يا ربّ ما أكثر خصومي

يا ربّ ما أكثر خصومي
المزمور الثالث

1. المزمور الثالث هو مزمور توسّل ينشده البار الذي يحيط به أعداؤه ويضطهدونه. في هذا المزمور يشكو المرتّل حالة الضيق التي يعيش فيها، فيعبّر عن ثقته بالله بأن ما طلبه قد تمّ بالفعل: قد أخزيت جميع أعدائي.

2. الرب ترس يقي أحباءه من هجمات الأعداء مهما كثُر عددهم.
آ 1- 3: أعداء الصدّيق كثيرون. يقومون عليه ويقولون: لا خلاص له بإلهه.
آ 4- 5: يترجّى الصدّيق الله ويصرخ إليه في ضيقه، فيجيبه الربّ من جبله المقدّس، من صهيون.
آ 6- 7: يجد الصدّيق في الرب سنده فينبذ عنه الخوف، لأن الرب معه في قيامه ومنامه.
آ 8- 9: نداء ملحّ: ليقم الرب على الأعداء وليخلّص شعبه وأتقياءه.
يصوّر المرتّل حالته ويذكر كثرة أعدائه المنظورين وغير المنظورين. لقد انتهى أمره، والله ذاته لا يقدر أن يفعل شيئًا من أجله، أو هو لا يريد أن يفعل شيئًا. هذا هو كلام الناس الذي يقابله كلام المؤمن: يقف وحده أمام الكثيرين، كما أن إلهه واحد أمام الآلهة المتعددة. المؤمن متأكّد من أن الله يخلّصه، ولذلك فهو لا يطلب من الله أن يحميه، بل أن يبيّن هذه الحماية على عيون الجميع: الله حاضر في جبله المقدّس، في هيكله، وهو يلاحظ جميع الناس. ولهذا يحسّ المرتّل بالطمأنينة فلا يخاف حتى من أعداء الليل. ويطلب المرتّل من الرب أن يعاقب أعداءه على كلامهم (لا خلاص له بإلهه)، وأن يجازي شعبه بالبركة، ويبسط حمايته على خائفيه وحافظي وصاياه.

3. عندما نقرأ مزامير التوسّل، لا نجد تصويرًا دقيقًا لحالة المرتّل، ولا تفصيلاً عن مرضه أو سجنه أو أيّة حالة من حالات ضيقه. فالمرتّل لم ير حاجة في أن يصوّر حالته والرب يعرفها. ويمكن أن يكون جامعُ المزامير قد حذف منها كلّ ما له علاقة شخصيّة بالمرتّل ليتكيّف النص مع الحالات المتعدّدة فلا يعود صلاةَ فرد من الأفراد فحسب، بل صلاة الجماعة كلها. أيكون المرتّل ملكًا كما تقول مقدّمة المزمور، أو أحد القوّاد الذين أحاط بهم الأعداء؟ هذه التفاصيل لا تهمّنا بقدر ما تهمّنا الحالة النفسيّة التي تساعد المؤمن ليرفع قلبه إلى ربّه طالبًا منه المعونة راجيًا منه السلام والطمأنينة.
حالة المرتّل تشبه حالة إرميا (20: 10) عندما سمع تهامس أعدائه: سنشتكي عليه. ولكن النبيّ لا يخاف لأن الربّ معه ويجعل أعداءه يسقطون (إر 20: 11). الرب ترس يحمي أحبّاءه، ويمجّدهم حين يعطيهم النور، ويرفع رأسهم، علامة الغلبة على أعدائهم. وبسبب حماية الرب له لا يخاف الصدّيق من الليل الذي يحمل التهديدات المتعددة (إر 13: 16)، والذي يرافق فاعلي السوء والماكرين (أي 24: 15 ي).

4. فسّر آباء الكنيسة هذا المزمور بطريقة مسيحانيّة فجعلوا كلماته تطابق حياة المسيح وكلامه: اضطُهد ولم يكن خاطئًا، ونجا من كل شرّ وهو أعزل متروك من أصحابه وأهله وحتى من أبيه السماوي. حاصره أعداؤه، ولكنّ حماية الله له ظهرت بطريقة عجيبة وساطعة ليلة موته وقيامته. واليوم وقد مات المسيح مرّة واحدة، لم يعد للألم عليه من سلطان. ولكن شعبه يتألّم وكنيسته تتألّم. وعندما نصلّي هذا المزمور، نشارك الكنيسة ألَمها وثقتها بالمسيح رئيسها الذي لن يترك أبواب الجحيم تقوى عليها.

5. "بصوتي إلى الربّ صرخت". لا بصوت الجسد فحسب الذي تَنتج رنّته عن تحرّك الهواء، بل بصوت القلب الذي هو صمت في نظر البشر، ولكنه يرنّ كصراخ في أذن الله.
استعملت سوسن (رج دا 13: 42- 43) هذا الصوت فسُمعت. والربّ يعنيها حين يدعونا بنفسه إلى أن نصلّى وأبوابنا مقفلة. أي: بدون ضجّة وفي صمت قلبنا.
لا يقل أحد إننا لا نصلّي بحرارة حين لا تخرج كلمة من فمنا. من الأكيد أننا في صلاتنا الصامتة في قلبنا، حين تأتي أفكار غريبة فتبعد المصلّي عن خشوعه، لا نستطيع أن نقول بعد: "بصوتي إلى الربّ صرخت". لا تكون هذه الكلمة صحيحة إلاّ حين تتكلّم النفس وحدها إلى الربّ، ووحده يسمعها، فلا يمتزج في صلاتها أي شيء بشريّ، أية نيّة دنيويّة (أوغسطينس).

6. يقيم الملوك أنصاب الظفر لقوّادهم المنتصرين، ويرفع الحكّام لقائدي المركبات وللمصارعين أبنية وعواميد تخلّد نصرهم. والمدوّنات التي تُحفر هناك تعطي للمادّة الجامدة عددًا من الأفواه الفصيحة لتعلن انتصاراتهم. وآخرون يدبّجون الكتب والمؤلّفات لمجد المنتصرين ويسعون في مديحهم إلى إعلان موهبة ترفعهم فوق الذين ينشدون أمجادهم.
وبمختصر الكلام، إنّ الرسّامين وصنّاع التماثيل والنحّاتين والشعوب والملوك والمدن والدساكر تمتلئ إعجابًا بالذين حازوا على النصر. ولكن لم يوجد انسان رسم ملامح شخص هرب دون أن يدخل في القتال، كما يفعل الملك داود. فهذا هو عنوان المزمور: "مزمور داود حين هرب من أمام أبشالوم ابنه". ومتى صار الهارب أهلاً للمديح؟ ومتى استحق الفارّ من أمام العدو أن يرى اسمه خالدًا؟ تُعلن أسماء الفارّين، ولكننا لا نخلّدها بالمدوّنات.
إذن، إعرف يا أخي سبب هذا العنوان، ولا تضطرب نفسك من بعد. وليكن هذا الواقع التاريخيّ تعليمًا خلاصيًا لحياتك. وليصبح اضطهاد البار سندًا قويًا لنفسك. إفهم لماذا اضطُهد داود من قبل أبشالوم. وحين تجد السبب الأساسي تجد بناءك في مخافة الله. فالبيت بدون أساس لا يكون متينًا. والكتاب المقدّس لا فائدة منه إن لم نكتشف بوضوح مرمى كلامه. فهدف الملك داود في المزمور الذي نتحدّث عنه، هو أن يعلّمنا ويثقّفنا من أجل ممارسة الحكمة الحقيقيّة. وهكذا يجنّبنا الشرّ واحتقار شرائع الله، وبالتالي العقوبات التي كانت القصاص العادل لخطيئته.
هرب داود من أمام ابنه، لأنه ابتعد عن العفّة. هرب من أمام ابنه، لأنه تعدّى على شرائع الزواج المقدّسة. هرب من أمام ابنه، لأنه بدأ يهرب من شريعة الله التي قالت له: "لا تقتل، لا تزن" (خر 20: 13- 14). أدخل إلى بيته نعجة رجل آخر وقتل لها راعيها. فانقلبت الأمور عليه، فرأى إن ذلك الذي كان حملاً في بيته، يهاجم راعيه. أشعل الحرب في عائلة شخص آخر، فقويت الحرب عليه داخل عائلته. ليس هذا برأي شخصيّ. فداود نفسه يؤكّده. فمن يتجاسر على معارضة التفسير الإلهي؟

أتريد أن تتيقّن أن أبشالوم ثار على داود لأن داود خطئ حين قتل أوريا وأخذ له زوجته؟ إسمع ما يقول الربّ بفم النبيّ ناتان: "أنا مسحتك ملكًا على اسرائيل... فلماذا احتقرت كلامي وارتكبت القبيح في عينيّ؟ قتلت أوريا الحثّي بالسيف، وأخذت امرأته زوجة لك. لهذا لن يخرج السيف من بيتك" (2 صم 12: 14- 17) (يوحنا فم الذهب).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM