الفصلُ الأوّل
إقَامَة الشعْب في كنعَان
1: 1- 36
أ- المُقدّمة
1- يبدو ف 1 مؤلفًا من حواشي وتعليقات وجيزة، وُضعَت الواحدة قُرْبَ الأخرى. أمّا الموضوع، فتوَغُّل بني إسرائيل في أرض كنعان. ولكن عندما نعرف سِفْرَ يشوع، نشعر وكأنّنا نرجع إلى الوراء، ولا نزيد على معلوماتنا شيئًا. ثُمّ إنّ القِصة تُروى بشكل أخبار ظَرْفية (آ 5- 7، آ 12- 15، آ 23- 26) أو سَرْد ناشف لا حياة فيه (آ 25- 33).
2- إذا نظرنا إلى ف 1 من الوُجهة الأدبيّة الموضوعيّة، نجد فيه ثلاثة أقسام. ألقسم الأوّلى وهو الأكبر (11- 21)، يتكوّن من عناصر متنوّعة، جُعلت بشكل أخبار عن احتلال جنوبيّ كنعان، على يد القبائل المرتبطة بقبيلة يهوذا. بعد هذا نقرأ عن صعود أبناء يوسف، أي قبيلة إفرائيم، إقامتهم في وسط البلاد (آ 22-26). ونهاية الفصل تتألف من سلسلة مقاطع صغيرة تتشابه تعابيرها، وهي تدلّ على أنّ بني إسرائيل لم يحتلّوا مناطق واسعة في كنعان، وأنّ الكنعانيين ظلّوا مُقيمين في البلاد (آ 27-36).
3- حين دوّن الكاتب المُلهم هذه اللوحة التاريخية، إستفاد من وثائق قديمة نجدها في يشوع أيضًا. عن شمعون ويهوذا: آ 3؛ رج يش 19: 1-9. عن احتلال حبرون ودبير: آ10- 11، رج يش 15 : 14-15 ؛ آ 12-15 رج يش 15 : 16-19. عن حبرون المُعطاة لكالب: آ 20؛ رج يش 13:15، عن مُقاومة أورشليم: آ 11؛ رج يش 15 : 63. عن فَشَل منسّى: آ 27-28، رج يش 18: 11-13. عن فَشَل إفرائيم: آ 29، رج يش 16: 13. عن طرد الدانيين: آ 34، رج يش 19: 48 بحسب السبعينية. لا شكّ في أنّ سِفْر يشوع وسِفْر القضاة يعودان إلى مراجع مشتركة، فيُمجّد الأوّل شخص يشوع، ويشدّد الثاني على دور القبائل في التغلغُل في أرض كنعان.
4- ألترتيب الجُغرافي: ينطلق الكاتب من الجنوب إلى الشمال، فيُعطينا نظرة شاملة عن إقامة بني إسرائيل في أرض كنعان بطريقة تدريجية وبطيئة، ولكنّه يُشدّد على فشل القبائل في أعمالها الحربية ضِدّ الكنعاني صاحب الأرض. لا يقول الكاتب شيئًا عن قبائل شرقيّ الأردن، ولا عن قبيلة يساكر التي كادت تذوب في قبيلتي زبولون ونفتالي. ويتساءل الكاتب: لماذا تبدو الإقامة في أرض كنعان صعبة على المدى الطويل رغم مواعيد الله؟ ألجواب سيأتي في الفصل الثاني.
5- إختيار الله ليهوذا. أجل، إختار الله قبيلة يهوذا، ومنحها المقام الأوّل في احتلال الأرض. لا شكّ في أنّها فشلت كما فشل غيرها، ولكنّ الكاتب يُخفي هذا الفشل، ويُعلن أنّ الله مع يهوذا (آ 18-19). إذا كان بيت يوسف حصل على حُظوة الله، فاحتل بيت إيل حيث سيُقيم تابوت العهد بعض الوقت (آ 22-26)، إلا أنّ أرضه ستكون مركز عبادة منشقّة في عهد يربعام. ولهذا يُورد الكاتب فَشَل منسّى وإفرائيم (ابني يوسف) أمام مُدُن سيستولي عليها سليمان في ما بعد (آ 27-29).
ب- تفسير الآيات الكتابية
1- قبيلة يهوذا وحُلفاؤها (1: 1-20)
(آ 1: 1) تتحدّث البداية عن يهوذا وعهده مع شمعون. ويذكّرنا الكاتب بحالة بني إسرائيل بعد وفاة يشوع (يش 24: 29- 31). سأل بنو إسرائيل الربّ، بواسطة الأفود أو الأوريم والتوميم (8: 27؛ 17: 5؛ 18: 5، 20؛ 20: 18، 23، 27-28)، ليعرفوا من يصعد.
ألكنعانيون شعب سامي جاء الأرض حوالي السنة 3000 ق. م.، وأقام فيها.
(آ 2) ودلّ جواب الربّ (كما في 18:20؛ رج عد 3:2، 9؛ 10: 4) على قبيلة يهوذا. لن تكون لها الرئاسة بل المُبادرة في الأعمال الحربية. عيّن الرب يهوذا ووعدها بالنصر وعدًا لا تراجعُ عنه، قال: أسلمتُ الأرض.
(آ 3) في الأصل نالت قبيلة شمعون حِصّتها من الأرض جنوبيّ يهوذا (يش 19: 1-9)، ولكنّها انضمّت إلى يهوذا فيمَا بعد. نُشير هنا إلى أنّ يهوذا وشمعون كانا إخوة وابني ليئة امرأة يعقوب أبي الآباء (تك 29: 33-35).
(آ 4-8) نالت كلّ قبيلة حصّتها من ميراث الربّ، حين قَسّم لهم يشوع الأرض (يش 13- 21). ولكن على كلّ قبيلة أن تحتلّ هذه الحصة التي هي عطيّة من الربّ. بازق هي خربة ابزق الواقعة بين شكيم وبيت شان.
نفّذ يهوذا وشمعون أمر الربّ، فنصرهم الربّ. وعدهم فما كان وعده باطلاً.
ألفرزيون: شعب غير سامي ينتسب رمّما إلى الحوريين، وقد ارتبط بالكنعانيين (تك 7:13؛ 34: 30).
ادوني بازق أي بازق هو سيّدي. يختلف عن أدوني صادق ملك أورشليم (يش 10: 1، 3) هرب أدوني بازق فأمسكوه، وقطعوا له اباهيم يديه (فلا يستطيع ان يستعمل القوس) ورجليه. هذه هي شريعة المِثْل تُطبّق على هذا الملك بواسطة شعب الله. وهكذا تظهر فيه عدالة الله. أمّا الرقم 70، فيعني عددًا كبيرًا ( 7×10 وكلاهما عدد كامل).
تبدو أورشليم هنا، وكأنّ قبيلة يهوذا احتلتها منذ إقامة العبرانيين في كنعان. تاريخيًا يرجع احتلال أورشليم إلى زمن داود (2 صم 6:5-9) الذي لم يُفنِ أهلها بل عاهدهم. نُشير هنا إلى مديح يُلقيه الكاتب في شخص يهوذا الذي توصّل وحده إلى طرد الكنعاني من منطقة إقامته.
(آ 9) هكذا كانت تُقسّم البلاد (تث 1 :7؛ يش 10: 40؛ أر 26:17، 32: 44). ألجبل هو سلسلة الهضبات الممتّدة في الوسط من الشمَال الى الجنوب. ألنَقَب هو منطقة الجنوب الصحراوية. ألسهل: المنطقة الممتدة من الهضبات نحو البحر.
(آ 10- 11) قرية أربع، أي قرية الأربع عشائر. يُذكر احتلال حبرون ثلاث مرّات في يش 10: 36-37؛ 11: 21؛ 15: 13-14. لم يكن يهوذا هو الذي احتلّ دبير بل عشيرة عتنيئيل.
شيشاي واحيمان وتلماي هم أبناء عاناق (عد 22:13، 28). يروي سفر يشوع 15 : 15-19، احتلال دبير (رج يش 10 : 38 – 39 ؛ 11: 21). لم تحتلّ عشيره كالب وحدها حبرون بل قبيلة يهوذا كلّها. رج 1 :20. قرية سِفْر هي قرية الكتاب وهي اليوم تل بيت مرسيم، وتبعد 20 كلم إلى الجنوب الغربيّ من حبرون.
(آ 12-15) رج يش 15: 15-19. ووعد كالب بأن يُزوّج ابنته بمن يأخذ قرية سِفْر. ففاز عتنيئل بن قناز أخو كالب.
(آ 16-17) والتقى بنو يهوذا بالقينيين واحتلّوا حرمة. مدينة النخل هي أريحا (3: 13 ؛ تث 34: 3) وتعني أيضًا تامار، ألواقعة جنوبي البحر الميّت، والرأي الثاني هو أقرب إلى الواقع. بعد أن ساعد شمعون يهوذا، ها هو يهوذا يساعد شمعون. ألقينيون قبيلة ترجع إلى قايين (تك 4: 1) وهم أقارب المديانيين والعماليقيين (عد 24: 20-22 ؛ 1 صم 6:15). عراد تبعد 30 كلم إلى الجنوب من حبرون. حرمة هي خربة حورا الحديثة، وتقع شماليّ بئر سبع (عد 21: 1-3)
(آ 18-20) غزة وأشقلون وعقرون: مُدُن فلسطية خضعت لسلطة يهوذا في أيّام داود. لهذا تجعل الترجمة اليونانية علامة النفي، فتقول: "ما احتّل يهوذا" ليطابق كلام النصّ الحقيقة التاريخية. ولكنّ هدف الكاتب هو أن يُبيّن أنّ قبيلة يهوذا طردت حقًا كلّ الشعوب من أرضها، فتحلّت بالأمانة للربّ. ولهذا نُبقي على صيغة التأكيد لا النفي.
وانتصر يهوذا أيضًا في الجبل، ولكنّه فشل في السهل، بسبب مركبات الحديد التي يملكها العدو. إذًا يُقِرّ الكاتب أنّ يهوذا فشل، أقلّه فشلاً جُزئيًا. ولكنّ الكاتب يُسارع إلى القول: وكان الربّ معه، ليُبْرِزَ حماية الربّ الخاصّة ليهوذا: لولا عون الرب لما احتلّ الجبل.
(آ 21) رغم ما نقرأ في آ 8، فالكاتب يحمّل بنيامين مسؤولية الفَشَل أمام أورشليم. رج يش 63:15 حيث نقرأ يهوذا لا بنيامين.
2- منطقة مميّزة: إفرائيم ومنسى (1: 22-29)
إبنا يوسف إفرائيم ومنسى، احتلا بيت إيل بمساعدة الله، ولكنّ فشلا في طرد أهل بيت شان وغيرها.
(آ 22) بيت يوسف: عبارة قديمة (2 صم 19: 21؛ 1 مل 11: 28) تضمّ قبيلتي منسى وإفرائيم بل بنيامين أيضًا. أعْطِيَت بيت إيل لبنيامين (يش 18: 22)، ثمّ انتقلت إلى بيت إفرائيم. إنّ الحفريات في بيطين مركز بيت إيل، دلّت على تدمير المدينة في نهاية القرن الثالث عشر. كانت بيت إيل مركزًا دينيًا (إبراهيم، يعقوب). وقد بُنِيَت منذ القرن الحادي والعشرين. جُعِلَ فيها تابوت العهد في أيّام القضاة (20: 27). ولكنّ يربعام الأول ملك إسرائيل، سيُدنّس المدينة بالعبادة الوثنية. وبعد دمار السامرة (722 ق. م.) ستُصبِح بيت إيل مدينة يهودية (عز 28:2؛ نح 32:7).
(آ 23-25) ولكنّ المدينة كانت منيعة، فكيف الدخول إليها؟ أمسك الجواسيس رجلاً، فدلّهم على باب المدينة، فعاملوه كما عامل يشوع راحاب وأهل بيتها.
(آ 26) ولكنّ الرجل سيترك البلاد ويذهب إلى بلاد الحثيين، أي خارج أرض كنعان، ربّما إلى سوريا الشمالية قرب بانياس.
(آ 27-29) وفشل بيت يوسف. فشلت قبيلة منسى أمام مُدُن كنعانية: بيت شان (أو بيسان المدينة الستراتيجية) وتعناك (التي تتحكّم بالممرين يزرعيل وشارون)، ودور (طنطورة الحديثة وكانت مرفأ كنعانيًا في القرن الرابع عشر ) ويبلعام (تبعد 2 كلم إلى الجنوب من جنين) ومجدو (أو تل المتسلم وكانت مدينة مزدهرة). ظلَّت هذه المدن والقُرى تشكّل حاجزًا بين بيت يوسف وقبائل الشمال حتى تدخل ذبورة وباراق.
ولما قَوِيَ بنو إسرائيل... في عهد داود، بل في عهد سُليمان (1 مل 15:9 ي)، فرضوا الجزْية على هذه المدن. وكما فشل منسى كذلك فشل إفرائيم، أمام جازر الواقعة بين يافا وأورشليم (تل جازر) والتي احتلّها فرعون وقدّمها لابنته ابقي تزوجت سليمان (1 مل 16:9).
3- قبائل الشمال، أقليات وسط أكثرية كنعانية (1: 30-36)
(آ 30) لم تستطيع زبولون أن تحتلّ قطرون (أي قطة في يش 19: 15 وخربة قطيرة الحالية)، ولا نهلول الواقعة في سهل جنوبي عكا. ولكنّ الكنعانيين الذين ظلوا في زبولون، سيدفعون الجِزْية هم أيضًا (رج آ 28).
(آ 31-32) فشلت أشير أمام عكا (مدينة تذكرها وثائق تل العمارنة)، وصيدون ذلك المرفأ الفينيتي المزاحم لصور والذي تذكره وثائق تل العمارنة وراس شمرا، وأمام اجلب واكزيب على الشاطىء الشمالي لجبل الكرمل وحلبة وافيق (نجهل مكانهما)، ورحوب الواقعة إلى الجنوب الشرقيّ من عكا. وفي كلّ مرة يشدد النصّ على أنّ العبرانيين عاشوا مع الكنعانيين.
(آ 33) لم يطرد نفتالي أهل بيت شمس القريبة من عين شمس (30 كلم غربيّ أورشليم)، وبيت عنات (إلهة الحُبّ والخِصْب المعروفة في كنعان، وبالأخصّ في بيت شان وبيت إيل).
(آ 34-35) تضايقت دان من الاموريين سكّان الساحل الشمالي الذين حصروها في الجبل ومنعوها من النزول إلى السهل. لهذا هاجر قسم من الدانيين إلى الشمال (ف 17-18). جبل حارس هو بيت شمس (يش 15: 10؛ 16:21). إيالون تبعد 20 كلم إلى الشمال الغربيّ من أورشليم. شعليم تقع شماليّ غربي إيالون.
(آ 36) وكانت منطقة الأدوميين (كما تقول الترجمات) لا الاموريين (كما يقول النص المسوري)، تمتدّ من عقبة العقارب (عد 34: 4؛ يش 3:15)، أحد المضايق الذي يقود من العربة إلى بئر سبع جنوبيّ البحر الميّت، إلى سلع (أو الصخرة)، وهي مكان مجهول.
ج- ملاحظة حول الفصل الأول: قبائل الشمال ونصوص راس شمرا
وجد العلماء في نصوص راس شمرا (أسطورة دانيل، أسطورة كارت) أسماء أشير وزبولون ودان ويوسف نفسه، هذا فضلاً عمّا وجدوه في نصوص مصر القديمة، فاستنتجوا أنّ قبائل عديدة كانت من أصل كنعاني، وأقامت في أراضيها قبل عبور يشوع للأردن. فأشير يقيم وسط الكنعانيين (1: 22)، ولا يهتمّ بمصير سائر القبائل (5: 17). هو أشر (أو أشرو) التي تحدد لوائح سيتي الأول ورعمسيس الثاني، مقامه في محيط الكرمل. أما ارض "أثر" في أسطورة كارت، فهي الجليل.
إنّ زبولون (رج تك 13:49) يرتبط بالصيدونيين ارتباطًا وثيقًا. نقرأ هذا الاسم في نصوص مصرية، تعود إلى السلالة الثانية عشر (حوالي 1800)، وفي نصوص راس شمرا بشكل زبل، زبلن، زبلنم، وهو جِذْر يعني الرفعة والشرف.
وكان لدان علاقات بالصيدونيين (5: 17؛ ف 17-18). مقامه في الأردن الأعلى حيث موطن نشيد عنات والعجلة. نجد في نصوص تلّ العمارنة (ألنصف الأول من القرن الرابع عشر) اسم ادوداني. ولا ننسى اسم دانيل في راس شمرا، وهو أبو قبيلة دان كما يقول العلماء