القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الرابع والخمسون: إبن الله يُسلَّم إلى الناس
 

الفصل الرابع والخمسون
إبن الله يُسلَّم إلى الناس
43:9- 50؛ مر 9: 30- 41؛ مت 17: 22- 23؛ 18: 1- 5

نحن هنا في الإِنباء الثاني بآلام المسيح وموته. وإن آ 44 ترتبط بموضوع آ 18- 22 وفيها شهادة بطرس والإِنباء الأوّل بالموت والقيامة. ولكن الإِطار هنا مختلف جدًا. كان لا بد من جعل التلاميذ يكتشفون أي "مسيح الله " (9: 20) يتبعون. والآن، نحن أمام التعرّف إلى عمله الخيّر فلا تلهينا دهشة الجموع. فمسيح الله أو "عبد (الله) الذي هو بركة" (أع 26:3) هو شخص "يسلّم " (آ 44، إلى أيدي الناس). ويشدّد يسوع: "ضعوا في آذانكم هذه الكلمات ". أي: إسمعوا جيدًا ما سأقول لكم. كلمات (لوغوس) يسوع التي أعطيت لهم عبر كلمة- حدث (ريما) ظلَّ معناها مخفيًّا عنهم وما زالوا يتردّدون في السير على خطى يسوع: لا بدّ من الصلب الذي تتّبعه القيامة والصعود، لكي تأخذ الكلمة التي دخلت آذانهم كامل معناها. إستعمل لوقا لهنا صيغة المجهول التي تدلّ على الله: كانت هذه الكلمة "مخبّأة" (أي: أن الله خبأها) وزاد: "لئلاّ يدركوها". فالمعنى هو هو كما في 8: 10: إن رفضَ البشر أن يتبعوا يسوع، فهذا معروف في مخطّط الله وخوفهم من أن يعرفوا، وهو الذي يمنعهم من أن يطرحوا أسئلة أخرى. هذا الخوف هو محطّة في مسيرتهم التي يغلّفها صبر الله ورحمته.
بعد هذا يرد سؤال يجيب عليه يسوع: من هو الأعظم؟ ثم مبدأ معروف: "من لا يكون عليكم فهم معكم ".
إذن نحن أمام متتالية تتضمّن الإِنباء الثاني بالآلام وخطبة تتضمّن مواضيع متنوعة تصلّ مع مرقس إلى 9: 50. فهذا التجمع المصطنع لأقوال يسوع قد وُجد قبل أن يدِّون متّى إنجيله. هذا ما نجده في "الخطبة الكنسيّة" عند متّى (ف 18). أمّا لوقا فوزّعه في أماكن متعدّدة.

1- الإِنباء الثاني بالآلام (آ 43 ب- 45).
ترك يسوع منطقة قيصرية فيلبس واستعدّ للتوجه إلى أورشليم. لا ننسَ أن الصعود إلى أورشليم يبدأ في لو 9: 51. إستفاد لوقا من هذه الآيات ليُبرز إعجاب الجموع بأعمال يسوع.
ونجد في آ 44 (مر 9: 31؛ مت 22:17): سيسلّم. لفظة تشير إلى الآلام وتتذكّر صورة عبد الله المتألم. سنعود إليها. سيسلَّم إلى أيدي البشر (رج 2 صم 14:24؛ سي 18:2).
تحدّث مت 17: 23 عن القيامة ومر 9: 31 عن النهوض. أمّا لوقا فيتوقف عند الآلام ولا يصل إلى مجد القيامة. وهكذا يُعلمنا أن التلاميذ لم يفهموا سرَّ آلام يسوع (آ 45).
نتذكّر هنا أن متّى يتكلّم إلى أناس في الكنيسة. فالتلاميذ الذين يحدّثهم قد نُشِّئوا على أسرار الكنيسة. لهذا فهو لا يقول إنهم لم يفهموا شيئًا من الإِنباء بالآلام كما قال لوقا (آ 45) ومرقس (32:9). فاكتفى بالقول: "فحزنوا جدًا" (مت 17: 23).
إن الإِنباءات بالآلام تطرح مسألتين مهمتين. الأولى: هل تلفّظ يسوع بهذه الكلمات أم أنها نسبت إليه فيما بعد إنطلاقًا ممّا عاشه قبل موته وقيامته؟ الثانية: أي معنى أعطى يسوع لموته الذي إستشفّه قبل أن يحدث؟
إن الإِنباء الثاني يجعلنا في وضع مميّز بالنسبة إلى هذين السؤالين. هذا الإِنباء الثاني هو أقدم الإِنباءات الثلاثة، على ما يبدو، وهو الأقصر ويبدو أقل وضوحًا من الإِنباء الأوّل والثالث.
نلاحظ في هذا الإِنباء الثاني عبارة: "يُسلَّم إلى أيدي الناس" التي تظهر أيضًا في إعلان الخيانة (مر 14: 21؛ لو 22: 21) والتوقيف (مر 14: 41: يسلّم إلى أيدي الخاطئين؛ مت 26: 45؛ لو 22: 48: أبقبلة تسلّم إبن الإِِِِنسان؟).
إلاَّ أن العبارة التي نجدها هنا هي مهمّة. أوّلاً، صيغة الحاضر والتي تدلّ على المستقبل القريب. ثانيًا، المقابلة بين "إبن الإِِِِنسان " و(ابن) "الناس". وأخيرًا، التعبير في صيغة المجهول للدلالة على عمل الله. لا نشك في أن يهوذا يسلّمه، ولكن من خلال يهوذا نرى يد الله: "هكذا أحب الله العالم حتّى وهب (سلّم) إبنه الأوحد" (يو 3: 16).
كلّ هذا يدلّ على الأصل الآرامي لهذه العبارة، ونحن نستطيع أن نقول إن يسوع تلفَّظ بها.
ولكن حين تلفّظ يسوع بهذه الكلمة، فأي معنى أعطى لموته؟ سندرس لفظة "سلّم " وهي تساعدنا على إكتشاف معنى هذا الموت.
نجد اللفظة في بعض النصوص البولسيّة (روم 25:4؛ 8: 32؛ أف 5: 2)، وهي تذكّرنا بالتعبير الأفخارستيّ (لو 22: 19؛ 1 كور 11: 24)، إلاّ أننا نختلف هنا عن الإِزائّيين فنجد دومًا التحديد "من أجلنا" "من أجل خطايانا". وهذا ما يدلّ على أش 53 ويوجّه الفكر إلى الوجهة الذبائحيّة والفدائيّة لموت يسوع.
ولكن العبارة "أسلم إلى الأيدي " ليست غريبة عن التوراة. فنجدها مثلاً في محاكمة ارميا (إر 26: 24). وإن كان النبيّ أفلت من الموت، ألا أن خبر محاكمته إستُعمل كنسيج لخبر آلام يسوع. ونجدها أيضًا في مزامير "البار المتألم " الذي يطلب "أن ينجو من يديّ المنافق والخاطئ" (مز 4:71؛ 5:140). وأخيرًا في دا 25:7 حيث نرى "قدّيسي العلاء". "يُسلَّمون إلى يدي" انطوخيوس ابيفانيوس المضطهد ولكنّهما يملكون الملكوت " (دا 22:7)، هذا الملكوت الذي يُعطَى في دا 7: 14 لشخص سري هو إبن الإِِِِنسان.
ويتجادل الشرّاح حول هوية إبن الإِِِِنسان. هل هو رمز جماعيّ؟ هل هو شخص فردي مميَّز؟ ومهما يكن من أمر، نحن أمام الينبوع المباشر للعبارة الإِنجيليّة في الإِنباء الثاني. غير أن يسوع جمع في نفسه المصير الجماعي لقديسي العلاء، كما أخذ على عاتقه في تسلسل وجوده الشخصيّ وجهتين كانتا منفصلتين في الظاهر وهما: الملك والإِضطهاد. إنه يبدو هنا كالشهيد الساميّ الذي تسبق آلامه مجيء الملك.
إذن، تكشف لنا عبارة "إبن الإِِِِنسان سيسلّم إلى أيدي"، وجهة ثمينة جدًا في آلام يسوع وموته: وهذا الموت يكشف وُيتمّ إتمامًا كاملاً آلام الأبرار واضطهاد الأنبياء وموت الشهداء. وهذا ما يدلّ عليه إستعمال فعل "أسلم " المتوافر في أخبار الآلام. إنه أولاً اللفظة التقنية التي تدلّ على الخيانة: يهوذا "أسلم " يسوع إلى عظماء الكهنة (مر 14: 10 وز). وهم بدوره "أسلموه " إلى بيلاطس (مر 15: 1، 10 وز) الذي "سيسلّمه " في النهاية إلى الجنود (مر 15:15). إن يسوع يمرّ على التوالي في يد (سلطان) كلّ القوى الشريرة. إنه حقًا مسلَّم إلى يدي ". "عملوا به كلّ ما أرادوا"، كما قال يسوع عن يوحنّا المعمدان (مر 13:9. كان السابق حتى في الآلام. نقرأ في مر 1: 14: "وبعد أن أسلم يوحنّا").
إن الإِنباء الثالث يفصِّل كلّ هذا: "إبن الإِِِِنسان سيسلّم إلى عظماء الكهنة... ويسلّمونه إلى الوثنيّين ". هذه الإِشارة الأخيرة تدلّ على الشك العظيم: يهوديّ يسلّمّه اليهود إلى الأمم، مرسَل الله يسلّمه شعبه إلى الوثنيّين (أع 2: 23؛ 3: 13، لو 18: 32).
غير أن الإِنباء الثاني يقدّم وجهة أخرى. ففي المنظار الأول، كما تقول عبارة الإِنباء بالخيانة (مر 14: 21): "الويل للإِنسان الذي به يُسلَم إبن الإِِِِنسان ". هذه العبارة تبقى على مستوى المبادرة والمسؤولية البشرية (رج يو 19: 11 ب "الذي أسلمني إليك إقترف خطيئة أعظم ". وإن يكن الشيطان وراء كل هذا). ولكن قلنا إن صيغة المجهول في الإِنباء الثاني هي طريقة تدلّ على عمل الله. حينئذٍ ، يأخذ التعارض بين إبن الإِِِِنسان والإِنسان كلَّ وجهه البارز. وحينئذٍ نفهم أيضًا العبارة على الشكل التالي: "الله يسلِّم للناس إبن الإِِِِنسان . تأكيد مدهش ولكنّه يقلب نظرتنا إلى الأمور. لسنا أمام شرّ يمارس سلطانه وينتصر، بل أمام مخطّط الله يتحقّق في التعارض. لم يؤخذ الله على غفلة ولم يفشل. وبعد هذا لا تشكك عبارة "إبن الإِِِِنسان يسلّم". إنه سر الله نفسه الذي ينتصر بوسائل مدهشة ساعة يبدو وكأن الشرّ قد إنتصر. "ما بخُل بإبنه الوحيد، بل أسلمه لأجلنا جميعًا" (روم 8: 32). "أحب الله العالم حتى إنه بذل إبنه " (يو 3: 16).
"إن مخطّط الله يصل إلى هدفه بيديه " هذا ما قال أش 53: 10 عن عبد الله الذي أُسلم (أسلمه الله) من أجل خطايانا. لا "بأيدي الخاطئين ". ولكن إذا لم نعتبر الموت كذبيحة تكفيريّة حسب النهج اللاهوتيّ القديم (وضع فدية ولمن) نستطيع أن نرى النظريتين تلتقيان.
ونستطيع أن نقدّم جوابًا سريعًا على السؤالين اللذين طرحناهما في بداية هذا المقطع. كان باستطاعة يسوع أن يُنبئ بموته العنيف، بعد أن رأى توجّه الأحداث الجديد. ولكن ما يهمّنا هو المعنى الذي أعطاه لهذا الموت. فعلى ضوء سوابق الكتاب المقدّس، وعى أنه يعيشه كالحدث المحوري في مخطّط الخلاص.

2- من هو الأعظم (آ 46- 48)؟
ويتبع إنباءَ الآلام مشهدان صغيران يتعارضان ويسيران في وقتين مختلفين: الواقع نفسه ثم كلمة يسوع. أولاً: جدال التلاميذ عمن هو الأعظم وجواب يسوع على الأول والآخر. ثم فعلة يسوع الذي أخذ طفلاً وقال كلمة تفسّر هذه الفعلة.
أجل، قدّم مر 33:9- 37 مقطوعتين تتميزان في أصلهما. تتحدّث الأولى (آ 33- 37) عمن هو الأعظم. والثانية (آ 36- 37) عن تقبّل (واحد من هؤلاء الصغار". رأى لوقا الصعوبة المطروحة على القراء من تنوع المواضيع المطروحة. سعى إلى بعض المنطق في فكره، فأعاد إلى نهاية المقطوعة (آ 48 ج) الجواب على سؤال المقدمة (آ 46). أما مت 18: 1- 5 فأعطى نظرة شاملة جمعت أقوالاً مختلفة. فالقول "الذي يجعل نفسه متواضعًا يكون الأعظم" ، صارت "من يجعل نفسه متواضعًا مثل هذا الطفل" .
يورد مرقس بكل واقعيّة جدال التلاميذ حول "مركز" كل واحد منهم. أمّا متّى ولوقا فقد أغفلا هذا الجدال حفاظًا على إسم الرسل وسمعتهم. ففي الجماعة المسيحيّة، العظمة التي يجب أن نطمح إليها هي أن نخدم الآخرين. فالنصوص العديدة (رج 22: 26؛ مت 20: 25- 26؛ مر 10: 43- 44؛ ثم مر 10: 15؛ لو 18: 17؛ ثم مت 23: 12؛ لو 14: 11؛ 18: 14. وأخيرًا، مت 10: 40؛ لو 16:10) تنير هذا المبدأ بنور جديد. فتواضع الرؤساء في خدمة الجماعة المسيحيّة ليس فقط تنازلاً أمام الآخرين، بل تشبّهًا بيسوع الذي جاء "ليخدم وببذل حياته فدية عن كثيرين " (مر 45:10). على الرسل أن يحسبوا نفوسهم صغارًا، فقراء، مساكين مثل طفل يعرف حاجته الماسة إلى والديه.
وننظر إلى عناصر هذه المقطوعة. يسوع هو في البيت، في كفرناحوم، مع تلاميذه. جلس ودعا الإِثنيّ عشر ووجّه إليهم كلمة. نحس عند مرقس وكأننا أمام حديثين. الأول: جدال التلاميذ حول: "من هو الأعظم" ؟ والثاني: "من هو الأول ومن هو الآخر"؟ ثم يقدّم يسوع الطفل فيدلّ على تعليم جديد عن تقبّل الصغار ولا سيّما التلاميذ. أما الترتيب الذي أخذ به متّى ولوقا فيبدو كالتالي: جدال (لوقا) أو سؤال (متّى). ثم: الولد. ثالثًا: كلمة يسوع التي تقدّم جوابًا مباشرًا على السؤال. غير أن هذين الإِنجيليين يختلفان في تحديد موقع كلمة "التقبل" ؛ لوقا، قبل الجواب عن الأعظم، متّى بعده. هذه الإِختلافات تلفت النظر إلى صعوبة تفسير مشهد الطفل.


أ- الجدال بين التلاميذ وجواب يسوع.
أورد مرقس هذا الجدال. ولكن متّى حوّله إلى سؤال عام حول الأعظم في الملكوت، وهكذا لن يكون التلاميذ موضع إنتقاد. إنه بحاجة إلى هذا السؤال ليلقي الضوء على موضوع سيطرحه في ف 018 أمّا لوقا فخفَّف من أهمية الحدث واعتبره "مناقشة داخليّة" إكتشفها يسوع بعلمه الإِلهي، ولكنّها لم تظهر في الخارج. لمعت في فكرهم فعرف يسوع السؤال الذي يودون أن يطرحوه. لم يقل لوقا إنّهم طرحوه ، كما لم يقل إن يهوذا قبَّل يسوع، بل "إقترب منه ليقبله " (47:22). ولكن لوقا سيعود إلى "الجدال " في إطار العشاء الأخير (22: 24) فيعطيه بُعدًا جديدًا.
قد يكون في الجدال حول الأعظم صدى لمسائل طرحتها الجماعة حول كرامة كلّ رسول من الرسل (رج يو 21)، أو ميلاً لطلب الكرامات عند بعض المسؤولين، أو الأمكنة الأولى في الإِحتفال الأفخارستيّ (رج يع 2: 1- 4. ولا ننسى أن لوقا جعل الجدال في إطار العشاء الأخير). إن المجتمع الشرقيّ، بل كلّ مجتمع، يهتم بالتراتبيّة إهتمامًا كبيرًا، ولن نتعجّب إن اصطدمت الكنيسة الأولى بصعوبات أثارتها نظرة إلى الأشياء تتنافى والإِنجيل.
ولكن هذا لا يعني أن السؤال لم يطرح حقًا على تلاميذ يسوع خلال حياتهم معه. فهذا ما يؤكده طلب ابنيْ زبدى (مر 35:10- 40؛ مت 20: 20 ي) وغضب التلاميذ العشرة (مر 10: 41 وز)، كما تذكره أقوال عديدة عن التواضع والخدمة أوردتها الأناجيل (9: 48 ب؛ مر 10: 43- 44...). تحدّث مرقس عن الأول والآخر. أمّا متّى ولوقا فتحدّثا عن الأصغر والأكبر. أجل، تبدّلت القيم حسب نظرة يسوع، وهذا يفترض على المؤمنين أن يبدّلوا سلوكهم على ضوء ما قاله يسوع: العظمة الحقيقيّة تقوم بالخدمة. فإذا أردت أن تكون خادمًا فكن الآخر لا الأول.

ب- فعلة يسوع وتفسيرها.
ماذا فعل يسوع؟ أخذ بيده طفلاً. لا ننسى إن الطفل لم يكن له شأن في مجتمع ذلك الزمان، بل وفي بعض المجتمعات في عصرنا. أمّا إهتمام يسوع بالأطفال فنقرّبه من تصرّفه حيال العشارين والزناة. إنه يدلّ على ما في قلب الله. فالإِنجيل يقوم بأن ملكوت الله يُعطي مجّانًا لكلّ ما هو مهمل ومحتقرّ، دون الأخذ بعين الإِعتبار بكمال الأعمال أو الإِستحقاقات. فالدعوة إلى الوليمة تتوجّه إلى الفقراء من مشوّهين (معاقين) وعرج وعميان (لو 14: 21). هذا هو المستوى الأول.
وينتج تعليم يرتبط بالكلمة عن التقبل آ 48: من أجل إسمي). نتقبّل الطفل بإسم المسيح. ونؤكد على تماثل بين الطفل والمسيح. (من قَبل هذا الطفل قبلني". هنا نلتقي بما قاله متّى في مثل الدينونة الأخيرة: "كلّ ما فعلتموه مع واحد من إخوتي هؤلاء الصغار" (مت 25: 40).
وهناك تفسير ثالث يرتبط مع (آ 48 ب: "من يقبلني يقبل الذي أرسلني ". هذا ما يعيدنا إلى خطبة الإِرسال في متّى (40:10) ولوقا (16:10) ويوحنّا (13: 20: من يَقبل الذي أُرسله يقبلني). كلّ هذه التعليمات تتوجَّه إلى التلاميذ، فما هي علاقتها مع حدث الأطفال؟ أجل، المرسلون هم مثل أطفال.
وتقبّل الطفل هو تقبّل المرسل. صار الطفل رمز مرسل الإِنجيل الفقير الذي يحتاج إلى مساعدة إخوته الماديّة، ويحتاج خاصة إلى أن تُعلن كرامته وحقه بأن يُسمَع له كنبيّ الخلاص المسيحانيّ. قد يدفعنا وضعهم إلى أن نحتقرهم، ولهذا جاء نداء في كرازة الجماعة، نداء يرتبط بيسوع ويربطهم بيسوع نفسه: "من قبلكم قبلني " (مت 10: 40). "من سمع إليكم سمع إلي، ومن رفضكم رفضني، ومن رفضني رفض الذي أرسلني " (لو 10: 16).

3- من لا يكون عليكم (آ 49- 50).
تحدّثت آ 43 أ عن عظمة الله، عن قدرته العظيمة، وها هم يتساءلون: من هو الأعظم؟ يبقى أن نعرف أية عظمة يتحدّث عنها يسوع. ها هم يقابلون إستحقاقاتهم داخل جماعتهم (آ 46) أو بين جماعتهم والذين في الخارج (آ 49). فكان جواب يسوع جوابين أعادهم إلى الحق. في 9: 22، كان يسوع قد أخبر عن مصير إبن الإِِِِنسان ثم شرح (آ 23- 27) وجهة الإِلتزام الشخصيّ المطلوب من الذي يريد أَن "يتبعه، أن يسير وراءه ". في آ 44، أعلن أنه "سيسلّم إلى أيدي الناس" فشدّد على الوجهة الجماعيّة للإِلتزام. نحن نتبع من "سيسلّم " حين نقاسمه مصيره، حين نقبل بعضُنا بعضًا داخل الجماعة (آ 46-48). حين ننفتح على الذين هم من خارج الجماعة (آ 49- 50).
شدّد يسوع في الجواب الأول على تقبّل الإِبن والآب عبر هذا الطفل، وشدّد أيضًا على أهمية الطفل وكلّ من يشبهه (الفقراء، التلاميذ). لسنا هنا أمام أمثولة كما في مت 4:18، بل أمام كشف عن العظمة الحقيقيّة التي يمنحها الله للطفل، أي صغير القوم والفقير والمُعدَم. ويعبّر التلميذ عن العظمة الحقّة حين يأخذ على عاتقه ضعف الطفل وحاجته إلى الآخرين.
وجواب يسوع الثاني (آ 49- 50) يشير إلى موقف التلاميذ تجاه مقسِّم غريب: رجل يطرد الشيطان بإسم يسوع، ولكنّه ليس من جماعة يسوع. كيف تصرّف يوحنّا الرسول في هذا الوضع؟ منعه، وضع حاجزًا أمام عمله. ولكن يسوع حذّرهم: لا ترتبط قدرة الله بجماعة معيَّنة، فالله حرٌّ في عمله وهو سيبيّنه في شخص كورنيليوس وأهل بيته الوثنيّين الذين نالوا الروح القدس كما ناله اليهود (أع 47:10؛ 17:11).
يا معلّم. هكذا ناداه يوحنّا في مر 38:9 وفي لوقا (آ 49). منعناه. الصيغة اليونانيّة تعني: حاولنا أن نمنعه. كتب مرقس: هو لا يتبعنا. فصحّح لوقا منطلقًا من نظرته اللاهوتيّة: لا يتبع (أي: يتبعك) معنا. ثم قال مرقس (آ 40): من ليس ضدّنا فهو معنا. قال لوقا (آ 50): من ليس ضدكم فهو معكم. وهكذا لم يضع يسوع على مستوى التلاميذ. إنه الربّ والمعلّم (يو 13:13). هذا الموقف المتفائل سيجد ما يعارضه في جدال فرض على يسوع (23:11؛ مت 12: 30): "من لا يكون معي فهو عليّ (ضدي). ومن لا يجمع معي فهو يبدِّد". هذا هو موقف الراعي الذي يجمع خرافه (مت26: 31؛ يو 10 :12؛ 11: 52؛ 32:16)، إنه موقف الله نفسه تجاه شعبه (أش 40: 11؛ 18:49؛ خر 13:34 ،16). أمّا السارق فيبدّد الخراف، يقتل، يهدم (يو 10: 10). وقد تدلّ الصورة على عمل الحصّادين. من لا يجمع الحَب يبعثره (مت 12:3؛20:13؛25: 24).
يذكّرنا هذا الحدث بما في عد 26:11- 29. حلّ الروح على السبعين شيخًا المحيطين بموسى فأخذوا يتنبأون. أمّا الداد وميداد فلم يذهبا إلى موسى قرب خيمة الإِجتماع، بل ظلاَّ في المخيم ومع ذلك حلّ الروح عليهما فتنبأا. طلب يشوع من موسى أن يمنعهما. فأجاب موسى: "يا ليت جميع أمة الربّ يصيرون أنبياء يُحلّ عليهم الربُ روحَه ". إذن، لا ترتبط عطيّة الروح بمكان، كما لا ترتبط بجماعة دون أخرى. فالله يعرف الذين هم له.
وبسبب عبارة "إسم يسوع "، إرتبط هذا الحدث بما في أع 13:19-16: إستخدم بعض اليهود المتجولين إسم يسوع ليطردوا الأرواح الشريرة. ولكن الوسائل التي يستعملها هؤلاء المقسمون جعلتهم قريبين من عالم السحر، ولهذا كانت آخرتهم تعيسة.
يشرح مر 39:9- 41 أنه لا يمكن أن يوجد تعارض بين عمل يقوم به شخص بإسم يسوع، والكلمة التي يتلفّظ بها. لا يجهل لوقا هذه النقطة (رج أع 13:19- 16)، ولكن جواب يسوع عنده يوجهنا إلى معنى آخر، يجب أن نبينّ بطريقة ملموسة كيف نعيش "سلِّم إلى أيدي الناس ". من ليس ضدكم فهو معكم. هذا يمنع التشيّع والإِنغلاق على الذات: ولكن السير على خطى يسوع
يعني أن "نسلَّم " إلى الأحداث وإلى إرادة الناس. والله يعرف أن يستخرج من الشر خيرًا وينجّي شعبًا كبيرًا (تك 50: 20).

خاتمة.
إنتهى نشاط يسوع في الجليل. والخبر القصير على المقسم والغريب عن الجماعة أعاد أمام أنظارنا عددًا من أحداث تلك الحقبة. يسوع هو بقرب الشعب، وهو بقرب المقسم اليهوديّ الذي يُعلن عنه أنه يقدر على طرد الشياطين. فالتقسيم الذي كان يتم مع دعوة الله، ها هو يتم الآن بإسم يسوع. يسوع يتصرّف كنبيّ يحمل كلام الله. ولكنّه أكثر من ذلك. يسوع هو إبن الله وعبد الله المتألم الذي يجعل نفسه في خدمة البشر دون أن يهتم لكرامته. من نؤمن به؟ لقد اعترف الرسل به أنه مسيح الربّ، ولكن هل يستطيعون أن يفهموا أنه أيضًا عبد الله المتألم؟ إنتهت كلّ مقاطع نشاط يسوع في الجليل بإرسال الرسل. وهذا المقطع لا يختلف عن غيره. إن عمل الرسل يجد إمتدادًا له في إنسان لا ينتمي إلى (جماعة) يسوع، بل يعمل بإسمه. إن عمل يسوع يتعدّى كلّ الحدود ويدعو جميع البشر لخدمته. يوم كان الرسل في أورشليم واليهوديّة، كان فيلبس والذين شتّتهم الإِضطهاد قد جاؤوا إلى السامرة (أع 8: 4- 5). وقبل أن يصل برنابا إلى انطاكية سبقه مسيحيّون كلّموا لا اليهود فقط بل اليونانيّين الوثنيّين (أع 11: 20). وابلوس الذي لم يعرف إلاَّ معمودية يوحنّا كان يعظ ويعلّم ما يختص بيسوع (أع 25:18). مع مثل هؤلاء ستبلغ البشارة إلى مناطق عديدة. وحين يصل بولس إلى رومة سيخرج المسيحيّون (الأخوة) إلى لقائه فيَلقى لديهم كلّ تشجيع (أع 15:28). فكلمة الله تتعدّى البشر، وعمل الله يمرّ بطريقة خفيّة. إنه كالريح تهبّ كما تشاء، فلا تعرف من أين تجيء (يو 8:3). ولكنك ترى نتيجتها: قدرة الله العظيمة (لو 43:9) تصل إلى أقاصي الأرض (أع 1: 8).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM