الفصْلُ الثّامِنُ
شمشُون المكرَّس للرَّبّ
13 : 1 – 16 : 31
أ- المقدّمة
1- تروي ف 13-16 بعض أحداث من حياة شمشون، من ولادته إلى موته. هذا الرجل لا يُشبه سائر القُضاة الذين سبقوه. هو بطل في قرية صغيرة، مشهور بقوته الخارقة وحبّه للنساء. "فتح على حسابه" فحارب الفلسطيين أعداءه الألدّاء ساعة حلا له وسالمهم ساعة أراد. غير أنه بقي ذلك المتعبد للربّ، وبالأخصّ في ساعة الضيق. مات ولكنّه قتل معه جمعًا كبيرًا.
2- أدخل المؤرخ الاشتراعي شمشون مع سائر القضاة (13: 1، 5؛ 15: 20، 16: 31)، فأعطاه مركز الصدارة مع الذين خلّصوا الشعب، ونقلوا إلى الأجيال اللاحقة أخبارًا مُثيرة وجذّابة. قال فيه الفلسطيون مُنشدين إكرامًا لالههم داجون: دفع ربُّنا عدوَّنا إلى أيدينا. هذا شمشون عدوّنا، فهو خرّب أرضنا تخريبًا، وزاد عدد قتلانا (24:16). هذا هو حكم الفلسطيين عليه. أمّا بنو يهوذا فحسبوه خطرًا عليهم، وجاسوسًا يتنّقل بين أرض إسرائيل وأرض الفلسطيين، فأرادوا أن يُوثقوه ليستريحوا من شرّه (15: 12).
3- هذا ما فهمه الناس في الماضي من شخصية شمشون. أمّا الكاتب، فعاد إلى تقليد بني إسرائيل الذي يعتبر شمشون مخلّصًا كسائر القضاة. حلّ روح الربّ عليه، فحمله على أن يقوم بأعمال مُذهلة لا تحترم حقّ الآخرين. ولكن ما همّ إذا كان هؤلاء الآخرين، هم غزاة يشكّلون خطرًا على شعبه، يقول الكاتب: كان الفلسطيون متسلّطين على بني إسرائيل في ذلك الزمان، وإذا كان شمشون يبحث عن سبب ليتحرّش بالفلسطيين، فالأمر كان من قِبَلِ الربّ (14: 4).
4- وأساء الناس اليوم فَهْم شخصية شمشون، فحسبوا قوّته قائمة في شَعْرِه، كما لو كنّا أمام أعمال سحرية، بينما الواقع هو أنّ قوته تأتيه من تكريسه للربّ. أمّا الشعر الطويل فعلامة التكريس. ظلّ شمشون قويًا، ما ظلّ مكرسًا للربّ، وما ظلّت علامة تكريسه (أي شعره) ظاهرة للعيان. ولكن لمّا زالت إشارة تكريسه، زالت معها توّته. إنه رمز إلى بني إسرائيل: عندما يكونون أمينين للربّ، يقوون على أعدائهم، وعندما يخونون ربّهم بعبادة الآلهة الغريبة، وبزواج من الكنعانيات يضعفون فيتسلّط عليهم الأعداء. وكما عاد شمشون إلى ربّه، وكانت علامة عودته طول شعره، كذلك حين يعود بنو إسرائيل إلى ربّهم يعود إليهم الله وينصُرهم.
5- من هم الفلسطيون أعداء شمشون؟ هم غرباء، وكلّ شيء يميزهم عن سكّان كنعان. طريقة لباسهم بقُبعاتهم المزّينة بالريش، أسلحتهم التي تُشبه أسلحة أهل اليونان، تنظيمهم في مدن مُتحالفة يجعلهم أقوياء. عندهم مرافىء تربطهم بالعالم الذي جاؤوا مشوه، فلا يخافون البحر مثل العبرانيين. ثم هناك فارق أساسيّ راجع إلى اصلهم وعاداتهم: هم لا يُختَنون، وهذا أمر غريب بالنسبة إلى كلّ شعوب المنطقة، حيث كان الخِتان الشريعة العامة. احتقر الساميون الفلسطيين، وحسب الفلسطيون هؤلاء العبرانيين قومًا برابرة.
6- واتصلت قبيلة دان التي ينتمي إليها شمشون بالفلسطيين. هذه القبيلة لم يكن لها تاريخ مجيد، وهي لم تجد لها بعدُ مكانًا ثابتًا. وصلت إلى شاطىء البلاد فطردها الأموريون (1: 34) فاجبرت على التنّقل من الجبل إلى السهل، لحاجة قطعانهم إلى المرعى. وسيروي لنا ف 18 كيف ستنتقل هذه القبيلة إلى أقصى شمال أرض كنعان لتُقيم هناك.
7- يُشكّل ف 13-16 وحدة متكاملة، وإن شابه الظهور على جدعون الظهور على والدي شمشون، وإن ذُكرت العشرون سنة مرّتين (15: 20؛ 16: 31)، فجعلت بعض النقّاد يعتبرون أنّ ف 16 زيد فيمَا بعد. أمّا الخبر فهو يرتبط بتقاليد فلسطية وتدور أحداثه حول بطل تكمُن قوتّه في شَعْره. ألإطار التاريخي (3:3) هو ذلك الذي فيه سيطر الفلسطيّون على بني إسرائيل في جنوبي دان وغربيّ يهوذا (3:15، 19-13).
8- يُقسم خبر شمشون عدّة أقسام: مولده حيث يُشدّد الكاتب على أنّ العناية هيأت هذا الولد لعمل عظيم (13: 1-25)، وأعماله العظيمة بعد أن تزوج امرأة من تمنة: قتل أسدًا ثم عرض أحْجية على الفلسطيين، فعرفوا مغزاها بسبب امرأته. أحرق حصاد الفلسطيين، وقتل من قتل بفكّ حمار. أغلقوا عليه أبواب المدينة فحملها ومضى. ولكن احتالت عليه دليلة، وهي امرأة أحبّها في وادي سوريق، فقصَّت له شَعْره، فقبض عليه الفلسطيون وجعلوه في السجن. وأرادوا أن يهزأوا به في يوم عيد داجون، إلا أنه هدم المعبد فمات هو وماتوا معه.
ب- تفسير الآيات الكتابية
1- مولد الولد المُختار من بطن أمّه (13: 1- 25)
(آ 13: 1- 5) ألظهور الأوّل. وعاد بنو إسرائيل إلى الشرّ. قد تكون مُضايقة الفلسطيين معاصرة للعمّونيين. إسم بطلنا شمشون (راجع كلمة شمس). والده منوح أو الراحة. هو من قبيلة دان، ومن صرعة، ألمدينة الكنعانية التي تبعد 20 كم إلى الغرب من أورشليم.
ظهر ملاك الرب (رج 16: 11). قال لامرأة منوح: أنت عاقر. كانت مثل ساره (تك 30:11) وحنّة (1 صم 1:2، 5) وأليصابات ( لو 1:7 ؛ رج مز 9:113) اللواتي كنّ عواقر، ثمّ وَلَدْنَ أبناء المُعجزة. ولكن على أمّ شمشون أن تحفظ نفسها من الخمر وبعض المأكولات، لأنّ ابنها سيكون منذورًا من بطن أمّه، أي مُكرّسًا لله (رج عد 2:6- 21). وهو لن يقصّ شعره ولا يحلق لحيته، وستكون له رسالة: أن يُخلّص شعبه من أيدي الفَلِسطيين.
(آ 6-8) أخبرت المرأة زوجها منوح عن حديثها مع رجل الله الشبيه بالملاك... ولكنّها أخْفَت عنه بعض الأشياء، فأحبّ أن يستوضح، ولهذا صلَّى ليرجع رجل الله، ويخبره ما يصنعه بالولد.
(آ 9-23) إستجاب الرب لمنوح، وظهر مرّة ثانية للمرأة في البرّية، فركضت وأخبرت زوجها، فأسرع وسأله ماذا يعمل، فردّد الملاك الكلام الذي قاله للمرأة عن تكريس الصبي، وامتناع الأمّ عن كلّ نتاج الكرمة. إرتاح منوح وعرض على ضيفه طعامًا، فدعاه الملاك إلى أن يُقدّم للرب جَدْياً. حينئذ سأله منوح عن اسمه. فأجابه: إسمي سرّي عجيب. ثم قدّم منوح الذبيحة، وإذ ارتفع اللهب، صعد الملاك في اللهب، وما عاد يراه منوح وامرأته. خاف منوح أن يموت، ولكنّ امرأته هدّأت من رَوْعِه: لو أراد الله أن يُميتنا، لما قَبِل تقدمتنا، وهو قد وعدنا بابن نكرّسه له.
(آ 24-25) وتمّ الوعد وَوُلد الولد، وسمّته أمّه شمشون، بتأثير من معبد شمش. وكبُر الصبي وحلّ روح الربّ عليه من أجل رسالة يقوم بها. (3: 10؛ 34:6؛ 11: 29). محنة دان هي محلّة دان. اشتاؤول تبعد 4 كلم إلى الشمالي الشرقيّ من صرعة .
2- حُبّ ومتاعب في أرض الفلسطيين (14: 1-15: 20)
(آ 14: 1-9) وأحبّ شمشون فلسطية من تمنة التي هي مدينة في دان (يش 19: 34)، وهي غير تمنة يهوذا وتقع على الحدود بين يهوذا ودان، ولا تبعُد كثيرًا عن بيت شمش. حاول والداه أن يصرفاه عن مشروع الزواج، ولكنّه رفض. ولكنّ هذا كان من قِبَل الربّ الذي يستفيد من كلّ شيء لتحقيق مقاصده. وذهب الوالدان مع ابنهما ليخطبا له الفتاة، فلقوا أسدًا. فحل روح الربّ على شمشون فمزّقه كجَدْي. وعاد بعد أيام فوجد في جثّة الأسد قفيرًا من النحل، فأخذ من عَسَله.
(آ10-14) ألزواج والأحْجية. وكانت وليمة الزواج، وفيها طرح شمشون أُحْجيته، مُشيرًا إلى العسل الذي أخذه من القفير المُقيم في جثة الأسد. قال: خرج من الآكل طعام ومن القويّ حلاوة.
(آ 15- 20) سيصل الشبّان الفلسطيون إلى سرّ الأُحجية على يد امرأة شمشون التي سألته الجواب، ونقلته إلى أبناء قبيلتها. فأجابوه: أي شيء أحلى من العَسَل، أيّ شيء أقوى من الأسد. فردّ عليهم بمَثَل، قال: لو لم تحرثوا على عِجْلتي لما اكتشفتم لُغْزي، وهو يعني بالعِجْلة امرأته. ولكن كيف يدفع الرِهان، وكان ثلاثين قميصًا وثلاثين حُلّة؟ حلّ عليه الروح فقتل ثلاثين فلسطيًا، وأخذ ثيابهم وأعطاها للشبّان الذين راهن معهم. ولكنّ المرأة انتقلت من شمشون إلى صاحبه. فبقي على شمشون أن ينتقم.
(آ 15: 1-8) ألثعالب: وانتظر زمن حصاد القمح، فذهب إلى امرأته يحمل إليها جَديا ليُصالحها، فلم ترض. حينئذ أخذ 300 ثعلب، وربطها اثنين اثنين، وجعل النار في أذنابها وأفلتها في الحقول. عرف الفلسطيون أنّه عمل شمشون فانتقموا منه: أحرقوا امرأته التمنية وأباها.
(آ 9- 20) فكّ الحمار. وتقدّم الفلسطيون إلى أرض يهوذا، إلى لَحْي (أي الفكّ) وهي مكان مجهول (2 صم 23: 11)، وطلبوا شمشون من أهلها. فأراد أهلها أن يرتاحوا، فحاولوا أن يُمْسكوه ويُسلّموه إلى الفلسطيين. تركهم يُوثقوه، ولكن لمّا صار وسط الفلسطيين، حلّ عليه روح الربّ، فانحلّ الوثاق ووجد فكّ حمار فقتل به ألف رَجُل.
وعطش فصرخ إلى الله: فعلت بيد عبدك هذا الخلاص العظيم، وأنا أهلِكُ عطشًا. فأعطاه الله ماء في عين الداعي (عين هاقورة).
وينتهي هذا المقطع فيقول: وكان شمشون قاضيًا على إسرائيل عشرين سنة. خلّص شعبه كما خلّصه غيره من القضاة. هل تنتهي القِصّة هنا؟ كلا. وهُناك أحداث سوف تتبع.
3- نقية شمشون (16: 1-31)
(آ 16: 1-3) أبواب غزّة. وجاء شمشون إلى غزّة وتعرّف إلى امرأة بَغيّ. شُهرته سبقته، فاغلق أهل غزّة الأبواب، وانتظروا أن يقتلوه. ولكنّه قام نصف الليل، فحمل الأبواب إلى الجبل الذي قبالة حبرون. ولكنّ حبرون تبعد 70 كلم عن غزّة. إذًا الأمر غير معقول، وقد حاول النقّاد أن يبحثوا عن غزة أخرى، ولكنّهم نسوا أننا أمام خبر شعبي، يُغالي في الامور ولا يخاف أن يُضخّمها.
(آ 4- 5) شمشون يتعرّف إلى دليلة (أي التي تدلّ عليه إذا رجعنا إلى العربية أو الضعيفة إذا رجعنا إلى العبرية) في وادي سوريق (القريبة من صرعة). ولكنّ دليلة خانته حين وعدت شيوخ الفلسطيين أن تسلّمه إليهم لقاء مبلغ من المال.
(آ 6-14) وحاولت دليلة أن تعرف سرّ قوّة شمشون، فما كان يقول لها الحقيقة.
(آ 15-22) وتدلّلت دليلة وتغنّجت: كيف تقول إنّك تُحبني وقلبك ليس معي. حينئذ باح لها بسرّه: لم يصل رأسه موسى لأنه منذور للربّ. نام على رُكبيتها، دعت رجلاً فحلق له رأسه... جاء الفلسطيون، زالت قوّته بعد أن خان نَذْره، فصار ضعيفًا بين أيديهم. قلعوا عينيه وأوثقوه بحبال... ولكن أخذ شعر رأسه ينبُت... عاد إلى نَفْسِه وإلى ربه.
(آ 23- 31) ويموت شمشون ميتة مجيدة، ويُدفن معه كلّ الحاضرين الذين جاؤوا ليهزأوا به. داجون هو إله الحِنْطة، جاء من بلاد الرافدين، وأقام في رأس شمرا (وكان له معبد هناك) وصار الإله الوطنيّ للفلسطيين (1 أخ 10: 10) يروي 1 صم 2:5-5 ما حدث لداجون في معبد أشدود. أمّا يش 15: 41؛ 27:19 فيذكر مدينة اسمها بيت داجون.
صلّى شمشون: أللهمّ أذكرني وقوّني هذه المرّة أيضًا، فعادت إليه قوّته، فهدم المكان، فمات مع الفلسطيين الموجودين هناك. جاء أهله فأخذوه ودفنوه. ويُورد النصّ أيضًا أن شمشون تولّى القضاء على إسرائيل عشرين سنة (رج 15: 20).
ج- مُلاحظات حول الفصل الثامن
1- ألولد يكون مكرّسًا للربّ، منذورًا له، موقوفًا لخدمته. ألإيمان، حياة الإيمان، خِدْمة الله، ألصلاة والعبادة، ألمُحافظة على وصايا الله، كلّ هذه علامات عادية لعلاقات المؤمن بالله ولانتمائه إليه. ولكن هناك درجات في الانتماء. هناك انتماء خاصّ ودقيق، يُعلن عنه المؤمن بَنذْر، فيَقِفَ حياته لخِدْمة الربّ.
2- مثل هذا الانسان يُدعى منذورًا (نزير في العبرية) في أرض إسرائيل. والتكرّس صفة خارجيّة تكفَلها علامات، منها الامتناع عن المشروبات الكُحوليّة، لأنها تحمل في طيّاتها بذُور النجاسة (ألخمير هو الفساد) التي تُبعد عن الله. ويمتنع المنذور أيضًا عن بعض الأطعمة، كمُقدّمة للقاء خاصّ بالله (ألعيد، ألحرب المقدّسة. رج 1 صم 24:14). ويَعُفُّ عن العلاقات الجِنسيّة (1 صم 21: 5-6؛ خر 15:19؛ رج لا 18:15). يكون النَذْر مؤقتًا إلى أن تنتهي الحرب مثلاً، أو يكون دائمًا كما هي الحالة بالنسبة إلى شمشون.
3- مارس بنو إسرائيل النذور والتكريس للربّ، والحالات الأكثر شهرة: شمشون، صموئيل، يوحنا المعمدان. هناك شريعة ترد في عد 6: 21. ولكنّ الفكرة الأساسية هي التعبير عن انتماء خاصّ الى الربّ، وابتعاد عن الحياة اليومية وتمايُز عن الآخرين. مثل هذا التكريس يعني شهادة إيمان، ويعني أيضًا حربًا على الوثنية والشِرْك وعبادات الكنعانيين المُنْغَرِزَة في الطبيعة. بالنسبة إلى عاموس، يَقِفُ المنذور قُرْب النبيّ، وهو يُخيف الخاطئين مثله (عا 2: 11)
4- ألعلامة التي ميّزت نَذْر شمشون، هي شَعْره الطويل الذي لم يُحْلَق. كلّ ما هو طبيعي وجديد هو أقرب إلى الله. فهارون يُقدّم بقرة صحيحة، لم يُرفع عليها نير (عد 19: 2)، وكذا يفعل الشيوخ إذا أرادوا أن يكفّروا عن قتل حصل في جوار مدينتهم (تث 3:21). وحين أراد أقطاب الفلسطيين أن يُعيدوا تابوت العهد، أخذوا بقرتين لم يَعْلُمها نير (1 صم 7:6). في هذه الروح عينها، نفهم لماذا تُترَك الأرض بورًا ولا يُقضب الكرم ( لا 25: 2- 11)، ولماذا يُسْبِتُ الإنسان فيمتنع عن كلّ عملٍ يوم السبت (خر 8:20).