الفصل التاسع والثلاثون
الواجب نحو السلطة
13: 1- 7
كان الشعب اليهوديّ وارث ابراهيم واسحق ويعقوب، لهذا وجب عليه أن يحدّد علاقته بالدولة، بالسلطة. لهذا كان مثالُهم دولة مع ديانة وطنيّة مع شريعة تشرف على العلاقات السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة. وحين يستحيل تحقيق هذا المثال، يبقى من الممكن العيش داخل العهد مع المحافظة على هويّة عرقيّة تميّزهم. هم يمتلكون امتيازات خاصة تتيح لهم أن يعيشوا عادات الآباء بما فيها ارسال المال كل سنة إلى أورشليم. وعندما تكون الجماعة كبيرة، كما في الاسكندريّة، تُصبح مثل دولة في الدولة مع سلطات إداريّة وقانونيّة. والغاية الرئيسيّة في الشتات، تأمين حريّة الحياة حسب الشريعة، وحدود لهم تفصلهم مراراً عن محيطهم. غير أن تحديد بولس لشعب الله، لا يتيح للمؤمنين أن يطلبوا امتيازات سياسيّة تُعطى للأقلّيات الاثنية. لهذا رسم حدوداً جديدة لشعب الله، لا تقف عند العرق، ولا عند الوضع السياسيّ، لئلاّ تتعرّض الكنيسة للخطر. كل ما يعرفه المؤمنون أنهم خاضعون لسلطة الامبراطور، شأنهم شأن كل فرد في هذه الأرض الواسعة. وأن عليهم من الواجبات ما على سائر المواطنين. ولهم من الحقوق ما لسواهم. وأسّس بولس كلَّ هذا على مبدأ يقول إن كل سلطة ترجع إلى الله، مفترضاً هذه السلطة شرعيّة، وعاملة من أجل الخير.
1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 1، «كل انسان». كل نفس (باسا بسيخي). في بردية 46 ومخطوطات غربيّة: نقرأ «باسايس» فترتبط الأداة «كل» بأصحاب السلطة. فيقال: كل السلطات، لا كل انسان.
في آ 4، «غضبه». غاب من البازي و010، و011، لأن النسّاخ تردّدوا في نسبة الغضب الالهي إلى انسان ولو كان ملكاً.
في آ 5، «لا بدّ»، من الضروريّ (أنانخي). هذا اللفظ يدلّ على القدر في الفكر اليونانيّ. لهذا أحلّت برديّة 46 والبازي و010، و011 محلّ هذا اللفظ، «هيبوتاساستي» (خضوع).
ب- بنية النصّ
انتقل بولس من صيغة المخاطب الجمع إلى الغائب المفرد (ليخضع، هو). ومع ذلك، تبقى آ 1- 7 امتداداً لارشاد سابق، بحيث لا نعتبره كلاماً مستقلاً وجسماً غريباً في النصّ البولسيّ، كما لا نعتبره نصاً بولسياً أدخِل في الرسالة. فتأثير عالم الحكمة ما زال ظاهراً مع مقولات أساسيّة، رافقتنا من قبل: الخير والشرّ (12: 21؛ 13: 3- 4). الغضب (12: 19؛ 13: 4- 5). الانتقام والسخط (12: 19؛ 13: 4). كل انسان، كل (12: 17- 18؛ 13: 7). الجزية (13: 7- 8). ونلاحظ تقابل المواضيع بين 2: 7- 11 و13: 3- 4.
عمل الخير/ الخير 2: 7، 10؛ 13: 3، 4
الاكرام/ المديح 2: 7، 10؛ 13: 3
الشرّ 2: 9؛ 13: 3- 4
الغضب 2: 5، 8؛ 13: 4
الحكم 12: 3؛ 13: 2
الضمير 2: 15؛ 13: 5.
إن موضوع الجواب المريح والسلطة الشرعيّة، الذي يربط 12: 4- 21 مع 13: 1- 7، ويوجِّهنا كيف نواجه المعارضة والعداوة، يقود إلى نظرة حول الواقع السياسيّ الذي يجب أن يعيش فيه المسيحيّون في رومة. مع أن تبدّل هويّة شعب الله (ما عادوا يهوداً يتماهون مع مقولات إثنيّة) هو جزء من المسألة، إلاّ أن بولس عاد هنا إلى ما تقوله الحكمة السياسيّة في اسرائيل، فعرض الضيق والتشتّت (حك 6: 3- 4) ليقدّم سياسة الهدوء. عرف الرسول الحاجة إلى العمل داخل واقع عصره، من استعمال اللغة اليونانيّة ومقولات الادارة الهلنستيّة. فالتوازي مع 1 بط 2: 13- 17 مثلاً، يدلّ على أن الفطنة هي التي سيطرت على أولى الجماعات المسيحيّة. هذا واضح من استعمال كلمات: السلطات (آ 1- 3). خضع (آ 1، 2، 5). الخير والشر (آ 3- 4). الخوف، خاف (آ 3، 4، 7)، الغضب (آ 4- 5). إن استعمال مثل هذه اللغة يُفهِم المسيحيّ أنه ينتمي إلى مجتمع واسع، وأنه لا يقلب نظام المجتمع. وصفةُ نصيحة بولس العمليّة، هي أن بولس لا يتكلّم عن الدولة كدولة، بل عن السلطة السياسيّة والمدنيّة التي يعيشها قرّاؤه. فكلامه عن نصيحة خاصّة حول دفع الجزية، يعكس معرفة ج بأمور رومة (آ 6- 7)، وبروز فئات من الخِدم، المدنيّة والعباديّة، يعكس الحدود التي سبّبتها إعادةُ تحديد شعب الله، بتحوّله من عالم العبادة (12: 1) وانحصاره في فئة عرقيّة.
2- تحليل النصّ الكتابيّ (13: 1- 7)
يرد هذا المقطع في قسمين. يحدّد الأول الواجب المطلوب من المؤمنين: اخضعوا لأصحاب السلطة (آ 1- 4). والقسم الثاني (آ 5- 7) يوضح السبب الذي يدفع المؤمن، الذي هو من مدينة أخرى، أن يخضع للسلطة: هي من الله. هي تخدم الله. هي تعمل لخير الجماعة.
أ- الخضوع الواجب (آ 1- 4)
«على كل انسان» (آ 1). هي انتقالة مفاجئة بدون أداة عطف، مع تحوّل إلى صيغة الغائب المفرد. هذا لا يعني أن هذه القطعة كانت مستقلّة ودخلت في النصّ. بل إن بنية ف 12- 15 تدلّ على أن النصيحة المعطاة هنا هي في قلب خطاب بولس: تبدّلت حدودُ شعب الله، لهذا احتجنا إلى بعض الاعتبارات. والسياق السياسيّ لكنيسة رومة طلب تعليمات توجيهيّة في هذا المجال. «كل انسان». حرفيا: كل نفس (ك ل. ن ف ش). النفس هي، في مركز الحياة الأرضيّة، القسم الأدنى في الانسان بالنسبة إلى الروح (تلك نظرة فيلون). النفس هنا هي الانسان. رج 2: 9. نصيحة تصل إلى الجميع، وإن توجّهت أولاً إلى المسيحيّين: في حقبة آدم، الدول والملوك هي جزء من الجسم الاجتماعيّ في البشريّة، وهي بالتالي تحكم (مر 10: 42- 44 يعطي صورة معارضة). بما أن المؤمنين ينتمون إلى هذه الحقبة (ف 6- 8)، عليهم أن يعيشوا في تركيبتها السياسيّة، كما يجب على الأفراد أن يعيشوا حياة الروح وهم بعدُ في جسد الموت (7: 24- 8 : 10).
«إكسوسيا». السلطة الرسميّة، الحكّام (لو 7: 8؛ 19: 17؛ 20: 20). ثمّ أصحاب السلطة الذين هم في السلطة. رج حك 6: 5؛ 2 مك 3: 11؛ فيلون، الزراعة 121. يبدو أن هناك لغّة مسيحيّة بالنسبة إلى السلطة. رج 1 بط 2: 13 (إخضعوا، إكراماً للربّ، لكل سلطة بشريّة 1؛ 1 تم 2: 2 (نصلّي من أجل الملوك وأصحاب السلطة). «هيبوتاسو» (هيبو: تحت، تاسو: مكانو ترتيب). هو شخص خاضع. هي سلطة الزوج (أف 5: 22؛ تي 2: 5؛ 1 بط 3: 1، 5). سلطة الوالدين (لو 2: 51). سلطة السيّد (تي 2: 9؛ 1 بط 2: 18). السلطة المدنيّة (1 أخ 29: 24؛ تي 3: 1). أما الخضوع للسلطة، فلا يظهر قبل الآباء الرسوليّين (في 1 كور 16: 16 هي سلطة مواهبيّة. بيت استفاناس. في 1 بط 5: 5، احترام العمر)، «فلا سلطة». رج أم 8: 15- 16 (بي الملوك يحكمون)؛ حك 6: 3 (أعطي سلطانكم من قبل الربّ)؛ سي 10: 4؛ 17: 17؛ يوسيفوس، الحرب 2: 140. نشير هنا إلى أن اليهود كانوا يقدّمون الذبائح والصلوات عن الحاكم فيدلّون على ولائهم. الله هو الذي أقام السلطة. إذن جعل لها حدوداً وترتيباً (مت 8: 9= لو 7: 8؛ أع 15: 2؛ 22: 10). تُقاس بحسب هذا الخضوع لله. فمن تعدّى على سلطة أعطيتْ له من قِبَل الله، أو من دعا إلى خضوع يتجاوز الخضوع لله، سيكون تحت دينونة الله.
«فمن قاوم» (آ 2). هناك مقاومة (انتيتَسوماي). رج 1 مل 11: 34؛ هو 1: 6؛ يع 5: 6. هو يقابل تقريباً «انتيستيمي»: وقف في وجهه، قاومه وإن يكن قوياً. رج لا 26: 37؛ تث 7: 24؛ 9: 2؛ 11: 25؛ يش 1: 5؛ 7: 13. نحن أمام بنية مجتمع لا تتبدّل، بحيث تبدو المقاومة كأنها ضد الله (عز 4: 11؛ أع 7: 53). «والذي يقاوم». هو كلام على الفوضى والفلتان. «كريما» (الحكم، العقاب). رج 2: 2؛ 3: 8؛ 11: 33، حرفيا: «تلقّى دينونة» (مر 12: 40 وز؛ يع 3: 1). أي، حُكِم عليه. رج أي 9: 19؛ حك 12: 12. ينظر بولس إلى حكم الله الذي يعمل عبر الأحكام البشريّة في المجتمع.
«ولا يخاف الحكام» (آ 3). تبدأ الآية مع «غار» (لأن). هي صياغة جديدة لمعنى مجتمع يرتّبه الله. «فوبوس». الخوف. ما يسبّب الخوف. وهذا أمر مرغوب من أجل النظام في المجتمع، بحيث يريده الناس ذوو الإرادة الصالحة. «أتريد». عاد بولس إلى أسلوب الجدال، مع المخاطب المفرد. هكذا يلفت الانتباه. ويمكن أن نقرأ العبارة: إن شئتَ أن لا تخاف. «إعمل الخير». ذاك هو رأي الناس في شكل عام: من يعمل الخير يُرضى عنه. رج 1 بط 2: 14.
«فهي في خدمة الله» (آ 4). دياكونوس. هو الموظّف. رج أس 1: 10؛ 2: 2؛ 6: 3. هكذا يُبعد بولس القدسيّة عن فكرة الخدمة الالهيّة (1: 9؛ 12: 1؛ 15: 16)، ويُعطي فكرة واسعة عمّا تتضمّنه خدمةٌ مقبولة لدى الله (12: 7). حطّم الحاجز بين العباديّ واليوميّ، بين «المختار» والأمم، وأعلن أن مثل هؤلاء الموظّفين هم «خدّام الله». رج اش 45: 1؛ إر 25: 9؛ حك 6: 4. «الشرّ» (كاكوس). هو كل ما يكون ضدّ الخير العام. «فوريو» (رج فارو): حمل، مع التشديد على عمل عاديّ، عمل يتكرّر. «إيكي»: بلا سبب، باطلاً، بدون هدف، لئلاّ يستعمله. «في خدمة الله». نقرأ «إكديكوس» (منتقم). رج الفعل «إكديكازو». قرّر ملاحقة قانونيّة، انتقم. رج حك 12: 12؛ سي 30: 6؛ يوسيفوس، 5: 377؛ ق 1 تس 4: 6.
ب- الدافع لهذا الخضوع (آ 5- 7)
«لذلك لا بدْ من الخضوع» (آ 5)، «أنانكي» مع المصدر: لا بدّ من الخضوع. كما في مت 18: 7؛ عب 9: 16، 23. هو أمر ضروريّ، مصيريّ. لهذا بدأت العبارة مع «ديو»: لذلك. «ليس فقط». «غضب» (أورغي). رج 1: 18؛ 13: 4. «سينايديسيس» (الضمير). رج 2: 15. فالشخص المسؤول أخلاقياً والمواطن الصالح، يُقرّان بالحاجة إلى سلطة في المجتمع، كأمر إلهيّ. ومقاومة هذه السلطة التي أوصى بها الله، تحرّك الضمير. وهكذا نبتعد عادة عن العصيان المدنيّ. هذا ليس شيئاً خاصاً بالمسيحيّة، بل يمكن أن يتوجّه إلى كل انسان.
«ولهذا أنتم تدفعون» (آ 6). هذه هي قمّة الجدال، لا مثال نعمل به. هذا لا يعني فقط أن دفع الجزية يدلّ على قوّة الدولة. ولا أن الضرائب هي ينبوع جور (فيلون، الشرائع الخاصة 2: 92- 95؛ 3: 159- 163؛ يوسيفوس، العاديات 16: 45، 160- 161؛ مر 2: 15- 16 وز؛ مت 11: 19= لو 7: 34؛ مت 18: 17؛ 21: 31- 32؛ لو 18: 11؛ 19: 7). نتذكّر هنا حوليّات تاقيتوس (13)، والشكاوى على الذين يأخذون الضرائب غير المباشرة. نوعان من ضرائب: فوروس: على الأشخاص (ضريبة الرأس). يُعفى منها المواطن الرومانيّ. تالوس (آ 7): ضريبة على الدخل أو على الأملاك. دفعُ الضريبة أمرٌ لا مهرب منه بالنسبة إلى أعضاء الجماعة.
«فأصحاب السلطة». «لايتورغيا» (من هنا جاء لفظ ليتورجيا). في السبعينيّة: خدمة عباديّة. أما هنا، فالكلام عن الموظّفين والخدمة العامة في الجسم السياسيّ من أجل خير الجماعة. هم ملتزمون بواجبهم. يتطلّع بولس هنا إلى مثال الخدمة العامة، كدعوة أكثر منها وظيفة.
«فأعطوا كلّ واحد» (آ 7). «أوفايلي» الحقّ. رج مت 18: 31؛ 1 كور 7: 3. الإقرار بدفع حقّ أو واجب. أو: موقف من هو أدنى تجاه من هو أرفع. موقف الأقليّة التي قد تتّهمها السلطة الحاكمة. «فوبوس»: الخوف. هناك فرق بين الخوف والاكرام (1 بط 2: 17). فالخوف يمكن أن تكون له نتيجة حسنة. لذلك يُحمل السيف ليمنع الشرّ. نجد هنا تلميحاً إلى قول يسوع: أعطوا ما لقيصر لقيصر (مر 12: 17 وز). مثلُ هذا القول دخل في الارشاد المسيحيّ.
3- خلاصة لاهوتيّة
داخل البنية السياسيّة في الدولة الرومانيّة (آ 1)، كانت المسؤوليّات والقوّة الحاكمة واضحة. وكان يمارس هذا قلّةٌ قليلة بحقّ الولادة أو العلاقات أو الغنى أو التقدّم الذي لا يقف في وجهه عائق. أما الآخرون، أي الأكثريّة الساحقة، فلا قوّة سياسيّة لها ولا أمل واقعياً بالحصول عليها. ما كان على قرّاء بولس أن يغيّروا بُنى المجتمع، بل أن يَدخلوا في هذه البنى الموجودة. ويتكيّفوا معها، ويسعوا إلى الإفادة من حقوق تؤمّنها السلطة الحاكمة، على مثال ما فعل يوليوس قيصر بالنسبة إلى اليهود حين عفاهم مثلاً من الخدمة العسكريّة احتراماً للسبت والشرائع الطعاميّة.
أمّا الأساس العقليّ لهذا الإرشاد فواضح: السلطة السياسيّة هي من الله. لا يقدّم بولس هنا مبدأ جديداً، بل يستعيد ما قالته أسفار الحكمة في البيبليا. نقرأ مثلاً في دا 4: 32: «وجميع سكّان الأرض كلا شيء يُحسبون أمامه، وهو يتصرّف كيف يشاء... ولا أحد يعارضه ويقول له، ماذا صنعت». مثلُ هذا القول حمل معنى خاصاً لليهود الذي انطلقوا في الشتات، كغرباء عائشين تحت سلطة أجنبيّة تستعبدهم وتأخذ لهم أملاكهم. أن يقدروا أن يُعلنوا إن الله واحد، أن إلههم واحد، وهو إله الأمم أيضاً، يعني في منطق ذاك الزمان أن كل سلطة تأتي من الاله الواحد، إلههم.
في آ 2- 5. منطقُ القول الأساسيّ في الحكمة اليهوديّة يدعو إلى لاهوت نظام الدولة والحكم الصالح. فالمبدأ بسيط: التوزان في الطبيعة، والنظام في المجتمع، يرتبطان بالطبيعة. وبالفعل، فالمجتمع يحتاج إلى إكراه ليؤمّن «الخير». ومن أولى واجبات الحاكم، تدبير هذه الاكراهات للنصح بالخير ومعاقبة الشرّ. في ممارسة السلطة السياسيّة، الحكّام هم خدّام الله (حك 6: 4). قوّتهم ليست منهم. هي تأتي من الله. فمن قاومهم في مسؤوليّتهم التي أعطاهم الله، قاوم الله واستحقّ دينونته وغضبه (آ 4- 5). لهذا، فالخضوع للسلطة السياسيّة لا يكون الدافع له الخوف من العقاب، بل الضمير الصالح. مثلُ هذا النظام هو جزء من مخطّط الله. فحين نشارك فيه ونخضع لما يُعمل فيه، نُقرّ بأننا خليقة تجاه الخالق.
واللافت في آ 6- 7 هو أن الجدال وصل إلى النهاية مع موضوع دفع الضريبة والجزية. لسنا هنا أمام برهان آخر جاء عرضياً، وإلاّ لكان أدخل بولس هذه التعليمة في إحدى رسائله الأخرى. فقرّاؤه في رومة عرفوا السبب الذي لأجله كتب الرسولُ ما كتب: ضرائب غير مباشرة، ثقيلة. عدم راحة في العاصمة. وصلت إلى بولس أخبارٌ عن وضع المسيحيّين واليهود على السواء، لأنهم أقليّة وسط أكثريّة وثنيّة. ومع ذلك، طلب بولس من المؤمنين أن يقوموا بواجباتهم بأمانة.
ما تردّد بولس في ربط سياسة الفطنة السياسيّة بكلام لاهوتيّ ثابت. فهذه السلطات التي تفرض الضرائب هم «خدّام الله» (آ 6). ويمكن أن ننظر إلى الضرائب على أنها تقابل، في العالم المدنيّ، التقدّمات والذبائح التي نحملها إلى المذبح. داخل وضع يرتبه الله، صارت الضرائب تساوي ما يأخذه الكهنة في شعائر العبادة. وكما في 12: 1- 2، الحدود التي تفصل العبادة عن أعمال الحياة اليوميّة، في مدينة كبيرة، قد زالت. كل هذا يدعونا إلى النظر بعين العطف إلى المسيحيّين في رومة. فالسلطة الحاكمة لا يُطرح عليها سؤال حتّى إن قتلت وسلبت وسجنت. إن بولس يعرف الوضع، ولا يصوّره بشكل مثاليّ. كما لا يعتبر حكّام ذاك الوقت نموذج الحكّام. إلاّ أنه ينطلق ممّا سُمّي «السلام الرومانيّ»، بما في هذا السلام من قوّة اعتباطيّة. فالواقعيّة السياسيّة تبعده مثلاً عمّا قام به «الغيورون» في فلسطين. لهذا نراه يدعو إلى السلام مع الجميع إذا أمكن، ولا سيّما مع السلطة السياسيّة التي ما حملت السيف عبثاً.
الخاتمة
كانت البداية: «على كل انسان أن يخضع لأصحاب السلطة». ذاك هو الموضوع الذي طُرح في هذا المقطع. والسلطة المذكورة هنا تمارَس على أرض البشر! نجد وراء هذه السلطاة المنظورة قوى غير منظورة تُلهمها وتُسندها. لهذا طلب بولس وهو من يعترف بالله القدير، أن يخضع الناس للسلطات التي لا تُوجد إلاّ لأن الله سمح لها بذلك. وكانت نصائح تدهشنا: كل سلطة هي في النهاية من أصل إلهيّ، لهذا يجب أن تحترَم، وأوامرها أن تُطاع. موقف بولس هنا يلتقي مع موقف بطرس الذي يحثّ المسيحيّين على الخضوع لكل سلطة «من أجل الربّ»، لأن مهمّتها تقوم في معاقبة الأشرار والتحريض على ممارسة الخير. غير أنه لا يلتقي مع سفر الرؤيا الذي يرى في السلطة الرومانيّة وحشاً يحطّم الانسان ويجعل نفسه إلهاً. في النهاية، الله هو من نخاف. أما السلطة فنحترمها. وكل هذا يأتي في امتداد كلام الربّ: أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.