القسم الأول: الفصل الثالث: المحاضرة الإفتتاحية

الفصل الثالث
المحاضرة الإفتتاحية
الأب لاسلو صابو

دعانا المجمع الفاتيكاني الثاني إلى أن نحيا إيماننا بصورة متحركة، لا بصورة جامدة. أن نحياه كتاريخ يتضمن تقدّماً حقيقياً، ونضوجاً يهيّئنا لعودة المسيح الإسكاتولوجية. فيذكّرنا الدستور العقائدي في الكنيسة بأن لا نتعامل بشكل متحجّر مع صورة جسد المسيح الكنسيّ. فهذه الصورة تكتمل في صورة شعب الاله خلال مسيرته. وفي هذا المنظار عينه، لا يُعتبر الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد) مجموعةً من التعاليم أو صرحاً بسيطاً من صروح الإيمان. إنه بالأحرى تعبير حيّ عن تاريخ الخلاص ونداء يتوجّه إلى الإنسان في كل عصر. إنّه دعوة تحقّق موقعنا وتُدخلنا في المسيرة التاريخية للتدبير الإلهي.
ويذكّرنا الدستور في الوحي الإلهي: "يعود إلى الأساقفة الموكلين على التعليم الرسولي، أن يُعلّموا المؤمنين الموكلين إلى عنايتهم كيف يستعملون الكتب المقدسة استعمالاً لائقاً وصحيحاً". ويقول الدستور أيضاً: "إن من حق المؤوّلين للكتب المقدسة... أن يعرفوا بشكل عميق معنى الكتاب المقدس. وهكذا ينضج حكم الكنيسة بدراساتهم التي تهيئ هذا النضوج بشكل من الأشكال) (3/ 12). هذا بالحقيقة ما نحاول أن نسعى إليه مع العاملين في الكتاب المقدس، المجتمعين في هذا المؤتمر الذي تنظّمه الرابطة الكتابية.
لا شكّ في أننا لا نكرز بالتأويل في الرسالة البيبلية، بل نُعلن يسوع المسيح. بل إن يسوع يُعلن عن نفسه. "أما كان قبلنا يضطرم في داخلنا حين كان يكلّمنا في الطريق ويفتح لنا الكتب" (لو 32:24)؟ هذا اللقاء الشخصي بالقراءة المباشرة، بالتعليم والتأمل وبالوعظ الليتورجي يبقى شيئاً لا غنى عنه. والتعليم الجديد "تعليم الكنيسة الكاثوليكية" يطلب أن يكون "التقرب من الكتاب المقدس مفتوحاً بصورة واسعة أمام المسيحيين" (3/ 131). إلا أن عصرنا اكتشف اكتشافاً أفضل أن قراءة النص وتأوينه ليسا عملاً سهلاً. لهذا لا بدّ من تنشئة المسيحيين على أساليب القراءة الجديدة، إذا ما أرادوا أن يُدركوا إدراكاً أفضل ما تعلنه نصوص دُوّنت منذ زمن بعيد، وأن يفهموا هذه النصوص بالنظر إلى الزمن الحاضر الذي نعيش فيه.
لا نريد أن نستبق في هذه المحاضرة الإفتتاحية، الأعمال المتنوّعة والمعمّقة التي سيقدّمها زملاؤنا. ولكن أودُّ أن أعرض نقطتين تدفعاننا إلى تفكير لاحق:
الأولى: مقابلة وضع الكتب المقدسة في العقيدة الإسلامية وفي الإيمان المسيحي.
والثانية: تأمّل عملي في تجذّر العهد الجديد في العهد القديم.
أما فيما يتعلّق بالاسلام، فإني أعود إلى اجتماع آخر للرابطة الكتابية، إلى لقاء منسّقي أوروبا والشرق الأوسط، الذي انعقد في مالطة في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1992. فقد عرض المشاركون من الشرق الأوسط طريقة إيصال كلمة الله إلى العالم الإسلامي. وفي هذا المجال أُشير إلى أن معهد الدراسات الإسلامية المسيحية في جامعة القديس يوسف في بيروت، يهيئ بإدارة الأب أغوسطين دوبره لاتور كتابًا في اللغة العربية، يشارك في أعماله مسلمان (أهيف سنو، نائلة فاروقي) ومسيحيان (رولان مينيه، لويس بوزيه). تأسف الأب مينيه لأنه لم يستطع إن يلبِّي دعوتكم. حين قرأت مقدمات هذا العمل الجماعي، وجدت بعض الأنوار المفيدة من أجل بحثنا البيبلي.
إن التقابل مع العالم الإسلامي يُساعدنا على أن نتبين تبيّناً أفضل الوضع الحقيقي لكلمة الله في الكتاب المقدس. فالوحي كما تعرفون، يكمن بالنسبة إلى المسلمين في كتابة "تُملى" أو "تنُزَل" حرفياً على شخص مختار. ويكون الدور الوحيد لهذا الشخص بأن "ينقل" هذا الكلام بأمانة إلى البشر، وذلك دون أن تتدخّل شخصيته أو محيطه الثقافي في شكل من الأشكال. أما بحسب إيماننا، فالوحي يرتبط بعمل الله في التاريخ المعاش. وهكذا ينكشف تعليم الخلاص في سفر الخروج مثلاً، وفي العهد الجديد بصورة سامية بفضل تدخل الله في يسوع المسيح، الكلمة المتجسّد. وتفسَّر الأحداث المؤسِّسة فيما لعد بكلمة ملهَمة يُلقيها شهودٌ عاشوا في التاريخ، وتدوَّن في النهاية بيد الكنيسة في مجموعة الأسفار المقدسة. وبمختصر الكلام نقول: نقل حرفي محض بالنسبة إلى المسلم، تقليد يحمل التفسير بالنسبة إلى المسيحي. نحن نعلم أن التقليد الكنسي يفسّر تعليم يسوع على ضوء حدث الفصح وبإلهام من الروح القدس.
ونستنتج بصورة عملية أن الأصولية الحرفية في بعض الشيع المسيحية التي انتشرت انتشاراً واسعاً في الشرق الأوسط، هي قريبة جداً من العقلية الإسلامية حين تكتفي بقراءة النصوص المقدسة دون الاهتمام باللغة الأصلية، بالسياق والقرائن، بالفنون الأدبية، دون الاهتمام بالمحيط الكنسي الذي دُوّنت فيه هذه النصوص. ونتعرض نحن الكاثوليك لخطر أصولية بيبلية يشير إليها أساقفة فرنسا في نشرة أمانة السر، في عددها السابع عشر (باريس، 1987).
وتودّ مثل هذه الأصولية، أكانت بسيطة أم علميّة، أن تختصر المسافة بين التاريخ المعاش والخبر الملهم الذي يرويه. وهكذا تتجاهل عنصراً رئيسياً تعتبره شراً كبيراً، هو عامل الوقت. فمن الفترة التي تبَعتْ الحدث الفصحي إلى تدوين الإنجيل الأخير، تعرّفت الكنيسة حقاً إلى عمل الروح القدس. فحين يقول المسيح (يو 16: 13) إن الروح يقود التلاميذ، بعد ذهابه، إلى الحقيقة كلها، فقد كرّس بنفسه "الزمن" باسم الروح القدس، على أنه الموضع الخاص الذي فيه ينكشف المضمون العميق للأحداث الماضية. أجل، إن التأويل الحديث يذكّر المسيحيين بالقيمة الإيجابية للزمن: زمن الأحداث المؤسِّسة، زمن الشهود الأولين، زمن التدوين الأخير للأسفار المقدسة. وبقدر ما يتقدَّم البحث التأويلي، نتعرف بصورة أوضح (في التقليد الحي) إلى نشاط الروح القدس. وهكذا تصل إلينا كلمة الله عبر تاريخ حقيقي حيث كل شيء هو من الله وكل شيء هو من الإنسان بشكل لا ينفصل.
وننتقل إلى النقطة الثانية المرتبطة بالوضع الحالي، فنكتفي ببضع كلمات لنشدّد على تجذر العهد الجديد في العهد القديم. لا بدّ من العودة إلى هذا الكلام لأن عدداً من التيارات الإيديولوجية السياسية المنتشرة في الشرق الأوسط تريد أن تجعل الكتاب المقدس كله على هامش المجتمع، أو هي تريد أن تمنع قراءته لألف سبب وسبب: إمّا خوفاً من تأثير صهيوني، وإما رغبة في إبراز الديانات الفينيقيّة (الكنعانية) القديمة. وهناك سوء تفاهم عام على مستوى التعليم: فغالباً ما تنُسب الكتب "السماوية" على التوالي إلى اليهودية والمسيحية والإسلام. وتُقسم بحسب تسميتها إلى "توراة وإنجيل وقرآن". فإذا عنت التوراة العهد القديم بعد أن يفصل عن العهد الجديد، يصل هذا الاستعمال إلى ربط العهد القديم باليهود، ويحدّ من مجال رسالتنا البيبلية. وستستولي الشيع سريعاً على مجال تخلَّينا عنه. ثم إن التعليم الجديد للكنيسة الكاثوليكية يحذّرنا من التجربة المرقيونية التي تهمل العهد القديم (رج عدد 123).
ولكن يكفي أن نفتح الإنجيل لندلّ المؤمنين على أن يسوع نفسه ربط العهدين برباط لا ينفصم. فإذا أردنا أن نُدرك سرّ المسيح، وجب علينا إذن أن نأخذ بعين الاعتبار المنظار النبوي الذي يجعل نفسه فيه. فإن طريقة التعبير عنده تشُير دوماً إلى مجمل تدبير الخلاص. هو لا يُعلن تعليماً منفصلاً عن الزمن (لا زمني)، بل يُتم تاريخاً لا يخرج عن تاريخ العالم ولا يبدو عرضياً بالنسبة إليه. وتجسده يعني دخولاً في الحضارة كبيراً. ولقد ظل المسيحيون الأولون متعلقين تعلقاً عميقاً بالعهد القديم، كما يبين ذلك سفر الأعمال. لقد فهموا بشارة المسيح جواباً على رجاء تاريخي وتتميماً لوعد أُعلن في الزمن.
ففي خبر تلميذَيْ عماوس، الذي لا يمكن أن ننساه، نعرف مرّتين أن يسوع "فتح أذهانهم على الكتب وقال لهم: هذا ما كتب: كان على المسيح أن يتألم ويموت" (لو 25:24- 27، 44- 48). شريعة موسى والأنبياء والمزامير... هذا هو العهد القديم كلّه الذي يستنير بنور القائم من الموت ليفسّر سر الفصح عينه. نحن هنا أمام ملخّص لتاريخ الخلاص كله: لم يفلت أي من الأبرار القدماء من شريعة المحنة المؤلمة (ابراهيم، موسى، داود أو إرميا). ويسوع أيضاً يجمع مصير كل هؤلاء ويأخذه في قلبه فيتجاوب مع كل صرخات الضيق هذه ويمنح الجميع الفداء عبر المحنة.
وبالنسبة إلى الإنجيليين، تجمّعت ذكرياتُ حياة يسوع على الأرض حول كلمات وصور مأخوذة من العهد القديم. وإذ أراد الشهود الملهَمون أن يُفهمونا من هو يسوع، لم يحتاجوا إلى كلام جديد: كفاهم أن يقدّموا لنا استشهادات من العهد القديم. والمسيحي الذي يريد أن يدرك أعماق التعليم لا يستطيع إطلاقاً أن يتجاهل هذا البعد البيبلي في الإنجيل.
وإذا عدنا إلى دستور الوحي الإلهي نجد فيه هذا القول المشهور للقديس أغوسطينوس: "اختفى العهد الجديد في العهد القديم، وانكشف العهد القديم في العهد الجديد" (4/ 16). وهناك تأكيدان في هذا الدستور لا تفصل بينهما إلا بضعةُ سطور: "تحتفظ أسفار العهد القديم بقيمة خالدة" (4/ 14)... "مع أنها تتضمن الناقص والعابر" (4/ 15).
وهذا ما يُبعدنا بشكل جذري عن تجربة الأصولية البيبلية. فإذا أراد المسيحي أن يثبت البُعد الدقيق لنص ملهم، وقيمته العابرة أو الثابتة، وحقيقته التي تبقى آنيّة، وجب عليه أن يجعل كل سفر وكل قسم من الكتاب المقدس في مجمل الوحي، آخذاً بعين الاعتبار طابعه المتدرّج الذي يصل إلى الإنجيل. وهكذا يستطيع أن يتجاوز حرف النص فيكتشف الروح الذي يُعطيه دوماً معنى جديداً.
لهذه الأسباب التي غابت عن هؤلاء وأولئك، جهل المفسّرون واللاهوتيون والمعلّمون الروحيون بعض المرات النتائج التي وصل إليها هؤلاء، والتساؤلات التي طرحها أولئك. لهذا يبدو لنا من الضروري أن تتحقق شميلة (نظرة شاملة)، لا توافقاً كلامياً وتناسقاً فحسب، بين ما وصل إليه التفسير الحديث وسائر متطلبات الحياة المسيحية في مجال التعليم كما في مجال التقوى والروحانية. هذه الشميلة المثمرة هي ما يطلبه دستور الوحي الإلهي وتعليم الكنيسة الكاثوليكية الجديد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM