مقَدّمة عَامّة

مقَدّمة عَامّة

تعوّدت التوراة العبرية، أن تُسمّي أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك، الأنبياء الأوّلين، فتقابلهم بالأنبياء اللاحقين الذين هم أشعيا وإرميا وحِزْقيال والإثنا عشر. أمّا عِلْم الشرح الحديث، فيُسمّيها التاريخ الاشتراعي، نسبة إلى سِفر تثنية الاشتراع الذي سيُلقي ضوءًا على تاريخ شعب الله، منذ دخول أرض كنعان إلى الجلاء إلى بابل وحياة المنفى.
يبدأ عمل المُؤرّخ الاشتراعي في تث 1: 1-4: 49؛ ويتواصل في 31: 1-13 وفي مقاطع من ف 34. ونجده خاصّة في ما اعتاد الشُرّاح الغربيّون أن يسمّوه الكتب التاريخية. إذا رجعنا إلى الزمن الذي دُوّنت فيه هذه الكتب نجد أنّنا أمام الوضع الذي تبع إصلاح يوشيا (622) ملك يهوذا (640- 609 ق. م.) والذي امتّد عَبْرَ الجلاء البابليّ حتى نصف القرن السادس ق. م. لا شكّ في أنّ عمل المُؤرّخ الاشتراعي هو نتيجة مُعارضة الأنبياء (بين القرن التاسع والقرن السادس) للتوفيق الدينيّ، بين الإيمان اليهوديّ التقليدي وديانة أرض كنعان. ومثل هذا التوفيق، هو بنظر الأنبياء سبب الانحطاط الدينيّ والأخلاقي والاجتماعي والسياسيّ لشعبهم. وهكذا نفهم لماذا سمّى التقليد العبرانيّ هذه الأسفار، كُتُب الأنبياء الأوّلين، لأنّه اعتبرها تفسيرًا لتاريخ الشعب القديم، بواسطة عناصر مكوّنة للكرازة النبويّة. ولكن ما هو هدف المُؤرّخ الاشتراعي جُملةً وتفصيلاً؟ ليس هدفه أن يجمع الوقائع ويُدونّها بطريقة موضوعية، بل أن يُبيّن لجماعة مُصغِيَةٍ أعمال الله عَبرَ تاريخ البشر بل عَبرَ تاريخ شعبه الخاص. وهذا الأمر واضح من مقاطع نقرأها مثلاً في سفر يشوع: "رأيتم جميع ما فعل الربّ إلهكم من أجلكم " (3:23؛ رج 23: 14؛ 8:24). ولهذا أرسل الكاتب قُرَّاءه إلى التقاليد القديمة، ليجدوا فيها البُرهان على ما يقول. فهو، مثلاً، عندما يُحدّثنا عن الملك يوآش يقول: "وبقية أخبار يوآش وكلّ ما صنع، مكتوبة في أخبار الأيّام لملوك يهوذا" (2 مل 19:12)، فما لكم إلا أن تَرجعُوا إليها.
حين كتب المُؤرّخ كُتُبه، كان الحاضر تعيسًا والكارثة آتيةً والمستقبل مجهولاً، فأرجع شعبه إلى التقاليد الدينية القديمة. جمعها بطريقة مُلائمة، ونشرها بمَنهَجيَّة واضحة، فكانت يَنبُوعًا يَغرُف منه الشعب قِوىً جديدة وإيمانًا متجدّدًا وأساسًا يُعيد الأمل مرة أخرى، بتدخّل الله في المستقبل القريب. فالمواعيد القديمة، وتأكيدات الإيمان التقليديّ باختيار شعب إسرائيل، والشهادات على أعمال الله العجيبة في الماضي، التي صارت اعتراف إيمانٍ ليتُورجي في شعائر العهد، كلّ هذا ظلَّ صالحًا، وإن بدا بطريقة مُؤقتة قائمًا بسبب حُكم الأنبياء. فكلّ هذا يستطيع أن يكون أساسًا لعمل بناء جديد، شرط أن يُعامل الشعبُ بجدّية العناصر الأساسيّة للرسالة النبويّة. هذا العمل سنجد ما يُقابله في حز 40-48.
من النافل أن نتساءل هل كانت هذه الأسفار عَمَل كاتبٍ واحدٍ أو عمل مدرسة، فنحن لن نجد الجواب، ولا جدوى من هذا الجواب لفهم كلام الله. نلاحظ منهجيّة واحدة، فنُحِسّ وكأنّ يدًا واحدة كتبت كلّ هذا، ونتخّيل الزمن الطويل الذي استغرقه هذا العمل (622- 550)، فنُدرك أنّنا أمام مدرسة، تُفكّر في إطار لاهوتي واحد.
أين كُتِبَ التاريخ الاشتراعي؟ في أرض كنعان. متى دُوّن بصورة نهائية؟ في زمن المنفى البابليّ. ويأخذنا العَجَب أمام اتساع هذا العمل الذي لا مثيل له في الشرق القديم: محاولة تاريخية فلسفية لاهوتية، قوّة إيمان لا يستسلم، رغم يقينه أنّ قضيته خاسرة، وأمل دائم في إعادة بناء مملكة واسعة، إنطلاقًا من مملكة يهوذا الصغيرة بعد الاحتلال الفارسي سنة 539. ويأخذنا الارتباك بسبب التشويه الحاصل في عملٍ تاريخيّ من هذا النوع. ففي ما يخصّ سِفر يشوع مثلاً، أعطى الكاتب أبعادًا جديدة لتاريخ احتلال كنعان على يد العِبرانيين، وقدّمه بوجه متفائل، فقال أحد الشُرّاح: قرأ الاشياء بحسب البُعد العموديّ (أي من عند الله)، بينما نشعر أنّها حصلت حسب البُعد الأفُقيّ (أي من منظار البشر) ، وهذا أمر مهمّ إذا أردنا أن نقيِّم سِفر يشوع تقييمًا تاريخيًا. نحن لا ننسب إلى هذا السِفر طابع التمويه التقويّ للوقائع، ولكنّنا نطلب من المُؤرّخ فطنةً في التعامل مع موادّ هذا الكتاب. هل هذا يعني أن لا قيمة تاريخية للكتاب؟ حاشا. ولقد أبان الشُرّاح صِدق الكاتب في تدوينه للتاريخ واختياره موادًا ليست نتيجة المخيّلة، وابتعاده عن كلّ تحريف للوقائع. وحين اختار الوقائع التي تُسند قضيته التاريخية واللاهوتية، إكتفى ببعض الوقائع، ولكنّه لم يعاملها بطريقة اعتباطيّة. وهذا الأمر واضح في سِفري الملوك حيث يُحيِلُ الكاتب القارىء إلى مراجعه ليستطيع أن يتأكّد من قوّة برهانه.
والآن نعود إلى الاسفار التي كوّنت التاريخ الاشتراعي، ونبدأ بشرح سِفر يشوع بن نون

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM