خاتمة عامّة
تلك كانت مسيرتنا في قراءة رسالة القدّيس بولس إلى رومة. جاء كلامنا في ست محطّات. في الأولى، توجّه الرسول إلى رومة مبرزاً الموضوع الرئيسيّ: البار بالإيمان يحيا لا بأعمال الشريعة. وجاءت المحطة الثانية تُبرز خطيئة الوثنيّين. وخطيئة اليهود أيضاً. أولئك لم يعرفوا الله ولم يريدوا أن يعبدوه، فعبدوا نفوسهم من خلال الصُوَر والتماثيل، وانحطّت أخلاقهم. واليهود عرفوا الوصايا، ولكنهم لم يمارسوها، فاستندوا إلى بعض أعمال الشريعة وحكموا على الوثنيّين. ولكن لا فضل لأحد. فجميعهم يدينهم الله. وبما أنهم جميعهم خاطئون، فجميعهم يحتاجون خلاصاً ينالونه بالإيمان. هذا ما كان عليه ابراهيم النموذج الأول للمؤمن، اليهوديّ والأمميّ. وفي نهاية هذه المرحلة الثالثة ربط بولس البشريّة بآدم في الخطيئة، ليربطها بالمسيح في النعمة.
في مرحلة رابعة، قرأ الرسول عمل الانجيل في الأفراد: ماتوا عن الخطيئة لكي يحيوا لله. تحرّروا من الشريعة التي كشفت الخطيئة وما أعطت المؤمن القوّة لكي يتغلّب على الشر الذي فيه. لهذا كان صراع داخليّ بين ما يريده الانسان من عمل الروح فيه، وما يعمله الانسان الذي ما زالت رغبتُه تدفعه لأن يفعل ما لا يريد. ولكن في النهاية، تنتصر محبّة الله فينا وتمجّدنا، لا نحن المؤمنين وحسب، بل البشريّة والخليقة كلها. وفي المحطة الخامسة، توقّف بولس عند وضع الشعب اليهوديّ: اختاره الله اختيار النعمة، فحسب أنه اختيار الأعمال من ختان وغيره. كان اختياره نموذجاً لكل اختيار، فحصر هذا الاختيار فيه، وطرد منه جميع الذين لا يتبعون ممارساته وعاداته. فرفض الرسول براً يناله المؤمن بالشريعة، وتحدّث عن برّ الإيمان الذي يقدّم لجميع البشر، من يهود وأمم. وقدّمت المحطة الأخيرة الحياةَ الجديدة التي تحياها الكنيسة في علاقتها مع الذين في الخارج، وفي ارتباط المؤمنين بعضهم ببعض. فالمسيحيون نور. فليحذروا من أن يكونوا ظلمة لإخوتهم كما للعالم الذي يعيشون فيه.
هكذا دخلنا في هذه الرسالة التي بعث بها بولس إلى كنيسة ما أسّسها ولا زارها، ومع ذلك قدّم لها النصائح والتنبيهات. بعث بها ليهيّئ مجيئه إلى عاصمة الامبراطوريّة، إلى عاصمة العالم الوثنيّ الذي كلّف به تكليفاً رسمياً في كنيسة أنطاكية. رسالة هي، في القسم الأكبر، دفاع عن الله الذي اعتبره اليهود قد أخلَّ بعهده وألغى المواعيد التي أعطيت للآباء ابراهيم واسحق ويعقوب. وهي أيضاً دفاع عن بولس وعن نظرته إلى الشريعة والإيمان، إلى شريعة موسى التي وهبها الربّ على جبل سيناء، وعن خلاص أتمّه الله بيسوع المسيح. وهي أخيراً دفاع عن المسيحيّين الآتين من الأمم، وحملُ الانجيل إليهم ينبع من الكتب المقدّسة. فهم ميراث الله، شأنهم شأن اليهود، ولهم المجد مع يسوع المسيح إن شاركوا الربّ في آلامه وموته. كما أنها دفاع عن الأقليّة اليهوديّة بعد أن شكّلت الحلقةَ الضعيفة التي احتقرها «الأقوياء»، أو الأكثريّة الكنسيّة التي تحرّرت من سلطة الشريعة الموسويّة.
الرسالة إلى رومة هي «وصيّة روحيّة» تركها الرسول، فكانت آخر ما دوّن بيده، كما قال عدد من الشرّاح. ليست عرضاً لاهوتياً كاملاً، ولكنها آخر ما وصل إلينا من بولس، ذاك اليهوديّ الذي نعم بوحي إلهيّ، ففتح طريقاً جديداً قاد العهد القديم إلى كماله في المسيح. ودعا جميعَ البشر، من اليهود والأمم، من اليونان والبربر، للدخول في هذا الطريق. رفض اليهود أن يدخلوا فقُطعوا من زيتونة المسيح. والخطر يهدّد الأمم، كما يهدّد كلَّ واحد منّا. فما يُطلب منا هو الإيمان، والاستناد إلى عطايا الله، لا إلى أعمالنا. يُطلب منّا أن نتجاوب مع نداء الله. أن نكون الخليقة التي ترتبط بالخالق فتعرف أن كل شيء نعمة.
ذاك ما قدّمته لنا الرسالة إلى رومة.