّية شاول، ويقطع عهدًا مع داود. حينذاك زالت كلّ عقبة أمام داود الذي مُسح مَلِكًا على بيت يهوذا، بانتظار أن يُمسح على كلّ إسرائيل.
ب- تفسير الآيات الكتابية
1- داود بعم بموت شاول فيرثيه (1: 1-27)
هذا الخبر الذي هو امتداد 1 صم 30: 1 ي، ينقل إلينا رواية لموت شاول، تفترق عن تلك التي نقرأها في 1 صم 31: 1-3. إنّه مؤلّف من مَصْدَرَيْنِ مُختلفين. في المصدر الأول يُعلن أحد الجنود عن موت شاول ويوناتان (آ 1- 4) فينُوح داود ورجاله ويبكون ويصومون (آ 11-12). في المصدر الثاني يتبجّح أحد العماليقيين بأنّه قتل شاول، فيأتي إلى داود حاملاً الشارات المَلَكيّة (آ 5- 10)، مُنتظرًا مكافأة له على عمله، فيلقى جزاء القتلة: قتلتَ مسيح الربّ (آ 13-16).
على أثر هذا يقول داود مرثيّته في شاول (آ 17-27): مجدك يا إسرائيل قتيل على روابيك.
(1: 1-16) خبر موت شاول: إنهزم الجيش في الحرب (آ 4). حدث لبني إسرائيل في جبال جلبوع، ما حدث لهم في ابن هاعيزر (1 صم 4 : 12-17).
كنت مارًا في جبل جلبوع (آ 6). في 1 صم 3:31-4 نقرأ أنّ شاول جُرح، فأخذ سيفه وسقط عليه. ولكنّ العماليقي يُخبر متبجّحًا أنّه هو الذي قتله. أيكون الواقع أنّه اكتفى بأخذ التاج والسِوار، وهما شارة المُلْك (2 مل 11: 12) وحملهما إلى داود؟
فبكوا وصاموا (آ 12): علامات الحزن هي الدموع (تك 37: 35؛ 50: 1، عد 29:20؛ تث 8:34) والصوم (1 صم 13:31).
دمك على رأسك (آ 16). إنّ دم القتيل لن يصرخ إلى السماء، لأنّه بعَدْلٍ قُتل (1 مل 2: 32؛ 3: 29).
(آ 17-27) رثاء داود لشاول ويوناتان: تجتمع في هذا الرثاء حرارة العاطفة وفنّ التأليف. فالآيات 19-25، تعرض لنا بنية دائرية. آ 25 هي صدى للآية 19، يا لَسُقوط الجبابرة (آ 19)، يا لسقوط الجبابرة في القتال (آ 25)، مجدك قتيل على روابيك (آ 19)، يوناتان قتيل على روابيك (آ 25). تبكي بنات إسرائيل (آ 24)، تُجاه فرَحِ بنات الفلسطيين (آ 20). أما آ 21-23 فهي تحيّي الأبطال فتذكر سلاحهم: قوس يوناتان (من هنا عنوان المرثية: نشيد القوس) سيف شاول، مِجَنّ شاول. ساعة اختفى شاول وبدأ العدو يبرز، أراد الكاتب أن يُلقي ضوءًا على وجه يوناتان، وكأن صداقة ابن شاول وداود، تُبرز وصول داود إلى سُدّة المملكة. نذكر هنا أنّ يوناتان أعطى داود سيفه وقوسه (1 صم 18: 4). وتنتهي المرثية بتذكّر حبّ يوناتان لداود: كنت عزيزًا علي، وكان حبّك لي أولى من حبّ النساء.
الأحداث المهّمة في بني إسرائيل تُحفظ في نشيد. وهذا الرثاء (راجع رثاء ابنير 3: 33 ي) يُشبه إلى حدّ بعيد نشيد دبورة (قض 5: 1 ي). انتهت حياة شاول ويوناتان نهاية الأبطال، ولكن سيأتي بعدهما بطل سينتصر على الفلسطيين، فلا يجب أن نحزن على الذين ماتوا.
أمر أن يعلَّم (آ 17). كانوا يُعلّمون أناشيد الحزن لأولادهم (ار 9: 19؛ حز 19: 14) نشيد القوس. كلمة نشيد مزادة. كلمة قوس تشكّل موضوع النشيد. سِفْر ياشر أو المُستقيم، مجموعة شعرية يُوردها يش 13:10.
يا لسقوط الجبابرة! (آ 19) عبارة تتردّد في رثاء يهوذا المكابي (1 مك 9: 21). بادت أسلحة الحرب (آ 27) أي مات شاول ويوناتان.
2- داود في حبرون (2: 1-32)
(آ 2: 1-4) داود ملك في حبرون: أول خُطوة لوصول داود إلى المُلْك، تمرّ في حبرون، أعظم مُدُن يهوذا. هذه المدينة احتلّها بنو كالب (يش 13:15 ي؛ قض 1: 20) الذين انضمّوا إلى بني يهوذا، فصاروا منهم. لا ننسى أنّ أبشالوم انطلق من حبرون، ليقوم بثورة على أبيه (7:15-12). مدن حبرون، هي القُرى المحيطة بحبرون، أو احياء حبرون التي سُميّت قديمًا "قرية اربع" أي مدينة الأربعة احياء.
فسأل داود الربّ كعادته، فأجابه الربّ وعيّن له المكان: حبرون.
امرأتا داود: ابيجائيل أرملة نابال من الكرمل في الجنوب (1 صم 25: 1 ي)، وأحينوعم من يزرعيل في الجنوب. بهذين الزواجين ارتبط داود بعَهْدٍ مع أهل الجنوب.
جاء رجال يهوذا ومسحوا داود. كان قد خطب ودّهم، عندما أرسل لهم من غنائم الحرب (1 صم 27: 10-12؛ 30: 26- 31). أمّا شيوخ إسرائيل فسيمسحون داود فيما بعد (3:5).
أتُرانا أمام تقليد يجهل أنّ صموئيل مسَح داودَ وهو فتىً بعد (1 صم 16: 1-13)؟
(آ 4-7) وفاء أهل يابيش لشاول: هذه الآيات امتداد 1 صم 31: 11-13. يستفيد داود من المُناسبة، ليشكر أهل يابيش على ما فعلوه من أجل شاول. فيدعوهم لأن يعترفوا به ملكًا بعد شاول.
(آ 8- 11) ايشبوشت ملك على إسرائيل: اما بيت يهوذا فتبعوا داود، وهكذا كان للجنوب مَلِكه، وللشمال مَلِكه في شخص ايشبوشت ابن شاول أو إشبعل (كما في 1 أخ 33:8، 39:9).إسمه يشوي (1 صم 14 : 49). ولكنّه سمّي في ما بعد "رجل بعل " أو "رجل الخِزْي".
محنائيم هي مدينة في شرقيّ الأردن، مرّ فيها يعقوب (تك 32: 3) يوم رجع إلى ارض كنعان، ولجأ إليها داود، حين ثار عليه ابنه أبشالوم (17: 24).
يعتبر الكاتب أنّ شاول ملك على يهوذا وعلى إسرائيل (آ 9)، وهو الذي قاد بعضا الحملات إلى أرض يهوذا (1 صم 23: 19-28؛ 26: 1-25)، وأدخل في خدمته أناسًا من يهوذا مثل داود وإخوته (1 صم 16: 14-23؛ 17: 12-14)
كان ايشبوشت ابن أربعين سنة (آ 10). في الواقع كان أصغر من ذلك، وقد ملك ما يُقارب سبع سنوات (4: 5، 5: 4- 5)، وهو الزمن الذي ملك فيه داود على يهوذا (آ 11؛ 5:5)
(آ 12-32) معركة بركة جبعون بين أبنير ويوآب: بركة جبعون تقع شماليّ أورشليم (ار 41: 12). هناك اصطفّ جيش يهوذا وإسرائيل. بدأت مبارزة بين 12 من يهوذا و 12 من إسرائيل، ثمّ كانت معركة ومُلاحقة، مات فيها من رجال داود عشرون رجلاً، بينهم عسائيل، أخو يوآب. كان بيت بنيامين أعظم سَنَدٍ لشاول (1 صم 9: 1) ولهذا برز 12 منهم (آ 15).
إرتدّ من ورائي (آ 22). خاف أبنير من أن ينتقم منه يوآب، وهذا ما سيحدث حين يضرب يوآب أبنير في بطنه بدم عسائيل أخيه (27:3).
من هو يوآب؟ هو أخو ابيشاي (1 صم 6:26؛ 8:26) وشبيهه بالعُنْف (3: 22- 30؛ 18: 10-15؛ 20 : 8- 10). قاد جيش داود (8: 16، 20 : 23) وانتصر على بني عمّون (ف 10-12).
تعلّق يوآب بداود، ولكنّ قساوته ورفضه لأيّة مساومة (19: 6-8) جعلا داود يُحِلُّ محلَّه عماسا (19: 14، 20: 4)، بعد موت أبشالوم. غير أنّه سيتخلّص من عماسا، ويعود على رأس الجيش (20: 10- 11). ولكنّ أعمال القتل ومساندته لأدونيا (1 مل 1 :7)، جعلت سليمان يُرسل إليه من يقتله في الهيكل (1 مل 28:2-35).
"حلقت هاصوريم" أي حقل الصناديد أو المقتولين (بحسب الارامية) أو المناوئين (آ 17) "جبعة أَمّة" أي تلّة المياه، بحسب اللاتينية وشرح المعلّم قمحي.
وانتهت الحرب بهُدنة، وعاد رجال عاود إلى حبرون .
3- ألحرب بين بيت شاول وبيت داود (3: 1-39)
(آ 3: 1) وطالت الحرب بين بيت شاول وبيت داود، ولكن تقوَّى بيت داود وضعُف بيت شاول. كثر أولاد داود وتبّاعه. ثم إنّ أبنير، قائد شاول، ترك سيّده والتحق بداود.
(آ 2- 5) بنو داود: أمنون، كلآب، أبشالوم، أدونيا، شفطيا، يترعام، ولدوا له في حبرون.
في 13:5-16 سيورد النصّ أبناء داود الذين ولدوا له في أورشليم.
جشور مملكة آرامية تقع شرقيّ بحيرة طبرية قرب باشان (يش 12: 5). سيلجأ إليها ابشالوم، بعد أن يقتل أمنون أخاه (13: 37؛ 15: 8)، لأنّها أرض أخواله.
(آ 6- 11) انفصال أبنير عن ايشبوشت: بدأ الخلاف بسبب جارية شاول، التي دخل عليها أبنير.
أرسل أبنير رسلاً إلى داود: إقطع معي عهدًا، فتكون يدي معك، وأردّ إليك جميع بني إسرائيل.
(آ 12- 21) محادثات بين أبنير وداود: أقنع أبنير بني إسرائيل، وكان معهم بيت بنيامين (آ 19).
أما شرط داود: أن تعود إليه امرأته ميكال (آ 14).
بحوريم (آ 16) تقع شرقيّ جبل الزيتون على طريق أريحا القديمة، على حدود بنيامين ويهوذا.
(آ 22-29) مقتل أبنير ورثاء داود له: عرف يوآب بمجيء أبنير فغضب. تم وجّه رسلاً في طلب أبنير، فعاد أبنير وقد ظنّ أنّ داود يطلبه.
حين قُتل أبنير، اهتمَّ داود بأن يُبرهن على براءته: أنا ومملكتي بريئان من دم أبنير. بكى الملك أبنير ورثاه: أَمَوْتَ الجَبان يمُوتُ أبنير!
4- صوت ايشبوشت ابن شاول (4: 1-12)
(آ 4: 1-3) سمع ايشبوشت بموت أبنير فخارت عزيمته: على من سيستند بعده؟
(آ 4) كان ليوناتان ابن اسمه مفيبوشت (أي ساكب الخِزْي) أو مربعل (بعل يحامي او بعل يبارك: رج 1 أخ 8: 34 ؛ 9: 40). أجل لم يبق من نسل شاول، بعد مقتل ايشبوشت، إلا هذا الابن الأعرج. فمن من نَسْلِ شاول يُطالب بالمُلْك بعد؟.
(آ 5-8) ريكاب وبعنة، ابنا رمون البيروتي (ألبيرة تقع شماليّ أورشليم يش 9: 17؛ 25:18) قتلا ايشبوشت وحملا رأسه إلى داود.
(آ 9-12) أمر داود حرسه فقتلوهما، وقطعوا أيديهما وأرجلهما (1 صم 31: 10؛ تث 22:21-23)، ثم أمر فَدُفِن رأس ايشبوشت في قبر أبنير.
لا شكّ في أنّ مقتل أبنير وايشبوشت، فتح الطريق أمام داود، ذلك على بيت إسرائيل (5: 1- 5)، ولكنّه أظهر غضبه واستنكاره لهذا القتل، يفعله الجُبناء.
ج- مُلاحظات حول الفصل التاسع
نحن أمام صورة من القرن العاشر ق. م.: عَصرُ فلاحين ومُحاربين. مناخ إجتماعيّ وعادات من الفوضى، تجعل الحياة عُرضة للقلاقل والمِحَن، ويُمكننا أن نتخيّل كيف كانت حياة مَلِك تحرسه امرأة مشغولة بتنقية الحِنْطة (4: 5-6).
رجال الحرب قليلون، ومُعظم الناس لا يهتّمون إلاّ بعملهم اليوميّ. غير أنّ الحرب،
وإن كانت مناوشات داخليّة، فهي شرّ دائم تَضُرّ بالبيوت والمحاصيل. ألجيش يعيش على حساب المُزارع. فحين رفض نابال أن يدفع (1 صم 25: 2-39)، وضَعَ جيش داود يده على كلّ شيء له، فات من الحُزْن.
يكفي أن نقرأ هذه الآية فنَقْشَعِّر: رجع أتباع داود ويوآب من الغزو، ومعهم غنيمة عظيمة (22:3)، وهي ولا شكّ نتيجة ما سلبوه هنا وهناك.
حرب فلاحين لا يملكون السلاح، فيُقاتلون بالحجارة والعِصيّ والفُؤوس. ولكن بدأ الشعب يفهم أهميّة الاتحاد حول مَلِك يُنظِّم جيشًا ليحمي البلاد. وتجاوب داود مع الشعب: يجب أن تنتهي هذه الحالة. وبدأ حالاً يُحرّر الأرض، إنطلاقًا من حبرون، وهكذا صعد صعودًا بطيئًا وطويلاً، إلى أن وصل إلى سُدّة المُلْك، بانتظار السنوات المَجيدة الأتية