الفصل الخمسون
إعتراف بطرس والانباء الأوّل بالآلام
18:9- 24
يرسم نص 18:9- 24 حِقبةً هامّةً في حياة يسوع، كما تبدو عند الازائيّين. إن اعتراف بطرس والإِِنباء الأوّلَ بالآم المسيح والأقوال التي تورِدُ الشروط لاتّباعه، كل هذا ينتمي إلى الأناجيل الثلاثة الأولى. اذا قابلناه وجدنا ان مر 27:8- 9: 1 هو الأقصر، ويليه لو 9: 18- 27. وأطول الثلاثة هو مت 13:16- 28.
يعتبر عدد من الشُرّاح أن جواب يسوع الموسّع على اعتراف بطرس كما نقرأه في مت 17:16- 19 انتمى أصلاً إلى قرينة الخبر الذي ندرس. غير أن مرقس أهمله. ولكن إن قابلنا النصينّ نرى أن التطويبة (طوبى لك، يا سمعان) والوعد بالأولوّية الذي ناله بطرس، قد زادهما متى على نصّ مرقس، هذا مع العلم أنه يمكن أن تكون هذه الزيادة قديمة.
نحن لن نتوقّف عند نصّ متّى. ولكن إن أردنا أن ندرك بُعد خبر لوقا واتّجاهه الخاصّ، بدا من الضروريّ أن نقابله مع نصّ مرقس الذي هو مرجعه.
أ- قرائن الحدَث
ندرس أوّلاً قرائن هذه المقطوعة فنكشف مُعطَياتٍ مفيدة.
1- في إنجيل مرقس
يعتبر عددٌ كبير من الشُرّاح أن مر 27:8-33 يحتلّ موضعًا رئيسيُّا بحيث استحقّ أن يسمى "قُطْب " كلَ إنجيل مرقس. في القسم الأوّل (مر 1 :14- 26:8) أثارت كلمات يسوع وأقواله افتراضات حول هوّيته من قبل الناس. ولكن يسوع تعمّد المحافظة على سريّة مسيحانيّته. وكان التلاميذ أوّل من أعلنوا بفم بطرس طبيعة يسوع الحقيقيّة: إنه المسيح. إذا كان هذا الاعتراف يختتم القسم الأوّل من مرقس ويشكّل ذروته، فان مر 27:8- 33 يشير من جهة أخرى إلى منعطف حاسم يشرف على القسم الثاني (مر 27:8- 8:16).
ترك يسوع بصورة نهائيّة الجليل كحقل عمل خلال رسالته العامّة. وبعد اليوم، ستكون أورشليم مِحورَ نشاطه. وللمرّة الأولى فتح قلبه فتكلّم عن آلامه. وبعد أن أكّد بوضوح أنه سيتبع طريق الألم، استطاع أن يكشف سرّه المسيحانيّ. لقد رتّب مرقس مضمون الجزء الأوّل (27:8- 52:10) في القسم الثاني حول ثلاثة إنباءات بالآلام تتوّزع هذه الحِقبة (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 33- 34). من الوجهة الجغرافيّة تنقسم هذه الحِقبة كما يلي: قيصرية فيلبس (27:8- 9: 1). التجلّي على الجبل (2:9- 29). في كفرناحوم (9: 30- 50). في اليهوديّة وبيره (10: 1- 31). الانطلاق إلى أورشليم (10: 32- 52).
2- في إنجيل لوقا
كيف استغلّ لوقا عناصر هذه البُنية في إنجيله؟ هو لم يحتفظ بوحدة هذا الجزء كما وجده عند مرقس، بل أقحمَ بين مرِ 27:8- 9: 40 (لو 9: 18- 50) ومر 10: 1- 52 (لو 15:18- 43) عدّةَ مَوادَّ غريبةٍ عن مرقس، تشكّل ما يسمّى التدسيس الكبير في 9: 51- 14:18.
لقد تعمّد الانجيليّ الثالث أن يبتعد عن مرقس. فقَبل الأخبار التي وضعها مرقس في إطار سفَر نحو الجنوب (مر 10: 1- 52)، أقحم لوقا مجموعة من الأخبار جاءته من مصادر أخرى، فجعلها في إطار سفَر إلى أورشليم، مشيرًا على دفعات إلى الهدف الذي يتوجّه نحوه يسوع (9: 51، 53؛ 22:13، 33؛ 17: 11). إنطلق لوقا من حديث مرقس عن الصعود إلى أورشليم ( مر 10: 52) فبنى خبر سفَر، وأعطاه حجمًا جعله يحتلّ ثلث إنجيله تقريبًا (9: 51- 44:19). وهكذا وضع فاصلاً كبيرًا بين 9: 50 و 9: 51، فقسم إنجيله إلى قسمين: يسوعَ يتجوّل في فلسطين ( 3: 21- 9: 50). يسوع يصعد إلى أورشليم حيث " يُختطَف " من هذا العالم (9: 51- 53:24).
ما كان عند مرقسَ بدايةُ القسم الثاني (مر 27:8- 9: 40) صار عند لوقا خاتمةَ القسم الأوّل (18:9- 50)، وفي الوقت عينِه مقدّمةً لخبر السفَر. سيُهمل لوقا بعض الأمور ويقوم ببعض التصليحات ليجعل نصَّ مرقس مركَّزًا على ضرورة الألم. فطريق الربّ إلى أورشليم تبدو صعودًا نحو آلامه. وتتميّز بُنية 18:9- 50 بعبارات مقدّمةٍ خاصّة بلوقا، كما بتناوُبٍ بين مشاهدَ يكون فيها الرسل وحدَهم (18:9- 22، 28- 36، 43 ب-50) ومشاهدَ تتمّ أمام عيون الجموع (9: 23- 37، 37- 43 أ).
ب- تحليل لو 9: 18- 24= مر 8: 27- 37
توقّف النصّ في آ 24 لاعتبارات ليتورجيّة، لا لأسباب تأويليّة. فالأقوال حول الشروط الضروريّة لاتّباع يسوع لا تنتهي إلا في آ 27 (مر 9: 1). ونحن نستطيع أن نميّز في هذه الوحدة الأدبيّة ثلاثةَ أقسام صغيرة: اعترافَ بطرس (9: 18- 21= مر 27:8- 30)، وإنباءً بالآلام (9: 22= مر 8: 31- 33)، وأقوالاً عن تلميذ يسوع (لو 23:9- 27= مر 8: 34- 9: 1). هذا لا يمنع أن يكوّن اعتراف بطرس والانباءُ بالآلام، وحدةً موحّدة لدى مرقس ولدى لوقا.
1- المقدّمة (9: 18= مر 8: 27)
يبدأ لوقا هذا المقطع الجديد بعبارة مثلَّثة خاصّةٍ به. وتتألّف هذه العبارة من ثلاثة أقسام. الأول: المكان. الثاني: تحديد الزمن والظروف (ذات يوم). الثالث: فعل في صيغة الماضي يشير إلى العمل (يصلي).
وهكذا يفصل لوقا حلقتين: تكثيرَ الأرغفة الذي تمّ أمام الجموع، والاعترافَ الذي لم يشهده إلاَّ التلاميذ. أبقى لوقا رسالة يسوع داخل حدود الأرض المقدّسة، لهذا لم يتحدّث عن قيصرية فيلبس الواقعةِ شماليَّ الأرضِ المقدّسة (مر 27:8). وكما الغى مر 45:6- 26:8، جعل اعترافَ بطرس يجيء حالاً بعد خبر تكثير الأرغفة، الذي حدّد موقعه (بتأثير من مر 45:6 و22:8) في نواحي بيتَ صيدا (9: 10، 18).
لا يبدأ لوقا هذه المقطوعة بإشارة جغرافيّة، بل يصوّر يسوع وحده في وقفة صلاة. إن سِمَة يسوع الذي يصلّي منفردًا، قد أخذها لوقا من مرقس (مر 46:6- 47 قد الهم لو 18:9) فجعلها أحدَ المواضيع المشرفة على إنجيله. يذكر الانجيليّون الازائيّون الثلاثة صلاة يسوع في جتسيماني (مر 14: 35 وز). ويشير مرقس أيضًا إلى مناسبتين صلّى فيهما يسوع (مر 1: 35؛ 46:6). لا نجد عند لوقا ما يوازي هذين النصَّين، ولكنه سيحدّثنا مرارًا عن يسوع المصلّي: بعد عماده (3: 21: "وبينما هو يصلي ") بعد أوّل تحمُّس اظهرته الجموع (16:5: "كان يعتزل في البراري ليصلي ")، قبل اختيار الاثني عشر (6: 12: "وفي تلك الأيّام صعد إلى الجبل ليصلّي ")، قبل اعتراف بطرس به (18:9)، ساعة التجلي (28:9- 29)، قبل أن يعلّم صلاة الأبانا (11: 1)، على الصليب (34:23، 46).
وهكذا يريد لوقا أن يبيّن لنا أنّ كل الأحداث الهامّة في حياة يسوع تتمّ في جوّ من الصلاة. بالاضافة إلى ذلك، اهتمّ فأورد وحدَه عدّة تعاليم ليسوع عن الصلاة: مثَلُ الصَديق الذي يذهب في نصف الليل إلى صديقه (11: 5- 8). مثَلُ الأرملة والقاضي الظالم (18: 1- 8). مثلُ الفريسي والعشّار (18: 9- 14). وإذا كان لوقا قد أَقحم مرّتين موضوع الصلاة في 18:9- 50، فلأنه يراه مُهمًّا من أجل تفسير السَفَر إلى أورشليم تفسيرًا لاهوتيًّا.
ويدخل حضور التلاميذ في إطار الخبرِ. أمّا العمل بحصر المعنى فيبدأ مع سؤال يسوع: "من أنا في رأي الجموع "؟ كتب لوقا "الجموع " حيث قال مرقس "الناس ". إستند بعضُهم إلى موازاة مع مر 33:8 ففهموا لفظة 27:8 في معنى محقَّر: نحن أمام أُناس غرباء عن الله، أُناس لا يفهمون شيئًا من أمور السماء. وحُكْمُ هؤلاء الناس على يسوع يعارض حُكْمَ بطرس في مر 8: 29. لن نناقش هنا دقّة هذا التفسير. ولكنّ لوقا لم يفهم مرقس بهذه الطريقة. لا نستطيع أن ننطلق من "الجموع " (أي الناس، كما يقول مرقس) لنستنتج أن لوقا رذَلَ حُكم الجموع الذي يعاكس حكم بطرس.
2- حكم الجموع واعتراف بطرس (9: 9- 20= مر 8: 28- 29)
أوّلاً: تصرف يسوع
يبدو يسوع لُغزًا في نظر معاصريه. يرى لوقا مِثْلَ مرقس أن معاصري يسوع تحيّروا من تصرّف يسوع الثوريّ والغامض فتساءلوا: "إذن، من هو هذا" (8: 25؛ مر 4: 41)؟ وقدّموا مختلف الافتراضات حول هوّيته الحقيقيّة. وأورد لوقا على خطى مرقس الأشخاص الذين ماثلتهم الجموع مع يسوع: يوحنّا المعمدان، إيليّا، أحد الأنبياء القدماء. مهما اختلفت الآراء، فقد أجمع الناس على جعل يسوع في فئة الأنبياء. والعبارات التي نجدها توازي تلك التي نقرأها في حكم هيرودس على يسوع (لو 7:9- 9؛ مر 14:6- 16).
9: 7 – 9 9: 18 - 20
وسمع هيرودس الوالي بكلّ ما *وكان يسوع مرّة يصلّي في عزلة والتلاميذ
كان يجري، فتحيّر معه، فسألهم: ومن أنا في رأي
الناس"؟
*لأن بعضَ الناس كانوا يقولون: *اجابوا:
"يوحنا قام من بين الأموات"، "يوحنا المعمدان"،
وبعضَهم: "ايليا ظهر"، وبعضُهم يقول: "إيليّا"،
وبعضَهم أيضًا: "نبيّ من القدماء وبعضُهم أيضًا: "نبي من القدماء
قام" قام"
*ولكن هيرودس قال: *فقال لهم:
"يوحنا أنا قطعت رأسه. "ومن أنا في رأيكم أنتم"؟
فمن هذا الذي أسمع عنه حينئذ أجابه بطرس:
مثلَ هذه الأخبار؟ وكان "أنت مسيحُ الله ".
يطلب أن يراه.
الموازاة لافتةٌ للنظر. نجد في النصَّين، المقدّمةَ ثم رأيَ الناس ثم حُكمَ شخصٍ واحد وهو هيرودس في النصّ الأوّل وبطرسُ في النصّ الثاني. أراد مرقس أَن يجعل هذين النصَّين يتعارضان. يستعيد هيرودس أحدَ الآراء الذي أطلقه الناس. بالنسبة إليه، يسوع هو يوحنا المعمدان الذي قام. أمّا بطرس فيعلن أن يسوع هو المسيح. يقابل مرقس حُكمًا صائبًا بحُكم خاطئ. أمّا لوقا فيبني توازيًا متدّرجًا. يرفض هيرودس (وبحقّ، كما يقول لوقا) الرأيَ القائل بأن يسوع هو المعمدان الذي قام. إن يوحنا المعمدان ليس المسيح (3: 15- 17). إذن، ليس يسوعُ المسيح هو يوحنا المعمدان الذي قام (7:9- 9). ويطرَح هيرودس نفسُه سؤالاً حول هوّية يسوع. وفي لوقا، يستعيد يسوع هذا السؤال (9: 20) فيجيب عليه بطرس بإعلان إيمان مسيحانيّ. فكَّر لوقا بقرّائه اليونانيّين وفسَّر لهم لقب "كرستوس " متّبعًا إيّاه بكلمة "الله "، فجعله شبيهًا بلقب "ابن الله " (4: 41) العزيزِ على قلبه.
ثانيًا: يسوع المسيح
لا يوافق يسوعُ بطرسَ ولا يلومه على اعترافه به. هذا لا يَعني أنّ لوقا اعتبر هذا الاعتراف خاطئًا. بل حِسبَه ذا قيمة كبيرة، لأنه يعبّر عن إيمانه الخاصّ بيسوع كمسيح، كشخص مسحَه الروحُ (18:4؛ أع 38:10). وفي إنجيل الطفولة كان الملاك جبرائيل قد أعلن لمريم مسيحانيّته بشكل ملك أبديّ وعد به ابنُ داود (32:1- 33). هذا الاعلان يتمّ في كماله مع الارتفاع الذي يتبع القيامة: حينئذ يبدأ مُلكه المسيحانيّ (أع 2: 36). إذن، يسوع هو منذ ولادته المسيحُ الذي عيّنه الله. ولهذا مُسح بالروح خلال حياته الأرضيّة (35:1؛ 22:3؛ 18:4) وتصرَّف بقوّة هذا الروح.
يتصوّر لوقا مسيحانيّة يسوع في علاقتها مع بنوّته الالهيّة. فالبنوّة هي بشكل من الأشكال في أساس المسيحانيّة. يسوع هو ابن الله كالمسيح الذي أشار إليه الملاك (32:1، 35). وهو يسمّى كذلك ساعة عماده (22:3) وتجلّيه (9: 35). وفي النهاية، إن قيامته تنصّبه كابن الله (أع 13: 33). ولد بالروح فهو ابن الله. تحرّك بالروح فأُقيم كابن الله. ارتفع كابن الله عن يمين الآب، فأعطى الروح لأخصّائه حسب وعده (49:24؛ أع 1 :8؛ 2: 33). ففي نظر لوقا، ترتبط المسيحانيّة بتحريك الروح والبنوّة الالهيّة ارتباطًا وثيقًا.
ثالثًا: يسوع نبيٌّ مثلُ إيليّا
إذا عُدنا إلى شميلة لوقا الكرستولوجيّة نعتبر أنّ الانجيل الثالث لا يرى تعارُضًا جَذريًّا بين حُكمِ الناس وحُكم بطرس. هو لا يرفض أن يشبّه يسوع بنبيّ، شأنُه شأنُ مرقس. ذكرنا نصَّين أخذهما لوقا (8:9، 19) من مرقس. ونجد أيضًا ثلاثةَ نصوص خاصّةٍ بلوقا حيث يرى الشاهدون لعجائب يسوع أنه النبيّ. بعد قيامة ابن أرملة نائين "سيطر الخوفُ على الجميع وقالوا وهم يمجّدون الله: ظهر فينا نبيّ، وتفقّد الله شعبه " (16:7)؛ وتعجّب سمعان الفريسيّ من هذا النبيّ الذي لم يعرف "مَن هي المرأة التي تلمُسه " (39:7). وسيعبّر تلميذا عمّاوس عن رأي الشعب في "يسوع الناصريّ الذي كان نبيًّا قديرًا في القول والعمل " (24: 19).
إن لقب النبيّ يتجاوب مع طريقة لوقا بإدخال يسوع على مسرح حياته العلنيّة. حين أورد الخطبة البرنامج في الناصرة (4: 16- 30) وفيه يوسع لوقا خبر مر 6: 1- 6أ، يطبِّق يسوع على نفسه نص نبي من الانبياء (18:4- 19؛ رج أع 33:13). ولكن ما إن لفتَ انتباههم إلى متطلّبات آياته النبويّة، حتى تحوّلت ردّة الفعل الأولى، وكانت موافقة، الى موقف مُعادٍ (23:4- 24، 28- 29). فمنذ بداية نشاط يسوع، برزَت شريعة ستنظّم تصرّفه وتبشيره: ما اختبره يسوع في وطنه، هو الذي اختبره إيلّيا وأليشاع (4: 25- 27).
اتّفق لوقا مع متى فرأى في يسوع موسى الجديد. ولكن حين يريد أن يصوّر يسوع بسِمات نبيّ، فهو يعود إلى صورة إيليّا. وإن لم تكن الصورة واضحةً مثلَ صورةِ موسى عند متى، إلا أن لوقا يقدّم لنا مِرارًا نموذَج إيليّا ليشير إلى المسيح. إنه يترك جانبًا نصوصًا يشبِّه فيها مرقسُ المعمدانَ بإيليّا (مر 1: 6؛ 9: 9- 13؛ رج 15: 34- 35).
بالاضافة إلى ذلك، تُوجّهنا عدّة إشارات إيجابيّة إلى تقديم لوقا ليسوع على أنه إيليّا الجديد. هناك 25:4- 27، وفيه يقابل يسوع وضعَه بوضع إيليّا. وخبرُ إيليّا مع أرملة صَرْفت صيدا (1 مل 7:17- 24) قد أثّر على نصّ لوقا حين حدّثنا عن إقامة ابنِ أرملة نائين، وقد كان وحيدًا لأمه، شأنُه شأنُ ابن أرملة صرفت صيدا (7: 11- 17).
و "الخروج " (إكسودس) الذي يجعل يسوع يمرّ عَبْرَ الموت والقيامة، ليصل به إلى "الاختطاف " والصعود، يذكّرنا أيضا بإيليّا: يتحدّث عن المسيح المتجليّ مع موسى وإيليّا (9: 30- 31: يتحدّثان عن خروجه). وفي خبر الصعود إلى أورشليم سنجد أكثر من تلميح إلى خبر إيليّا (9: 51- 54، النار، 61- 62، المحراث واليشاع، 13: 31- 33). وبمختصر الكلام، لا يرفض لوقا رأيَ الذين يشبّهون يسوعَ بنبيّ مثل إيليّا، بل هو يدخله في شميلته الكرستولوجيّة.
3- فرض الصمت والانباءُ الأوّلُ بالآلام (9: 21- 22= مر 8: 30- 31)
أوّلاً: هدف مرقس
لا نستطيع أن نفهم فرض يسوع الصمت على تلاميذه، والإِنباء بالآلام الذي يرافقه في مر 8: 30- 31، إلاّ على ضوء الموضوع المِحْوريّ في إنجيل مرقس وهو السرُّ المسيحانيّ. من الواضح في نظر مرقس أنّ يسوع هو المسيح (مر 1: 1). ولكن مسيحانيّة يسوع تبقى خفيّةً في القسم الأوّل من إنجيله (1: 14- 26:8) لسبب لا يقوله. فأشفية يسوع وتقسيماته تدلّ بطبيعتها دلالةً واضحة على سرّ شخصه المتسامي. ولكن حين فرض يسوع الصمت، فقد منعهم من كشف هذا السرّ (مر 1: 25، 34، 44؛ 3: 11- 12؛ 43:5؛ 36:7- 37؛ 8: 26).
وهكذا سيمنع يسوعُ بطرسَ من أن ينشر الايمان بمسيحانيّته. ولكنّ هذه المرّة تختلف عن سائر المرّات، وهي المرّة الوحيدة التي فيها يقول لنا الانجيليّ السبب الذي لأجله أمر يسوع بحفظ السرّ: على ابن الانسان أن يتألم ويموت خاضعًا خضوعًا أمينًا لمخطّط الله (يجب، داي، مر 8: 31)، قبل أن يكشف عن مجده المسيحانيّ. وإن ظهورًا لمسيحانيّته قبل الأوان، يعطّل تحقيق القرار الالهيّ حول آلام المسيح. وساعةَ تصبح آلام يسوع أمرًا لا مفرَّ منه، لن توضع حدود لاعلان سلطانه المسيحانيّ (9: 9؛ 14: 61- 62).
ثانيًا: من الضروريّ أن يقاسي الآلام
هذا هو مخطّط الله، حسب ما في الكتب. فإن لم يشكّل السرّ المسيحانيّ الموضوع المِحْوريّ في إنجيل لوقا بحيث يشرف على بُنْيته، إلا أن الانجيل الثالث فهمَ فهمًا تامًّا العلاقة السببيّة التي وضعها مرقس بين فرض الصمت على الرسل والإِنباء الأوّل بالآلام. فقد قام بتصليحات صغيرة على نصّ مرقس. فالأداة "أمّا هو" في آ 21 فتجعلنا نفترض أن لوقا، شأنُه شأنُ مرقس، يعتبر أنّ اعتراف بطرس يلتقي والواقع. وإذ استعمل في آ 22 اسم الفاعل (قائلاً أن)، أوضح فكرة مرقس: إن ضرورة آلام يسوع هي الباعثُ الذي يمنع من أن تُشْهر مسيحانيّتُه.
إن موضوع الضرورة الالهيّة (يجب) والشهادةَ الكتابيّة (وكلاهما حاضران عند مرقس) قد ضخّمه لوقا بحيث لا يَعني فقط آلام يسوع، بل حياتَه كلها. فنقطة انطلاق الإِنجيليّ هي نظرته إلى تاريخ الخلاص من وجهة مركّزة على لله تركيزًا محضًا. فعلى مدى هذا التاريخ، منذ الخَلق حتى "زمن تجدّد كل شيء" (أع 3: 21) نحن أمام مخطّط الخلاص الذي يتأوّن. فحياة يسوع بما فيها "طريق الربّ " من الجليل إلى أورشليم تتمّ أيضًا حسب إرادة الله. وكل تصرّفه مطبوع بعلامة "الواجب " (يجب، داي) الذي يعرضه الله عليه. حتى في إنجيل الطفولة، نعرف أنه "يجب " على يسوع أن يكون في بيت أبيه (49:2). وتصوَّر مهمّته بإعلان ملكوت الله كأنه واجب فرضه عليه ذلك الذي أرسله (43:4). وموضوع الآلام الضرورية في نظر الله (9: 22= مر 8: 31) سيستعيده لوقا ثلاثَ مرّات (17: 25؛ 24: 7، 46). ففي أورشليم "يجب " على يسوع أن يأخذ على عاتقه مصير الأنبياء (33:13).
ونجد قرب هذا الموضوع الأوّل موضوعًا آخر لا يقلّ أهميّة عنه هو البرهان الكتابيّ. فالآلام ليست قدَرًا لا بدّ منه يتحملّه يسوع شاء أم أبى. ولكن الله دوّنه مسبّقًا في الأسفار المقدّسة. ولقد أطاع يسوع مخطّط الله، وسار بكامل وعيه نحو الآلام، فتمّم بهذه الصورة الكتب المقدسة (37:22).
إختلف لوقا عن مرقس الذي اعتبر أن مسيحانيّة يسوع تُكشَف حالما يبدو مستحيلاً أن يقف أيّ عائق بوجه الآلام التي أرادها الله. فشدّد أننا لا نفهم مسيحانيّة يسوع ولا آلامه قبل القيامة. وحدَه الربّ القائم من الموت يجعل تلاميذه يتصوّرون ضرورة (في نظر الله، حسب الكتب) آلام المسيح (24: 5- 9، 25- 27، 44- 46).
لا شكّ في أنّ يسوع تكلّم بوضوح في هذا المعنى خلال حياته على الأرض. ولكن كلّ هذا الوقت لم يكْفِ التلاميذ لكي يفهموه. ومريم نفسُها لم تدرك الطريقة الغريبة التي بها تصرّف يسوع (48:2- 50)، وإخوته لم يدركوا الأصل الإِلهيّ لرسالته (19:8- 21)، والتلاميذُ لم يستطيعوا أن يفهموا قبل قيامته أن الآلام تتوافق وإرادةَ الله (9: 31، 45؛ 18: 34؛ 22: 37- 38، 39- 46؛ 4:24، 11، 25). ويومَ فسّرَ لهم الربّ القائم انطلاقًا من الكتب أنّ كل هذا يجب أن يتمّ هكذا، بدأ تفهُّم هذا السرّ يُشعل قلوبهم بنوره (32:24).
ثالثًا: القيامة هي عمل الله
إستعاد لوقا بصورة حرفيّةٍ نصَّ مرقس المُنبئَ بآلام المسيح، وزاد عليه بعض التصليحات. قال مرقس: بعد ثلاثة أيّام. أمّا هو فقال: اليوم الثالث (33:18؛ 24: 7).
إستعمل مرقس فعل انئيستامي " (أقام) ليتحدّث عن القيامة؛ أمّا لوقا فاستعمل "آغايرو" (أيقظ). إعتدنا ان نترجم هذين الفعلين: أقام. غير أننا نتساءل: أما بدّل لوقا عمدًا لفظة مرقس؟ لا شك في أن لوقا يستعمل فعل "انئيستامي " يأخذه عن مرقس) بمعنى " قام " ( 33:18 = مر 10: 34. لو 7:24، 46). ولكن بدل أن يصوّر قيامة يسوع على أنها عمل قدرته الخاصّة، فهو يقدّمها على أنها عمل الله. فيستعمل في سفر الأعمال خمس مرّات العبارة الكرازيّة: الله أقام يسوع (انيئستامي، أع 3: 15؛ 4: 10؛ 5: 30؛ 10: 40؛ 13: 30، 37). وحين نعلم أنّ لوقا يشدّد على الطابع اللاهوتيّ للقيامة، نستطيع أن نتساءل: أما تتضمّن صيغة المجهول لفعل "أيقظ " في 22:9 معنى: "أيقظ بيد أحد". وهكذا يشير لوقا في هذه الآية أيضًا إلى أنّ القيامة، شأنها شأنُ الآلام، قد أرادها الله وحقّقها.
رابعًا: إغفال القول عن الشيطان
أسقط لوقا تدخّلَ بطرس الذي يريد أن يبعد يسوع عن آلامه، وتوبيخ يسوع له. هذا ما يسمّى القولُ عن الشيطان (مر 32:8- 33: "إليك عني، يا شيطان "!) هناك سببان دفعا لوقا ليسقط هذا القول. السبب الأوّل: بدا له من المستحيل أن يكون بطرس قد جُرّب بِيَد الشيطان في ذلك الوقت، لأن يسوع تخلّص من مهاجمات الشيطان منذ تجاربه حتى بداية آلامه (13:4؛ 3:22). السبب الثاني، قدّم سفرُ الأعمال بطرسَ بوجهه المميّز (لو 5: 1- 11). فكيف يورد الكلامَ القاسي الذي قرأه في مر 8: 33: "إليك عنّي يا شيطان فإنّ أفكارك ليست أفكارَ الله، بل أفكار الناس"!
4- الأقوال عن تلميذ يسوع (23:9- 24= مر 8: 34- 35).
إن هذه الأقوال التي تعلن الشروط لاتّباع يسوع تتوجّه إلى الجموع و"إلى التلاميذ" (مر 8: 34)، "إلى الجميع " (لو 23:9). لا شكّ في أنّ الإِنجيليَّين يفكّران بالمسيحيّين الذين إليهم يكتبان. قد يكونون تبَلْبلوا بسبب اضطهادات احتملوها أو ينتظرونها. وفي هذه الحالة الحرِجة وأمام خصومهم، راح بعضهم يجحدون إيمانهم بيسوع لينجُوا من خطر الاضطهاد أو التهديد بالموت. ولقد أرادت أقوال يسوع أن تكون ردّةَ فعل ضدّ الخوف من الألم، وهو أمرٌ طبيعيّ لدى إنسان.
فالتلميذ الذي يريد أن يتبع المسيح يتشبّه به. غير أنّ المسيح الذي يعترف به المسيحيّون لم يلتحق فقط بالمجد خلال حياته على الأرض. هو لم يستبعد الألم الذي أراده الله، بل أخذه طوعًا على عاتقه. فإن أراد التلميذ أن يسير على خُطى يسوع، أي أن يتّحد به، وجب عليه أن ينكر ذاته، أن يكون مستعدًّا، إذا دعَت الحاجة، ليموت عل الصليب مثلَ المسيح. ولن نستطيع أن نتبع المسيح ونكون جديرين بالاسم المسيحيّ إلا إذا قبلنا بإمكانيّة الاستشهاد والموت في سبيل المسيح (14: 27؛ مر 8: 34). وبعبارة أخرى، بقدر ما يخاطر المسيحيّ بحياته (نفسه، بسيخي) معترفًا بيسوع المسيح بوجهِ خصومه، يخلّص حياته يوم يأتي ابنُ الإِِِِنسان للدينونة (9: 24، 26= مر 8: 35، 38).
هذا هو الإطارُ الحياتيّ الذي فيه نضع أقوال يسوع كما وردَت في مرقس وفي المَعين الذي احتفظ به لوقا في 27:14. ويومَ خفَّ خطر الاضطهاد، كيَّف لوقا نصَّه في 23:9، فزاد "كلّ يوم ". وهكذا حوّل الدعوة إلى الاستشهاد (كما في مرقس) إلى نداء إلى الجهاد. فعلى المسيحيّ أن يحمل صليبه كلّ يوم، أي أن يموت عن نفسه بحياة من التقشّف والإِماتة.
إذن، تُقدَِّم هذه الآيات قاعدة حياة للمسيحيّ. فمن أراد أن يحمل هذا الاسم، يحتفظ بمكانة للصليب والألم في حياته. هذا لا يعني أننا نستسلم إلى مرض من يحبّ الألم، بل نحن نستند إلى الإِقتداء بالمسيح. فكما قبل هو أن يتألّم حسب إرادة الله، كذلك يحمل المسيحيّ صليبه، وإلاَّ لن يكون له تلميذًا.
خاتمة
تساءلت الجموع والتلاميذ حول يسوع: من هو هذا الرجل؟ ولكن سينقلب الوضع في قلب الإِنجيل. ويسوع هو الذي يسأل تلاميذه فيدفعهم إلى أن يعلنوا إيمانهم به، أن يؤكّدوا على العلاقة التي توحّدهم به.
يشير الإِنجيل كلُّه إلى هذا السؤال الذي يجتاح حياة التلاميذ. فالإِنجيل هو الله الذي يأتي شخصيًّا ويلتقي البشر. لقد مضى زمن كان يعرّفنا فيه على إرادته وشريعته والقيم الواجب تقويتُها. لقد جاء الزمن الذي فيه وصل الملكوت، وصل المسيح ليُتم كلّ برّ ويخلّص شعبه.
إنتظر الشعب ذاك اليوم الذي هو يوم انتصار الله. ولكن أمام أفعال يسوع وأقواله، لم يدركوا هذا اليوم العظيم. رأوا في يسوع مرسل الله ولكنهم ظلّوا ينتظرون. وسيقول تلميذا يوحنا المعمدان ليسوع: " أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر" (مت 3:11)؟ إن المسيح يحمل خيرات الله، ولكنه لا يتمّ عمل الغضب الإِلهيّ ضدّ الذين يرفضون التوبة. لهذا تردّد يوحنا في التعرّف إلى المسيح لأنه لم يتمّ ما اعلنته بعض النصوص النبويّة.
فالذين تبعوا المعلّم منذ البداية وشهدوا كلّ أحداث رسالته في الجليل، طرح عليهم يسوع السؤال: "مَن أنا في رأيكم "؟ قبل أن يصعد إلى أورشليم دعاهم لكي يتّحدوا به بإيمان مستنير وأن يسيروا على خُطاه إلى النهاية.
وهذا السؤال عينُه يطرحه المسيح على كلّ المسيحيّين في مختلف مراحل حياتهم. ويطرحه بصورة خفيّة ودون أن يفرض نفسه: إن علامات مجيء الله ومحبته تقابل من جهة انتظار القلب البشريّ. ومن جهة ثانية تتجاوز هذا الانتظار وتحيّره. فالله هو أكبر من قلبنا. ومبادرات محبّة الله ستبقى أسمى وأعمق من أفكارنا وخِبْراتنا. قال الربّ في هو 11: 9: "أنا إله لا إنسان ". لهذا يبقى جواب المسيحيّ سرَّ الحريّة والنعمة أمام نداء الله الذي يتوجّه إليه.