الفصْلُ الثَّامِن: دَاوُد يَلجَأ إلى أرض الفلسطييّن

الفصْلُ الثَّامِن
دَاوُد يَلجَأ إلى أرض الفلسطييّن
27: 1- 31: 13

أ- المقدّمة
لم يبقَ لداود إلا أن يهرب إلى مناطق الفلسطيين، لينجو من شاول الذي يُلاحقه. من جهة جعل نفسه في خدمة عدوّ شعبه، ومن جهة ثانية عمل ما في وسعه لئلا يُصيب الأذى شعبه. غير أنه سيأتي وقت يستغني عنه اكيش، بناءً على طلب قواده (3:29). ولكن لا يعتّم شاول أن يموت في معركة الجلبوع، فيأمن داود على حياته، ويعتبر أنّه يستطيع العودة إلى أرض يهوذا.

ب- تفسير الآيات الكتابية
1- داود عند الفلسطيين (27: 1-12)

(آ 27: 1-4) داود يلجأ إلى جت: وَضعُ داود وَضعٌ مشبُوه، ولولا دعاؤه والظروف، لما استطاع أن يخرج من الهُوّة التي سقط فيها. غير أنّ هذه الحياة في المنفى، ستُعينه على جمع رجال تشيّعوا له استعدادًا لتبوئه عرش بني إسرائيل (30: 26-31).
(آ 5-12) داود يُناصر الفلسطيّين : صقلاج (يش 15: 31، 19: 5) تقع شماليّ بئر سبع. أقطع اكيش لداود هذه المدينة، ليحمي البلاد من غزوات البدو.
ألجشوريون هم جيران الفلسطيين (يش 13: 2)، وهم مقيمون قرب الشاطىء الجنوبيّ الغربيّ.
الجرزيون هم شعب يُقيم في جازر. الجرجشيون هم شعب أقام قديمًا في أرض كنعان. بنو عماليق يُقيمون في الجنوب.
من عدلاَّم او طلائيم (15: 4-7) أي حدود الشمال (البعض يترجم هذه الكلمة: من القديم) إلى شور، شرقيّ دلتا النيل.
ألنقب منطقة سكّانها بدو (هم قليلو العدد) وهي تمتدّ جنوبيّ كنعان، يميز الكاتب هنا بين نقب قبيلة يهوذا الذي هو على تخوم أرض يهوذا، وبين نقب القينيين (1 صم 15: 6) الذي يقع شرقيّ الأول، ونقب اليرحمئيليين أقارب يهوذا (1 اخ 2: 9)، ألذي يقع إلى الجنوب. في 14:30 نقرأ عن نقب الكرتيين ونقب كالب.
كان داود يكذب على أكيش. يقول إنّه يغزو بني يهوذا وحلفاءهم بينما هو يُقاتل أهل الصحراء. ولكن يخفي أثر عمله. لم يكن يُبقي على الأسرى، فتختفي معالم حروبه.
2- حرب بين الفلسطيين وبنى إسرائيل (28: 1- 25)

(آ 28: 1-2) ألحرب بين شاول والفلسطيين: تشكّل هاتان الآيتان مقدّمة لما نقرأه فيما بعد عن موت شاول وابنه يوناتان. ماذا سيفعل داود؟ قال اكيش: تخرج معي. أجابه بطريقة مُلتبسة: ستعلم ما اصنع يا سيدي.
(آ 3-25) شاول وساحرة عين دور: كان بنو إسرائيل يُمارسون العِرافة (2 مل 6:21؛ اش 19:8)، مع أنّها كانت محظورة في الشريعة (لا 31:19؛ 20: 6-27؛ تث 18: 11). في هذا النصّ نقرأ أنّها ممنوعة: كان شاول نفى السَحَرة والعرّافين من أرض إسرائيل (آ 3 رج آ 9). إنّ الراوي يُشارك الشعب في اعتقاده باستجلاب الأرواح، ولكنّه يعتبر دعوة الأرواح أمرًا محظورًا. ولكن ما حيلة شاول وقد أغلقت بوجهه كلّ الأبواب: لم يُجِبْه الرب لا بالأحلام ولا بالكهنة (أو الأرويم 14: 14) ولا بالأنبياء (آ 6)، وهي الوسائل الثلاث التي تسمح بها الشريعة، كطريقة يسأل بها سائل، فأحسّ بالخطر يُحْدِق به.
كيف نفسّر هذا الحدث؟ تدخّل إلهي، تدخّل شيطاني، غِشّ وخِداع من قبل المرأة. خدعت المرأة شاول فانخدع، ولكنّ الربّ سمح أن تظهر روح صموئيل (ولهذا خافت المرأة) لتكشف عن المستقبل. نقرأ مثلاً في 1 اخ 13:10 بحسب الترجمة السبعينية ما يلي: أخطأ شاول حين سأل الساحرة، ولكنّ صموئيل هو من أنبأه بما يحدث. ونقرأ في سي 46: 20: ومن وبعد رقاده تنبأ صموئيل، وأخبر الملك شاول كيف سيموت. من قَلبِ الارض رفع صوته، فتنبأ ليمحو إثمْ الشعب.
يقع جبل الجلبوع جنوبي سهل يزرعيل، وتقع شونم تُجاهه إلى الشمَال الغربيّ. أما عين دور فتقع شماليّ شرقيّ شونم.
كلّ هذا يجعلنا نعيش ليلة موت شاول.
تنكرّ شاول (آ 8) كما تنكّرت امرأة يربعام لتسأل النبي أحيا (1 مل 14: 4). لمّا أطلّ صموئيل، عرفت المرأة أنّ سائلها هو شاول بسبب العلاقة المعروفة بينهما. رأيت "آلهة" أو روحًا يطلع من الأرض (آ 13)، أي من "الشول" مثوى الأموات.
صار الربّ مع صاحبك (آ 16) أي مع داود، إذا قرأنا بحسب اليونانية والسريانية، أو صار الربّ عدوك، بحسب العبرانية المصحّحة (عدك بدل عرك). نحن نتذكّر هنا المعركة مع بني عماليق، وخاصّة في 27:15-28.
غدا تكونون معي أنت وبنوك (آ 19)، وفي هذا إعلان لما سيصير إليه شاول وبنوه (31: 2-6). فالشول هو مثوى كلّ الأموات أكانوا أخيارًا أم أشرارًا. أما التمييز بين حالة الأشرار والصالحين، فسيتمّ خاصّة في سِفر الحكمة 3- 5
في سهل يزرعيل وقعت معارك عديدة، فيها مات سيسرا موتًا مُخجلاً، وقُتل الملك احزيا على يد ياهو، وأكلت الكلاب إيزابيل زوجة آحاب. في هذا السهل سيموت أعظم ملوك بني إسرائيل في أواخر عهدهم (يوشيا في مجدو)، وفيه يُنتظر أن يتمّ قَدَر شاول. يُلاحق الناس داود، ولكنّ الله يُخلّصه منهم، ويُلاحق الله شاول، فمن يُخلّصه من يد الله بعد خياناته المتعددة، وكان آخرها الرجوع إلى أرواح الموتى لمعرفة إرادة الله الحي.
3- ألفلسطبون يستغنون عن خدمات داود (29: 1- 11)

(آ 29: 1- 5) واستعد الفلسطيون للحرب: افيق تقع عند نبع يافا، وهي مركز تجمعّ للفلسطيين (4: 1). سيتخلّص داود من الفلسطيين فلا يحمل السلاح على شعبه، ولا يُعادي آكيش الذي أضافه فحماه من غضب شاول.
وخاف الفلسطيون من أن يخونهم داود، وتذكّروا ما غنّت له النساء (7:18؛ 21 : 12 ) .
(آ 6- 11) مديح آكيش لداود: أنت صالح في عينيّ كملاك الربّ... بهذا الكلام صرف أكيش داود وجيشه، فرجعوا إلى مركز إقامتهم، وصعد الفلسطيون إلى يزرعيل.
ألملاك هو مثال الجمال (قض 13: 6) والفهم (2 صم 14: 17 ؛ 19: 28)، وتلك هي صفات داود من يوم اختاره الربّ.
أجل، دقّت ساعة الحرب التي يموت فيها شاول، والتي سيكون فيها داود غائبًا، وسيستفيد الراوي ليُخبرنا بحَدَث جديد تبدو فيه بطولة داود بروعتها. يوم كان شاول يُهزم شرّ هزيمة، كان داود يتقدّم بخطى واسعة نحو العرش الملكيّ، كمخلّص لشعبه من مُضايقيه.
4- داود يُحارب العماليقيين (30: 1-31)

(آ 30: 1- 20) داود يُنقذ السبايا: غزا بنو عماليق صقلاج، إنتقامًا لغزوة داود لهم (27: 8) يوم كانت المدينة فارغة من الرجال. أخذوا الأولاد والشيوخ، وسَبَوا النساء (ومنهن زوجتي داود احينوعم وابيجائيل) ليبيعوهنّ في مصر.
حزن الرجال وشعروا بالمرارة وتكلّموا برجم داود، ولكنّ داود شدّد عزمه بالرب. هل أتبع هذه العصابة؟ وجاءه الجواب من الربّ (عكس شاول): إِتبعهم تلحق بهم وتُنقذ الأسرى.
وادي البسور (أي وادي البشرى) مكان غير بعيد من صقلاج في برّية النقب. ويلتقي داود برجل مصري يدلّه على مكان العماليقيين، وكانوا يُعيّدون ويبتهجون. هجم عليهم داود فقتل أكثرهم وأفلت البقيّة، فاريّن على ظهور الجمال.
أجل، ما لم يستطعه شاول، سيقوم به داود، فيُبيّن انه أهل للمُلْك على شعب الله.
(آ 21-25) داود رافع لواء العدالة: بقي بعض الرجال قرب الأمتعة، فرفض رفاقهم أن يعطوهم من السَلْب حصّة توازي حصّتهم. عارضهم داود: نصيب النازلين إلى الحرب كنصيب الذين يحرُسون المونة والعتاد. وذكّرهم بأنّ الله هو الذي أعطاهم النصر.
هذه القاعدة تُنسب أيضًا إلى موسى (عد 31: 27) ويشوع (يش 22: 8) فتُبيّن لنا أساس التشريع الذي عُمِلَ به في الحرب.
(آ 26- 31) داود وأصحابه: أرسل داود من الغنيمة إلى شيوخ يهوذا. بهذه الطريقة ردّ لهم بعض الجميل، حين كان في ضيافتهم، ثمّ ربح ودّهم بسخائه، وسيكونون بقربه ساعة اعتلائه للعرش (2 صم 2: 1-4).
ألمُدُن المذكورة هنا نقرأها في سِفر يشوع (15: 29) وهي تقع كلّها إلى الجنوب من حبرون (نقرأ بتول أو بتوئيل بدل بيت إيل رج يش 4:19 ؛ 1 اخ 30:4).
5- معركة جبل جلبوع وموت شاول (31: 1-13)

(31: 1-7) ألمعركة: عرفنا في 28: 4 أنّ الفلسطيين أقاموا في شونم، والعبرانيين على جبل جلبوع. وها نحن نتعرّف في هذا الفصل إلى ما حصل لشاول ولبنيه.
صرت الفلسطيون داود (28: 1-2) الذي بدأ يتصالح مع بني يهوذا (27:30 ي). أمّا شاول فقد عرف مصيره (3:28-25) وها هو يَشن معركته الأخيرة.
أراد شاول أن يموت كما مات أبيملك (قض 9: 54)، قبل أن يصل إليه الفلسطيون (ألقُلْف أي غير المختونين). ولكنّ الخوف منع حامل سلاحه من أن يَمُدَّ يده إلى مسيح الرب (9:26 ؛ 2 صم 1 :14).
ولما رأى العبرانيون وفاة شاول وبنيه، تركوا المُدُن وهربوا، فأقام فيها الفلسطيون.
(آ 8-13) شاول وبنوه: قطع الفلسطيون رأس شاول، كما فعل داود بجُليات (17: 51) وداروا يحملون البشرى في مُدُنهم، قبل أن يضعوا أسلاب الملك في هيكلهم (2:5؛ 21: 10) في اشقلون أو غيرها من المُدُن.
بيت شان تقع في وادي الأردن، شرقي جبل جلبوع.
أما أهل يابيش جلعاد، فأرادوا أن يردوا الجميل لشاول الذي خلّصهم، فأخذوا جثّته ودفنوها وناحوا عليه (تك 50: 10) وصاموا سبعة أيام (2 صم 1: 12، 3: 35). يرتبط أهل يابيش ببيت بنيامين (قض 8:21-14) وعشيرة شاول (7:11) سيشكر لهم داود فِعْلهم من أجل شاول، وسيدعوهم إلى الانضمام إليه، بعد أن صار ملكًا (2 صم 4:2-7).

ج- مُلاحظات
1- وتنتهي قصّة شاول بلا شرح ولا تأويل. لقد أعطانا الراوي نظرته بصراحة إلى شاول، وعلى القارىء أن لا تغرب عن باله هذه الصورة الأخيرة، فيبقى فينا شعور أنّنا أمام رجل تعيس ولكنّه شجاع.
لا فصل بين 1 صم 31: 1 ي و 2 صم 1 : 1 ي. سيعرف داود بموت شاول (2 صم 1 :17-27) فينوح عليه وعلى سائر الأبطال الذين ماتوا، ويتحسّر على هزيمة بني إسرائيل. لا شَجْبَ لأحدٍ ، بل حزن على خسارة بني إسرائيل. الراوي يترك القارىء يحكم على الأمور كما في قِصّة عالي. أمّا المُؤّرخ الاشتراعي الذي يهمّه أمر داود، فهو يحكم على شاول، ويعتبر أنّ خيانته كانت سبب موته وانتقال الملك إلى داود. عصى الله وسأل الساحرة لا الله، فعاقبه الله، وكانت تلك آخرته (1 أخ 13:10-14).
2- تعليم سفر صموئيل الأول. مات شاول وأبناؤه في جبل جلبوع، وغاب الوجه التعيس، لأول ملك في بني إسرائيل بطريقة مأساوية. وكان بطلاً، ولكن غطّى عليه ابنه يوناتان ثمّ داود، ألأول بصداقته والثاني بحِنْكَته ودهائه. إختاره الله قائدًا لشعبه، وأرسله في وقت الشدّة ليحمل إليهم الخلاص والرجاء ففعل. طلب إليه طاعة مُطلقة لإرادته الإلهية، ولكنّه سقط فحُكم عليه. وهنا يُعطينا الكتاب المقدس مثالاً ونموذجًا عن الطاعة والبركة، عن العصيان والدينونة. ما نقرأه في سفر التثنية، نُشاهد صورة عنه في 1 صم كما في قض وفي 1 و 2 مل.
ولكن للكتاب مدى أوسع، لأنّه جزء من مخطط كبير، يُبيّن لنا كيف أنّ شعب الله انتقل من التنظيِم القبليّ القديم، إلى دولة لها ملكها، من حياة دينية تُمارس شعائر عبادتها اتفاقًا ومُصادفةَ، إلى عبادة منظّمة بواسطة الكهنة وفي هيكل مبني لهذه الغاية.
إذا قرأنا أسفار التوراة، وجدنا سلسلة من الصور. ألصورة الأولى في يش وقض وهي تبرز لنا الاحتلال الذي تمّ لا بقوة البشر بل بقُدرة الله. وجاء بعدها وقت التقلّب والتردد. فجاء ا صم فبيّن بداية عمل الله في تحقيق مُخططه. ألكهنوت القديم وُضع جانبًا. ألنُظم القديمة تعطلّت، وبدأ نظام الملكية الجديد يسير خُطواته الأولى.
هل انتهي إلى الفشل؟ لا ليس الأمر كذلك. ومهما كانت نهاية الملك شاول، فإنّ داود الملك الآتي يستعدّ لقيادة شعبه عندما تَزِفّ الساعة. ولن يكون الملك وحده في هذا العمل بل سيكون بقربه الكاهن الذي يُوجّهه، والنبيّ (على مثال صموئيل) الذي يهتمّ بتأمين خليفة له، كما فعل ناتان (1 مل 1 : 1 ي).
لقد تعمقت علاقة الملك والشعب بالله. ولهذا طرح 1 صم أسئلة الحياة الأساسية: كيف يتصرّف الله بالنسبة إلى الانسان؟ ما هي طبيعة مخططه وما يكون جواب البشر على هذا المخطط؟ عبر تنوّع الأخبار، يدعونا الكاتب الملهم إلى أن نطرح على أنفسنا مثل هذه الأسئلة، ونحاول الإجابة عليها في الأوضاع التي يعيشها كلّ واحد منا اليوم

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM