الفصل الخامس والأربعون
رغبة بولس في زيارة رومة
15: 22- 33
بعد كل هذه المسيرة، وصل بولس إلى طلبه الخاص، والسبب الذي لأجله كتب إلى المسيحيّين في رومة. هيّأ الأساس بشكل عام في بداية الرسالة، ودلّ على شوقه أن يزورهم ليشاركهم في الهبات الروحيّة وليشجّعهم كما يطلب تشجيعهم. وها هو الآن يوضح ما عنى بكلامه. هو يحتاج إليهم لأنه لن يتوقف في رومة، بل سينطلق إلى اسبانية. أترى ستكون رومة في الغرب، ما كانت انطاكية للرسالة البولسيّة، بعد أن ابتعد المسيحيّون الهلينيّون عن أورشليم؟ أنه رسول الأمم، وما زالت هناك مناطق عديدة تحتاج إلى زيارته. ذاك هو مشروع سفر هام. ويحتاج الرسول أيضاً إلى جماعة رومة لتسانده في جمع التبرّعات إلى قدّيسي أورشليم. فهمّ الجماعة المسيحيّة رافق بولس، فتحدّث عن الفقراء في الكنيسة الأم، في أكثر من رسالة. وأخيراً، يحتاج الرسول إلى صلاة كنيسة رومة وسائر الكنائس، لأنه يحسّ بالخطر يُحدق به من كل جانب، ولا سيّما من الجماعات اليهوديّة التي تلاحقه من مدينة إلى مدينة. لهذا اعتبر بعضهم الرسالة إلى رومة وصيّة بولس قبل أن يمضي إلى سجن بدأ في قيصريّة وانتهى في رومة.
1- دراسة النصّ وبنيته
في آ 22، نقرأ «مراراً» (تا بولا) (السينائي، الاسكندراني، الافرامي). أما برديّة 46 والفاتيكاني والبازي و011، فقرأوا «بولاكيس» كما في 1: 13.
في آ 23، قرأ ألاند «بولون» كثيرين (برديّة 46، السينائي، الاسكندراني) مع «ايكانون» (كثيرين) كما في الفاتيكاني و011. ولكن يجب أن نأخذ: من عدّة (ايكانون) سنين (إتون).
في آ 24، نقرأ: أنا ماضٍ إلى اسبانية... وتتوقّف الجملة. حاول بعضُهم أن يكملها، فاستعانوا بما في آ 29: البركة لأجلكم. وتركت البرديّة 46 والاسكندراني المسبّق «ديا» قبل الفعل «مرّ». ونجد «هيبو»: بكم. ونجد «أبو» (بعيداً عنكم) في برديّة 46 والفاتيكاني والبازي 010، 011.
في آ 29، نقرأ «بملء» (بليروما). أما البازي و010، 011 فيقرأون: بليروفوريا (ملء الثقة). هناك من أضاف «انجيل»، فصارت العبارة ملء انجيل بركة المسيح. أو: بركة انجيل المسيح.
في آ 30، ألغت برديّة 46 والفاتيكاني «الاخوة»، مع أن اللفظ يميّز أسلوب بولس. ونجد المخاطب الجميع في «صلواتكم» (هومون). هذا الضمير غاب من عدد من المخطوطات.
في آ 31، تُذكر «الخدمة» (دياكونيا). في الفاتيكاني والبازي ،010 و011، حلّ محلّها «دوروفوريا» حمل العطيّة. ومحلّ «إيس» (في أورشليم) حلّ «إن». الأداة الأولى تدلّ على الحركة، لا الثانية.
في آ 32، نقرأ «مشيئة الله» (إن شاء الله). السينائي والفاتيكاني والبازي 010، 011جعلوا محل «الله» (تيو) «الربّ» (كيريو ياسو) أو «المسيح يسوع»، أو «يسوع المسيح». ولكن بولس يتحدّث دوماً عن «مشيئة الله» (أف 5: 17). ونقرأ: «أرتاح عندكم». ألغيت العبارة في برديّة 46 والفاتيكاني.
في آ 33، ألغت برديّة 46 «آمين» لأنها أضافت هنا المجدلة التي نقرأها في 16: 25- 27. ولكننا نقرأ اللفظ في السينائي والفاتيكاني والافرامي والبازي...
أما بنية النصّ فقد درسناها مع آ 14- 21.
2- تحليل النصّ الكتابيّ (15: 22- 33)
تبدو آ 22- 33 في ثلاثة مقاطع. في الأول (آ 22- 24)، نتعرّف إلى مشاريع بولس ولا سيّما سفره إلى اسبانية. هو يطلب عون الاخوة في رومة. في الثاني (آ 25- 29)، يحدّثنا الرسول عن ذهابه إلى أورشليم ليحمل تبرّعات الكنائس إلى فقراء الكنيسة الأم. وفي المقطع الثالث (آ 30- 33)، نتعرّف إلى جهاد بولس والخطر المحدق به. لهذا، طلب من المؤمنين أن يجاهدوا معه بالصلاة، لأنهم لا يقدرون أن يجاهدوا معه في عمل الرسالة.
أ- سفر إلى اسبانية (آ 22- 24)
«وهذا ما منعني» (آ 22). ارتبطتْ آ 23 بما في آ 19. ديو (لذلك). السبب الذي منعني من المجيء إلى رومة هو إكمال التبشير بالمسيح، لا اني ما أردت أن أبني على أساس غيري (آ 20) بالدرجة الأولى. «إغكوبتو»، منع. يرد أيضاً ثلاث مرات في الرسائل (غل 5: 7؛ 1 تس 2: 18؛ 1 بط 2: 7.) الفكرة هي هي كما في 1: 13.
«أما الآن ولا مجال» (آ 23). «توبوس» (مكان). رج 12: 19. «كليما» (قطر، منطقة). هذا لا يعني أن بولس أنهى العمل، بل هو وضع الأساس، وترك تلاميذَه يتابعون الرسالة. وقد يكون هناك سبب آخر: أحسّ الرسول بقرب مجيء الربّ، بحيث لم يبقَ وقتٌ فيه يُكرز بالانجيل. «إبيبوتيا»، شوق. لا يرد هذا اللفظ إلاّ هنا. السبب الذي لأجله يرغب في المجيء إلى رومة نقرأه في آ 24. «من سنين عديدة». رج لو 8: 27 (البازي)؛ 23: 8.
«فأنا أسافر إلى اسبانية» (آ 24). جملة غير كاملة كما في 5: 12 ي. ستكمّل في آ 28، بعد معترضة آ 24- 27. «هوس أن». حين، في أقرب وقت. تدلّ على زمن حدثٍ في المستقبل. كأني به يقول: في سفري القريب إلى اسبانية. رج 1 كور 11: 34؛ فل 2: 23. «أنا أرجو». أختار بولسُ كلامه، فتجنّب أن يفرض نفسه. «تياوماي»، رأى، أتى ليرى، زار. رج 2 أخ 22: 6؛ يوسيفوس، العاديات 16: 6؛ مت 22: 11. «بروبامبو». أعان من أجل سفر واحد: تأمين الطعام والمال ورسائل التوصية وتدبير السفر والرفقة في قسم من الطريق. رج 1 مك 12: 4؛ عز 4: 47. في الكنيسة الأولى، دلّ على زاد تؤمّنه الكنيسة لمساندة الرسالة (أع 15: 3؛ 20: 38؛ 21: 5؛ 1 كور 16: 6، 11؛ 2 كور 1: 16؛ تي 3: 13؛ 3 يو 6. قد يكون بولس تمنّى أن يرافقه بعضُ المسيحيين في سفره إلى اسبانية. «أبو ماروس» (لوقت). رج آ 15.
ب- خدمة الاخوة في أورشليم (آ 25- 29)
«ولكني الآن ذاهب» (آ 25). هو معنى المستقبل مع أن الفعل في الحاضر: أنا الآن أسافر. سأسافر عن قريب. «دياكونيو»، خدم، قدّم خدمة. ليس لفظاً خاصاً بالمسيحيّة. يستعمل بولس الفعل أكثر ممّا يستعمل الاسم (دياكونيا، الخدمة). «القديسين». رج 1: 7. هو لقب للمسيحيّين في أورشليم (1 كور 16: 1؛ 2 كور 8: 4؛ 9: 1، 12)، ثم لقب لجميع المسيحيّين. قبل أن يمضي بولس إلى اسبانية، سيحمل التبرّع إلى أورشليم. فهذا أمر يهمّه وقد كرّس له كلّ همّه (آ 25- 26؛ 1 كور 16: 1- 14؛ 2 كور 8- 9)، وقد اعتبره محطّة هامّة بحيث لا يستطيع أن يبدأ المرحلة الثانية دون أن يُتمّ هذا الواجب. وهذا التبرّع هو واجب كنائس الأمم تجاه الذين وصل منهم تيّار بركات تاريخ الخلاص. لم يكن فقط عملَ خدمة متبادلة بين مسيحيّين (فقد وُجد فقراء مسيحيّون في أكثر من كنيسة)، بل محاولة للتعبير عن تواصل تاريخ الخلاص، والترابط المتبادل بين الذين نعموا به. فالوحدة في كنائس الله المشتتة «في المسيح»، لها أهمّيتها في نظر بولس.
«لأن كنائس مكدونية» (آ 26). «اودوكيو»، اختار، فضّل (سي 25: 16؛ 2 مك 14: 35؛ 2 كور 5: 8). سيتكرّر الكلام في آ 27. فبولس يلحّ عليهم أن يتّخذوا قراراً بالمشاركة في التبرّع. هو قرارهم ويأخذونه بحريّة. ذكر الرسول مكدونية وأخائية، وما ذكر غلاطية (1 كور 16: 1) ولا آسية (أع 20: 4). هو يكتب من أخائية. لهذا ذكرها. ومكدونية القريبة من أخائية، تفوّقت على جارتها بالسخاء (2 كور 8: 1- 7؛ 9: 1- 5). «كوينونيا»: فعل به نشارك. جعل منه بولس لفظاً مسيحياً. يرد 19 مرة في العهد الجديد، منها 13 مرة في الرسائل البولسيّة، وأربع مرات في 1 يو 1. هي مقاسمة مشتركة في شيء ما. رج 1 كور 10: 16 والمشاركة في دم المسيح وجسده. 2 كور 13: 13؛ فل 2: 1 والمشاركة في الروح القدس. فل 1: 5 والمشاركة في الانجيل؛ فل 3: 10 والمشاركة في آلام المسيح. فلم 6 والمشاركة في الإيمان. هنا وفي 2 كور 8: 4؛ 9: 13، يتطلّع بولس إلى التبرّع: يجب أن ينظر المهتدون إلى ما يملكون، على أنها مشاركة مع سائر المسيحّين، أو أن المشاركة هي تعبير عن حياتهم المشتركة في المسيح. هي علامة الرفقة، ودلالة على المحبّة الأخويّة.
«للمحتاجين» الذين هم الاخوة القديسون. أو اعتُبرت الجماعةُ المسيحيّة في أورشليم جماعةَ الفقراء. رج مز 69: 32؛ 72: 2؛ مز سل 5: 2، 11؛ 10: 6؛ 15: 1؛ فحب 12: 3، 6، 10؛ نج 11: 9، 13. إن فقر الجماعة المسيحيّة في أورشليم يعود إلى ما فعله أعضاؤها من بيع أملاكهم (أع 2: 44- 45؛ 4: 34- 37). ثم إن أعمال الهيكل توقّفت، فكثر عددُ العاطلين عن العمل.
«هم استحسنوا ذلك» (آ 27). رأوه حسنا. رج آ 26. «أوفايلاتيس» (مدين). رج 1: 14. هو دَين معنويّ، ولكنه قُبل من جهة بولس كجزء من اتفاق. رج 2: 9- 10. طلب بولس من الرومان أن يشاركوا في التبرّع. ولكن آ 25 تقول إنه ذاهب حالاً. إن ضمير الغائب الجمع يدلّ على جميع مؤمني أورشليم: فما نعطيه لفقراء أورشليم، لقدّيسي أورشليم، نعطيه للكنيسة ككلّ. لقد نال الأمم الخيرات الروحيّة (بنفماتيكوس). رج 1: 11؛ 7: 14: كل ما ناله المؤمنون من الروح. «كوينونيو» (شارك). رج 12: 13. «كوينونيا» (مشاركة). رج آ 26. وتأتي المقابلات بين الخيرات الجسديّة (الماديّة) «سركيكا» والخيرات (أو البركات) الروحيّة. وهكذا صار الأمم «كهنة» في خدمة اليهود المؤمنين، كما كانت كنيسة أورشليم خادمة سائر الكنائس. غابت كلُّ حدود وطنيّة، واجتمع مختلفُ الشعوب في ارتباط متبادل على مستوى الإيمان.
«وبعد أن أقوم بهذه المهمّة» (آ 28). «ابيتاليو»، أتمّ، أنهى، أنجز (غل 3: 3؛ فل 1: 6؛ 2 كور 8: 6، 11). أكمل الطقوس، أنهى الليتورجيا (فيلون، الأحلام 1: 214). ولكن مفهوم العبادة قد تحوّل. رج آ 16. «سفراغيزو» (سلّم). هي لغة التجارة مع ختم (سفراغيس) الشاري فيدلّ على أن الشيء يخصّه (2 كور 1: 22؛ أف 1: 13؛ 4: 30؛ يو 6: 27؛ رج يو 1: 32- 34؛ 3: 33- 34). وقد ينقل الختمُ المسؤوليّةَ أو الملكيّة من شخص إلى آخر. كأنّي ببولس يقول: وقّعتُ، ختمتُ، سلّمتُ. فكنيسة أورشليم كانت تشكّ في مصداقيّته. «كربوس» (ثمر). رج 1: 13. هو التبرّع، المعونة. ويتطلّع بولس أيضاً إلى اسبانية.
«وأعلم» (آ 29). «بليرو ». رج 11: 2 (ملء). «اولوغيا» (بركة): نعمة معطاة. رج 12: 14؛ غل 3: 14؛ أف 1: 3؛ عب 6: 7؛ 12: 7؛ 1 بط 3: 9. إن بولس واعٍ للمهمّة التي كلِّف بها. هي بركة من المسيح ويستعملها المسيح.
ج- جهاد وصلاة (آ 30- 33)
«فأناشدكم، أيها الاخوة» (آ 30). «باراكالو» (ناشد). رج 12: 1. هي لغة فيها الكثير من اللياقة، بها يدعو الفئة لكي تتعامل مع الفئة الأخرى. «أدلفوس». رج 1: 13. «ديا» (بواسطة) ربّنا يسوع المسيح. رج 12: 1. ثقة بولس كاملة بخدمته، بما فيها الذهاب إلى أورشليم. هي من عند الربّ. «محبّة الروح». محبّة (12: 9) يدفعها الروح (5: 5). «أن تجاهدوا معي». «سيناغونيزوماي». لا يرد إلاّ هنا في اليونانيّة البيبليّة: «سين»، مع. «أغون» حرب، سعي. هو بولس يطلب العون. نجد الفعل بدون «سين» في 1 كور 9: 25؛ كو 1: 29؛ 1 تم 4: 10؛ 6: 12؛ 2 تم 4: 7. هناك توازٍ تامّ مع كو 4: 12. هذا يعني أن هناك صراعاً قوياً وصل صداه إلى بولس. نلاحظ: معي، من أجلي، تجاهدوا (سين). هي معارضة ممكنة في كنيسة اليهوديّة وأورشليم (آ 31). «صلوات» (بروسوخي). رج 1: 10؛ 12: 12.
«لينقذني» (آ 31). لكي أنجو. «رووماي». رج 7: 24؛ 11: 26. لسنا هنا أمام خلاص اسكاتولوجيّ. بل خلاص من خطر عاديّ يتهدّد الرسول (2 كور 1: 10؛ 2 تس 3: 2؛ 2 تم 3: 11؛ 4: 17- 18). فبولس خائف على حياته. «الخارجين عن الإيمان». هم أكثريّة بني قومه الذين رفضوا المسيح والانجيل (10: 21؛ 11: 30- 31). «ابايتايو»، ما آمن. نجد اللفظ فقط في المجموعة البولسيّة. يقابل «بايتو»، اقتنع، وثق. ذكر بولس اليهوديّة بسبب روحها الوطنيّة الضيّقة. هي ما استطاعت أن تحتمل بولس ولا تعليمه. رج 1 تس 2: 14. اليهود= شعب الله. رج أع 20: 3، 23؛ 21: 11.
«ويجعل خدمتي» (دياكونيا). رج 11: 13؛ 12: 7. أي حمل التبرّع كما في 2 كور 8: 4؛ 9: 1، 12- 13. هي أورشليم التي تقبل خدمة الرسول. هل يعني هذا أن المسيحيّين كانوا الأكثريّة فيها، أم رأى بولس مدلول تاريخ الخلاص في أورشليم الأم؟ في أي حال، حين كتب إلى كورنتوس، لم يكن المسيحيّون فيها الأكثريّة. مسيحيّو أورشليم هم باكورة اليهود الذين يؤمنون، على مثال أول المسيحيين في كورنتوس. ما خافه بولس هو أن لا يُقبل التبرّع، فتنقطع كلُّ علاقة بين كنائس اليهوديّة وكنائس الشتات. فالمقاومة ظاهرة وقد وصلت إلى غلاطية وكورنتوس (2 كور 10: 13) وفيلبي (فل 3: 1 ي. ق أع 21: 20- 21). ثم إن الروح الوطنيّة تقوّت، وهي التي ستقود إلى الثورة على الرومان. رج فل 3: 3، 5 وهذا الافتخار «باللحم»، بالجسد. فكيف تقبل هذه الكنائس، أو هؤلاء اليهود، بتحرّر من الشريعة. فماذا يبقى بعد ذلك. في مثل هذه الحال، هل يقبل اليهود من الأمم الوثنيّة عطيّة يعتبرونها «نجسة»؟ كل هذا يدلّ على خوف بولس. وفي أي حال، هو لم يحمل هذا التبرّع وحده، ليرضي اليهود، وليرضي كنائس شكّت في تجرّده (2 كور 8: 20: أن لا يلومنا أحد).
«فأجيء إليكم مسروراً» (آ 32). هو سيأتي بفرح إن نجا من العصاة اللامؤمنين، وإن قُبِلت عطيّته. «خارا» فرح. هي مهمّة جداً هنا. رج آ 13؛ 14: 17. «مشيئة الله». رج 1: 10. «ارتاح». يرد الفعل فقط في اش 11: 6، في اليونانيّة البيبليّة. هي راحة متبادلة (سين). هو يرتاح وهم يرتاحون. فإن عبر بولس بنجاح «محنة» أورشليم، لن يجد صعوبة تُذكر في رومة. بل هو سوف يرتاح برفقتهم.
«وليكن إله السلام» (آ 33) (ايريني). رج 1: 7؛ 5: 1. هكذا تنتهي رسائل القديس بولس (16: 20؛ 2 كور 13: 11؛ فل 4: 9؛ 1 تس 5: 23؛2 تس 3: 16؛ رج عب 13: 20؛ وص دان 5: 2). ما تحدّث الرسول عن «إله الصبر» (آ 5)، ولا عن «إله الرجاء» (آ 13)، بل عن إله السلام لأنه يستشفّ ما ينتظره في اليهوديّة (آ 31). «مع جميعكم» (1 كور 16: 24؛ 2 كور 13: 13؛ 2 تس 3: 18). «آمين». رج 1: 25. هو تعبير ذات طابع يهوديّ تقليديّ.
3- خلاصة لاهوتيّة
في آ 22 وصل بولس إلى هدفه الخاص من روم، بعد أن قدّم الهدفَ العام، وفيه توجّه إلى اليهود لكي يتخلّوا عن امتيازاتهم الوطنيّة الضيّقة، وإلى الأمم ليعتبروا أنهم نالوا ما نالوا بالإيمان. فإن افتخروا، شابهوا اليهود واستحقّوا أن يُرذلوا، أن يُقطعوا من الزيتونة. إذن، كتب بولس إلى أهل رومة يطلب منهم طلبين.
في آ 23- 24 نتعرّف إلى الطلب الأول. هو ماضٍ إلى اسبانية. أنهى المرحلة الأولى من عمله الرسوليّ بين الأمم (آ 19)، وها هو يواصل. هو يزورهم بعض الوقت، ويرجوهم أن يرافقوه في رحلته الرسوليّة إلى «الغرب». يستضيفونه ثم يقدّمون لهم ما يحتاجه في الطريق، على ما فعلت كنيسة أنطاكية حين أرسلت برنابا وشاول (أع 13: 1 ي). عرف بولس بعض أعضاء الكنيسة في رومة. لهذا وثق بأن طلبه سوف يُلبّى.
في آ 25 نتعرّف إلى الطلب الثاني: يحتاج إلى صلاة جماعة رومة، وهو ماضٍ الآن ليأخذ تبرّع كنائس الشتات إلى الكنيسة الأم. وهذا الواجب يسبق الرسالة إلى اسبانية. في أي حال، تهيّأت كنائسُ أخرى لهذا العمل: مكدونية، أخائية، غلاطية، آسية بعاصمتها أفسس. إلى القديسين، إلى الفقراء، إلى كنيسة أورشليم. لا شكّ في أن أورشليم آخر الأزمنة قد صوّرها اشعيا (45: 14؛ 60: 5- 17؛ 61: 6) وميخا (4: 13) وطوبيا (13: 11) تتسلّم غنى الأمم. غير أن كلّ هذا تحوّل مع بولس. فأورشليم هي الآن أورشليم المسيح، ثم أورشليم السماوية التي هي أمّنا. غير أن الرمز ما زال حاضراً.
في آ 26- 27 شدّد بولس على سخاء كنائس الأمم. هو عمل أخوّة، لا علامة خضوع. هو إقرار بسيادة أورشليم على سائر الكنائس. هي مسؤوليّة معنويّة وعت دَين المسيحيين من الأمم للمسيحيّين اليهود. مهما فهمت أورشليم دور القيادة الذي تقدّم به، ففي نظر بولس هذا التبرّع هو عمل خدمة وحاجة إلى لقاء قسم من شعب الله مع قسم آخر. هي خبرة النعمة الواحدة، ولا مكان للاستحقاق. فالجميع يرتبطون ارتباطاً متبادلاً بجسد المسيح. في هذا الإطار، أهميّةُ أورشليم في تاريخ الخلاص، اجتذبت عدداً من المسيحيّين اليهود الفقراء أو الذين افتقروا بعد أن تركتهم أسَرُهم حين اعتنقوا الإيمان الجديد، فكان من المستحيل على مثل هذه الجماعة أن تسند نفسها على المستوى الاقتصاديّ. لهذا رأى بولس في هذه الحاجة المتواصلة، مناسبة مثاليّة لعيش تاريخ الخلاص بين كنائس الأمم وأورشليم، ووحدة شعب الله الاسكاتولوجيّ، رغم تنوّع فهم اليهود والأمم بالنسبة إلى أورشليم.
في آ 28- 29 يعيد بولس كلامه عن سفر إلى اسبانية بعد أن يقوم بمهمّة حمْل التبرّع إلى أورشليم: إن فيض الخير من اليهود (المسيحي) إلى الأمم، كان على مستوى الروح. ذاك هو الأساس المشترك بين المؤمنين من الأمم واليهوديّ الحقيقيّ (2: 29) والشريعة (7: 14؛ 8: 4). ويفيض الخير الماديّ، حينئذ، من الأمم إلى اليهود. هذا هو مثال عن التبادل في جماعة اسكاتولوجيّة: في حياة حسب الروح بعيدة عن حياة حسب الجسد حيث لا يكون الأمم إلاّ مدينين لليهود. واستعمل بولس لغة العبادة والخدمة في كلامه عن الأمم. ليس اليهود وحدهم «كهنة» يخدمون من أجل الأمم. فالأمم أيضاً يقومون بخدمة كهنوتيّة مماثلة.
ووضح السببُ الذي لأجله شرح موضوع الزيارة إلى أورشليم (آ 30). دعا جماعة رومة «الاخوة». وطلب صلاتهم، والمهمة هي هي تجاه الربّ (10: 9)، وخبرةُ حبّ الله والقريب أعطيَتْ لهم من قبل الروح (5: 5). أيكون بولس ظنّ أن اتصال رومة بأورشليم يؤثّر على مجيئه إلى أورشليم؟ كل ما يطلبه هو صلواتهم. «كل ما يعرفه هو أن الجهاد ينتظره»: تحدّ كبير يواجهه، ولكنه كما يقول: لتكن مشيئة الله.
وبرز الخوف في آ 31 في مجالين. الأول، الجزء الأكبر من اليهود الذين لم يعرفوا بعدُ ما تطلبه طاعة الإيمان، سينظرون إلى بولس وكأنه فتح ثغرة في الحدود الاثنية والعباديّة التقليديّة، فاعتُبر خائناً وضالاً. هذا ما عرفه بولس قبل اهتدائه (10: 2؛ غل 1: 13؛ فل 3: 6). ثم إن تصاعد الروح الوطنيّة والدينيّة في اليهوديّة (ولا سيّما مع الغيورين)، رأى أنه لا بدّ من إزاحة بولس من الطريق (أع 23: 12- 15). لهذا طلب الرسول من جماعة رومة أن تصلّي من أجله لينجو من هذا الخطر. ومجال الخوف الثاني، أن لا يُقبل التبرّع الذي حمله من الكنائس الأمميّة، لدى جماعة مؤلّفة من مسيحيين يهود يقاسمون إخوتهم الروح الوطنيّة الواحدة. فبولس هو الجاحد، الخائن. ومقدّمو التبرّع هم الأمميّون! هم الوثنيّون.
فإن قُبلت تقدمة الأمم (آ 32)، عاد بولس إلى رومة مرتاحاً، مسروراً. من أجل هذا، هو يحتاج إلى صلاة الكنيسة التي يكتب إليها.
وأنهى بولس كلامه (آ 33) بنداء إلى إله السلام. هو يحتاج في هذا الوقت، أكثر من أي وقت مضى، إلى هذا السلام الداخليّ والخارجيّ. فبولس اليهوديّ هو أيضاً رسول الأمم. وهو يرسل بركة الله إلى الجميع، من يهود وأمم. ذاك هو الإيمان الذي حمله هذا الرسول، فضمّ فيه البشريّة كلها، لكي يقدّمها قرباناً مقبولاً أمام الربّ.
الخاتمة
تساءلت جماعة رومة: لماذا تأخّر بولس فما زارها؟ أتراه فضّل كنيسة كورنتوس حيث قضى سنة ونصف سنة؟ بل أراد بولس أن تكون رومة نقطة انطلاق جديدة. الأولى كانت أورشليم ولم تدم طويلاً. والثانية، انطاكية التي وصلت به إلى مناطق ما يسمّى اليوم أوروبا الشرقيّة. وسوف تكون رومة محطّة تصل ببولس إلى اسبانية وربّما أبعد من ذلك. هو زرعَ وزرعَ، فما عاد له أن يعمل في هذه الأقطار التي مرّ فيها. هو غرَسَ. غيره سقى. والله هو الذي ينمي. ولكن قبل رومة هناك عودة إلى بدء، إلى كنيسة أورشليم مع حمل الاعانة إلى المؤمنين فيها. أحسّ الرسول بصعوبة كبيرة، ولهذا طلب من هؤلاء الذين دعاهم «قدّيسين» أن يرافقوه بصلواتهم لتُقبل تقدمته. وأن يرافقوه بمساعيهم، وهو العارف بما ينتظره من معارضات. كل هذا يجعلنا نتذكّر نهاية سفر الأعمال وما سوف يصيب بولس سجين المسيح فنفهم بعض حسّه الداخليّ: أعرف ما ينتظرني هناك، ولكني مستعدّ لا للقيود وحدها، بل للموت في أورشليم من أجل الربّ يسوع (أع 21: 13).