من هو الروح القدس

 

من هو الروح القدس

نلاحظ أن الروح القدس ما زال مجهولاً بعض الشيء. وهذا أمر عاديّ. فالروح يأتي إلى العالم لا ليعرّف بنفسه، بل لكي يجعلنا نعرف المسيح ونحبّه. يأتي ليساعد البشر على العيش حسب الله.
من أجل هذا، ليس لنا صورة وافية تمثّل الروح القدس. أما العلامات والصور التي نجدها في الكتاب المقدّس فهي تشير بشكل جوهريّ إلى عمله في العالم وفي الكنيسة.
كان الروح بالنسبة إلى اليهود العائشين في زمن يسوع، قوّة الله الناشطة في العالم، قدرة إلهية تعمل في البشر لكي يتمّ فيهم عمل الفداء والمصالحة الذي يصل إلى ملئه في يسوع المسيح.
غير أن هناك نصوصاً في الأناجيل وأعمال الرسل ورسائل القديس بولس، تدلّ على أن الرسل في النهاية رأوا في الروح أكثر من قدرة إلهيّة. رأوا فيه شخصاً حياً. وكما نقول في اللاهوت: أقنوماً. وسوف تسمّيه الكنيسة في عقيدتها: الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس بعد الآب والابن.
نقرأ في مت 28: 19: "تلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". وفي أع 15: 28 نقرأ رسالة "مجمع" أورشليم إلى أهل أنطاكية: "الروح القدس ونحن قرّرنا". وفي روم 8: 16: "ينضمّ الروح إلى روحنا ليشهد أننا أبناء الله". وفي انجيل يوحنا، نرى يسوع يتحدّث عن الروح القدس. كشخص آخر، كشخص يختلف عنه وعن الآب.
وهكذا أعطي لنا أن نستشفّ بعض الشيء عن سرّ الله. أعلن يسوع أنه جاء من الله. أنه واحد مع الآب. "أنا في الآب والآب فيّ". والآب ويسوع أرسلا إلى البشر "واحدًا آخر" هو الروح القدس، روح الآب والابن.
غير أن روح الله هذا الذي أرسله الآب والابن إلى البشر، لا نعرفه إلاّ بعمله. هذا ما فسّره يسوع لنيقوديمس: "الريح تهبّ حيث تشاء. تسمع صوتها ولكنك لا تعرف من أين هي تجيء ولا إلى أين تذهب. هكذا هو كل مولود من الروح" (يو 3: 8).
بهذه الصورة استعاد يسوع إحدى الصور البيبليّة العظيمة التي "تصوّر" روح الله، استعاد صورة الريح. فالريح في نظر الأقدمين هي هذه القوّة السرّية التي لا تقاوم، التي لا يتوقّعها أحد، التي تأتي من الله. فالله هو في كل مكان. لا يُرى، ولكنه يفعل ساعة يشاء وكما يشاء. إنه الروح القدس.
حولنا تنفخ الريح. ونحن تقيم فينا نسمة. فصاحب النسمة هو حيّ. ومن لا نسمة في أنفه، من لا يتنفّس، فهو ميت. وهذا النفَس الذي يحيينا لا يرتبط بنا. بل هو يعطى لنا. يُعطى لنا ويُؤخذ منّا. هو يأتي من بعيد بعيد عنا. يأتي من الله. هذا ما يقوله سفر التكوين (1: 27؛ 2: 7) فيبيّن لنا أن الله ينفخ في أنف "آدم" (أي الانسان، كل انسان) نسمة حياة. عند ذاك صار الانسان نسمة حياة. مُنح الانسان الحياة. خُلق على صورة الله. ويخبرنا حز 37 أن الروح هو الذي يعيد الحياة إلى العظام اليابسة.
كلّ هذا يُنبئ بعمل الروح القدس، وهو عمل أشار إليه يسوع حين قال: "يولد من الروح" (يو 3: 5). فالروح القدس هو فينا ينبوع حياة جديدة. حياة أبناء الله. حياة نشارك فيها المسيح. "من عطش فليأت إليّ، وليشرب من يؤمن بي". هكذا تكلّم يسوع عن الروح الذي سيتقبّله أولئك الذين يؤمنون به (يو 7: 37).
ليس الروح فقط ريحًا وقدرة إلهيّة. وليس فقط نسمة حياة. فهو أيضًا فهم وحكم، ونور يلج الأعماق، وتمييز وحسّ يجعلنا نكتشف الحقيقة، نكتشف الله.
فالروح هو الذي يحرّك الأنبياء ويلهمهم. الروح يمسكهم، يقبض عليهم، ينقضّ عليهم. يملأهم. يفتح لهم فمهم لكي يعلنوا مشيئة الله مهما كلّفهم هذا الاعلان من خطر. ويدفعهم لأن يشجبوا كلّ ما يعارض الله.
والروح هو الذي يتيح لنا أن نتعرّف إلى يسوع، ونكتشف حقيقة انجيله. هو الذي فتح فم الرسل وأعطاهم قوّة جعلت كلامهم لا يقاوَم: "ومتى قادوكم إلى المجامع والحكام وأولي السلطان، فلا تهتمّوا لطريقة الدفاع عن أنفسكم ولا لما تقولون. فإن الروح القدس يعلّمكم في تلك الساعة ما ينبغي أن تقولون" (لو 12: 11- 12).
إذن، يعمل الروح وكأنه نور يضيء عقل المؤمن ويعلّمه كيف يحكم على الأمور. إنه شعلة حيّة تلهم الكلمات والأعمال في خطّ ما يوافق المسيح والله.
الروح هو نسمة الحياة. هو روح الله الذي يلهم الأنبياء. وهو أيضًا ذاك الذي يقدّس المؤمنين. فقبل مجيء المسيح. فهمَ الناس أنهم إن أرادوا أن يكونوا أصدقاء الله، يجب عليهم أن يميلوا بقلوبهم عن الشرّ وأن يوجّهوها إلى الله. غير أن هذا ليس بممكن إلاّ بمساعدة الله. في الواقع، روح الله هو الذي يعطي البشر قلوبًا جديدة، قلوبًا متحرّرة لتعيش العدالة والمحبّة. قال الرب في حز 36: 26: "أعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا، وأنزع من لحمكم قلب الحجر وأعطيكم قلبًا من لحم".
يسوع نفسه هو ابن الآب الوحيد. والروح يحلّ عليه، يستقرّ. فهو القدّوس القدّوس. قال: "الآب هو معي لأني أعمل دومًا ما يرضيه" (يو 8: 29).
ونقول الشيء عينه عن جميع الذين ينعشهم روح الله: إنهم أبناء الله (روم 8: 14). اتّحدوا بالمسيح بواسطة روحه فتقدّسوا ليكوّنوا أمّة مقدّسة، شعبًا مقدّسًا (1 بط 2: 9). والروح الذي حلّ على يسوع قد كرّسه لله (لو 4: 18). والذين يتقبّلون روحه يصبحون مكرّسين. قال بولس في 1 كور 6: 11: "إغتسلتم، تقدّستم، تبرّرتم باسم الرب يسوع المسيح وبروح إلهنا".
والروح هو الذي يعمل في الكنيسة، يبنيها، ينظّمها، يقدّسها.
ففي يوم العنصرة، كان تلاميذ يسوع كلهم معًا. فتراءت ألسنة كأنها من نار، فانقسمت واستقرّت على كل واحد منهم. إذن، أعطي الروح لكلّ واحد من التلاميذ، كما أعطي للتلاميذ كلّهم معاً.
كان باستطاعة يسوع أن يحيط نفسه بتلاميذ مختلفين، يكون الواحد مستقلاً عن الآخر. ولكنّه كوّن مجموعة واحدة، مجموعة موحّدة يتضامنون فيها كلهم. وكانت كلماته الأخيرة تعليمًا عن الوحدة والمحبّة الأخويّة.
وُلدت كنيسة يسوع حقًا يوم العنصرة. وُلدت بشكل أخوّة، بشكل شركة أخويّة. وحيث تتوسّع المسيحيّة، ستكون بفعل الروح جماعة تشبه الجماعة المسيحية الأولى، تكون جماعة من الإخوة.
وفي هذه الجماعة، كلّ شيء يتمّ بتأثير مباشر من الروح القدس. هذا ما وعاه التلاميذ منذ حدث العنصرة. نجد أن العنصرة لم تكن يومًا عابرًا من أيام التاريخ وحسب. العنصرة تتواصل. حين قُبض على بطرس ويوحنا وأطلق سراحهما، ذهبا إلى سائر التلاميذ. فأخذ الجميع يصلّون. "وإذ كانوا يصلّون تزعزع المكان الذي كانوا يقيمون فيه: عند ذاك امتلأوا كلهم من الروح القدس وأخذوا يعلنون كلمة الله بجرأة" (أع 4: 31).
الروح هو الذي يلهم بطرس خطبه أمام المجلس الأعلى لدى اليهود. تكلّم "وهو ممتلئ من الروح القدس" (أع 4: 8). الروح هو الذي يملأ اسطفانس ساعة استشهاده (7: 55)، وبولس ساعة ارتداده (9: 17). حلّ هذا الروح على جماعة كورنيليوس ساعة كان بطرس يكلّمهم (10: 44) فتذكّر الحاضرون ما حصل يوم العنصرة (11: 15). وألهم الروح الرسل ما يجب أن يتّخذوه من قرارات من أجل خير الكنيسة الفتيّة (أع 15: 26). واحتفظ لبولس بمهمّة خاصّة (13: 2). أرسله (13: 4) ومنعه من العودة إلى آسية بعاصمتها أفسس، ودعاه للعبور إلى اليونان، إلى أوروبا (16: 6- 12).
إذا كانت الكنيسة موجودة اليوم، فلأن روح يسوع ما زال يعمل فيها، بشكل سرّي، ولكن بشكل ناشط. ما زال يعمل في قلب المؤمنين، كما في الجماعات.
نحن نرى الروح القدس الذي أعطاه يسوع يتدخّل بحريّة مطلقة. يتدخّل متى يشاء وحيث يشاء لكي يجعل الكنيسة تلد هنا وهناك... ونرى أيضًا أن الرسل يمنحون هذا الروح إلى البشر. فحين عرف الرسل أن عددًا من السامريّين تقبّلوا إنجيل يسوع بفضل كرازة فيليس المبشّر، أرسلوا بطرس ويوحنا. "وضعا عليهم الأيدي فحلّ الروح القدس" (أع 8: 17). وحدث الشيء عينه في أفسس. عمّد بولس بعض الناس. ولما وضع عليهم يديه نالوا الروح القدس (أع 19: 6).
فالمسيحيون الأولون يرون منذ بداية الكنيسة، أن الروح الذي يُعطى يحوّل الانسان إلى "مسيحيّ" كامل. وهذا ما يتمّ في سرّ العماد. قال بطرس للذين انصرعت قلوبهم حين سمعوا البشارة يوم العنصرة: "توبوا، وليعتمد كلّ واحدهم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس" (أع 2: 38).
وما نلاحظه في بداية الكنيسة، هو أن موهبة الروح لا تتوخّى أن تجعل المؤمنين كلهم في قالب واحد بحيث تختفي شخصيتهم، فيصبحون أرقامًا لا أشخاصاً محدّدين. فالنعم المختلفة والمواهب المتنوّعة تفيض فيضًا غزيرًا. ولكن بولس يعرف أن الروح الذي يعطيها هو واحد. "المواهب على أنواع، إلاّ أن الروح واحد. الخدم على أنواع إلاّ أن الرب واحد. الأعمال على أنواع إلاّ أن الله واحد، وهو يعمل كل شيء في الجميع" (1 كور 12: 4- 6).
تلك همسات سريعة حول الروح القدس وحول عمله بشكل خاص في الكنيسة. هذا الروح الذي نراه يعمل منذ البداية، فيحرّك الخلق في الكون ويجعل في الانسان نسمة الحياة. هذا الروح كان حاضرًا في بداية رسالة يسوع وعماده من أجل خليقة جديدة في المسيح. هذا الروح هو الذي يرافق الكنيسة في الكنيسة لكي تدعو المسيح: مارانا تا، تعال أيها الرب يسوع.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM