سِفْرُ القُضَاة

سِفْرُ القُضَاة

المقَدّمة

1 – عُنوان الكتاب
ألكتاب الذي يروي أعمال الأبطال الذين تعاقبوا على شعب إسرائيل، منذ يشوع إلى صموئيل، يسمّى "سفري شفطيم " أو سِفْر القُضاة.
تعني كلمة "شفط " أثبت، ثبَّت حقا، أعاد حالة سيئة إلى حالها الأولى. وعنوان "شفطيم " مناسب ليدلّ على أبطال، أقامهم الله وسلّمهم سُلطانا موقتًا، فاعادوا، في وقت محدود، بعض الاستقلال لشعب إسرائيل التائب عن خطاياه.
كلمة "شوفط " وُجدَت عند الفينيقيين في قرطاجة وفي راس شمرا، فَعَنَتْ الحاكم. نُشير هنا إلى أنَّ الكلمة لا تُستعمل لأهود ولا لدبورة ولا لجدعون الذين هم مُحرّرون لشعبهم. أما الأوساط النبوية التي تأمّلت في عِبَر التاريخ، فأبرزت هذه الوظيفة الاجتماعية التي ستسبق تأسيس الملكية.
ألقُضاة في شعب إسرائيل يختلفون عن "الشوفط " في قرطاجة، لأنهم ليسوا حكامًا يمارسون سلطة ثابتة، ينصّ عليها تنظيم المدينة. سُلطتهم تمتد إلى قبيلة أو بعض القبائل، ولم تشمل يومًا كلّ القبائل. يختارهم الله ليُتموا شروعه التحريري، بالنسبة إلى بعض شعبهم الذي يرجع إلى الله، على أثر الضربات التي أصابته. ولهذا تُنسب إليهم رسالةٌ تعليمية بل عمل نبويّ، كما هي الحالة بالنسبة إلى دبورة.
سِفْر القُضاة هو الكتاب الثاني بين الأسفار التاريخية، أو بين الانبياء الاولين الذين يُقابلون الأنبياء اللاحقين كأشعيا وإرميا وحزقيال. أمّا اسم سفر القُضاة، فراجع إلى ابطال أقامهم الربّ (2: 16)، فأنقذوا شعبه المظلوم وخلّصوه وأعادوا إليه حقّه في الحياة (2: 16؛ 3: 9، 15، 31 ؛ 10: 1-2 ؛ 12: 7، 9، 13؛ 15 : 20؛ 16: 23). ويميّز الكتاب بين القُضاة الكبار الذين هم عتنئيل وأهود وباراق وجدعون ويفتاح وشمشون، وبين القضاة الصغار الذين هم شمجر وتولع ويائير وابصان وايلون وعبدون.

2- مضمون الكتاب
نجد مقدّمة تاريخية تعرض بإيجاز، كيف أقامت القبائل الاسرائيلية في كنعان (1: 1-2: 5): عملت كلّ بمفردها، تقدّمت ببُطء وعرفت الفَشَل والنجاح. لماذا تُحسّ القبائل بالخطر يهددها؟ لأنّها عصت أمر الربّ، كما يقول ملاك الربّ (2: 1- 5). ثم نقرأ مقدّمة تعليمية (6:2-6:3)، تربط زمن القضاة بزمن يشوع، وتدلّ القارىء على العِبرة التي يجب أن يستنتجها: أَلَمَّ الضِيق ببني إسرائيل، لأنهم تركوا الرب واتّبعوا آلهة كنعان. ولكنّهم صرخوا إلى الربّ، فتحركت أحشاؤه، وأرسل إليهم قُضاة يخلّصونهم، يقودونهم إلى القتال وينتشلونهم من الخطر. ولكن ما إن يموت "القاضي"، حتّى يعود الشعب إلى حالة أكثر شرًا.
بعد هاتين المقدّمتين نقرأ عرضًا تاريخيًا لبعض هؤلاء القضاة (7:3-16: 31). وإليك لائحة بهم: عتنيئيل بن قناز (7:3- 11)، أهود بن جيرا البنيامينيّ (3: 12- 30)، شمجر بن عنات (3: 31)، دبورة وباراق بن ابينوعم (ف 4- 5)، جدعون بن يوآش وأبيملك ابنه (ف 6-9)، تولع بن فوأة من يساكر (10: 1-2)، يائير الجلعادي (10: 3- 5)، يفتاح الجلعادي (10: 6-12: 7)، أبصان من بيت لحم (8:12- 10)، إيلون الزبولوني (12: 11-12)، عبدون بن هليّل الفرعتوني من قبيلة إفرائيم (13:12-15)، شمشون بن منوح من قبيلة دان (ف 13-16).
ويلي الكتاب الذي يروي تاريخ القضاة، مُلحقان يُصوّران الفوضى السائدة في أرض إسرائيل في تلك الأيّام. ألملحق الأول (ف 17-18) يروي هجرة أبناء دان إلى الشمال وتأسيس معبد دان. والملحق الثاني يروي (ف 19- 21) جريمة جبعة وإفناء البنيامينيّين إفناءً يكاد يكون كاملاً.
ونتوقّف عند المُقدّمتين. كان سِفْر يشوع قد روى احتلال كنعان احتلالاً سريعًا على يد القبائل المتّحدة. أمّا المُقدّمة الأولى في سِفْر القضاة، فهي تُصوّر لنا هذا الاحتلال البطيء والقاسي والجزئي، دون أن يكون هناك مخطط سابق. قال سِفْر يشوع: "ضرب (يشوع) السكّان بحدّ السيف " (يش 10 : 28، 30، 32، 33، 35؛ 11 : 16، 23)، ولكنّ سِفْر القضاة قال: لم يُطرد سكّان الأرض بل أقاموا فيها (1: 21، 27-29). أمّا المقدّمة الثانية، فتُبرز مخططًا في أربع كلمات: خطيئة، عِقاب، توبة، نجاة. هذه النظرة اللاهوتية المستوحاة من سِفر التثنية، ستُخضع لها كلّ أحداث سِفر القضاة.
كيف يبرز تاريخ القُضاة من الزاوية اللاهوتية ومن خلال الواقع التاريخي؟ من الزاوية اللاهوتية يُوضح الكاتب مُخطّطه بعبارات كهذه: "فَعَلَ بنو إسرائيل الشرّ في عيني الرب " (2: 11؛ 3: 7؛ 6: 1) أو و"عاد بنو إسرائيل إلى عَمَلِ الشرّ في عيني الرب " (3: 12؛ 4: 1؛ 10: 6؛ 13: 1). "تركوا الرب" (2: 12- 13؛ 10: 6، 10) "وعبدوا بعل وعشتاروت " (2: 13، 3: 7؛ 10: 6، 10). "اتقد غضب الربّ " (2: 14، 20 ؛ 3: 8؛ 10: 7)، "فباعهم إلى أيدي أعدائهم" (3: 8؛ 4: 2، 9؛ 10: 7)، "فصرخوا الى الربّ " (3: 9، 15؛ 4: 3؛ 6: 6-7؛ 10: 10) "فأقام عليهم قُضاة" (2: 16، 18). "أعطاهم مُخلّصاً فخلّصهم " (3: 9، 15). "كان روح الربّ عليه " (3: 10؛ 11: 29)، "حلّ عليه روح الربّ " (14: 6، 19؛ 15: 14)، "ذلّ العدو" (3: 30؛ 8: 28؛ 11: 33) "واستراحت البلاد" (3: 11، 30؛ 5: 31) " اربعين سنة " (3: 11؛ 5: 31، 8: 28).
أمّا الواقع التاريخي، فيبيّن لنا أنّ الأحداث المُقْحَمَة في الإطار اللاهوتي، تتميّز بطابعها العرضيّ والمحدود. لا نجد عملاً يجمع كلّ بني إسرائيل، بل مآثر عشيرة أو شخص فرد (ابيعازار، يفتاح، شمشون)، على منطقة محدودة وبنتائج بسيطة، لا تُعطي البلاد الراحة إلاّ مدّة أربعين أو "ثمانين سنة" (3: 30).
هناك تناوب لحقبات راحة، ينغمس فيها الشعب في الخطيئة، وحقبات ضيق يضع حدا لها "قاضٍ" يُقيمه الله. مثل هذا التناوب لا يوافق تحرّك الوقائع ولا تنوّع الأحداث. ثمّ إنّ كلمة قاض أو مخلّص، تنطبق على أشخاص متنوعين، من قائد حرب كباراق أو يفتاح إلى جبّار قرية مثل شمشون، يُرعب الفلسطيين بقوّته، ويَسقط ضعيفًا أمام دليلة.

3- تحليل نصّ سِفْر القُضاة
إنَّ قراءة سريعة لسفر القُضاة، تكفي لأن تُعرّفنا إلى التنوع الأدبي، للقطع التي تؤلف هذا الكتاب. أمّا نحن، فسوف نميّز بين الأخبار والإطار الذي وضعت فيه هذه الأخبار.

1- إطار الكتاب: يتكوّن إطار الكتاب من لاهوت التاريخ، يعبّر عنه الكاتب خاصّة في المقدّمة الثانية (2: 6-3: 6) وفي مقدّمة الحديث عن يفتاح (10: 6-16؛ رج 2: 1-5؛ 6: 7-10). وهناك عبارات مقولبة،. تذكّرنا بهذا اللاهوت، بمناسبة التكلّم عن كلّ من القضاة. قبل الخبر يقال لنا انّ بني إسرائيل صنعوا الشر، تركوا الله وعبدوا البعل، فأسلمهم الله بل باعهم، فصرخوا إليه فأقام لهم "قاضيًا" ومخلّصاً. بعد الخبر يُلاحظ الراوي أنّ العدو ذلّ وأنّ الأرض استراحت.
هكذا يُوضح الكاتب المُلهم الأمثولة الدينية التي تعبّر عنها قصّة القُضاة: ألخطيئة تجرّ العِقاب المتأتي من الضيق الخارجي، والتوبة يتبعها جواب الله الذي يُرسل مخلصا. هذا التعليم يمنح وحدة لأخبار تتنوع في الأسلوب وفي العقلية، وقد زاد الكاتب فيما بعد عبارات على النصوص فنسّق بينها. وأخبار القُضاة لا تتناغم دومًا مع الإطار الذي يهتمّ بكلّ شعب إسرائيل، بل تُبرز لنا بطلاً فردًا أو عشيرة أو قبيلة. ألضيق بالنسبة إلى الإطار هو عِقاب، أمّا نشيد دبورة مثلاً (ف 5)، فلا يعكس أيّ شعور بالخطيئة عند القبائل المُتحالفة. ألإطار يربط رسالة المحرّر بارتداد الشعب. أمّا جدعون الذي صنع تمثالاً، فهو لا يقدّم مثالاً لحياة دينية لا لومِ فيها (8: 27). وشمشون الذي يتزوج امرأة غريبة، لا يظهر ذلك المُصلح الدينيّ. إذَا يُمكننا القول إنّ الذي دوَّن سفر القضاة، جمع تقاليد وأخبارًا مدوّنة، وجعل لها الإطار التعليمي الذي تحدّثنا عنه.
وهناك مُلاحظات أخرى بالنسبة إلى الاطار الزمنيّ للكتاب. فطابعه النَسَقيّ والإصطلاحي يكشفه الرجوع إلى الرقم 40 أو إلى ضعفه 80 (فترات الراحة 3: 11، 30؛ 5 : 31؛ 8 : 28، فترة الضيق 13: 1) أو إلى نصفه 20 (3:4؛ 31:16). ولكنّنا نجد مُعطيات غير منسّقة في اللمحات عن القضاة الصغار (10: 1-5؛ 12: 8- 15) وأبيملك ويفتاح (9: 22، 12: 7) وفي المقدّمات لخبر يفتاح (10: 8) وجدعون (6: 1). هذه الفوارق تدلّ على مراحل في التأليف.
وأخيرًا هناك 12 قاضيًا على عدد قبائل بني إسرائيل. نحن لا نستطيع أن نربط كلّ "قاض " بقبيلة معينة، ولكنّ ناشر الكتاب أراد بنا أن نصل إلى هذا العدد المكرّس. هنا نفهم لماذا زيدت الآية عن شمجر التي تجعل النصّ يضطرب (3: 31)، ولماذا استعمل الكاتب لائحة القضاة الصغار التي تتميّز بأسلوب خاصّ، يُحيط بالخبر المخصص للذي تذكره (10: 1-5؛ 7:12-15). هذه الملاحظات تساعدنا على استشفاف قصة معقّدة، تُسيطر على تدوين الكتاب.

ب- الأخبار: أللمحات عن كلّ قاضِ تقتصر على ذكر اسمه، مع بعض المُعطيات الجغرافية والزمنية. ينظر إليهم المؤرّخ، كقُوّادَ حكموا، على التوالي، كلّ شعب إسرائيل، فسبقوا الملوك في هذا المجال. بين القضاة الكبار، نضع جانبًا اللمحة عن عتنيئيل: اسمه، اسم ملك ادوم ورقمان. هذه هي المُعطيات الملموسة في نصّ يتألّف من عبارات عامة، تُظهر الإطار التعليميّ للكتاب (3: 7- 11). فيبدو، والحالة هذه، أنّه في مرحلة متقدّمة من تكوين سِفْر القُضاة، أراد راوِ أن يحتفظ بتذكار عن قبائل الجنوب، وجَدَهُ عند بني كالب حُلفاء يهوذا. أما الأخبارَ الموسّعة عن سائر القضاة، فهي تنفصل بسهولة عن إطارها الحاليّ، وتُورد تقاليد شفهية أو مكتوبة جُمِعَت في ما بعد.
عن أهود البنياميني، نملك خبرًا شعبيًا يعكس عادات شرسة في تلك الأيّام القديمة. هذا الرجل المتهوس والمحتال، قتل ملك موآب، فبدا وكأنّه أداة تحرير أرسلتها العناية (11:3-30).
أما قصة دبورة وباراق، فهي تتركّب من وثيقتين: خبر نثريّ (ف 4) ونشيد شعريّ (ف 5). أمّا النشيد الشعريّ، فيُعتبر مُعاصرًا للأحداث، وأوّل النُصوص الكِتابية المدوّنة. كان الشعب لا يزال متأثرًا بالخطر الذي أحدق به، وبالنصر الذي أحرزه على أمراء الكنعانيين المُتحالفين، فارتجلت دبورة نشيد النصر لله الذي أعان شعبه أمّا الخبر الذي يرجع الى تقليد مستقل عن النشيد، فقد روى الأحداث بطريقة نثرية. إنطلق من التقليد الأساسيّ، وزاد عليه ما اغتنى به خلال عملية النَقْل، فأورد اسم يابين ملك حاصور. والخبر يُشدّد أيضًا على الوُجهة الدينية للقضية: كانت دبورة النبيّة الوسيطة بين الله وقائد حرب هو باراق، فخفضت عدد الجنود، لتُبرز أهميّة مساعدة الله لشعبه. كان إيمان باراق ناقصًا، فأزاحته امرأتان عن دوره المُنتظر: واحدة (دبورة) في أوّل المعركة حين نظّمت الجيش، وأخرى (ياعيل) في نهاية المعركة حين قتلت سيسرا. هذا النص يرجع إلى الأوساط النبويّة في مملكة الشمال.
دورة جدعون وأبيملك (ف 6- 9)، تبدو كقِصّة متتابعة، وإن كان تأليفها الأدبي معقدًا. فبعد مقدّمة (6: 1- 10) تعرفنا إلى المواضيع التعليمية المفّضلة لدى الكاتب (7:6-10)، نقرأ عن دعوة جدعون مرّتين. وكلّ خبر يرتبط بإقامة مذبح (6: 11-24، 25:6-32)0 ثم يأتي خبر الحَمْلة على المِديانيين بطريقة موسّعة (6: 33-8: 3)، مع ذكر حَدثين يرميان إلى تعظيم مبادرة الربّ وعونه (6: 36- 40؛ 137-14؛ 7: 2-8؛ 7: 9- 11، رج آ 15). نكتشف في هذه المقاطع تنافرًا، مثل نداء جدعون مرّتين إلى القبائل (35:6؛ 23:7). أمّا ملاحقة زاباح وصلمناح (8: 4- 21) إلى عبر الأردن، فلا ترتبط بما سبق: جدعون يثأر هنا لجريمة لم ترى في ما سبق (8: 18- 19). ونقرأ أنه رفض الملكية (8: 22- 23) وصنع أفودًا (8: 24 - 27). ونقرأ أخيرًا تأملات عن لاهوت الكتاب (8: 27- 35)، تختتم حياة جدعون. ويأتي بعد هذا خبر الملكية العابرة لأبيملك بن يربعل (أو جدعون) الذي لعنه أخوه يوتام (ف 9).
حاول بعض النقاد أن يجدوا في هذه المجموعة خبرين مُتمازجين أو ثلاثة. ولكن البعض الآخر، يُحاول أن يأخذ بعين الاعتبار خصائص التقاليد الحاضرة، فيفترض خبرًا أساسيًا (2:6-5 ؛ 33:6-3:8؛ 24:8-35)، زيد عليه ثلاثة مقاطع مستقلة (6:6-10؛ 6: 11-24؛ 25:6-32)، ويفترض خبرًا آخر يروي حملة عَبْر الأردن وقصّة أبيملك (8: 4- 21، ف 9). هذه الأخبار المتنوعة دوِّنت تدريجيًا. ثمّ جاء خبر عبادة عن مذبح عفرة، فحدّثنا عن دعوة جدعون (6: 11-24)، وخبر عبادة آخر، يذكر انتقال معبد عفرة من عبادة بعل إلى عبادة يهوه، فيميّز بين يربعل وجدعون، ويُبين طاعة البطل لأمر الله. في قصة أبيملك الواحدة يُقحَم حدثُ جاعل وزبول (9: 26- 41) ومَثَلُ يوتام الذي يُعتَبر أول نموذج عن الشعر الحِكَميّ في أرض إسرائيل (9: 8- 15).
قِصّة يفتاح (6:10-6:12) تقطع لائحة القُضاة الصغار، وترسم وجه أحدهم (10: 1-5؛ 7:12-15). وأهميتها تجعلها تبدأ بمقدّمة طويلة، تُعبّر عن لاهوت الكتاب (10: 6-16). فيفتاح هذا طرده إخوته، ودعاه شيوخ جلعاد فقاد حملة على العمّونيين (10: 17- 11: 11) تكلّلت بالنجاح (11: 29، 32-33). وينقطع الحديث بخبر حيّ وثابت، يُطالب فيه يفتاح بحقوق بني إسرائيل على الأراضي الواقعة في عَبْر الأردن (11: 12-28). هو يتحدّث إلى ملك العمونيين، ولكنّه يذكر كموش إله الموآبيين (رج آ 24-25). ونَذْرُ يفتاح وذَبْحُ ابنته (11: 30- 31، 34-40)، يُفسّران عادة شرق أردنيّة، بموجبها تنتحب النساء مرّة كلّ سنة في احتفالات طقسية. أما النزاع بين يفتاح والإفرائيميين (12: 1-6)، فهو حَدَث يُبيّن صعوبة العلاقات بين العبرانيين الشرق أردنيين وبيت يوسف الذي ارتبطوا به.
ويقدّم لنا الكاتب شمشون، على أنّه "قاض" في إسرائيل، بفضل العبارات التي تُحيط نجبر مُغامراته (13: 1؛ 15: 20؛ 16: 30). وهذه العبارات تكشف عن شخص يختلف كلّ الاختلاف عن سائر الأشخاص. أصله من منطقة اتصلت فيها قبيلة دان بالفسلطيين، فانجذب بزواجه من امرأة فلسطية بسلسلة من الانتصارات في شعوبها (14: 1-8:15)، ويتبع الخبرَ حدثٌ يحصل في منطقة قريبة من يهوذا: ينتصر شمشون على الفلسطيين، بفضل روح الربّ وفَكّ حمار، ويشرب مياهًا من مَورِمَ الفك (15: 9-19)، ويُقيم ليلة عند بغيَّة في غزة، فينهض في الصباح ويَحرم المدينة من بابها (16: 1-3)، ولكنّه يضعف أمام امرأة اسمها دليلة، فيخسر قوّته مع شَعْرِه. إلا أنه لا يموت وحده بل يقتل نفسه مع آلاف الفلسطيين (16: 4- 31). هذه المجموعة من المآثر التي تمتزج فيها البُطولة بالفُكاهة، تتخذ طابعًا دينيًا، وتشكِّل ولادةُ شمشون مُقدّمةً لها.
وينطلق الكاتب من تقليد قديم عن أصل معبد صرعة، فيتوسّع في خبر دعوة (13: 2-24) يُفسّر لنا قُوة شَعْر شمشون بَنذْره. فالناذر لا يحلق شعر رأسه ولا لحيته، علامة تكريسه للربّ. ثم إنّ بداية الحرب على الفلسطيين وما يشكّلونه من خطر، تُنسب إلى مبادرة الربّ وقُدرته (13: 5، 25؛ 14 :6، 19؛ 15 : 14)

4- تكوين سِفْر القُضاة
ونتساءل: كيف توحّدت هذه المواد المتنوعة في إطار سِفْر القُضاة كما نعرفه اليوم؟ هناك فترة من التقليد الشفهيّ، كانت تنتقل فيها قصص الأبطال، داخل هذه القبيلة أو تلك. أمّا نشيد دبوره (ف 5) ومَثَل يوتام (7:9-15)، فقد دُوِّنا باكرًا جدًا. ثمّ دُوّنت الدورات المحدّدة هنا وهناك على مراحل عديدة..
كانت نظرية قديمة، تعتبر سفر القضاة كأسفار البنتاتوكس: تجميع يهوهيّ وتجميع ألوهيميّ، ضُمّا في كتاب واحد قبل اكتشاف سِفْر التثنية. فاستعاد الكاتب الاشتراعي هذا النصّ وطبعه بطابعه، ثم جاء كاتب آخر فحّورّ بعض النصوص بعد الجلاء. بعد هذا شدّد النُقّاد على دور المؤرخ الاشتراعي الذي أوضح أمانة الله وثباته، رغم تقلّب شعبه. وإذا أردنا أن نتصوّر الأمور، يُمكننا أن نُجملها بحسب الترتيب الأتي.
- إنتظمت في البداية تقاليد شفهية، في بيت أو عشيرة أو قبيلة في زمن قريب من الحَدَث.
- إنتقلت هذه التقاليد من جيل إلى جيل، واغتنت خاصّة بفضل اتصالها بتقاليده مُشابهة.
- منذ القرن الحادي عشر دوِّنت بعض هذه التقاليد، لا سيّمَا نشيد دبوره الذي يجعلنا نشعر أنّنا قريبون من الحَدَث.
- وانتظمت مجموعة أولى للتقاليد الشفهية والمكتوبة، ألمتعلقة باهود وباراق وجدعون وابيملك في مملكة الشمال، فتأثّرت ولا شكّ بتعليم الأنبياء.
- بعد سقوط السامرة (722 ق. م.) الذي وضع حدًا لمملكة الشمَال، وفي عهد حزقيا (716 - 687) الذي كان عَصْر نشاط أدبيّ عظيم (رج ام 25: 1)، أعاد الكاتب النظر في هذه المجموعة، وأغناها وزاد عليها نُصوصًا تتعلّق بعتنيئيل ويفتاح وشمشون.
- في عهد يوشيا (640-609)، وبعد إعلان سِفْر التثنية (622 ق. م.)، أعاد الكاتب النظر في الكتاب واغناه بحسب تعليم سِفْر التثنية، فدوّن المُقدّمة اللاهوتية (2: 11-6:3) وغيرها من المقدمات التي تُعطي المضمون الديني للكتاب.
- في زمن الجلاء وما بعده، زاد كاتب متأثر بالعالم الكهنوتي، ألمُلحقَين الأخيرين. ألمُلحق الأوّل ينقل إلينا تقاليد قديمة عن أصل معبد دان الذي سيصير أهمّ معابد مملكة الشَمال المنشقّة. ألمُلحق الثاني يروي إفناء قبيلة بنيامين إفناءً يكاد يكون تامًا، ثم قيامتها من جديد بفضل عناية الله. في المُلحق الأول نجد دفاعًا عن هيكل أورشليم وكهنته، وفي الملحق الثاني يتعلم الشعب اليائس، أن يثق بالربّ الذي يستطيع أن يُنهضه من خطيئته ومنفاه، كما انهض بنيامين وأعلى مكانته بين سائر القبائل.

5- محيط سِفْر القُضاة
1- ألمحيط السياسيِّ: كيف يبدو الوضع السياسيّ في زمن القُضاة؟ مصر بعيدة، وقد تدخّلت مرةً واحدةَ حوالي سنة 1192، ضِدّ شعوب البحر. أما المملكة الحثيّة فصارت في خبر كان منذ القرن الثالث عشر. غابت الإمبراطوريات الكُبرى، فاستطاعت القبائل والممالك الصُغرى أن تتصارع على أرض كنعان، وفيها المديانيون والعماليقيون والموأبيون والعمونيون وأبناء المَشْرق وغيرهم. أمّا الفلسطيون الذين يشكّلون بقايا شعوب البحر، فسيُخاصمون بني إسرائيل وينتصرون عليهم.
لا وحدة سياسية تجمع العبرانيين بعضهم ببعض. فالقبائل تستقلّ الواحدة عن الأخرى إن لم تخاصمها، كما أنّه لم يكن للقبيلة دومًا قائد واحد. فالتجمعّ الموحد هو العشيرة، وهو وسط بين القبيلة والبيت (أو العيلة بمعناها الواسع). كيف تمّت إقامة البدو العبرانيين؟ ببطء وصعوبة وبأشكال متفاوتة، كل هذا بحَسَب النجاح العسكريّ. أمّا الكنعانيون، فظلّوا أقوى من العبرانيين، وبالأخصّ في شَمال البلاد. كانت تمرّدات على القوى المحليّة هنا وهناك، جعلت بني إسرائيل يحسون بالحاجة المط ملك يُوحّد مجهودهم. وحاول بعضهم أن يكون الملك، ولكنّ الوقت لم يَحِن بعد، وسوف ننتظر تطورًا، سيستفيد منه صموئيل، ليُؤسسّ المَلَكيّة في شعب إسرائيل. ولكن في زمن القضاة لم يكن ملك في أرض إسرائيل، فكان كلّ إنسان يعمل ما يحسن في عينيه (25:21؛ رج 17 : 6 ؛ 18 : 1 ؛ 19 : 20).

ب- الحالة الاجتماعية: لم تكن الحرب دائمة بين الكنعانيين والعبرانيين، لهذا توثّقت علاقات تَعاوُن بين الفئتين، وهذا ما جعل العبرانيين يتطورون بتأثير الكنعانيين الذين سبقوهم في التمدّن. فالعبرانيون لا يعرفون الزراعة واستغلال الأشجار المُثمرة وبناء البيوت والأسوار، وحَفْر الطرق وبناء الجسور وصناعة الملبوسات والخشب والحديد والفخّار. كلّ هذا تعلمّوه على يد الذين سبقوهم إلى أرض كنعان. ولما كثر الانتاج نمت العلاقات التجارية وازدادت الزواجات. وهكذا تحوّل العبرانيون من بدو رُحّل إلى فلاحين يُقيمون في أرضهم، ويشبهون الكنعانيين في الكثير من عاداتهم، لا سيّمَا في مجال العبادات الدينية.
نشير هنا إلى أنّ هذه العادات كانت فظّة بل همجيّة: تَصرَّفَ أهود مع عجلون ملك موآب بطريقة ماكرة (3: 16- 23). تعدّت ياعيل على حقّ الضيافة (4: 18- 22)، فمدحها الكاتب لأجل ذلك (5: 24- 27). قتلَ أبيملك إخوته السبعين أبناء يربعل (9: 5)، وذبحَ يفتاح ابنته (11: 34-40). وجريمة جبع (19: 22- 25) والطريقة التي توسّلها اللاوي ليستنفر القبائل (19: 29- 30)، وخطفُ بنات شيلو (21: 19- 23)، كلّ هذا يدلّ على عادات ذلك الزمان التي لا تتميز كثيرًا عمّا يُفعل في أيامنا، ويا للأسف!

ج- ألمحيط الديني: حين وصل العبرانيون إلى كنعان، كان إيمانهم عميقًا بيهوه، إله قبائلهم الذي قادهم إلى النَصْر واحتلال الأرض. ولكنّهم حسبوه يُقيم في جبل سيناء المُقْفر أو في قلب البريّة. أمّا الكنعانيون فينظرون إلى الإله في علاقته بالأرض. كل منطقة لها بعلها، ألسيّد المحليّ الذي يتحكّم بالغِلال والثمار. يُدركون تفجّر الحياة، فيرون في بعل وعشتاروت مبدأ كلّ خصب، ويكرمونهما بعبادات ترفضها الأخلاق، ومنها ذَبحُ الأطفال.
خرج العبرانيون من البرية، وأقاموا في تلك الأرض الغنيّة، فصاروا فلاحين مُتتلمذين للكنعانيين، فلم يتعلّموا تقنية فحسب بل فكّروا أنّ هذه الخيرات مصدرها بعل، فتأثّروا بأعياد البهجة التي تطبع حياة الزراعة بطابعها. لا شكّ أنّهم لا ينسون يهوه، بل يُعلنون سُمُوّه، ولكنّ يهوه لا يستطيع أن يفعل ما يفعله بعل. هو إله البرية وحياة البداوة، لا إله الحقول والخِصْب. وهكذا انزلقوا في توفيق ديني يتعارض ومبادىء الإيمان النقيّ بيهوه. تلك كانت مأساة الشعب في زمن القُضاة: ألتراخي والضُعف، أسلماهم إلى أعدائهم إلى أن جاء وقت قامت المَلَكية الداودية على أسس تقليدية من العبادة ليهوه.
ولكنّ إن تلونّت الديانة الشعبية بالتوفيق الديني، إلا أنّ هناك نُخبة من الاتقياء الواعين لوحدة الشعب، حافظوا على مبدأ الإيمان اليهوهي النقيّ. هم الأنبياء واللاويون.
لم يكن اللاويون المُمارسين الوحيدين لوظيفة مُقدّم الذبيحة، فالمعابد المحلية عديدة وربّ البيت أو سيّد العشيرة والقبيلة يقوم مقام الكاهن. ولكنّ الناس يُفضّلون على كلّ هؤلاء بني لاوي (ف 17-18). والمعبد الرئيسي في شيلو، حيث يُقيم تابوت العهد، يخدمه كهنة من بني هارون. يحرس اللاويون المعابد الكُبرى وأماكن الحجّ، ويعرفون وحدهم أن يسألوا الربّ بواسطة الأفود. لهذا تراهم يتمتّعون بنفوذ كبير، يُوظفّونه للمحافظة على التقاليد الدينية.
وينضمّ أبناء الأنبياء الذين يؤلفون جماعة مستقلة إلى اللاويين، ليُحافظوا على الديانة اليهوهية وينمّوها. إنّهم أناس متحمسون، يعيشون على هامش المجتمع ولا يخافون أن يُشهِّروا بمفاسده. كان عدد هؤلاء الأنبياء كبيرًا، فكوَّنوا في عهد صموئيل جسمًا منظمًا، وعملوا على إنعاش التقوى وتنظيم المُقاومة بوجه المدّ الكنعاني.
هناك معابد كبيرة مثل شيلو والجِلْجال وبيت إيل والمصفاة، تُستخدم كمكان اجتماع وصلاة في الظروف الخطيرة (20: 1، 23، 26؛ 21: 2) وفي الأعياد الكبرى. ولكن كان باستطاعة كلّ إنسان، أن يكون له معبده الخاص، وربّ البيت يختار خادم هذا المعبد بنفسه، أو يقوم هو بنفسه بخدمته. أما هكذا صنع ميخا في جبل إفرائيم (17: 5)؟ ولكنّ العبادة تأثرت بشعائر الكنعانيين، فخلط العبرانيون بين بعل ويهوه، ونسوا أنّ يهوه إله غيور (خر 20: 5؛ تث 24:4؛ يش 19:24). والحالة النموذج هي ما فعل جدعون الذي صاغ أفودا، وجعله في مدينته عفرة، فصار ما عمله فخًّا لجدعون وأهل بيته (27:8) بل لجميع آل إسرائيل.

6- ألقيمة التاريخية
لن نبحث في سِفْر القُضاة عن خبر متتابع لفترة تمتدّ قرنًا ونصف قرن من الزمن (1200- 1050)، ولن نجد لوحة عن الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ذلك الوقت. ويجب أن نتذكّر أنّ الكتاب المُلهمين، لا يكتبون ليؤمّنوا لنا وثائق تاريخية، بل ليُبرزوا عمل الله وتدخّله من أجل شعبه.
ماذا نجد إذن في سفر القُضاة؟ تاريخًا متقطعًا، لأن لا وحدة ثابتة بين بني إسرائيل قبل المَلَكية. فكلّ مجموعة لها تاريخها، والذكريات تختلف من قبيلة إلى أخرى. فلمّا جمعها الكاتب الملهم، قدّم لنا تأليفًا دينيًا لا شميلة تاريخية، فأعطانا سلسلة من الوُجهات الجزئية ونظَّمها من أجل تعليم لاهوتي.
ثم إنّ هذه الذكريات انتقلت داخل أخبار من أنواع متنوعة، فغرفت من كَنْز الأدب الشعبي، ألطُرْفة والنادرة المُضحكة بل الحكاية الساخرة، وفسّرت أحد الطقوس (ابنة يفتاح) أو أبانت دعوة جدعون وشمشون.
وأخيرًا، لا يهتم الكتاب بأن يلي نظرتنا إلى التاريخ في ما يخصّ الزمن. فمُعطيات الكتاب ترجع إلى أصول مختلفة، وبعض الأرقام تعود إلى مراجع قديمة. ولكنّ أكثر الأرقام قد وضعها الكاتب المُلهم، فمَا عرفت الدِقّة الحسابية. وهكذا نجد مرارًا العدد 40 أو 80 (ضعفه) أو 20 (نصفه). فإذا جمعنا أعداد الكتاب حصلنا على 410 سنوات لزمن القضاة، وإذا جمعنا أعدادًا أخرى معطاة في غير مكان، حصلنا على 599 سنة من أيام موسى إلى بناء هيكل سليمان. ولكنّ سفر الملوك، لا يُعطي للفترة ذاتها إلا 480 سنة (1 مل 6: 1) وهو رقم رمزي. فهيكلْ أورشليم هو في منتصف حياة بني إسرائيل، فيجب أن يكون بناؤه في وسط تاريخهم، فيقسمه قسمين متساويين: 12 جيلاً (أي 480 سنة) من الخروج إلى بناء الهيكل، 12 جيلاً من بناء الهيكل إلى الذهاب إلى المنفى.
أمّا حساب الأزمنة السابقة للملكية، فيجب أن نثبتها على أسس أخرى. فبناء هيكل سليمان كان حوالي سنة 968، فتكون بداية ملكية شاول سنة 1030. تم إنّ علم الأثار وتاريخ مصر، يُعلماننا أنّ العبرانيين أقاموا في كنعان في نهاية القرن الثالث عشر. وهكذا يكون زمن يشوع والقضاة محصورًا بين نهاية القرن الثالث عشر وسنة 1030 ق. م. أمّا سفر القُضاة فيجمع تقاليد محلية، ويمكن أن يكون بعض الأبطال عاصر البعض الآخر. نقول مثلا أنّ نصر باراق تمّ في وسط القرن الثاني عشر على التحالُف الكنعاني عند مياه مجدو (ف 4- 5). هذا النص يسبق هجمات المديانيين الذين ردّهم جدعون، واندفاعة الفلسطيين خارج بلادهم في أيام شمشون. تقدّموا فهزموا العبرانيين هزيمةً مُنكرة حوالي 1050 في ابن عازر، وهذا ما دفع القبائل لأن تجتمع وتُنَصِّبُ عليها ملكًا في شخص شاول.
يُعطينا سفر القُضاة من خلال قصصه المتقطّعة، صورةً عن زمن من النزاع والاضطراب. لا وحدة تجمع القبائل، لهذا تراها عُرضةً لخطر الكنعانيين، أصحاب المدن المحصّنة والهائلة، ولخطر الشعوب القريبة المُغامرة: مملكة عمون ومملكة موآب في شرقيّ الأردن، ألغزاة المديانيون، ألفلسطيون الذين أقاموا حديثًا على الساحل جنوب يافا. أمام الخطر يُدافع كلّ واحد عن نفسه حسب إمكاناته. ويقوم مخلّص فيُمسك زمام الأمور بيده ويخلّص عشيرته أو قبيلته، ثم مُمارس بعض السلطات، ولكنّ رسالته محصورة في مكان صغير، وحقل نشاطه محدود بسبب الخطر الكبير الذي يجب إبعاده. ويحدث مرّات أن تَضُمَّ مجموعات قواها (ف 4-5؛ 23:7) فتُنَمّي مثلُ هذه المحاولات الحِسَّ الوطني. فقبيلة إفرائيم أحسّت بالإساءة، لأنّها لم تُدعَ إلى الحرب مع إخوتها (8: 1-3؛ 12: 1-6)، ووبخت دبورة أربعَ قبائل لم تلبّي نداء الحرب يوم نادتها (5: 15-17). ولكنّ ما يُلفت النظر، هو أنّ دبورة لم تدعُ قبيلتي يهوذا وشمشون، ألمُقيمين في الجنوب، فالشمَال والجنوب ظلا مُنفصلين وإن اتحدا في زمن داود وسليمان، فسيكونان في ما بعد مملكتين متميّزتين.

7- ألتعليم الديني في سفر القضاة
لن نفصِّل التعليم الديني الذي نستخلصه من هذا الكتاب، ولكنّنا نشير إلى الخطوط الكبرى التي تساعدنا على تحديد البُعْد اللاهوتي الذي يُوحّد هذا الكتاب، والذي هو التعليم عن العهد. قلنا أنّنا أمام أربع كنت (ألخطيئة، ألعقاب، ألتوبة، ألنجاة) تُقابل ما نقرأ بطريقة تجريدية في لا 31:26-45؛ تث 25- 31؛ 28 : 15-68؛ 29: 19- 30: 10. يهوه هو إله المواعيد، إله العهد، فعلى بني إسرائيل أن يثبُتوا على عهده، ولكنّهم يخونون. ولأنَّ العدالة الإلهيّة هي ما هي، فالخطيئة تجلب العِقاب. ولكنّ الله حُبٌّ ورحمة، فعندما يتوب الشعب، يمنحه خلاصًا يتعدّى كلّ ما ترجّاه.
الله هو القُدّوس، ولهذا فكلّ إنسان يُحسّ نفسه في حالة دَنَس أمامه، من هنا ردّات فِعْل الخوف عندما يظهر ملاك الله (6: 22؛ 13: 22). ولكنّ الله اختار بعطفه، وبطريقة مجانية شعبًا له، فعبّر عن اختياره بالمواعيد التي وعد بها الأباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، ثمّ موسى على جبل سيناء. سيتذّكر سِفْر القُضاة هذه المواعيد (2: 1-3: 6؛ 6: 7- 10؛ 10: 10-16)، ويفهم أنّ أمانة الشعب لمتطلّبات الربّ ستنال جزاءً زمنيًا وجَمَاعيًا.
تتلخّص أمانة الشعب لشريعة الله في الامتناع عن الشِرك وعِبادة الأوثان. ألخطيئة الكُبرى هي أن نتخلّى عن الربّ. فلا حالةً وسط بين عِبادة الأصنام وعِبادة يهوه. والعبرانيون يكونون قدّيسين لأنّ إلههم قُدّوس هو. من هنا الإمتناع عن أيّ معاهدة مع الوثنيين، أكان عقد شراء أم بيع، أم كان زواجًا مُختلطًا (2: 2؛ 3: 6)، والتنبّه إلى الخطر من بَعْل وعشتاروت، وكلّ ما يتعلّق بعبادتهما. فَمَن تعبّد لهما يكون قد زنى. وبالعكس نَهْدُم هذه المعابد ونُحرّم على نفوسنا المُدُن الوثنية، كما فعل العِبرانيّون في حرمة (1: 17) وبيت إيل (1: 25).
من هنا نكتشف أهمية وحدة المعبد. لا شكّ أنّ مواضع العبادة في سِفْر القضاة كثيرة، وليس من يَشْجُبُها، لأنّها شرعية. ولكنّ الشعب أحسّ بالخطر في الأخْذ بشعائر العبادات الوثنية. ولهذا يوم بُني هيكل أورشليم، أُلغِيَت سائر المعابد في أرض إسرائيل. ولكن في انتظار ذلك، سيُشدّد الكاتب على معبد شيلو أو بيت إيل، حيث يُقيم تابوت العهد ورئيس الكهنة الشرعيّ (18: 31؛ 20: 27 ي). في هذا المكان يُقدّم الشعبُ ذبائحه، ويتلو صلواته ويُكرّس أصوامه ويلتمس وجه ربه.
وبالنسبة إلينا، لماذا نقرأ سِفْر القضاة؟ لأنّه يُحدّثنا عن حضور الله مع شعبه، ونحن شعبه، لأنّه يُدخلنا في خبرة تحرر وخلاص.
إنّ نيّة الكاتب الملهم تبدو في هذه الأخبار المُنعزلة التي نقلها التقليد. لا شكّ في أنّ هذه الأخبار تُمجّد هذه العشيرة أو تلك القبيلة، ولكنّها تُمجّد في النهاية الله الذي يفعل بواسطة أناس اختارهم من أجل رسالة. ولقد فهم الكاتب ما يستطيع أن يستنتجه، ليرسم لنا علاقات الله مع شعبه. تقاليد محلية ألفّت لوحة تؤكّد للمؤمنين، أنّ الله ما زال يتدخّل من أجل أخصائه. أما قِصّة فَشَل بني إسرائيل ونجاحهم في زمن القضاة، فهي قصة الخيانات والرجوع التي بواسطتها يكشف الله عن ذاته. نكتشف في سِفْر القضاة ضعف الشعب، ونكتشف أيضًا صَبر الله الذي ينتظر عودة الخروف الضالّ. إنّه إله النعمة، والكلمة الأخيرة هي كلمة الخلاص لا الهلاك. مثل هذا الكلام لا يتوجّه فقط إلى شعب الله في زمن الجلاء، بل إلى شعب الله في كلّ الأزمنة.
ويُحدّثنا سفر القضاة عن التحرير. فتخليص الشعب من أعداء زمنيين، هو صورة بعيدة عن خلاص سيدلّنا التاريخ المقدس في ما بعد على طبيعته الحقيقية. ولكنّنا منذ الآن نعرف أنّ الله يخلّص، وأنّه حين يُقيم مخلصًا، يحمّله لشعبه وعودًا. فمآثر هذا القاضي أو ذاك ترجع إلى حلول الروح عليه (6: 34؛ 11: 29؛ 14: 6-19؛ 15: 14). نحن هنا أمام لاهوت سينطبق على داود (1 صم 13:16) ثمّ على المسيح (اش 2:11). سفر القضاة مرحلة تقود إلى الخلاص الناجز التامّ، والقضاة هم مثال لنا في الثبات على الأمانة لله (سي 46: 11-12)، وشهود لإيمان يُهيئنا لتقبّل مواعيد الله النهائية (عب 11: 32).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM