الفصْلُ الرابع عَشر
مُدُنُ الملْجَأ
20 : 1 – 9
أ- المُقدِّمة
1- يتضمّن هذا الفصل عناصر اشتراعية، تُذكّرنا بمَا نقرأه في سفر التثنية (تث 4: 41-43؛ 19: 1-13)، وقد دَوّنته في النهاية يد كهنوتيّة، فطَبَعَتْه بطابعها .
2- إن حقّ اللجؤ شكْلٌ معروف في الشرق القديم، وهو يرتبط ببعض المعابد المميَّزة بمواثيق دولية. والحقّ ذاته كانت تمنحه أمّة، إلى الفارّين من أمّة أخرى، فتعطي له أبعادًا سياسية ومدنية. في هذا الإطار دُوّنت القواعد عن الملجأ وتسليم الفارّين، في مواثيق العَهْد بين الشعوب في الشرق القديم، وقد وصل إلينا بعض منها.
3- أمّا تعيين مُدُن الملجأ (رج عد 35: 9-34)، فلا نجد ما يُقابله عند أي شعب آخر، وهو بهذا خاصّ بحياة شعب إسرائيل وإيمانه. أمّا المُدُن المذكورة هنا، فهي مُدُن لاوية أيضا، وبعضها مَركز معَابد مشهورة. وكما أنّ اللاوي يستطيع أن يقوم بأَوَدِ حياته في المدينة التي يُقيم فيها، كذلك ضيف مدينة الملجأ، يَجِدُ حيث يسكن، ما يُساعده على العيش. كلّ هذا يَنُمّ عن وَعْيٍ اجتماعي متقدّم، تتمّيز به نصوص العَهْد القديم.
4- متى نُظِّمت مُدُن الملجأ؟ من الصعب أن نعطي جوابًا مُرْضِيًا. ولكن يبدو أنّ أول تنظيم لها، تمّ في بداية عهد داود، ساعة أخذت العدالة الملكية، تَحُلّ محلّ عادة الأخْذ بالثأر. فنحن نقرأ في آ 6 و آ 9، أنّ للقاتل أن يحضر أمام محكمة، لا أن يقتله وليّ الدم. وتنظيم ثانٍ تمّ في عهد يوشيا الذي ألغى كلّ المعابد، واحتفظ بمَعْبَدِ أورشليم، ولكنّه أبقى على مُدُن الملجأ.
5- هذه المُدُن نظّمت للقاتل عن غير عَمدٍ فلا يُلاحقه وليّ الدم ولا ينتقم منه أقارب القتيل. في سفر يشوع، نجد سِتّ مُدُن ملجأ، هي قادش وشكيم وحبرون في غربيّ الأردن، وباصر وراموت وجولان في شرقيّ الأردن. في تث 19: 1-13 تقرر أن تُفرز ثلاث مُدُن، يهرب إليها القاتل فينجو بحياته، ولكنّ النصّ لا يُسمّي هذه المدن. دُوِّن هذا النصّ، يومَ تركزت العبادة في أورشليم في عهد يوشيا. وفي تث 4: 41-43، إختار موسى ثلاث مُدُن ملجأ في شرقيّ الاردن هي باصر وراموت وجولان. وأخيرًا في عد 35: 9-34، نقرأ عن مُدُن ملجأ تكون لحماية القاتل غير العامد، إلى أن يقف أمام المحكمة. هذا النصّ دوِّن، على ما يبدو، في زمن ما بعد الجلاء، ولكنّه لم يطبَّق.
ب- تفسير الآيات الكتابية
(آ 20: 1-2) إختاروا لكم مُدُن الملجأ كما أمرتكم بلسان موسى. نجد تلميحًا هنا إلى نصوص التثنية والعدد التي ذكرناها أعلاه. وتأثير عد 35: 9-34 واضح على تدوين نصّ يشوع هذا.
(آ 3-4) ألشرط: من قَتل سَهْوًا ولم يقصد أن يقتل. يهرب القاتل قبل أن يصل إليه وليّ الدم المطلوب منه أن ينتقم لدم من تولّى حمايته. يَقِفُ بمدخل باب المدينة (حديث تجتمع الجماعة)، يكلّم الشيوخ، يسمعون له، يقبلون بكلامه ويُعطونه موضِعًا يُقيم فيه، ومع الموضع عملاً.
(آ 5) يُصبح القاتل ضَيْف المدينة، ولا يسلَّم إلى يد وليّ الدم الذي جاء ليُعاقب الفاعل بمَا فعل، أي ليقتله.
(آ 6)- بعد المحاكمة يُقيم القاتل في مدينة الملجأ إلى موت الكاهن الأعظم. بعد ذلك لن يحتاج إلى حماية، لأنّ مجيء كاهن أعظم جديد، كان مُناسبة عَفْوٍ عن الجرائم التي ارتُكِبَت عن غير قَصْد.
(آ 7-9) لائحة بأسماء المُدُن التي تقدَّس أي تُصان من يد القاتل: قادش المقدسة (12 : 22؛ 19 : 37) شكيم بين عيبال وجرزيم (30:8-33؛ 24: 1)، حبرون (14: 15؛ 3:15-54). مُدُن الملجأ في شرقيّ الأردن (رج تث 4: 14، 43)
ج- مُلاحظات حول الفصل الرابع عشر
1- قالت الوصيّة: لا تَقْتُلْ (خر 13:20). فالحياة قِيمة أساسية أولى ولا شيء يُضاهيها. ولكنّ القتل موجود فلا بدّ من منعه ومن مُعاقبة القاتل. والخوف من العِقاب يحفظ المُجتمع، ويضع حدًا لغرائز الشرّ ونتائج البُغْض. لهذا من ضرب إنسانًا فات، فليُقتل قتلاً (خر 12:21). هذه هي ردّة فعل الحياة التي تُدافع عن نفسها. ومُعاقبة القاتل بالقتل، كانت شريعة مجتمع لم يجد سبيلاً آخر للمُحافظة على حياة الإنسان. ولولا هذه القساوة والخوف الذي يتبعها، لمَا كان للعداوة بين البشر من رادع، ولظلَّ وجود الإنسان عُرضة للخطر، وكانت كلّ حياة اجتماعية مستحيلة.
2- هذه الشريعة يَسندها مبدأ التضامُن داخل الجماعة أو البيت الواحد. ففي المُجتمعات البدائية التي لا سلطة فيها على الأفراد، كان عِقاب القاتل يُنفّذ بطريقة بسيطة بواسطة أقرب الناس إلى القتيل. هذه هي الشريعة العائلية لانتقام الدم. هناك مَثَل في أخبار داود (2 صم 18:2-24؛ 3: 26-39)، حيث قتل يوآب قاتل أخيه (رج 1 مل 2: 5-6). وهناك مثل آخر في خبر قايين (تك 23:4-24)، تبدو فيه شراسة الانتقام.
3- ولكن هناك القاتل عن غير قَصد. فإن قتلناه ظَلَمنا ولم نَعدِل. لهذا قال دُستور العهد: "فإن لم يتعمّد قتله، فسأجعل له موضعًا يهرب إليه" (خر 13:21). إذًا هناك ملجأ، موضع فيه مذبح مقدّس، مِنطقة تخصُّ الله وحده، وإليها يهرب القاتل عن غير عَمد. ونحن نجد مُدُن الملجأ في أرض الله، أرض العدالة والقداسة. ولهذا فمُدُن الملجأ تدلّ، بطريقتها، على العَهد بين الله وشعبه. وهي تذكّرنا أنّ العلاقات بين البشر، تحمل بُعْدًا لاهوتيًّا ساميًا، وهم يؤدّون جوابًا عن أعمالهم أمام الله. فلا يستطيع القويّ باسم قوّته، أن يأكل الضعيف ولا الظالم أن يقتل. فالربّ هو الذي يحكم، ويطلب من الإنسان أن يتروّى في حُكمِه فلا يجُور، وأن يعي مسؤوليته، من أجل أن تبقى أرض الله، أرض الوِئام والمحبّة الأخوية