الفصل الثالث والعشرون
الاستعداد للمحنة الكبرى
22: 35- 38
هذا القسم الأخير من خطبة يسوع بعد العشاء الأخير يورد حواراً بين يسوع وتلاميذه. وفيه شرح لنصيحة أعطاها إياهم، وها هو الآن يحوّلها بالنظر إلى الأزمنة التي يعيشها هو وربّما يعيشونها هم. هذه الأزمنة ما زالوا بعيدين عن إدراكها. أما كلمات يسوع في هذا الحدث فتلمّح إلى نصيحة أعطاها للاثني عشر خلال رسالته العلنية، وساعة أرسلهم يعلنون الملكوت ويشفون المرضى. أما الآن والضيق أمامهم، فعليهم أن يقوموا باستعداد من نوع آخر. عليهم أن يتهيّاوا لأيام العنف التي تنتظرهم.
1- نظرة عامة
إن الجماعة ستواجه منذ الآن زمن المحنة مع يسوع الحاضر معها حضوراً سرياً، الحاضر معها حضور الخدمة. وابليس الذي دخل في يوضاس لن يوفّر الأحد عشر أيضاً. فصورة الغربال المستعملة في آ 31 قد أخذت من عا 9: 9 فأعلنت أن إسرائيل سيُغربل وسط الأمم فيموت الخطأة منه بالسيف. حين كانت الخيانة تحاك حوله، سلّم يسوع إلى رسله خدمة شعب الله. والان ها هو يسلّم بطرس الذي سيخونه، مهمة تقوم بأن يثبّت إخوته (آ 32). من أين ستكون له هذه القوّة؟ من صلاة يسوع. قال له: "صلّيت لك أن لا تفقد إيمانك".
ولكن تبقى الافخارستيا التي هي سّر العهد الجديد (آ 19- 20)، وموضوع الخطبة التي تدعو إلى الخدمة في الكنيسة (آ 24- 27) وقلب الوعد الذي ناله الاثنا عشر في ملكوت يسوع (آ 28- 30). هذه الافخارستيا تبقى رغم "سقوط" البعض (آ 31- 34) نقطة الانطلاق ليسوع النبي وعبد الله المتألمّ (آ 35- 38).
في الماضي، أرسل التلاميذ في مهمّة تعرف الفقر والضعف (رج 10: 1- 4: أرسلهم مثل الخراف بين الذئاب. لا تحملوا محفظة ولا كيساً ولا حذاء). وعند عودتهم ظهر فرحهم ساطعاً حين رأوا الشياطين تخضع لكرازتهم (رج 10: 17- 20: حتى الشياطين تخضع لنا باسمك). والآن، بدأت حقبة جديدة بالنسبة إليهم. إنه وضع يصوّره لسفر الأعمال.
بعد أن تجاهل اليهود شروط السلام (رج 19: 42: ليتك، يا أورشليم، عرفت اليوم طريق السلام) وقرّروا أن يقتلوا النبي والملك، أعلنت "الحرب". لسنا هنا أمام نداء إلى الجهاد المسيحاني على طريقة جماعة الغيورين. فيسوع رفض أن يدافع عنه تلاميذه بالسيف (22: 49- 50: كفى، لا تزيدوا). ولسنا أمام حرب على القيصر ارتبط بها الجدال الثاني في الهيكل (20: 20- 26: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله). نحن أمام نداء لمواجهة الجهاد الرسولي في إطار الرذل والطرد، في إطار من العداء والاضطهاد، في إطار الاتعاب الرسولية التي سيعرفها شهود الانجيل.
إن تتمة نشيد عبد الله المتألمّ (حسب آ 37) الذي يقول: "وأحصي مع المجرمين" (العصاة، الذين لا ناموس لهم ولا شريعة، سفالة الشعب) (رج 53: 12) تدلّ على المدى الذي فيه يُرذل يسوع. فعلى الرسل الذين سوف يشهدون له أن لا ينتظروا مصيراً آخر غير مصيره. ولكن أليس أول الداخلين إلى الملكوت أحد المجرمين (23: 45)؟
لقد وصلت مهمّة الابن إلى نهايتها. وهي تنبئ بمهمّة التلاميذ. فلا أحد يفلت من "ضرورة" (يجب، داي في اليونانية) مسيرة قصد الله الذي يتوافق يسوع معه. غير أن الرسل لم يدركوا بعد هذه "الضرورة". إنهم يريدون أن يفلتوا من هذا المصير. يريدون أن يدافعوا عن أنفسهم: وهذا ما يدلّ عليه السيفان اللذان حملوهما معهم. ولكن المعلّم قطع الطريق أمامهم. "يكفي هذا الحديث، لم تفهموا شيئاً".
كان تفسير خاطئ في عالم بيزنطية وفي الغرب المسيحي ففسّر "السيفين" على أنهما سلطتان تجتمعان "باسم يسوع": السلطة الروحية والسلطة الزمنية. وباسم هذا التوافق بين السلطتين، عرفت الكنيسة الشواذات العديدة التي لا مجال لذكرها الآن. وكان تفسير آخر على مستوى الجماعات التي تحاول أن تدافع عن نفسها بسلاح العالم لا بسلاح المسيح. فقيل أن يسوع طلب من مرافقيه أن يحملوا سيفين، لا سيفاً واحد وحسب. فشرحوا كلمة "يكفي"، بمعنى أنه يكفي ما معكم من سلاح. فماذا فعل هذا السلاح؟ أمّا "يكفي" كما قلنا، فهي تعني أن الرسل لم يفهموا بعد قصد يسوع الرافض للعنف، فقال: أوقفوا هذا الحديث.
أجل، هي ساعة العنف والاضطهاد. وعلى شهود المسيح أن يعرفوا كيف تكون المواجهات المقبلة. فهو بنفسه قد رسم لهم الطريق حين طلب منهم أن يحملوا صليبهم ويتبعوه، أن يتخفوا عن كل ما لهم لكي يكونوا له تلاميذ حقيقيين (14: 25-33). هو لم يدافع عن نفسه، بل تقبّل الكأس، كأس الآلام والموت، التي قدّمها له الآب.
إن تأسيس الافخارستيا والخطبة التي تلت هذا التأسيس، قد دلّتا دلالة نبويّة على المعنى الذي أعطاه يسوع لموته: هو خروج من هذا العالم، هو اختطاف وعودة إلى الآب. فالعمل الافخارستي الذي يتمّ يا العهد الجديد الابدي، يجعل الخلاص الذي يحقّقه موت يسوع وقيامته، حاضراً لا العالم. إنه لواقع آني ونهائي، إنه لا داخل حياتنا لا في خارجها. ليس في هالة من الغيوم.
أما الأقوال التي قالها يسوع على مجموعة التلاميذ، فهي تكشف نظرته النبويّة إلى التاريخ المضطرب الذي سيعيشه الشهود والجماعات، وذلك بسبب كلامهم. لكنهم قد سلّموا إلى نعمة الروح التي لا يتوقعها بشر (12: 12: الروح القدس يعلّمكم لا تلك الساعة ما يجب أن تقولوه). وبشهادتهم وسط المحن يجعلون الخلاص حاضراً وفاعلاً. في هذه الخطبة، نجد شهادة عن آنيّة "مجيء ابن الإنسان" كما أعلنها سفر الرؤيا.
2- قراءة تفصيلية
أولاً: بين الماضي والحاضر (آ 35- 36)
"ثم قال لهم". هكذا يبدأ لوقا بمقطع جديد. في الماضي أرسلتم بلا مال ولا كيس... وهكذا عاد النصّ إلى إرسال السبعين في 10: 4. هناك مخطوطات تفضل ذكر "الحذاء". هنا نتذكّر أيضاً ارسال الاثني عشر في 9: 3: "لا عصا ولا كيس ولا خبز ولا مال". واستخلص العبرة: هل نقصكم شيء؟ هل احتجتم إلى شيء؟ وانتظر يسوع بلا شكّ جواباً سلبياً: كلا، لم ينقصنا شيء. هذا يدلّ على الضيافة التي لاقوها لدى الشعب الذي أعلنوا فيه كلمة الله وشفوا مرضاه. استعمل لوقا "اوتنوس" بدل "اودنوس" المستعملة في اللغة اليونانية الكلاسيكية (لا شيء). إذا وضعنا جانباً 1 كور 13: 2؛ 2 كور 11: 9، لا ترد هذه اللفظة الهلنستية إلا عند لوقا: 23: 14؛ أع 15: 9؛ 19: 27؛ 20: 33؛ 26: 26. إن جواب الرسل الآن هو صدى لردّة فعل التلاميذ حين عادوا من الرسالة (10: 17).
"أما الآن" (آ 36). ها هو يسوع يعود إلى الحاضر. إنه ينظر إلى آلامه التي ستبدأ قريباً، كما ينظر أيضاً إلى هذه الحقبة من تاريخ الخلاص التي ستدشن في الآلام. فقبل أن تبدأ آلام يسوع، سوف يعدّ نفسه بالصلاة في بستان الزيتون. ولكن الإنجيلي يقرأ من خلال كلام يسوع الحقبة التي تعيشها الكنيسة. يرى من خلال "زمن يسوع"، "زمن الكنيسة". نحن في هذه الآية أمام تعارض بين رسالة "هادئة" كانت "حتى الآن" وأزمة الآلام التي تلي هذه الرسالة. مثل هذا التعارض حاضر، ولكنه ليس وحده في كلمات يسوع التي تتوجّه أيضاً إلى قرّاء لوقا. إلينا نحن. وهناك تعارض أيضاً بين وقت يكون فيه يسوع مع تلاميذه في الجسد وبشكل منظور، ووقت يغيب فيه بالجسد فيشعرون بحضوره عبر الروح القدس. هذا ما تدلّ عليه اداة "نين" (أما الآن، فقد تبدّل الوضع تماما).
"من عنده مال"... ثم "من ليس عنده". لم نعد بحاجة إلى أمور نستعملها في وقت "السلم" والرسالة الهادئة. بل نحن بحاجة إلى ما نستعمله في وقت "العنف". نجد أربعة تفاسير لهذه الجملة لدى الشّراح. (1) هناك مفعول واحد لعبارة "من له" (هو إخون) وعبارة "من ليس له" (هو مي إخون). مال، كيس، المعنى: من له مال وكيس فليحتفظ بهما. ومن ليس له فليبع ثوبه ليشتري بثمنه سيفاً. (2) مفعول "من له" هو مال، كيس. ومفعول "من ليس له" هو السيف. وهذا ما نفهمه انطلاقاً من نهاية الجملة. المعنى: نحن نحتاج إلى كيس ومال وإلى سيف أيضاً. (3) مفعول "من له" هو مال، كيس. أما "من ليس له" فلا مفعول له، بل يستعمل بشكل مطلق. المعنى: يجب أن يكون معنا مال، كيس. ومن ليس معه شىء يجب عليه أن يبيع ثوبه ويشتري سيفاً. (4) "من له" و"من ليس له". يستعملان كلاهما بشكل مطلق. المعنى: من معه يكون أفضل أن حمل مالاً وكيساً. ومن ليس معه، عليه أن يبيع ثوبه ويشتري سيفاً. التعارض هو بين الذي يملك (الغني) والذي لا يملك (الفقير).
أي معنى نختار؟ المهم هو أن يكون في يدنا "سيف"، لأن الحقبة التي نعيش فيها هي حقبة العنف. هي حقبة ستعرف فيها الكنيسة الاضطهاد. وهذا ما سوف يرويه لوقا في أع 8: 1 ب- 3؛ 9: 1- 2؛ 12: 1- 5. إذن، المهمّ أن نتجهّز لا بسلاح مادي، بل بسلاح من نوع آخر هو سلاح خاص. نحن بعيدون جداً عن جماعة الغيورين. كما أن هذه الآية لا تعني شيئاً بالنسبة إلى هرب المسيحيين المتهوّدين من أورشليم إلى بلا قبل سنة 70 وسقوط أورشليم. كما لا تعني استعمال السلاح المادي في مجتمعنا الحاضر. هنا نعود إلى آ 49- 50 حيث يمنع يسوع تلاميذه من استعمال السلام لكي يدافعوا عنه.
إن أقوال يسوع حول تجهيز نفوسنا بالمال والكيس والحذاء والسيف، نأخذها في معنى رمزي. وهكذا نكون على نقيض التفسير الحرفي الذي يستعمل كلام الإنجيل لأغراض خاصة، ولا يخضع لكلام الله في الصلاة والخضوع. ولا ننسى المعنى الروحي المرتبط بهذا السلاح كما في أف 6: 11- 17: "نحن لا نحارب أعداء من لحم ودم... لذلك إحملوا سلاح الله الكامل... خوذة الخلاص، سيف الروح".
ثانياً: تمام الآية المكتوبة (آ 37)
"وأنا أقول لكم". يلفت يسوع انتباه رسله إلى أمر مهمّ. هذا ما قاله في العشاء الأخير: "أقول لكم: لا أتناوله..." (22: 16). "يتمّ ما كتب" (تو غاغرامنون). سيرد مقطع العهد القديم في الجزء التالي من الآية. في 20: 17 نجد العبارة ذاتها: "ما معنى هذه الآية: الحجر الذي رذله البناؤون"؟ رج 18: 31: "يتمّ" فيّ "كل ما كتبه الأنبياء عن ابن الإنسان". ما نجده في الكتب المقدسة يدلّ على إرادة الله التي تقبّلها يسوع بملء حريته.
"يتمّ فيّ". يجد نهايته وهدفه الأخير (تالاين كما في 18: 31). نحن هنا أيضاً أمام المجهول اللاهوتي. الله هو الذي يتفه. "أحصي مع المجرمين". أحصاه الله، جعله مع الخطأة والذين لا شريعة عندهم. هذا هو إيراد واضح لمقطع من نشيد عبد الله المتألمّ (أش 53: 12، لا إيراد إلاّ هنا). نشير إلى أن لوقا تفرّد فطبّق على آلام يسوع نبوءة عبد يهوه هنا كما في أع 8: 32- 33 (وزير ملكة الجبشة). كما أعطى يسوع اسم "عبد الله" (فتاه) في أع 3: 13، 26؛ 4: 27، 30.
قال النص الماسوري (العبري) في أش 53: 12: "حُسب (عُدّ) مع العصاة". أما نص السبعينية فقال: "جُعل في مصاف من لا ناموس لهم". إن لوقا يستعمل النصوص عن عبد يهوه كجزء من موضوع "الذل والمجد"، دون العودة إلى الذبيحة البدلية. هذا ما يتوسّع فيه لوقا فيما بعد.
إدن إيراد لوقا هو تأمّل في النصّ العبري أكثر منه في النصّ اليوناني. في أشعيا الثاني، يبدو عبد الله جزءاً من البشرية الخاطئة التي هي موضوع دينونة الله وغفرانه. إن حكم الناس على يسوع هو نتيجة دينونة الله التي تحمل إليه النصر. قال بطرس في خطبته الأولى: "يسوع هذا الذي صلبتموه، قد جعله الله مسيحاً وربّاً" (أع 2: 36). غير أن المعنى الحقيقي لإدخال الإستشهاد الأشعيائي، هو أنه إن كان المسيح قد عومل كذلك، فكذلك سيُعامل أتباعه. إن العداوة تجاه الرسل تجد أساسها في العداوة تجاه يسوع. مايحصل "للملك "يحصل "للشعب".
إن جمع يسوع مع لصين سيتمّ في مشهد الصعب (23: 32- 33). غير أن اتهام خدمته بانها كانت "سياسية" (23: 2- 5)، دلّ على أنه منذ البداية جُعل مع الخارجين على الشريعة كما قال أشعيا الثاني.
"ما جاء عليّ يجب أن يتمّ". أي، كل ما يعنيني. ما علاقة هذه العبارة بسابقتها؟ إن "اخاين تالوس" (كان له نهاية) يُفهم بأشكال عديدة. (1) هو في نهاية. مع "باري امو" (عليّ) وحياة يسوع على الأرض، تعني هذه العبارة: عملي على الأرض صار إلى النهاية، أي سينتهي في المعنى الرمزي. (2) كان له ملئه، كماله. أي: كل ما أنبئ به في مخطط الله قد تمّ، قد تحقّق. (3) وصل الآن إلى هدفه، إلى غايته. فُهم "تالوس" ما رمت إليه حياة يسوع ورسالته. يبدو أن المعنى الثاني هو الأقرب بالنسبة إلى "تا باري" رج 24: 19، 27؛ أع 1: 3؛ 8: 12؛ 18: 25؛ 19: 8؛ 23: 11، 15؛ 24: 10؛ 28: 7، 15، 23، 31.
ثالثاً: ها هنا سيفان (آ 38)
"أنظر... ها هنا". لا سيف واحد، بل سيفان. هكذا فهم الرسل كلام يسوع في آ 36. هم معه ليقاتلوا ويدافعوا عنه! أضاعوا النقطة التي كان يتحدّث عنها، وسيكون واحد منهم مسلّحاً في آ 49- 50.
كانت محاولات منذ يوحنا فما الذهب (العظة 84 في متّى) بأن يترجم "ماخيرا" بشيء غير "السيف". مثلا، سكين اللحام الذي يُستعمل من أجل حمل الفصح. لا شكّ في أننا إذا عدنا إلى لغة هوميروس (القرن 10 ق. م.) نجد هذا المعنى. ولكن بعد هيرودوتس، صارت اللفظة تدلّ على السيف بشكل عام. وهكذا استعملت مرات عديدة في السبعينية اليونانية.
حاول بعضهم أن يفسرّ إساءة فهم التلاميذ لكلام يسوع حوله السيف بالعودة إلى الارامية. في هذه اللغة تعني لفظة "سيف" النهاية، الهدف (تالوس) أو السيف. ولكنه لا يشير إلا إلى نصوص الرابانيين والتراجيم. الكلمة التي تعني الهدف هي "سيافه" التي لا يمكن أن تصبح "سيفاً" وهكذا لا نستطيع أن نستخلص أي شيء من لغة الأم عند يسوع، اللغة الأرامية.
"يا ربّ". على ضوء القيامة، اتخذت هذه اللفظة "كيري" معنى عميقاً على أنها تقابل "يهوه"، اسم الله في العهد القديم. أجاب يسوع: "كفى". لقد أساء الرسل فهم بُعد كلمات يسوع. فرفض أن يقدّم شرحاً آخر. لقد تحقق أنه يواجه مصيره وحده. لقد قال ما اعتبره ضرورياً لكي ينبّههم إلى الضيق الذي بدأ منذ الآن.
لقد فُهمت كلمات يسوع هذه بطرق متعدّدة. إما بطريقة حرفية: عنى يسوع حقاً سيفين. إنهما يكفيان من أجل "القتال" المقبل. وإما بطريقة أخرى. قال كيرلس الاسكندراني في تفسيره للوقا: أهذا كل ما لديكم؟ لهجة يسوع لهجة مداعبة. غير أن المداعبة لا تعني عدد السيوف، بل عقليّة الرسل الذين لم يفهموا بعد طريق يسوع. إنه لا يحتاج إلى سيوف من أجل الدفاع عن نفسه.
3- قراءة أدبية ولاهوتية
سمّي هذا المقطع مراراً "السيفان". ولكن هذا العنوان لا يوافق النصّ كل الموافقة. هناك من اقترح: "في ذلك الوقت والآن". ولكن ظلّ العنوان غامضاً. لذا تحدّثتا عن "الاستعداد للمحنة". على كل حال، يدلّ هذا المقطع على الطابع المبعثر لخطبة يسوع بعد العشاء الأخير في لوقا.
إن هذا القسم من الخطبة لا يجد ما يقابله في أي إنجيل آخر. قد يعود إلى اللوقاويات (تقليد خاص بلوقا). أو قد يكون لوقا دوّنه منطلقاً من أخبار وصلت إليه، ومهيّئاً الطريق أمام استعماله السيف قي مر 22: 49- 50. كان يسوع يكلّم رسله وهم بعد معه إلى المائدة (آ 35). قد نكون أمام تلميح إلى توصيات إلى الرسل (9: 3) وبالاحرى إلى التلاميذ السبعين (10: 4). غير أن هذه الآيات لم تصل إلى لوقا في الشكل الذي نعرفه. فقد دوّنها هو بطريقته مستعملاً ألفاظاً خاصة به: "اتر" (بلا، بدون، آ 35). "غاغرامنون"! يتوب رج آ 37). "داي" (يجب، ينبغي). "تالستاي إن اموي": تجد معناها الأخير فيّ (آ 37).
كيف يبدو الفن الأدبي لهذه الآيات؟ الأساس هو حوار بين يسوع ورسله. قد تُفهم آ 36- 37 كقول تلفّظ به يسوع مع آ 38 د التي تشكّل مرمى هذه "الخطبة". إذن، نعتبر هذه الآيات أقوالا متفرّقة ليسوع قد جمعها لوقا من التقليد وأعطاها شكلها النهائي. الاقول في آ 36 هو تحريض في قسم منه، وتحذير في القسم الآخر (هل احتجتم إلى شيء؟ الجواب: كلا. إذن...). والقول في آ 37 هو قول نبوي، هو نظرة إلى الوضع الصعب على ضوء كلمة الله. وآ 38 هي تفسير "ساخر" يقطع الطريق أمام كل جدال لاحق.
إن سؤال يسوع في آ 35، يفترض أنه عودة إلى توجيهات أعطاها للاثني عشر حين أرسلهم (9: 1- 6؛ رج 6: 13 ج د). غير أن الألفاظ "مال، كيس، حذاء"، موجودة في توجيهات يسوع إلى التلاميذ السبعين (10: 1- 12). إن لوقا لا يحاول أن يجد حلاً لهذا "التعارض" البسيط. فسواء كنا أمام ارسال الرسل أو التلاميذ، ها قد جاء الوقت لكي "يصحّح" يسوع تعليماته بسبب الأزمة الآتية.
وعبارة "أما الآن" التي تبدأ آ 36، تبرز الوضع الذي سيواجهه الرسل والذي يجب أن يستعدّوا له. فالمعارضة ضد يسوع بدأت تتقوّى في لو 6: 11؛ 11: 53- 54؛ 20: 19؛ 22: 2. ها قد وصلت إلى القمّة، لهذا اقتضى تنبيه الرسل، فعليهم أن يأخذوا حذرهم، أن ينتبهوا لنفوسهم، لأنهم جزء من هذه الأزمة. أشار يسوع إلى ثلاثة أشياء أوصى تلاميذه بأن لا يحملوها معهم. وها هو الآن يعود إلى هذه الأشياء عينها (مال، كشف، حذاء) فيعلّمهم بطريقة احتفالية أن عليهم أن يأخذوها معهم. فمع أن واجب الرسل ما زال يفرض عليهم بأن يعلنوا الملكوت، فهم الآن مدعوون ليروا المقاومة التي واجهها يسوع خلال رسالته. أما سبب هذا "التعليم" الجديد، فهو معرفته بأن ما كتب عنه سوف يتمّ. ستكون المقاومة إلى درجة يحسبونه عاصياً، مجرماً، بلا شريعة.
إن يسوع في إنجيل لوقا يعبرّ عن ذاته في دور عبد يهوه الذي كتب عنه النبي: "أفاض (بذل) للموت نفسه، وأحصي مع العصاة، وهو الذي شفع فيهم وحمل خطايا كثيرين" (أش 53: 12). تفرّد لوقا بذكر هذه النبوءة دالاً على إرادة يسوع. ما قاله أشعيا الثاني عن عبد الله في العهد القديم قد وجد الآن معنى جديداً في الأزمة التي يواجهها يسوع. لقد استعمل لوقا القول النبوي بشكل نمطي كإنباء يجد تحقّقه في آلام يسوع وموته.
يرى بعض الشّراح أن الأزمة التي هي في الأفق تنحصر في آلام يسوع. لا شكّ في أن هذا جزء من الرجوع المباشر إلى "أما الآن". ولكننا لا نستطيع في مؤلف لوقا أن نتوقّفط عند هذا الحدّ. فما يحدث لحامل الإنجيل في الاحداث التالية من الخبر اللوقاوي (لو) هو رمز إلى خبرة سيعيشها شهود الكلمة في الجزء الثاني من مؤلّفه، في سفر الأعمال.
وينتهي الحدث بإشارة إلى عدم فهم لدى الرسل. بما أن يسوع ادخل في آ 36 مسألة جديدة تدعو الرسل لكي يحملوا معهم سيفاً، فقد فهموا كلامه بشكل حريا وقالوا له: "يا ربّ، ههنا سيفان" (آ 38). وجاء كلام يسوع على سبيل المداعبة التي هي شبه ساخرة. "يكفي". لا حاجة إلى الكلام. لم يفهموا شيئاً بعد كل هذه الطريق التي سار عليها معهم. تألمّ هنا كما سبق له أن تألمّ حين بكى على أورشليم التي أراد أن يجمع بنيها كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فما أرادت (13: 34؛ مت 23: 37- 39).
خاتمة
ما نجده في الخطبة اللوقاوية هو قريب جداً من خطبة يسوع بعد العشاء السّري في يو 13-17. فيسوع هو "الطريق إلى الآب" (يو 14: 16). هو يصلي إلى الآب لكي يُعطي الروح (يو 14: 15)، هذا الروح الذي يشهد وسط بغض العالم (يو 15: 18- 21). يشهد عبر شهادة المرسلين (يو 15: 26- 27)، ورغم ضعفهم وتخاذلهم (يو 16: 32- 33). فصلاة يسوع لا تزال فاعلة عبر الأجيال وهي خميرة الوحدة بين تلاميذ يسوع، وهي وحدة على مثال تلك التي بين الآب والإبن (يو 17: 9- 11، 20- 23).