الفصْل السّادس: ابيملك عوسجة تملك على الأشجار

الفصْل السّادس
ابيملك عوسجة تملك على الأشجار
9 : 1 - 57

أ- المقدّمة
1- لم يكن أبيملك قاضيًا ولا مُخلّصًا، بل رجل الهلاك. قصّته قصّة متسلّط ووُصُوليّ طموح، لا إيمان له ولا ضمير، وباستطاعته أن يقترف أبشع الجرائم. وهو يعيش وسط أناس ليسوا أفضل منه، وسط بني شكيم الذين سيخضعون أولاً لأوامره وتهديداته، قبل أن يثوروا عليه ويجعلوا على رأسهم جاعل الذي لن يكون المحرّر المُنتظر. أما زبول شيخ المدينة، فهو رجل خدّاع يعتبر المُساومة حلاً، ويقود الشعب كلّه إلى الدمار.
وأبيملك هو مُخادع أيضًا. هل يريد أن يُحقّق ما لم يتوصّل إليه أبوه؟ هل يفرض مَلَكيته، كأنّها آتية من عند الله على غرار ملوك الشرق؟ أي إله يعبُد، يهوه أم بعل؟ ولا ننسى أنّه كنعاني بأمّه، وقد حاول أن يفرض على أهل شكيم مَلَكيّة على غرار ما في أرض كنعان.
2- شكيم تقع في وَسَط البلاد، وتعتبر نفسها أهمّ المدن. معنى الاسم: ألعُنُق أو الرقبة، لأنّ موقعها في مدخل المضيق الذي يكوّن جرزيمُ وعيبالُ كَتِفَيه القويتين. كانت شكيم مدينة على ملتقى الطرق، وامتلكت ينبوع ماء غزير، وبنت لنفسها أسوارًا ضخمة.
منذ الألف الرابع ق. م. أقامت فيها شعوب من أنصاف البدو، ولكنّها تأسست في عهد الملوك الرعاة (في القرنين السابع عشر والسادس عشر) ، ألذين جهّزوها بأسوار قوية وبنوا فيها القصور العديدة. دمّرها أحمسيس، يوم انتصر على الملوك الرُعاة سنة 1550، فارتفعت من جديد وسارت على رأس المعارضة لمصر في عهد امينوفيس الرابع. أقام فيها. العبرانيون والكنعانيون (أو الحويون رج 3: 3) في سلام. ومرّ إبراهيم في معبدها (تك 12: 6) واشترى يعقوب أرضًا في جوارها (تك 33: 16-19) وزوّج ابنته بامير من الأمراء (تك 34: 1-24). ولكنّ هناك تقليدًا يجعل العبرانيين يقتصّون من بني شكيم، بسبب ابنة سَبَوها (تك 25:34-30).
3- يُبيّن سِفْر يشوع أنّ العبرانيين وصلوا إلى المنطقة، فلم يجدوا مُقاومة، بل وجدوا أهلاً وحلفاء منذ أيّام الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب. لهذا جعلوا من شكيم مركز تجمعّ القبائل، وفيها احتفلوا بتجديد العهد مع الله (يش 8: 30-35؛ 24: 25-27؛ تث 11 : 29؛ 27: 1-12) ومع المُقيمين في المكان (يش 33:8). مثل هذا العهد يفترض التخلّص من الآلهة الغريبة وإعلان الإيمان بالربّ (يش 24: 14، 23؛ رج تك 35: 2، 4). ولكنّ الواقع لم يكن بهذه البساطة: أنزل يهوه بعل عن عرشه، ولكنّ بعل وهب ليهوه شُهرته، كسيّد الحياة والخِصْب، وترك له الكثير من شعائر العبادة في احتفالات شعب الله. وهكذا صار يهوه "بعل العهد" بعل بريت.
4- يقسم ف 9 ستة أقسام: يبدأ ابيملك حُكمه بقتل إخوته (9: 1-6)، ولكن أفلت اخاه الأصغر يوتام، وأعطى أهل شكيم مثلاً، ليُبيّن لهم الضرر المُتأتي عن مثل هذا الملك (آ 7- 21). قَبِلَ أهلُ شكيم بالأمر الواقع، ثمّ ثاروا على أبيملك (آ 22-29)، بقيادة جاعل وزبول (آ 30- 41) ولكنّ أبيملك سيتغلّب عليهم ويقتلهم (آ 42-49)، قبل أن يُقْتَل هو بدوره على يد امرأة، ألقت قِطعة رحى على رأسه (آ 50-57). وهكذا قدّم لنا الكاتب هذه القطعة الآتية من المحيطات النبوية، ليُبيّن لنا عداءه للمَلكية: في شعب إسرائيل، لا مَلِكَ إلا الله.

ب- تفسير الآيات الكتابية
1- مَلكية مبنيّة على الدم (9: 1-6)

(آ 9: 1) بعد موت جدعون، ذهب أبيملك إلى شكيم التي قضى فيها صباه (8: 31؛ 28:9). كانت شكيم مزيجًا من الكنعانيين والعبرانيين، مع أكثرية كنعانية وسيطرة بيت أبيملك.
(آ 2) ضعفُ السلالات في الشرق القديم، مُتأتٍّ من غياب قواعد الخِلافة المُعترَف بها. هناك الابن الأكبر، ولكن هناك مقام الوالدة، ورغبة الملك، وطلب الشعب واهتمام الربّ بالابن الثاني لا بالبكر... وهكذا اقس أبيملك عون أهل أمّه.
(آ 3- 5) عمل أهل أمّه على إنجاح قضيته، وأمَّنوا له المال من خزائن معبد بعل بريت، فاستأجر رجلاً وقتل إخوته في عفرة. هكذا يبدأ المَلِكُ حياته بطريقة رحمية. هكذا فعل بعشا (1 مل 29:15) وزمري (1 مل 16: 11-12) وياهو (2 مل 10: 1-17) وعثليا (2 مل 11 :1).
(آ 6) بيت ملو أو بيت الأرض المليئة، هو مكان يجتمع فيه شيوخ المدينة (كان لأورشليم ملو خاصًا بها. رج 2 صم 9:5؛ 1 مل 15:9، 24؛ 11 : 27). في بيت ملو اجتمع الشيوخ وهتفوا بحياة الملك عند البلوطة المقدّسة.
2- مثل يوتام، أخي أبيملك (7:9- 21)

هذا أول تعبير للحكمة نقرأه في التوراة. إنطلق يوتام من خبر معروف، وطبّقه على الحالة الحاضرة. أهل شكيم يبحثون عن الملك، ولكن هل أبيملك هو الذي ينتظرون، وإن كان كذلك، فستكون نهاية المدينة سيئة.
(آ 7) أفلت يوتام من المذبحة واختفى، ولمّا عرف أنّ أبيملك صار ملكًا صعد الجبل. وقال مثله (آ 8-15): أرادت الأشجار لها ملكًا. طَلَبت من الزيتونة والتينة والكرمة فرفضت. فالأولى تفيد بزيتها والثانية بثمرها والثالثة بنبيذها. حينئذ عرضت الأشجار على العوسجة أن تكون ملكًا، فاشترطت عيهن أن يستظللن بظلّها، (وهل تُعطي العوسجة ظلاً؟) وإلاّ خرج منها نار تُحرق الأرزَ الذي في لبنان.
(آ 16- 21) وطبق يوتام المثل: جعل بني شكيم أبيملك ملكًا عليهم، كما الأشجار العوسجة، ليُكافئوا جدعون على أفضاله. فإن كانوا تصرفوا باستقامة، فهنيئًا لهم، وفي هذه الكلمة ما فيها من سخرية. ولكن لا، لذلك لتخرج نار تحرقهم، وليدمّروا هم الملك الذي بايعوه. قال يوتام هذا الكلام، وهرب الى بئر أو البيرة، إلى شَمال بيت شان.
3- ثورة بني شكيم (9: 22-29)

(آ 22-26) وملك أبيملك ثلاث سنوات. ولكن دب الخلاف بين بني شكيم وملكهم بسبب روح شرير أو عَدَاء بين الفريقين... نصب بنو شكيم كمينًا، وأخذوا يمارسون السَلْب...
(آ 27-29) وهنا تدخّل جاعل بن عابد، فوجد أرضًا خصبة لإذكاء الثورة: قابل بين مجد شكيم وخاتمة أبيملك... وهاجم أيضًا زبول حاكم المدينة الذي تغاضى عن أعمال ابيملك.
4- جاعل وزبول (9: 30- 41)

(آ 30- 31) عرف زبول بهذا الكلام، فغضب ونقله إلى أبيملك ليُوقعه في الفخّ. أرسل له رُسُلاً مع الهدايا إلى أرومة، حيث يُقيم مع رجاله.
(آ 32-34) وأعطاه نصيحة: لا تُضيعّ الوقت... إِمشِ في الليل واهجُم عند الصباح الباكر. فنّفذ أبيملك النصيحة، وكمن مع رجاله، ألذين قَسَمهم أربع فرق، حول المدينة.
(آ 35-37) خرج جاعل وشاهد القوم، فخاف. ولكن زبول دفعه إلى القتال.
(آ 38- 41) وانتهى الأمر بسرعة. هرب جاعل وتبعه بنو شكيم فتعقبهم أبيملك، وسقط من الجرحى عدد كبير. ولكنّ زبول منع جاعل من دخول المدينة.
5- إنتصار أبيملك وانتقامه (9: 42-49)

(آ 42-45) تراجع أبيملك الى إرومة فزال الخوف من قَلْب بني شكيم، وحسبوا أن الأمور انتهت ، وأنهم يستطيعون أن يذهبوا إلى حقولهم ، لينهوا أعمال القطاف . فقطع أبيملك الطريق إلى باب المدينة، وأرسل فريقًا يقتل بني شكيم. ثم حاصر المدينة وقتل أهلها وهَدَم الأسوار.
(آ 46-49) هرب الشيوخ الى معبد بعل بريت واقاموا في قاعة واسعة فاحرق أبيملك القاعة بمن فيها.
6- نهاية أبيملك 9: 50-57

(آ 50-55) وهاجم أبيملك مدينة قريبة من شكيم اسمها تاباص، لمُعارضة أهلها له. دخل المدينة ووصل إلى البُرْج وكاد يأخذه، إلا أنّ امرأة ألقت على رأسه قطعة رحى فشدخته. حينئذ أمر حامل سلاحه أن يقتله، لئلا يُقال إنّه مات بيد امرأة. وهكذا نجت المدينة، وعاد بنو إسرائيل إلى خيامهم، حين حسبوا أن الحرب اتسعت ولا طائل منها.
(آ 56-57) وهكذا انتهت قصة أبيملك ومشروع الملكية في بحر من الدم، وتمّت عدالة الله في الأحداث كما أعلنها يوتام. إنطلق الكاتب من خبر موجود، واستنتج منه أمثولة لبني إسرائيل الذين يطلبون ملكًا عليهم عوض الله.

ج- ملاحظات حول الفصل السادس
1- ألمَثَل هو هذه الطريقة المصوّرة للتعبير عن أفكارنا. جذوره بعيدة في التاريخ، وهو قد وُلدَ من مُراقبة الكائنات القريبة من الإنسان، فجعل فيها عقله. ألحيوان يتكلّم، والشجر يتكلّم أيضًا، فيُعبّر عما في قلب الانسان الذي يصل إلى هدفه من أمثولة أدبية عَثر الفُكاهة أو النقد اللاذع... ألمَثَل تعبير عن حكمة الإنسان.
والحكمة في الكتاب المقدّس، لها معلّم أول هو الملك سليمان. قال فيه الكتاب: "فاقت حكمة سليمان حكمة كلّ أهل المَشرق، وكلّ حكمة المصريين... قال ثلاثة آلاف مثل... وتكلم في الشجر، من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفى التي تخرج من الحائط، وتكلّم في البهائم والطير والزحّافات والسَمَك... وكان الناس يأتونه من كلّ مكان، لسَمَاع حكمته "(1 مل 5 :9-14).
وظلّ هذا الفن الأدبي مزدهرًا. فيوآش الإسرائيلي أجاب أمصيا اليهوديّ الذي تحدّاه في الحرب بهذه الكلمات: "ألعوسج الذي بلبنان أرسل إلى الأرز الذي بلبنان وقال: زوِّج إبنتك لابني. ولكن جاز وحش الصحراء الذي بلبنان ووطىء العوسج" (2 مل 14: 9). وهكذا أفهمه يوآش مخاطر محاولاته المشهورة.
2- ألمَلَكيّة في شعب إسرائيل، بل المَلَكيّة في الشرق. أحسّ الناس العائشون جماعات بالحاجة إليها. شعروا أنهم يرتبطون بعضهم ببعض وأنّ عليهم أن يتَّحدوا ويُنظمّوا صفوفهم. فهموا أن هذا التماسك لا يتمّ إلا بفضل قيادة وسلطة تمثلّهم وتقرّر بأنهم. تُعطَى السلطة أولا للشيوخ، لأناس أقوياء مجرّبين محاربين، وهم بدورهم يجعلون على رأسهم قائدًا. وهكذا تنتظم الملكيّة.
ألمَلكيّة تلبي رغبة الشعب الذي يُحِسّ بالحماية والقيادة. يثق بالملك ويجعل فيه أحلامه وآماله، لأنه رمز وحدته وقوّة الحياة فيه. والملك يُعيَّن إمّا بالانتخاب من قبل الشيوخ وإمّا بالإعلان الشعبي، وهو يتخذ مكانته بفضل شخصيته أو قوته أو أعماله. على كلّ حال، ألوظيفة ترفعه فيحسبونه من العالم الفَوْقاني، ويعتبرون أنّه يُشارك الآلهة حِكْمَتَها. وهكذا تدخل المؤسسة المَلكية في إطار من التقديس، فتُصبح وسيلة الخلاص للشعب، بسبب قُرْبها من الله.
مهما يكن من أمر، فهكذا تنظّمت الشعوب القديمة، واعتبرت الملكية بداية التمدّن، وعلامة التطوّر. والمَلكيّة ليست فقط واقعًا سياسيًا وحُكْمًا، إنّها واقع ديني واهتمام بحياة الكون والناس باتصال مع الآلهة. هكذا كانت الأمور في مصر، حيث الفرعون هو إله لا إنسان، إله منذ ولادته، يعبُدونه ويخدمونه كإله مُجسّدٍ بين البشر يتمّتع بالخلود. أمّا في بلاد الرافدين، فالملك هو الرجل العظيم الذي تختاره الآلهة، ليكون خادمها والوسيط بينها وبين البشر. هو يشارك الآلهة في ملكها ومُمارس وظيفته الإلهية، ليؤمّن للجماعة السلام والعدالة، والازدهار والحياة. إذًا الملكية أمرٌ مُهمّ. ولقد قال مثل أشوري: شَعْب بلا مَلِك قطيع بلا راع، حَشْدٌ بلا مُراقب، مياه لا يجمعها أحد... حقل لا فلاّح يفلحه، بيت لا سيّد له، إمرأة لا زوج لها.
3- وشعب إسرائيل أعطى لنفسه ملكًا. رفض جدعون الملكية، ولكنّ أبيملك حاول ممارستها ففشل. أمّا أول محاولة لملَكية تبرّرها الظورف، فكانت مع شاول، ولكنّها ستنتهي بطريقة مأساوية. مع داود سيكون لها النجاح. عن داود سيتكلم سفرا صموئيل، أما سفرا الملوك فيُقدّمان حكم الله على ملوك بني إسرائيل المسؤولين عن شعبهم. من سليمان إلى زمن الجلاء، كلّهم فشلوا أو كادوا. فكوَّن المفكرون عن الملكية المثالية نظرة ستُوصلنا الى فكرة المسيح الملك الذي يُرسله الله باعه ملا الأرض سلامًا وعدلاً.
اذًا نسمع بالمَلَكية لأول مرّة في سفر القضاة ولكنّ هذا السفر يحكم على الملوك حكمًا قاسيًا حسب الروح الاشتراعية. فالكاتب يُفضّل شعبًا من دون ملك ولا حكم، فيكون الله مَلِكَه الوحيد والمطلق. وإن يكن هناك من ملك، فلا يشبه ملوك الشعوب المجاورة، بل يكون خاضعًا للربّ وشريعته، وأمينًا لوصاياه، فإنّ صنع الشرّ في عيني الربّ يكون نصيبه بل نصيب شعبه أيضاً الهلاك. هذه كانت خاتمة المَلكية في كارثة أورشليم سنة 587 ق. م.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM