القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الثالث والأربعون: مثل السراج

الفصل الثالث والأربعون
مثل السراج
8: 16- 18؛ 11: 33- 36
إن مثل السراج الذي يُوضع لا تحت المكيال بل على المنارة يرد أربع مرّات في في الأناجيل. في مت 5: 15 ومر 4: 21 ولو 8: 16 و 11 :33. فإذا تمعنّا في هذه النصوص نجد أنها ترجع إلى تقليدين مختلفين: واحد يمثّله متى والآخر يمثله مرقس. ويُظهر لنا لوقا في المقطعين اللذين يوردان المثل أنه يعرف التقليدين: سيخفّف من الاختلافات ويطبع كلامه بطابعه الخاص. وهكذا يبدو تدوينه كخاتمة التقليد الإِنجيليّ حول هذا المثل.
سندرس أوّلاً النصّ ثم السياق الأوّل والسياق الثاني قبل خاتمة تبينّ غنى هذا المثل.

1- النص
ونبدأ بقراءة 16:8 و11 :33
16:8 11: 33
ما من أحد يوقد سراجًا ما من أحد يوقد سراجًا
ويغطيه بوعاء ويضعه في مخبأ (مكان خفي او تحت مكيال)
أو يضعه تحت سرير
بل يضعه على منارة (مكان مرتفع) بل على منارة
ليرى الداخلون نوره ليرى الداخلون ضياءه، شعاعه

(أو نوره)
ونقرأ مت 15:5 ومر 21:4 مر 21:4
مت 5:15 هل يجيء السراج (كما يجيء المسيح نور العالم،
لا يوقد سراج 1 :7)
ويوضع تحت المكيال ليوضع تحت المكيال
أو تحت السرير؟
أليس ليُوضع
بل على المنارة على المنارة؟
فيضيء لجميع الذين هم في البيت.
أولاً: يستعمل متى صيغة لا شخصيّة: لا يُوقَد سراج. هذه الطريقة آراميّة. أمّا لوقا فأعطى فاعلاً للجملة: "لا يُوقد أحدٌ سراجًا". أمّا مرقس فكتب: "هل يجيء السراج "؛ لقد جعل الجماد يتحرِّك. وزاد ألـ التعريف، لأن السراج معروف وهو المسيح. واستعمل لوقا "ابتو" لا "كايو" ليدلّ على "أوقد، أشعل " (رج 15: 8؛ أع 28: 2).
ثانيًا: ونصل إلى المكيال. في لو 33:11 نقرأ: "في مخبأ أو تحت المكيال ".
ولكن "تحت المكيال " غائبة في شواهد قديمة (برديات. مخطوطات في خط اسفيني، والسريانيّة السينائيّة، القبطية الصعيديّة). قد تكون جاءت من متى أو مرقس.
في 16:8 قرأ لوقا في مت ومر: "يُوضع تحت المكيال " فأحلّ محلّها: "يغطّى بوعاء". وضع كلمة غامضة مكان كلمة تقنية قد لا يعرفها قرّاؤه. وفي 33:11 صارت عبارة "وضع تحت المكيال ": "يوضع في مخبأ في مكان خفيّ ". المكان الخفيّ هو "الكرار" حيث يوضع النبيذ والمؤونة. يفكّر لوقا ببيت كبير يتضمّن بيتًا للمؤونة، فلا مكان للمكيال فيه.
ثالثًا: في 8: 16 يذكر لوقا مع مرقس "السرير" الذي يتمدّد عليه الناس للطعام. ولكن يتحدّث مرقس عن السرير مع أل التعريف. فليس إلا سرير واحد في بيوت فلسطين الفقيرة. أما لوقا فيعرف بيوتًا تمتلك اسرّة عديدة وقناديل عديدة (لا قنديلاً واحدًا كما عند مرقس).
رابعًا: يُوضع على منارة، على مكان مرتفع ومُعدّ للسراج. هنا يلتقي لوقا (33:11) مع متى.
خامسًا: "ليرى الداخلون نوره (ضياءه) ". كان متّى قد قال: "ويضيء لجميع الذين في البيت ". هنا تختلف الصورة بين الإنجيليّين: عند متى، يضيء السراج للذين هم في البيت. عند لوقا، يضيء للذين يأتون من الخارج ويدخلون إلى البيت. فالإِنجيليّان يتخيّلان بيتين مختلفين: يفكّر متى ببيت فلسطيني مؤلّف من غرفة واحدة. ينيره السراج كلّه فيستفيد من نوره كل الذين في البيت. أمّا لوقا فيفكّر ببيت واسع له مدخل ينفتح على كلّ الغرف. يوضع السراج في المدخل فيستفيد منه الذين يمرّون من هناك إلى الغرف.
ولكن هناك من يرفض هذا التفسير: السراج يضيء الداخلين إلى البيت وإن لم يكن لهذا البيت مدخل. والسرير الذي يتحدّث عنه المثل لا يوضع في المدخل. ثم لا يوقد السراج في المدخل حيث يطفئه الهواء. لا ننسَ أن لوقا يكيّف الصور حسب نظرته إلى العالم الهليني. ففي مثل البيتين (48:6- 49) لا يتحدّث عن وادٍ لا ماء فيه خلال الربيع والصيف والخريف، فيجتاحه الماء فجأة في يوم ممطر عاصف (مت 24:7- 27). بل يتحدّث عن سهل يجري فيه نهر يعرف الفيضان. ونقول الشيء عينه عن بيت كفرناحوم (19:5) إنه مغطى بالقرميد (كما في بلاد يونان) لا بالتراب الممزوج بالقش كما في فلسطين (مر 4:2). وأخيرًا، يجعل لوقا ابن ارملة نائين في "نعش " (14:7) على الطريقة اليونانيّة. وهكذا ينسى أنه في فلسطين حيث يجعل الميت على "محمل " ويدفن في الأرض فيلتصق جسده بالتراب.
وهناك معنى أعمق: فالسراج الذي يضيء الذين في الداخل والذين في الخارج هو رمز الإِيمان أو معرفة أسرار ملكوت الله (8: 10). هو لا يضيء فقط التلاميذ والذين ينتمون إلى الكنيسة ويعيشون فيها، بل يمنح نور المسيح إلى جميع البشر، إلى الذين ما زالوا في الخارج والذين "سيدخلون " عندما يرون. إذن نحن أمام اهتمام مرسل يودّ أن يحمل البشارة إلى أقاصي الأرض. وهكذا يختلف لوقا عن متى، وهو الذي جعل خطبة يسوع لا على الجبل (مت 5: 1)، بل في السهل (لو 17:6) لتصل لا إلى تلاميذه فقط (دنا إليه تلاميذه فأخذ يعلّمهم) بل إلى "جمهور من تلاميذه وجمع كبير من الناس من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا". ولا ننس أخيرًا أن الداخلين هم في الخارج، هم الوثنيون ولا بد من استقبالهم في الكنيسة، لهذا يوضع السراج على منارة.

2- السياق الأوّل
أوّلاً: إن 8: 16 هو جزء ممّا سمّي "مقطوعة الزارع " (8: 4- 21). وحّد لوقا بين هذه الآيات لتخدم تعليمًا واحدًا سنوضحه فيما بعد.
فبعد الحاشية في آ 1- 3 وهي توطئة لقسم واسع مخصَّص لرسالة يسوع المتجوّل في الجليل (متى 35:9)، تنفتح المقطوعة التي ندرس على مشهد يبدأ في آ 4 دون تبديل في المشهد.
يقدّم لنا مر 31:3- 34:4 عناصر المقطوعة، ولكن لوقا لا يكتفي باستعادة النصّ كما يجده.
أولاً: ينقل مر 31- 35 (قرابة يسوع الحقيقية) إلى الخاتمة (لو 8: 19- 21). ثانيًا: يُغفل أمورًا عديدة. مثلا مثل الزرع الذي ينمو وحده ومثل حبة الخردل (مر 4: 26- 30). فهما لا يتوافقان مع تعليم لوقا عن الزارع. وأغفل لوقا أيضًا خاتمة مرقس (33:4- 34) كما خفّف في 9:8- 10 قساوة ما قاله مر في 10:4-12.
ثانيًا: يَبرز التعليم الذي تقدّمه هذه المقطوعة في الخاتمة. لم ينقل لوقا فقط حدث أقارب يسوع لينهي به مقطوعة الزارع، بل بدّل الألفاظ التي بها حدّد يسوع الذين يعتبرهم أمه وإخوته. فعند مر 35:3 نقرأ: "كل من يعمل إرادة الله ". عند لو 8: 21: "هؤلاء الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها". اختار لوقا الكلمات بالنظر إلى المثل حيث الزرع يمثّل كلمة الله (8: 11). ونحن لا نكتفي بأن نسمعها بل نجعلها تثمر. هذا هو معنى "يعملون بها" في آ 21.
وَيبرز هذا التعليم عينه في تفسير المثل عبر تصليحات صغيرة. فالزرع الذي يقع على الصخر يصوّر سلوك الذين يقبلون الكلمة بفرح حين يسمعونها. وإذ ليس لهم جذور يؤمنون إلى حين (زمنًا قصيرًا)، ثمّ يتراخون ساعة المحنة (8: 14). أمّا مر 17:4 فيتحدّث عن الشكّ (والعثار) الذي يشعر به السامع بمناسبة ضيق واضطهاد بسبب الكلمة. ويوسّع لوقا نظرته حين يتحدّث عن "المحنة" أو "التجربة". كما يُبرز الخراب الذي يحسّ به الذين لا يثبتون فيتراخون ويعودون عن إيمانهم.
ويقابل هذا الفشل التعيس مع وضع الذين يسمعون الكلمة بقلب طيّب ومطيع فيحفظونها ويحملون ثمرًا بفضل ثباتهم. أدخل لوقا مفردة "الثبات " كتكملة للمحنة. فالثبات الذي نجده في قلب طيّب ومطيع هو ضروريّ بسبب المحن التي تواجه أمانة المسيحيّين. بدونه تستحيل المثابرة على العمل بكلمة الله. فسماع الكلمة ليس بشيء إن لم يتبعه ثمر.
وقال مر 4: 24: "انتبهوا إلى ما تسمعون ". فقال لوقا: " فانتبهوا إلى الطريقة التي بها تسمعون ". فما نسمعه لا يفيدنا إن لم نسمعه باستعدادات تساعدنا على ممارسة ما سمعناه.
ثالثًا: إن آ 16-18 تشكّل داخل 8: 4- 21 حيث يوجّه لوقا مختلف العناصر لخدمة تعليم واحد، وحدة ترتبط كل حلقة فيها بأختها. لا نستطيع أن نفسّر آ 16 دون أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ آ 17 التي تبدأ بحرف "الفاء" تبدو بشكل تفسير. وتجد آ 17 ضوءًا لها بالاستنتاج الذي نجده في آ 18 أ (إذن، انتبهوا) وبالتفسير الذي يعطى لنا في آ 18 ب ("لأنّ من له ").
حسب آ 16: من الواضح أن مَن يوقد سراجًا لا يفكّر بأن يخفيه. بل يضعه على منارة ليضيء. وتشرح آ 17 هذا السلوك راجعةً إلى مبدأ عام: "ما من خفي إلا سيظهر، ولا من مكتوم إلا سيُعرف وينكشف (في وضح النهار) ". نحن أمام مثل وقول مأثور في الحكمة الشعبية. إن الآية الموازية في مرقس (4: 22) تقول: إن كان من خفي فيجب أن ينكشف. إنه يشير إلى نيّة الذي أخفى شيئًا: هو لم يُخفِه لكي يبقى خفيًا بل ليُكشف في يوم من الأيام. نحن أمام نية يسوع حين يروي الأمثال التي لا يدرك الجمعُ معناها. في لو 17:8 كما في 2:12 ومت 26:10، لسنا أمام نيّة مبيّتة. بل تصوّر مسيرة حتمية ينكشف بموجبها كل ما هو خفيّ، ينكشف بالضرورة وبصورة دائمة. هذه هي الحقيقة العامة التي نتأكّد منها في وضع الذي يوقد السراج ويضعه في مكان مرتفع بحيث يضيء.
حسب مرقس: لا بدّ أن ينكشف السرّ الخفيّ في الأمثال. كُشف أوّلاً للتلاميذ ولكن سينكشف للجموع في الوقت المناسب. وفي هذا الإِطار، سرّ الملكوت، والسرّ المسيحانيّ لا يمكن ان يبقيا مكتومين. وهذا ما يَطلب استعدادًا وانتباهًا من السامعين.
حذف لوقا مر 23:4 ووصلة آ 24 وقال حالاً: "إنتبهوا إلى الطريقة التي بها تسمعون " (كيف تسمعون). وتفسير آ 18 ب يبرّر هذه التوصية: "لأن الذي له يعطى له، والذي ليس له (شيء) يؤخذ منه حتى الذي يظنّه له ". يتوضح هذا التفسير إن أخذنا بعين الاعتبار أنه يختتم تفسير مثل الزارع. فكلمة الله تثمر عند الذين يتقبلونها بقلب طيب ومطيع. وفي لغة آ 18 ب: "عند الذين لهم ". ما لهم هو استعداداتهم الحسنة وهذا ما يتيح لهم أن يأخذوا أيضًا. ولهذا السبب نرى كلّ هذه الأهميّة للطريقة (كيف) التي بها نتقبّل الكلمة.
وبعد أن فهمنا التنبيه في آ 18 نستطيع أن نعود إلى آ 17. وهذه هي الفكرة: طريقة السماع مهمّة (آ 18) لأنه ليس خفيّ إلا وسينكشف في النهاية (آ 17). وفي السياق الحالي يجد المبدأ العام في آ 17 تطبيقه الطبيعيّ: إن استعدادات الإِنسان الخفيّة تنكشف بالضرورة عبر النتيجة التي تثمرها كلمة الله فيه. شأنه شأن أرض نعرف نوعيتها من إمكانيتها بأن تعطي ثمرًا.
ونعود إلى آ 16: فسلوك الذي يوقد سراجًا يدلّ على السلوك الذي ننتظره من التلاميذ. فمن سمع كلمة الله ولم يجعلها تحمل ثمرًا يشبه إنسانًا يوقد سراجًا ثم يخفيه بوعاء أو يضعه تحت سرير. فالسراج المضاء لا يفيد في شيء. وكذلك لا فائدة من سماع كلمة لا نعمل بها. فحين نوقد سراجًا إنما نوقده ليضيء. وحين نتقبّل كلمة إنما نتقبّلها لكي نعمل بها. فلينتبه المسيحيّون إلى استعدادات قلوبهم. سيُعرفون من نتيجة الكلمة في حياتهم. فإن حوّلت سلوكهم تحويلاً حقيقيًّا، يعرفون باتصالهم بها أنهم نالوا النور. سيكونون بأنفسهم نورًا وشهودًا للنور.
ونعود أيضًا إلى الوراء، إلى أبعد من آ 16. وضع مرقس فاصلة بين تفسير مثل الزارع ومثل السراج: "وقال لهم ". أمّا لوقا فاكتفى بأداة العطف (في اليونانيّة) التي تبرز العلاقة مع القطعة السابقة. فإن آ 15 تتحدّث عن الزرع الذي سقط في الأرض الطيبة. وإنه يمثّل "الذين سمعوا الكلمة بقلب طيّب ومطيع، وحفظوها فأثمرت بفضل ثباتهم ". إذا كان تفسيرنا للآية 16 موافقًا لفكر الإِنجيليّ، فالعلاقة مع آ 15 واضحة: صورة الانسان الذي يضع سراجًا على منارة،َ تدل على سلوك ترسمه آ 15 فالنور الذي يعطيه سراج على منارة يمثّل الثمر الذي حمله الذين قبلوا الكلمة بقلب طيّب ومطيع.
لا نظنّ أننا نقدر أن ننسب إلى مثل السراج في لو 16:8 المعنى الذي يتّخذه بشكل طبيعيّ في النصّ الموازي في مر 4: 21. فمرقس يهتم قبل كلّ شيء، في فصل الأمثال، بالسبب الذي لأجله قال يسوع الأمثال. بهذه المسألة يتعلق الإِعلان الكبير في آ 11- 12 والحاشية الأخيرة في آ 33- 34، وبها ترتبط أيضًا الأقوال المجموعة في آ 21- 25. حينئذ يدلّ مثل السراج على أن الوحيّ الذي نعم به تلاميذ يسوع قد هيّأه الله لكي ينتشر انتشارًا واسعًا. أما نظرة لوقا فمختلفة كل الاختلاف، وهي تقترب بالأحرى من نظرة متى في 15:5 حيث مثل السراج يحدّث التلاميذ عن ضرورة الاعمال الصالحة ليلعبوا الدور المطلوب منهم لدى البشر. "فليضئ نوركم هكذا قدّام الناس ليشاهدوا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا اباكم الذي في السماوات " (آ 16) ولكن هناك فارقًا بسيطًا: يهتمّ متى بدور التلميذ وسط البشر، أما لوقا فيهتمّ بطريقة سماع الكلمة: كيف نحفظها ونعمل بها.

3- السياق الثاني
أولاً: في لو 33:11، يدخل مثل السراج في مجموعة واسعة من خُطب يسوع ضد خصومه (14:11- 54). أولاً: نجد جواب يسوع لأُناس يتّهمونه بأنه يطرد الشيطان ببعل زبول (آ 14- 20). ويتبع هذا الجواب ملحقات مختلفة لا رابط واضحًا بينها (آ 21- 28). ثانيًا: نجد جواب يسوع لأناس يطلبون آية: آية: لن يعطى لهذا الجيل آية إلاَّ آية يونان (آ 29- 30). ومع آ 29- 30 نربط آ 31- 32. وتزاد أقوال أخرى أولها القول في السراج (آ 33- 36). ثالثا وأخيرًا نجد جواب يسوع لفريسي تعجب لأنه لم يغتسل قبل الأكل (آ 37- 41). ويمتدّ الجواب في سلسلة من "ويل " تتوجّه الى الفريسيّين (آ 42- 44) وعلماء الشريعة (آ 45- 52). وكلّ هذا ينتهي بحاشية عن ردة فعل السامعين (آ 53- 54). إذن، السياق العام سياق هجوم. والمثل يتوجّه هنا لا إلى التلاميذ بل إلى سامعين ساءت استعداداتهم.
ثانيًا: يأتي المثل مباشرة وبدون أية انتقالة بعد الجواب للذين يطلبون آية. أجاب يسوع أولا: "لن يعطى لهذا الجبل آية إلا آية يونان " (آ 29). ولكن ما هي "آية يونان " هذه؟ فكّر مت 12: 40 بالأيام الثلاثة والليالي الثلاث التي قضاها يونان في بطن الحوت. فرأى فيها صورة عن إقامة يسوع في القبر قبل قيامته. وهكذا يماثل بين "آية يونان " والقيامة.
غير أنّ نصّ لوقا لا يتوجّه في هذا المعنى. فإن آ 30 تفسّر: "فكما كان يونان آية لأهل نينوى، كذلك يكون ابن الإِنسان آية لهذا الجيل ". ظنّ بعض الشُرّاح أن هذه الكرازة دلّت في تعبيرها الأَوّل على حدث ابن الانسان ومجيئه العجيب والرهيب. ولكن هل هذا ما أراده لوقا؟ مهما يكن من أمر، هناك شيء أكيد: صار النبيّ آية لأهل نينوى بشخصه (آ 30). يتوقّف انتباهنا لا على آية صنعها يونان، بل على الآية التي كانها هو بنفسه. ولا شكّ في أن آ 32 تحاول أن تنير هذه الكلمة الملغزة: "سيقوم أهل نينوى يوم الدين (الحساب) مع هذا الجيل ويحكمون عليه، لأنهم تابوا بإِنذار يونان وها هنا أعظم من يونان". لقد صدّق (آمن) أهل نينوى يونان. كفاهم أن يسمعوا تعليمه لكي يتوبوا. لم يحتاجوا إلى آية أخرى. فلا حاجة إلى إدخال خبر الموت. فأهل نينوى آمنوا حين سمعوا كلمته وعرفوا أنه النبيّ الذي أرسله الله. ويقابل يسوع موقفه مع موقف معاصريه الذين يطلبون آية: أما يكفي تعليمه؟ أما يكفي أنه هنا وهو أكبر من يونان؟
ثالثًا: وتتابع آ 33: "ما من أحد يوقد سراجًا". حين نشعل سراجًا فلا نشعله لنخفيه، بل لنضعه على منارة. والذين يدخلون لا يقدرون ألا أن يروا نوره. تُفهمنا الصورة قياسًا، السبب الذي لأجله لا يعطي يسوع آية. فرسالته الدينيّة أكبر برهان على ذلك. فكما أن السراج الموضوع على مكان مرتفع ينير كلّ الذين يدخلون إلى البيت، هكذا حين يعلن مرسل الله تعليمه، فإن حقيقة رسالته تفرض نفسها بنفسها. فهي لا تحتاج إلى آية لتؤكّدها. إذا كان أهل نينوى عرفوا يونان بعد أن سمعوا كلمته، فكم بالحري معاصرو يسوع. إذا نفهم مثل السراج في هذا الإِطار كدلالة على صدق رسالة يسوع الإلهيّة. فالذين لهم عيون ليروا لا يستطيعونَ إلاَّ أن يتعرّفوا إليه.
رابعًا: ومع ذلك طلب محاورو يسوع آية وجعلوا طلبهم شرطًا ليقرّوا برسالته. لماذا لا تفرض الحقيقة نفسها عليهم؟ أيمكن أن ندخل إلى بيت ونرى سراجًا مضيئًا على المنارة ولا نراه؟ لهذا زيدت آ 34- 36 لتلقي ضوءًا على هذا الوضع الراهن. إنها تقدّم تطبيقًا آخر لموضوع السراج: "سراج جسدك أو عينك. إن كانت عينك سليمة كان جسدك كلّه منيرًا (في النور). وإن كانت عينك مريضة (شريرة، رديئة) كان جسدك أيضًا مظلمًا (في الظلام) (آ 34). اذا كانت العين مريضة، فإن شعّ النور في الخارج وأنار إنسانًا، فهذا الإِنسان يبقى في الظلمة رغم كلّ شيء. ويأتي التطبيق في آ 35: "فانظر إذن: أليس النور الذي فيك ظلامًا"؟ لقد أخطأ محاورو يسوع حين ظنّوا أن آية خارجيّة تتيح لهم بأن يتعرّفوا إلى رسالة يسوع الإلهيّة. فما يحتاجون إليه هو تحوّل داخلي. النور يضيء أمامهم. فإذا كانوا لا يحسّون به، فلأن عين قلبهم مريضة.
أجل، قدّم لوقا مثل السراج في إطار هجومي. فرأى في كلمات يسوع توبيخًا يتوجّه إلى الذين لم يقتنعوا بحقيقة رسالته الإِلهيّة. كان أهل نينوى من أبناء النور فتابوا عندما سمعوا يونان. وإذا كان معاصرو يسوع لم يتوبوا مع أن النور قُدّم إليهم بوضوح أكبر، فلأن استعداداتهم الداخليّة تمنعهم من التعرّف إلى الحقيقة.

خاتمة
بدّل لوقا نهاية المثل فقال: ليرى الداخلون نوره، ففكّر بنور الإِنجيل الذي لا يحفظه التلاميذ لنفوسهم بل يشعّونِ على جميع البشر الذين لم يروه بعد. وفي ف 8، يُفهِم السراجُ الذي على منارة المسيحيّين واجبهم بأن يترجموا في أعمالهم التعليم الذي قبلوه. فمن اكتفى بسماع الكلمة دون العمل بها يكون غير منطقيًّا مع نفسه، شأنه شأن الرجل الذي يضيء سراجًا ويضعه تحت سرير. وكما أن السراج يضيء، كذلك يحوّل الانجيل سلوك الذين يسمعونه.
ويتحدّث ف 11 إلى أناس يعلنون استعدادهم لأن يؤمنوا بيسوع ورسالته الإِلهيّة شرط أن يعطيهم آية؛ أن يصنع أمامهم معجزة باهرة. رفض يسوع طلبهم. ما هو واضح في ذاته لا يحتاج إلى برهان خارجيّ. يكفي أن ينظروا إليه ليروا أنه جاء من عند الله. فالحقيقة واضحة كسراج على منارة. يكفي أن تفتحوا عيونكم وأن تكون عيونكم صحيحة. ولكن هذا ما ينقصكم: عيونكم مظلمة واستعداداتكم الداخليّة تمنعكم من النظر. لا تشتكوا من النور فالشرّ قابع فيكم، فحاولوا أن تصلحوه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM