الفصْل السّابع عَشر: كَلمَات يشوُع الأخِيرة

الفصْل السّابع عَشر
كَلمَات يشوُع الأخِيرة
23 : 1 – 16

أ- المقدّمة
1- نقرأ هنا مُقدّمة قصيرة (23: 1)، تسبق خُطبة يشوع (آ 2-16)، هي الوصيّة التي يتركها لشعبه (آ 2-14). هذا التحريض الاحتفالي المليء بتعاليم سفر التثنية وتعابيره، يتوسعّ في موضوع معروف، هو الأمانة للرب الذي وفى بوعده، فأعطى شعبه ملك أرض كنعان (آ 3- 5). أمانة الله تدعو أمانة الشعب لله ولشريعته، رغم أخطار التلوّث الديني والأخلاقي الذي يُسبّبه وجود الشعوب الوثنية المغلوبة (آ 6-13). فإذا أراد الشعب أن يحافظ على وجوده وألا يخسر الأرض المقدّسة، فعليه بالأمانة لربّه.
2- حصل بنو إسرائيل على الراحة، فوصل تدخّل الله إلى أهدافه. ولكنّ الواقع هو غير ذلك، كما يظهر في سفر ي القُضاة ويشوع. لهذا يُعلن الربّ بلسان يشوع، أنّ الأمور ستتحوّل خلال عهد يُجدده مع شعبه. ونلاحظ في كلمات يشوع تلميحًا إلى أيام المنفى في بابل. فالآيات 13-16 تُشدّد على أنه يُمكن لبني إسرائيل، أن يُطرَدوا من الأرض الصالحة التي أعطاهم الربّ إلههم. وهكذا يكون هذا النصّ مُوجهًا إلى المنفيين في بابل، فيقول لهم: قبل أن تُعيدوا بناء الأرض، عليكم أن تختاروا بين الربّ والآلهة الغريبة. وهكذا خلق سفر يشوع، إنتظارًا في قلوب هؤلاء المستعدّين للرجوع، وسيُعلن لهم أشعيا الثاني، أنّ أيّام الرجوع صارت قريبةً، فليستعدّوا.

ب- تفسير الآيات الكتابية
(آ 23: 1-2) إلى أين دعا يشوع بني إسرائيل؟ لا ندري، يُمكن أن يكون إلى شيلو كما في السابق (18: 1؛ 19: 51؛ 9:22، 12) أو إلى شكيم كما في ف 24. على كلّ حال، يتتبع ف 23 خُطى ف 24. ويُحدِّث يشوع بني جيله، ولكنّ الكاتب يُحدّث قراءه في القرن السادس ق. م. فكما سمعنا كلمات يعقوب (تك 49) وموسى (تث 31) وصموئيل (1 صم 12) وداود (1 مل 2) الأخيرة، كذلك نسمع هنا كلمات يشوع قبل موته.
(آ 3- 5) ألربّ حارب عنكم (آ 3، 10؛ رج 10: 4، 42؛ تث 3: 22). بنو إسرائيل شعب كسائر الشعوب، حاربوا فنالوا أرضَا. هذه نظرة المؤرخ العادي. أما المؤرخ الكتابي، فيحمل إيمانًا يجعله لا يعرف شعب إسرائيل دون حضور الله معه. فبنو إسرائيل يحاربون مع ربّهم، بل هو يُبادر ويُقاتل ويقود جيوشهم (5: 14). وهكذا تكون حروب بني إسرائيل حروب الربّ بالذات (عد 14:21؛ 1 صم 17:18، 25-28).
قسمتُ لكم تلك الأمم الباقية... هذا هو التاريخ... بقيت شعوب عديدة في أرض كنعان، يوم دخلها بنو إسرائيل، وبقيت معهم آلهتهم وديانتهم وعباداتهم. لهذا انبرى الانبياء يدافعون عن الأمانة لله، ويدعون للحرب على الشِرْك والتوبة إلى الله. وعلى ضوء كلماتهم كُتب الفصل 23 من سفر يشوع.
(آ 6-13) بقي الكنعانيون بينكم، ولكن لا تمتزجوا بهم، لا تُساوموا معهم في قضايا الدين، لا تزاوجوهم لئلا يتشوّه إيمانكم (رج تث 7: 1-6؛ عد 33: 51-56). ألكنعانيون شرَك وفخّ لكم (تث 7: 16؛ 12: 30؛ قض 3:2)، فكونوا أقوياء واثبُتوا أمامهم (آ 6). ولكنّ القضية هنا، ليست حربًا بالسلاح بل حرب الروح والقلب والشجاعة، في الحفاظ على كلّ ما كُتب في شريعة موسى أي سفر التثنية الذي هو تعليم مُعمّق للجيل الجديد.
(آ 14-16) سقط الشعب في التجربة وخان الرب، لذلك لم يطرد الربّ من أمامه الأمم الوثنية (آ 13)، فصاروا له شوكة في خاصرته. وهكذا سار شعب الله إلى حَتْفِه.
وهنا نقرأ تلميحًا إلى أيام المنفى في بابل. ما قاله من كلمات خير تحقّق، وسيتحقّق ما يقوله من تهديد لشعبه. وهكذا ندخل في جوِّ مأساوي.

ج- مُلاحظات حول الفصل السابع عشر
قبل أن يأتي بنو إسرائيل إلى أرض كنعان، كانوا يؤمنون بيهوه ويعبدونه كسائر البدو. ما كان إيمانهم يرتبط بأرض، وهم لا أرض لهم. والله كان إله الآباء وإله الجماعة التي تعيش الإيمان الواحد.
ولكن تبدّلت الأمور بعد إقامتهم في أرض كنعان: ألتجاور، ضرورات العمل، ألتزاوج والتبادُل والتجارة، كلّ هذا جعل الكنعانيين يُؤثّرون على العبرانيين على مستوى شعائر الديانة.
كان لكنعان معابدها المشهورة بقدمها، وكانت شعائر العبادة فيها مجهولة لدى البدو. وفي هذه المعابد، كلّ شيء يعود إلى آلهة الخصب، وكل منطقة وكلّ أرض تخصّ بعل السيد والرب المالك والزوج، وهو كان يُخصبُها فيُعطيها المطر. ألولادة ترتبط ببعل، وكذلك النُموّ وحياة الانسان والحيوان والنبات. يعبُده الإنسان فيسترضيه، يحتفل بأعياده، فيدعوه إلى السخاء والكرم، يُتمّ طقوس التدرّج فيشاركه في قوّة الحياة. وهكذا كان مركز الخِصب والجِنس مسيطرًا في هذه الديانة الحياتية.
ومال بنو إسرائيل إلى هذه الديانة الطبيعية، فشاركوا في أعيادها وحجّوا الى معابدها وقدّموا ذبائح لآلهتها، ومارسوا شعائرها دون أن يتخلوا عن إيمان الأجداد. ذهبوا إلى معابد البلاد وعبدوا الربّ فيها، وأقرّوا بحقوقه عليهم، وأعلنوا تعلّقهم به وعِرْفانهم لجميله. وسيأتي وقت سوف يتخذ الربّ صفات الإله بعل، فلم بعد فقط إله الجبال (إله شداي) والمناطق الصحراوية، بل إله الأرض التي يُقيمون فيها. وهكذا صار الله قريبًا من المؤمن وحياته في الحقل.
ولكنّ الخطر برز في أن نجعل من يهوه، بعلاً كسائر الآلهة. هو إله سام، ولكنّه ليس وحده، بل نُشّرِكُ غيره معه. وهذا ما لا تقبله الديانة اليهودية. قال الرب في الوصيّة الأولى: "أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية، لا يَكُنْ لك آلهة أخرى تُجاهي" (خر 20: 3). فالذي يذبح لآلهة صر الإله الواحد، يكون ملعونًا (خر 22: 19). هذا هو إعلان إيمان بني إسرائيل في أساسه، وهذا الإيمان أسسَّ شعب إسرائيل وطبعَ تقاليده المقدّسة، وأعطاه تعليمًا ساميًا ورجاء خارقًا.
كان للرب الواحد مؤمنون، أمثال اللاويين الذين حافظوا على الإيمان الحق ونشروه حولهم، والأنبياء الذين من صموئيل إلى أرميا، ما فتئوا يُعلنون أنّ الربّ وحده هو الله، وينبّهون المؤمنين إلى شرّ الشِرْك المسيطر على البلاد

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM