الفصل الخامس والعشرون: شفاء حماة بطرس

الفصل الخامس والعشرون
شفاء حماة بطرس
4: 38- 41

خبر بسيط ولكنه يحمل غنى كثيرًا. فنحن نكتشف فيه كما في سائر أخبار المعجزات، جوهر الكرازة الانجيليّة، أي إعلانَ الخلاص بواسطة المسيح. وإذا أردنا أن نفهم الخلفية اللاهوتيّة لهذا الخبر، نتتلمذ على يد المسيحيّين الأوّلين ونتعرّف إلى طريقة تفكيرهم فيما يخصّ الأشفية العجائبيّة. بعد هذا، نحدّد السِمات الأدبيّة والدينيّة الخاصّة بكل إنجيليّ.
يرى الشُرّاح اليوم أن المعجزات التي أوردها يوحنا تقدّم، مع وجهتها التاريخيّة، طابعًا رمزيًا. ولهذا فَهُم يشدّدون على الوجهات الروحيّة واللاهوتيّة لهذه "الآيات ": فشفاء المولود أعمى صورة مسبّقة عن استنارة الايمان، وتكثير الأرغفة ينبئ بالافخارستيّا. أتُرى الأناجيلُ الازائية بعيدةٌ كلَّ البعدِ عن إنجيل يوحنا؟
في الواقع، إن الفن الأدبيّ للأناجيل الأربعة يدعونا إلى البحث فيها كلّها عن أفكار لاهوتيّة أشرفت على اختيار التذكّرات الرسوليّة، وإبرازها وترتيبها. اذا كانت التقاليد الانجيليّة ارتدت شكلها الحاليّ على ضوء قيامة المسيح وفي مُناخ مشاركة في هذه القيامة، فيبدو من المُدهش أن لا يكون هذا المَناخ قد ترك أفي أثر في الأخبار الازائية. إذن، لن ننكر وجود منظار رمزيّ في الأناجيل الازائيّة. هذا ما سنطبّقه على خبر شفاء حماة بطرس في كل من مرقس (29:1 ي) ومتى (8: 14 ي) ولوقا (4: 38 ي).

1- خبر مرقس
حين نقرأ هذا المقطع في مرقس نلاحظ تعدّد الأشخاص وحيويّة الخبر. هذاْ ما لا شكّ فيه. ولكن ألا نجد شيئًا آخر في خبر كُرزَ به مدّةَ ثلاثين سنة قبل أن يحتفظ به مرقس في إنجيله؟ حين يورد مرقس الأحداث فهو لا يتوقّف عند مدلولها المباشر، بل يوجّه الفكر نحو مجالٍ أسمى من خلال معنى هذه الوقائع. وهكذا، ففي نظر مرقس تتلخصّ كلّ عجائب المسيح بصراعه ضدّ الشيطان: قد يهمل خبر معجزةِ شفاءٍ جسديّ يورده الازائيّان الآخران، ولكنه لا يترك جانبًا أيّ تقسيم وطرد شيطان. وكما يشهد مر 1 :39؛ 3: 15؛ 7:6 (ق مع 13:6) فهو يعتبر الأشفية الجسديّة، شأنُها شأن التقسيم، وكأنها انتصار على الشيطان. هذه المقاطع تدلّ على عقليّة مرقس، لاسيّما وإنّ متى ولوقا يفترقان عنه في هذه النصوص الموازية.
حين يشفي المسيح أمراض الجسد التي هي نتيجة الخطيئة وآثارها من قبضة الشيطان، فهو يحارب ضدّ الشيطان. لا شكّ في أن هذه القتالات هي مناوشات بالنسبة إلى القتال العظيم الذي يحدّد مصير البشر. ولكنها إذ تدلّ في الحقيقة على قدرة الله في المسيح، فهي تعلن وتهيئ وتدشّن منذ الآن انتصاره النهائيّ على الخطيئة والموت، انتصارَه على مملكة الشيطان.
في هذا المنظار نفهم أن يكون مرقس شدّد على الرباط بين الشياطين والموت: فحين تحدّث عن ممسوس الجراسيّين، ذكر القبور على ثلاث دفعات (مر 2:5، 3، 5)، فلفت انتباهنا إلى أمر مهمّ (لسنا هنا أمام عدم مهارة كما قال بعض الشرّاح). إنه يريد أن يصوّر الممسوس وكأنه إنسان مستعبَد للموت. ونقول الشيء عينه عن الممسوس الذي يقع في داء الصَرْع (مر 14:9- 29): شدّد مرقس، أكثر من متى ولوقا، على الوجهة الشيطانيّة للمريض وعلى الموت الظاهر الذي يسبق الشفاء (صار الصبي كالمَيْت آ 26). فالموت والمرض يدلّان في نظر مرقس على سلطان الشيطان. وكل شفاء يحقّقه يسوع هو انتصار مسيحانيّ ضدّ القوى المعادية، هو انتصار يكشف في يسوع منذ الآن عن قدرة الله التي تتدخّل من أجل الخلاص.
ولكننا أمام استباق، أمام تهيئة بداية. الشفاء عابر الآن، ولكنه سيصبح علويًّا فيما بعد، وفي النهاية سنتشبّه جسدًا ونفسًا بصورة المسيح المجيدة. إلا أن قدرة الله هي التي تعمل في كل هذه الحالات. وهذا ما تشير إليه لفظة "ديناميس " (قدرة) التي تدلّ على هذه المعجزات. ما يهمّ الانجيليّ ليس نتيجة العمل، بل القدرة التي تفعل وهي قدرة علويّة، قدرة إلهيّة تستطيع أن تحوّل وتخلّص كل شيء. فخلال حياة يسوع على الأرض، ورغم انحداره في الامحّاء، لم تستطع هذه القدرة إلاَّ أن تظهر. إنها تتدخّل قبل الساعة كعلامة تسبق وتعلن وتهيئ مجيء الملكوت بقوّة. وبما أنّ هذه الأعمال العجيبة التي صنعها يسوع خلال حياته على الأرض هي فقط بداية وإعلان، فهي ترتدي بالضرورة مدلولاً ديناميكيّا ورمزيًّا. فمرقس الواعي لتوسّع الأمور كما نرى في 4: 8 و 4: 26- 28 يعرف كلَّ المعرفة أن انجيل (الخبر الطيب والبشرى) الخلاص يتضمّن بداية (مر 1: 1) تهييء وتتطلّب انتصارًا حاسمًا. فالأعجوبة هي في نظره واقعٌ له معناه. أنها تتوجّه إلى غاية، فلا يبقى لنا إلاَّ أن ننجذب بديناميّة أعمال القدرة هذه لنشاهد الخلاص التامّ الناجز.
إنه لمن الضروريّ أن نتجاوز الحدَث الخام لنفهم معناه. هذا ما يعلّمنا إيّاه الانجيليّ الذي يلاحظ بعد أوّل تكثير للأرغفة والسير على المياه: "لم يفهموا شيئًا من أمر الخبزات، بل كانت قلوبهم عمياء" (مر 6: 52؛ رج 17:8- 21).
ثم إنه يسهُل على الفكر أن ينتقل من أمراض الجسد إلى أمراض النفس. وهذا ما يشهد له قول يسوع الوارد في مر 17:2: "ليس الأصحّاء في حاجة إلى طبيب، بل المرضى. ما جئت لأدعو الصدّيقين، بل الخطأة". والأمثلة عديدة: التينة اليابسة (مر 11: 12- 14، 19- 21)، وتكثير الأرغفة مع الاشارة إلى الافخارستيّا. والسوريّة الفينيقيّة التي هي باكورة الأمم الوثنيّة (مر 7: 24- 30)، وشفاء المخلّع وغفران خطاياه (مر 3:2- 12) ودعوة الرسل الصيّادين ليصطادوا الناس إلى الخلاص (مر 1: 16- 17).
هذه اللمحة عن مرقس تساعدنا على إدراك الأفكار التي تحرّك خبر شفاء حماة بطرس (مر 29:1- 31). عند منعطف مهمّ من الخبر نجد عبارة غريبة ومعبّرة تبرز فِعلة يسوع الرئيسيّة حين أقام المريضة (أنهضها). إن مرقس بلبَلَ تتابع الحركات التي كان بموجبها على يسوع أن يتقدّم، ثم يُمدُ يده، وأخيرًا يُنهض حماة بطرس. غير أنه معجَّل في الوصول إلى هدفه، وراغب في إبراز فعلة يسوع الأهّم: "دنا منها وأنهضها بعد أن أمسك بيدها". فالفعل المستعمل هنا "أغايرو" يدل أيضًا على قيامة الموتى، كما في العربيّة (أقام وأنهض). هذا المعنى معروف لدىِ مرقس، وهذا ما نكتشفه عبر مقاطع تتعلّق بقيامة البشر أو بقيامة المسيح. مثلاَ في مر 26:12: "أمّا ما هو من أمر قيامة الأموات ". وفي 16: 6 "تطلبين يسوع الناصريّ المصلوب: إنه قد قام وليس هو هنا" (رج مر 14:6، 16؛ 28:14).
هذا الفهم لفعل "أقام " نجده أيضا عند يوحنّا الذي رأى في إقامة الهيكل صورة عن قيامة المسيح (يو 19:2- 22). ونجده أيضًا في نشيد ليتورجىّ يرد في الرسالة إلى أفسس فيصوّر القيامة العماديّة وكأنّها قيام ونهوض: "إستيقَظ أيّها النائم وقم من بين الأموات " (أف 14:5). وأخيرًا، حين يورد لوقا في سفر الأعمال كرازة بولس، فهو يقابل بين داود الذي أقامه الله ملكا (أع 13: 22) من جهة، ويسوع الذي قام من بين الأموات من جهة أخرى (أع 13: 30، 37).
ونجد في الانجيل الثاني على الأقلّ مقطعين يربطان بين النهوض والقيامة.
في مر 5: 41، قال المسيح للفتاة المائتة: "قومي ". وفي الحال نهضت الصبيّة. "وفي مر 9: 26- 27، نحن أمام "مصروع " صار كالمَيْت بحيث قال الناس: "إنه قد مات ". فأخذه يسوع بيده وأقامه. ففعلة الاقامة تدلّ على القيامة.
من أجل كل هذه المُعطَيات، نظن أنّ مرقس صوَّر شفاء حماة بطرس وكأنها قيامة عماديّة (بواسطة قبول سرّ المعموديّة). فعَبْرَ شفاء يعبّر عنه فعل "أغايرو"، ننطلق إلى مشاهدة القيامة والخلاص التامّ.
وماذا نقول عن التعليق الذي ينهي الخبر: "أخذت تخدمهم "؟ لا شكّ في أننا أمام أعمال وضيعة تفرضها عوائد الضيافة على حماة بطرس. ولكن إن توقّفنا عند هذا المعنى، تجاهلنا ديناميّة فكر مرقس. فالخدمة المصوّرة هنا هي بداية: إنها تدشّن خدمة كلّ الناس الذين شفاهم المسيح، هي خدمة تدوم وتتوجّه إلى المسيح كما إلى الجماعة الكنسيّة.
ما هو البًعد الحقيقيّ لعبارة "ولمّا خرج من المجمع جاء إلى بيت سمعان "؟ لقد ترك يسوع المجمع ليجعل من بيت سمعان بطرس كنيسة خلاص. أجل، إن صور حياة يسوع على الأرض لها قيمتها لا في كفرناحوم وحدَها، بل في الأرض كلّها.

2- خبر لوقا
ما قلناه يميّز مرقس، فلا نستطيع أن نطبّقه على لوقا أو متى. لا شكّ في أن كل العموميّات المتعلّقة بقدرة يسوع العجائبيّة، تنطبق أيضًا على لوقا. ولكن طريقة لوقا في عرض الأمور تختلف عن طريقة مرقس. مثلاً، ترك فعل "أغايرو الرئيسيّ عند مرقس وأحلَّ محلَّه "أنئيستامي " (أقام، أناستاسا). ما يهُمّ الراوي هو موقف يسوع الذي ينحني على الصبيّة ويأمر المرض. ما يهمّه هو صلاح (حنان) يسوع وقدرته الفاعلة حالا.
عمِلَ لوقا كمؤرّخ (1: 1- 4) فتجنّب نقل النصّ إلى المستوى الرمزيّ أو الاستعاريّ. وإذ أشار إلى الديناميّة الخاصّة لخبر المعجزات، اهتمّ لا بامتداد الحدَث نفسِه، بل بموقف المسيح وبعواطفه. إن يسوع كشف في أصغر معجزاته حنانا وقدرة سيتضخّمان ويتأوّنان في المسيح الممجد.
وهكذا، لا ينقل لوقا القارئ إلى حدث ماضٍ، بل يجتذبه ليفكّر بالمسيح الذي هو المخلّص الآن. أمّا العبارة التي تتوسّط الخبر فتتألف من صفتي الحنان (او الصلاح) والقدرة الضروريّتين لتؤمّنا خلاص البشر. فبدون حنان، لن يحاول المسيح أن يخلّصنا. ومن دون قدرة، لا يستطيع أن يخلصنا. واتّخاد هاتين الصفتين في المسيح، مسيحِ الأمس واليوم، أمرٌ يهمّ بالدرجة الأولى.
ولقد أشار لوقا إلى هاتين الوُجهتين في خطبة بطرس عند كورنيليوس: "يسوع الناصريّ... كيف مسحه الله بالروح القدس والقدرة، فسار في كلّ مكان يعمل الخير ويشفي جميع الذين استولى عليهم إبليس، لأنّ الله كان معه (أع 37:10- 38). نجد هاتين الوجهتين في الملاحظات الخاصّة بلوقا: إنحنى المسيح على المريضة فعبَّر عن صلاحه وحنانه. وأمر الحُمّى فنفّذت أمره، وهكذا دلّ على قدرته.
ونشير إلى سِمة خاصّة أخرى بنصّ لوقا. من جهة، يترك في الظلّ وجه التلاميذ، وهكذا يُبرز الشخصين الرئيسيّين. ومن جهة ثانية يحتفظ بصيغة الجمع في موضعين: "سألوه (هم) لأجلها". من هم الذين سألوه؟ "وأخذت تخدمهم ". من هم هؤلاء؟ إنهم التلاميذ. فالجماعة المسيحيّة، جماعة الأمس واليوم، تصلّي لخلاص المرضى والخطة (رج يع 5: 14- 15؛ أع 8: 15). نحن هنا في إطار لوقاويّ نكتشفه بصورة خاصّة في سفر الأعمال.

3- خبر متى
تجاوز متى مرقس ولوقا على مستوى الرمز، بحيث إنه صوّر، عَبْرَ تذكُّر أورده، موت المسيح وقيامته (مت 8: 29؛ 14: 26- 27) أو وضعَ الجماعة في أيّامه (مت 8:9؛ 14: 33). ونحن نرى طريقته هذه بوضوح.
بسَّط متى النصّ تبسيطًا وصل به إلى حدّ الجمود: لم يبق في المشهد إلا المسيح والمرأة المريضة وجهًا إلى وجه. لا حاجة إلى أيّ وسيط. المسيح هو الذي رأى المريضة وصنعَ المعجزة طوعًا. حين نعرف إلى أيّ حدّ (ما عدا حالات التقسيم) كان لا بدّ من التوسّل إلى المسيح لنأخذ منه معجزة، نظنّ أن خبر مرقس ولوقا هو أقرب إلى واقع الأمور. فهل صوَّر متى "الحقيقة التاريخية"؟ لاشكّ في ذلك، لو كان هدفه تقديم سيرة يسوع العلميّة. ولكن هذا التبديل ينبّهنا أنّ متى الذي ظلّ أمينًا للتذكّرات والتقاليد المتعلّقة بيسوع، أراد أن يجعلنا في حضرة المسيح المخلّص الذي لا يحتاج إلى أحد ليرى آلامنا، وشقاءنا، ليتحنّن علينا، ويبادر إلى خلاصنا.
ونجد إشارة أخرى الى هذا التبديل في القرينة المباشرة. فبعد أن تحدّث متى، شأنهُ شأن مرقس ولوقا، عن عدّة أشفية صنعها يسوع في تلك الليلة، زاد: "وهكذا تمّ قول النبيّ أشعيا: أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا (مت 17:8؛ رج أش4:53). إن وجود هذا الاستشهاد في هذا الموضع يكشف عن نظرة متى إلى هذه الأشفية العجائبيّة. قال النصّ العبرانيّ (أش 53: 4): "أخذ أوجاعنا وحمل عاهاتنا". أمّا اليونانيّ (حسب السبعينيّة): "حمل خطايانا وتألّم من أجلنا". إنّ عبد الله يأخذ على عاتقه الآلام التي استحقّتها خطايانا لنا. فإذا طبَّق متى هذا المقطعِ لا على آلام المسيح، بل على الأشفية العجائبيّة، فهذا يعني أن هذه لأشفية تعبِّر (وترمز) في نظره عن خلاص ناله المسيح بآلامه، أنه يرى، عَبرَ هذه الأشفية، المسيح الذي تألم ومات من أجلنا ليشفينا من الخطيئة والموت.
إن كل هذه الاشارات تدفعنا إلى إعطاء فعل "أغايرو" (هنا اغارتي) معناه الأقوى. فكما استقامت الصبيّة قائمة من الموت (مت 25:9)، وكما قام يسوع (مت 6:28- 7)، هكذا قامت هذه المريضة بيد المسيح. في هذا المنظار يتّخذ موقف هذه المرأة التي شفيت فخدمت المسيح، معنى دينيًّا خاصًّا (بصورة أوضح ممّا نجد عند مرقس ولوقا).
هل نقول إنّ متى أعطى معنًى روحيًّا للاشارة الطوبوغرافيّة التي وجدها في بداية المقطوعة؟ حين جعل اسم بطرس محلّ اسم سمعان، شدّد على المعنى الكنسيّ لبيت بطرس هذا. والمسيح لا يخرج من المجمع ليذهب إلى بيت سمعان (كما في مرقس ولوقا). تعمّد متى في ما فعل. فالمسيح وأخصّاؤه يشكلّون في نظره إسرائيل الحقيقيّ، فلا يحتاجون إلى الخروج من المجمع. أمّا اليهود اللا مؤمنون فهم الذين يخرجون من جماعة الخلاص. هل اختار متى قرائن لخبره تختلف عن قرائن مرقس ولوقا؟ يجب أن لا نجعل هوّة بين مقطوعة إنجيليّة وأخرى، ولا ننسب كلّ نصّ إلى محيط يختلف عن الآخر. فالتفكير اللاهوتيّ عند متى لا يختلف كثيرًا عمّا نجده عند مرقس ولوقا.
فإذا كان خبر متى قد وجّه أنظارنا إلى تعليم عِماديّ، فهو لا يعارض الشكل الذي نجده في الازائيّين الآخرين. إنه يعبّر عن فكرة لاهوتيّة نجدها أيضًا عند مرقس ولوقا. لا معارضة بين ثلاثة، بين ديناميّة لا تنفد عند مرقس، بين تأمل في موقف يسوع الداخليّ والأزليّ عند لوقا، بين وضوح وجمال رمزيّ لدى متى.
أمّا المعنى المتّاويّ فيشير إلى سرّ إنسان بائس، وصل إليه نظر المسيح فقام بنعمته.

4- الفنّ الأدبيّ في الأناجيل
نودّ بعد هذه العُجالة أن نحدّد الفنّ الأدبيّ لهذه المقطوعة، بل للانجيل كلّه. فحين ننطلق من مثَلٍ ملموس نفهم فهمًا أفضل هدف الانجيليّين حين كتبوا لنا ما كتبوا.
هل أرادوا أن يقدّموا لنا سيرة المسيح؟ هل أرادوا أن ينقلوا إلى قرّائهم إيمانًا يتناسى الزمن؟ إذا أردنا الجواب عن هذه الأسئلة، تبقى الوسيلة الفضلى بأن نطرح السؤال على معاصري الأناجيل. فمهما يكن من أمر زمن كتابة أعمال الرسل، ومهما تكن طريقة لوقا في سرد الاخبار، فنحن نستطيع ان ننطلق من هذا الكتاب لنتخيّل ولادة الكرازة الانجيلية ونموّها.
إن هذه الكرازة تُعتبَر قبل كلّ شيء شهادة تتعلّق بقيامة المسيح: هذا هو محور الخُطَب التي ألقاها بطرس (أع 2: 32؛ 3: 15؛ 5: 30- 32؛ 10: 39- 41) أو بولس (أع 13: 30- 33؛ 17: 31؛ 25: 19). فلفظة إنجيل عينها لا تشير إلى سيرة المسيح، بل إلى اعلان قيامته وتمجيده: حين يحدّثنا لوقا في أع 5: 42 عن الرسل الذين يبشّرون (انجل، انجيل) بالمسيح يسوع، نعود إلى كل الخُطب المحيطة بهذه الآية (أع 4: 9- 12؛ 5: 30- 32) لنفهم أنهم "انجلوا"، كرزوا بقيامة يسوع المصلوب وتمجيده. وكذا نقول عن أع 13: 32: الانجيل الذي يعلنه بولس هو قيامة يسوع من بين الأموات.
ونتوقّف بصورة خاصّة عند حدث اختيار متّيّا: لا يُطلَب من الرسول الجديد أن يشهد لحياة يسوع كما عاشها على الأرض، بل لقيامته فقط (أع 1: 21 - 22). ولكن، إذا أراد الرسول أن يشهد للمسيح القائم من الموت، لا يكفي أن يكون قد رأى ظهورات الربّ، بل يجب عليه أن يكون قد عاش معه خلال حياته على الأرض (أع 1: 21). فإذا أردنا أن نعرف من هو هذا المسيح الممجّد، وأن نعرِّف الناس إليه، وجب علينا أن نعود إلى أعماله وأقواله السابقة.
وإذا أردنا أن نفهم كيف تنظَّم الانجيل كما هو الآن، لن نجد نصُّا أكثر إيحاءً من خُطبة بطرس في بيت كوِرنيليوس (اع 34:10-43). نجد فيها عددًا من الأمور التاريخيّة كما نجد عرضًا لاهوتيًّا. فالمعجزات هي أفعال حنان وقدرة تدلّ على حضور الله وعمله ضدّ الشيطان. وهكذا نستشف الفداء كله عبر كل فعلة خاصّة. ونلاحظ أيضًا التعارض والمُوازاة بين آ 37- 38 وآ 39- 42 (أع ف 10). حين يتحدّث بطرس عن المعمودية والمسحة والمعجزات، يعود إلى شهادة الحاضرين. وحين يتحدّث عن موت المسيح وقيامته، يُبرز شهادة الرسل.
وهكذا نلاحظ مرّة أخرى أن الكرازة الانجيليّة تكمن أساسًا في الشهادة للموت والقيامة، كما تكمن في إضفاءِ معنًى عميق على أحداث حياة المسيح السابقة. ففي هذه الخطبة، يتوازى العماد والمسحة مع الموت والقيامة، فيتلقّيان نورًا جديدًا. ومقابل هذا، إن هذه الأحداث تساعدنا على فهم موت المسيح على أنَّه عِماد، و على فهم قيامته على أنها تولية مسيحانيّة (يجلس على عرشه كملك).
في الكرازة الانجيليّة، لن نلتفت الى الماضي بما أنه ماضٍ، ولا نؤلف سيرةً تسرد حياة يسوع بتفاصيلها، بل نلقي ضوءًا على مجد المسيح القائم من الموت بواسطة ماضيه (أي حياته العلنيّة على الأرض). وهذا التأثير المتبادل يفهمنا لماذا وُجدت الدقة في الأخبار، والحريّةُ في تقديمها عَبرَ الأناجيل. مبدأ الشرح هذا يتيح لنا أن نفهم حدود الجماعة الرسوليّة في تقديم حياة يسوع، وأن نتعرّف إلى همّ الانجيليّين بالبقاء قريبين من التاريخ.
مثلاً، أخبار الظهورات. هناك تقديم تعليميّ واستعمال أساليب خاصّة بالمؤرخين القدماء. ومع ذلك، فالاهتمام بإيراد الأحداث في إطار تاريخيّ يظهر أكثر مما في سائر مقاطع الإِنجيل أمّا الأخبار المرتبطة بحياة يسوع السابقة للفصح (أي قبل موته)، فقد رُويت على ضوء القيامة. ولا عجب في ذلك. فلو لم يقم المسيح، لفكّر الرسل بتدوين سيرة معلّمهم. ولكن إن قلنا إنهم كتبوا فقط سيرة يسوع، دمّرنا الايمان بقيامة المسيح. أمّا إذا عرضوا أن يسوع هو حيّ، فقد أرادوا أن يعلنوا المسيح المخلّص والمجيد.
إذن، ليست الأناجيل تقريرًا بسيطًا عن حياة يسوع وتعليمه، بل شهادة عن موته وتمجيده. فما تورده قبل كلّ شيء هو الخلاص الذي يقدّمه المسيح المائت والقائم من بين الأموات. إنها تستعمل تذكّرات الماضي وتجعلنا بحضور المسيح الحيّ والمجيد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM