الفصل الرابع والثلاثون: البقيّة بحسب النعمة

الفصل الرابع والثلاثون
البقيّة بحسب النعمة
11: 1- 10

بعد فيض من البراهين، أحسّ بولس أن قرّاءه سيجيبون، فطرح الأسئلة الملائمة. إن كان اسرائيل بيّن جهله لبرّ الله حسب كتبه المقدّسة، وإن كان غفل عن كلمة المسيح التي بُشّر بها، فهذا يعني، في الواقع، أن الله رذل شعبه. أقصاه. هذا يعني أو أن الله فقَدَ في النهاية صبره مع مِثْل هذا الشعب المتمرّد العنيد، أو أن الله استبعد شعبه من أجل الأمم. لا يمكن لبني اسرائيل أن يطرحوا هذه الامكانيّة المخفية التي تقطعهم عن فهمهم لأنفسهم. فاختيارُ الله لاسرائيل ليكون شعبه، هو أساسيّ بحيث لا يمكن أن يتخيّل اليهوديّ أسوأ من ذلك. ولكن في أي حال، طُرح سؤال في زمن المنفى: هل رذل الله عهده مع شعبه إلى النهاية؟ وهل ما قاله الأنبياء هو لحقبة محدّدة، أم لزمن النهاية؟ ويأتي الجواب: ما رذل الله شعبه. فالاختيار يتطلّع إلى «بقيّة»، وهذه البقية تمثّل مجمل اسرائيل، وتكون عربونَ خلاص للجميع. هذه البقيّة موجودة اليوم، وبولس هو البرهان الحيّ على أن هذه البقية ما زالت حاضرة.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 1 نقرأ «شعبه» (لاوون). فهناك بعض الشهود، ومنهم البرديّة 46، قالوا ميراثه (كليرونوميان) في خط مز 94: 14 حسب السبعينيّة. وشهود آخرون (البرديّة 46) جعلوا هنا ما نقرأ في آ 2، فقالوا: شعبه الذي اختاره.
في آ 6، النفي مع «أوك» (برديّة 46 وغيرها). ولكننا نقرأ «أوكاتي» (فما هو إذاً من الأعمال). وفي نهاية الآية، قرأ الفاتيكاني والسينائي: «إذا كانت النعمة ليست من الأعمال، فلأن العمل ليس عملاً».
في آ 8، كما (كاتوس). صار «كاتابار». رج 3: 4.
ب- بنية النصّ
يشكّل هذا المقطع الذي هو خلاصة البرهان في ف 9- 11، انتقالة هامة إلى المرحلة الأخيرة في البرهان (11: 11- 32). ما قيل عن أمانة الله في9: 6، يُعاد قولُه هنا (آ 1- 2أ) في ألفاظ غير مريحة حتى بالنسبة إلى بولس اليهوديّ: «هل رذل الله شعبه»؟ ويُذكر مفتاح البراهين في 9: 6- 13، 27- 29 و9: 31- 33، 10: 18- 21 في آ 2 ب- 6 (بقية، بالنعمة، لا بالأعمال)، وآ 7- 10 (بقيّة رذلها الله). تبدو آ 1- 6 بشكل دفاعي وآ 7- 10 بشكل هجوميّ. ليست آ 7- 10 مجرّد خاتمة فحسب، بل (على عادة بولس) مقدّمة للمرحلة التالية في البرهان.
ما يلفت النظر هو أن بولس أورد في آ 8- 10 مقاطع من ثلاثة أقسام العهد القديم، حسب القسمة العبرية: «توره» (أو أسفار الشريعة): تث 29: 4. «نبييم» (أو الأنبياء): اش 29: 10. «كتوبيم» (أو الكتب الباقية): مز 69: 22- 23. تلك هي طريقة التفسير في العالم اليهوديّ. قد يكون هناك مقتطفات عاد إليها بولس (كما سبق وقلنا). ولكن يبقى شكلُ البرهان هو هو في القسم كله (10: 18- 11: 12)، حيث السؤال البلاغي يجد الجواب المناسب في الكتاب المقدس: 10: 18 أ (أقول)؛ 18 ب (نص الكتاب، مز 19: 5)؛ 10: 19 أ (أقول)؛ 19 ب- 21 (الكتاب، تث 32- 21؛ اش 65: 1- 2)؛ 11: 1 أ (أقول)؛ آ 2 أ (ما نبذ)؛ 11: 2 ب (قال الكتاب)؛ آ 3 (1 مل 19: 10)؛ 11: 4 أ (ماذا أجابه)؛ آ 4 ب (1 مل 19: 18)؛ 11: 7 أ (فماذا بعد)؛ آ 8- 10 (تث، اش، مز)؛ 11: 11: أما أنا فأقول. إن السؤال الذي نقرأ في آ 11: 1 هو خاتمة طبيعية (اون، إذن) للأجوبة السابقة في 10: 8 ب، 19 ب- 21.

2- تحليل النص الكتابي (11: 1- 10)
يطرح الرسول سؤالاً: هل نبذ الله شعبه؟ فيجيب بالنفي، ويبرهن من الكتاب عن أهميّة النعمة، لا الأعمال (آ 1- 6). ويستنتج عائداً أيضاً إلى الكتاب (آ 7- 10)، فيميّز بين المختارين وبين الذين قست قلوبُهم.
أ- هل نبذ الله شعبه (آ 1- 6)
«لكني أقول» (آ 1). في معنى: أسأل (لاغو). ونحن ننتظر الجواب: كلا. «ابوتايوماي» (نبذ). لا يستعمل بولس هذا الفعل إلاّ هنا. لكن رج أع 7: 27، 39؛ 13: 46؛ 1 تم 1: 19. عاد بولس إلى العهد القديم حيث فكرةُ الله النابذِ شعبه تطرح سؤالاً.... رج قض 6: 13؛ 2 مل 23: 27؛ مز 44: 9، 23؛ 60: 1، 10؛ حز 5: 11؛ 11: 16؛ هو 9: 27. لا، ما رذل الله شعبه، ولن يرذله. رج 1 صم 12: 22؛ مز 94: 24؛ 95: 3؛ مرا 3: 31. هذا يعني أن لا مخرج آخر لاسرائيل. كانت أزمات سابقة قد طرحت السؤال عينه، والفشلُ السابق لم يمنع أجوبة إيجابيّة جاءت في الماضي. «شعب (لاووس) الله». هكذا يسمّي اليهود أنفسهم، فيتميّزون عن الآخرين (إثني. 1 أخ 17: 21: أية أمّة في الأرض مثل شعبك). لا يستعمل بولس «اثني» إلا حين يورد العهد القديم (9: 25- 26؛ 10: 21؛ 15: 10- 11؛ 1 كور 10: 7؛ 14: 21؛ 2 كور 6: 16). ولكن بولس يتجنّب الكلام عن شعب الله على أنهم اليهود. شعب الله كيان روحيّ. «مي غانويتو»، فلا، أبداً. رج 3: 4. هو بولس يضع ثقته في الشعب اليهوديّ.
«فأنا نفسي». بولس ينتمي إلى شعب العهد. يريد أن يحافظ على التواصل بين «شعب الله»، ويتجنّب القول إن الله نبذ شعبه حين فتح مواعيده للأمم، أو بدّل مخططه الأصليّ بالنسبة إلى اسرائيل. «من نسل ابر اهيم». رج 4: 13- 18؛ 9: 7- 8. لا شكّ في أن الرسول تكلّم عن اسرائيل، مع القول إن الوعد أعطي لكلّ النسل (لا لجزء محدود). إن التعارض الذي يستخلصه بولس من ذات العلاقة بابراهيم (9: 7؛ 11: 1)، يدلّ على انشداد داخل فكر بولس: هو يهوديّ وهو مسيحيّ. هو العلامة بأن الله ما نبذ شعبه: ما نبذني، إذن لا ينبذكم. «من عشيرة بنيامين» (فل 3: 5). هناك تقليد يقول إن بنيامين كان أول من دخل البحر الأحمر. أو أن بنيامين الذي هو امتداد القبيلتين (عز 4: 10؛ 10: 9) يمثّل رجاء العودة للقبائل التي فُقدت. وبطريقة بسيطة، يدلّ بولس على هويّته، لا في الشعب ككلّ، بل في عشيرة من العشائر، وشرفُها أنها ارتبطت بالهيكل.
«ما نبذ الله» (آ 2). يعود النص إلى 1 صم 12: 22 ومز 94: 14: ما نبذ الربّ (كيريوس، يهوه). فقال بولس: ما نبذ الله. قال الايراد: لن ينبذ الله: في المستقبل. أما بولس فعاد إلى الماضي: ما نبذ الله. العصيان الحاضر لشعب الله (10: 21) لا يكذّب الكتاب. يرد الفعل «اختار» مع المسبّق «برو». سبق وعرف. قالت المشناة، سنهدرين 10: 10: «كل بني اسرائيل يشاركون في العالم الآتي». تميّز بولس: إيمان بالاختيار، تحديد شخصيّ للاختيار. يُذكر إيليا. يقول تقليد المعلّمين إن إيليا كان من قبيلة بنيامين. «الكتاب» (غرافي). يعني الكتاب كله، كما يعني النصّ الذي سيورده. «إنتينخانو»، شكا. رافع مع الله ضدّ اسرائيل. رج 1 مك 8: 32؛ 10: 61، 63؛ 11: 25؛ 3 مك 6: 37. ذكر بولس اسرائيل في خط فكره. نحن نجد اللفظ في 1 مل 17: 1، 14؛ 18: 36. كما يشكو إيليا اسرائيل، كذلك يفعل بولس: يدعو الله لكي ينصر فهمُه لدور اسرائيل في مخطّط الله الخلاصي، على مجمل أبناء شعبه.
«يا ربّ» (آ 3). إن كلام إيليا يردّد الشكوى التي نقرأ في 1 مل 19: 10، 14. قلبَ بولسُ العبارة الأولى، وعبّر عن الثالثة بشكل مختلف، وأوجز الرابعة.
«ولكن ماذا يقول» (آ 4). لسنا هنا أمام الكتاب، بل قول إلهي (خريماتسموس). لا ترد إلاّ هنا في العهد الجديد. هو قرار أو أمر ترسله السلطة، أو هو وثيقة رسميّة. ويعني أيضاً «القول الالهي». يكون في الحلم (مت 2: 12، 22؛ أع 10: 22). رج 2 مك 2: 4 وأمر الله إلى إرميا. «أجابه الصوت» (رج 1 مل 19: 8). «كاتالايبو»، ترك، أبقى من أجل المستقبل. رج سي 24: 33. العدد 7000 هو ملء شعب اسرائيل. نحن هنا أمام لاهوت البقيّة. فالبقيّة المؤمنة هي العدد الكامل، أو تشكّل الوعد لكل بني اسرائيل الذين يُحفظون أو يعودون. إذن، لسنا أمام رقم محدود، بل لا محدود، ولا سيّما مع وجود «السبعة» التي تدلّ على الكمال.
«وفي الزمن الحاضر» (آ 5). لسنا هنا مع برهان قاطع (اون، إذن)، بل أمام مثَل نموذجي حول تصرّف الله (هوتوس، كذلك). فالاختيار والبقيّة قد اختبرهما بولس كجزء من تاريخ الخلاص. «لايما» (بقيّة). لا ترد إلاّ هنا في العهد الجديد. وفي السبعينيّة في 2 مل 19: 4 فقط. هذا يعني ارتباط بولس الدقيق بهذا النصّ من سفر الملوك الأول. في العبريّة: ش ا ر ي ت (في العربية: سائر). في الماضي، كانت بقيّة. واليوم هي مع الاختيار (إكلوغي). رج 9: 11. وظهرت النعمة (خاريس) هنا بعد أن غابت بعض الوقت. رج 6: 15. إن اسرائيل يفهم اختياره حين يفهم أنه عمل حرّ من قبل الله، واختيار لا شرط فيه (9: 11). ولفظ «بقيّة» يتوافق مع مفهوم الاختيار. نجد هنا صيغة الكامل (غاغونان، جُعلت بقية). هو عمل سابق (اختيار الله لاسرائيل) ما زالت نتائجه حاضرة. اختار اسرائيل وما زال مختارَه في الوقت الحاضر لأنه اختيار نعمة (لو كان اختيار أعمال لارتبط بالأعمال).
«فاذا كان» (آ 6). النعمة (رج 1: 5؛ 3: 24). على مستوى المنطق، لا على مستوى الزمن (اوكاتي، كما في 7: 20؛ 14: 15؛ غل 3: 18). «من أعمال»، أي من أعمال الناموس (4: 2). إن البقية لا تشكّل جماعة في اسرائيل بالأمانة للشريعة (هم الأبرار في مز سل، أبناء العهد في قمران)، بل جماعة تُسندها نعمةُ الله. «الأعمال الصالحة» هي عدم فهم يعترض عليه بولس، لأنهم يعتقدون أننا نربح البرّ بالأعمال الصالحة. تكرّرت «خاريس» (النعمة) 4 مرات في آ 5- 6، فقدّمت لنا المفتاح لفهم وضع اسرائيل وأساس الانجيل.
ب- ما ناله المختارون (آ 7- 10)
«فماذا بعد» (آ 7- 8). «ما طلبه اسرائيل». هي إعادة ما قيل في 9: 31. محلّ «ديوكو» حلّ «ابيزيتايو»، طُلب. ومحلّ «فتانو» حلّ «ابيتينخانو». نال. وُضع المسبق «إبي» للدلالة على القوّة. طلب بحرارة ونال كما شاء. «ادركه المختارون». رج 9: 30. «إكلوغي» الاختيار). يعود إلى الأمم (10: 20). ولكن بعد آ 5، والتقابل بين الاختيار والباقين (لويبوي)، عاد الاختيار أيضاً إلى المسيحيين الذين من أصل يهوديّ. هذا اللفظ يرد فقط في ف 9- 11 (9: 11؛ 11: 5، 7، 28). هي نظرة إلى اليهود الذين آمنوا بيسوع المسيح. ولكن بما أن بولس ينظر إلى بداية الانجيل إلى الأمم، كجزء من مخطط اختيار الله، وينقل «مختاري الله» إلى واقع جديد، واقع الإيمان كيهود وأمم، لا نستطيع بعد أن نقول إن المختارين هم فقط اليهود المسيحيون. ما الذي طلبه اليهود وما حصلوا عليه؟ هذا ما لا يُقال. ولكن يبدو أنه الاختيار (قبلَنا الله منذ البدء) وما يُسند علاقة العهد بما فيه التبرير النهائيّ.
«الباقون». هم الآخرون بدون تحديد نسبتهم إلى المجموعة (مت 22: 6؛ 27: 49؛ لو 18: 9؛ أف 2: 3). إذن بولس لم يتكلّم عن الأكثريّة. «بوروو» (قسّى). من «بوروس» الذي هو نوع من الرخام. وهذا ما يدلّ على قساوته. صاروا مثل الحجر. ما عادوا يحسّون وكأنهم جثّة، يقال: قلب قاس. رج مر 6: 52؛ 8: 17؛ يو 12: 40؛ 2 كور 3: 14. إن يو 12: 40 يورد اش 6: 10 (رج مت 13: 15؛ أع 28: 27) مع «باخينوماي»: ما عاد يحسّ. لا يخرقه الماء.
«وقال داود» (آ 9- 10). رج 4: 6؛ 10: 5. يعود الايراد إلى مز 69: 22- 23: «لتكن مائدتهم شبكاً وفخاً، وشركاً وجزاء لهم. لتُظلم عيونهم فلا تبصر، ولتنحنِ متونهم كلّ حين». كذا في السبعينيّة. جاء «فخاً» من مز 35: 8 (يصطادهم الشرك الذي أخفوه وفي الحفرة نفسها يسقطون). ابتعد بولس عن العبريّة، فتحدث عن الرجفة لا عن الانحناء. لعب مز 69 دوراً كبيراً في المسيحيّة الأولى. آ 9 في يو 2: 17؛ روم 15: 3؛ آ 22، 23 في روم 11: 9- 10؛ آ 25 في أع 1: 20. وهناك عدد من التلميحات إلى هذا المزمور: آ 4 في يو 15: 25؛ آ8 في مر 3: 21؛ آ 9 في عب 11: 26؛ آ 21 في مر 15: 23 وز؛ آ 24 في رؤ 16، 1؛ آ 25 في لو 13: 35؛ آ 28 في فل 4: 3؛ رؤ 3: 5. في مز 35: 8، «ر ش ت» قابلت «تارا» (شبكة). هي صورة عن دينونة الله. رج حز 12: 13؛ 17: 20؛ 32: 3؛ هو 7: 12. هي صورة العبد، والثقل والرجفة والخوف، الانحناء بسبب الذنب، ضعف يمنع من الوقوف، تلمّس كالأعمى. هذا يعني أننا أمام استعارة.

3- خلاصة لاهوتيّة
طرح بولس امكانيّة النبذ (آ 1). ما فهمه وآمن به، هو أن كلمة الإيمان برهان كافٍ بأن الله ما نبذ اسرائيل. بولس يمثّل الشعب كله وهو ابن شعب أعيد بناؤه. فهو اسرائيلي ومن زرْع ابراهيم الذي فيه تمّ وعدُ الله. فالرسول واثق بعمل الله من أجل شعبه. تكلّم بولس، لا كإنسان خارج العهد، ولا كشخص يعتبر العهد بلا معنى، بل كعضو في شعب العهد. وما قبل بولس أن يكون الله نبذ شعبه لأنه مسيحيّ (إكراماً للأمم)، بل لأنه اسرائيليّ ولأنه واعٍ أنه ينتمي إلى شعب الله. فكيهودي يؤكّد بولس أمانة الله لليهود.
ويُعطى الجواب على آ 1 في آ 2. «ما نبذ الله شعبه». رج 1 صم 12: 22. فالوعد ظلَّ هنا رغم خطيئة اسرائيل ورغم عقاب الله (مز 94: 12). عرف الله مسبقاً عدم أمانة الشعب، بما فيها رذل الانجيل. إذن، كل هذا دخل في مخططه الذي لا يبدّله موقفُ انسان أو موقف شعب.
وعاد بولس فركّز على موضوع البقيّة (آ 3- 4). إن نبوءة اشعيا بيّنت في دمار مملكة الشمال أن الله حافظ على مخطّطه، وأتمّه كلّه عبر البقيّة (9: 27- 29). وهناك مثَل آخر، مثل إيليا على جبل حوريب. اشتكى النبي أنه لبث أميناً للرب ساعة هاجم الشعبُ الأنبياء والمعابد. لبث إيليا وحده، مع 7000. هي أقليّة لها أهميّتها. حافظت على إيمانها، فساندها الله في إيمانها. واستمرار أمانتهم يدلّ على استمرار أمانة الله لعهده ولشعبه. وكما فعل الربّ في الماضي يعمل اليوم.
جاء الايراد الكتابيّ بشكل قانونيّ، كأنه دعوى تُقام على اسرائيل. موقفُه يشبه موقف إيليا. هو وحده يدافع تجاه بقيّة اسرائيل. وإذ أعلن بولس أنه عضو في شعب العهد (آ 21) لم يدلّ على افتخاره، بل على أمانة الله لاسرائيل، كما كان في الماضي حسب الكتب.
وكان التوازي (آ 5). إن الوضع الذي واجهه إيليا، كان نموذجَ اهتمام الله بشعبه. أوجز بولس كل هذا مع لفظ «بقية» كما في اشعيا (9: 27= اش 10: 22). ما من أحد يقدر أن يُنكر أن الله حافظ على عهده لشعبه عبر بقيّة، وأنه قادر أن يفعل اليوم أيضاً. فالأقليّة اليهوديّة التي آمنت بكلمة الإيمان حول المسيح يسوع، ينظر إليها الذين يعرفون أن يقرأوا طرق الله في تاريخ شعبه.
هؤلاء 7000 قد حفظهم الله فأكّد مبدأ العهد. فعهدُ الله يرتبط دوماً بقدرة الله في اختياره. أجل، عهد الله هو موضوع اختيار من البداية إلى النهاية. وعادت كلمة «نعمة» كما في المرحلة الأولى من البرهان (3: 24- 6: 15، 12 مرّة)، وسيطرت في ذروة الموضوع الرئيسيّ الأول (5: 15- 6: 1). في المرّة الأولى، أدخل بولس «النعمة» حين تكلّم عن أمانة الله لاسرائيل، وهكذا ربط مفهومَي «الاختيار» و«النعمة». وها هو بولس يعود بهذين المفهومين. فالإيمان بيسوع المسيح هو اكتشاف خبرة نعمة الله التي عتّمت عليها حدودُ اليهوديّة التقليديّة.
أكّدت آ 5 التواصل بين اختيار الله لاسرائيل وخبرة النعمة بواسطة المسيح في اليهود المسيحيّين. وها هي آ 6 تُبرز مرّة أخرى عنصر الانقطاع (عدم التواصل)، لا بين اختيار الله الأساسيّ لاسرائيل ودعوته الحاليّة للأمم (هو عنصر تواصل بواسطة البقيّة)، بل بين فهم اسرائيل الحاضر لاختيار الله الأساسيّ، وفهم بولس له عبر الإيمان الجديد بالمسيح. عدم التواصل يكمن لدى اسرائيل في عدم فهم اختياره: ما عرف أن هذا الاختيار هو نعمة. لذلك فشل لأنه توقّف عند الأعمال.
عادت «الأعمال» مع «النعمة»، فذكّرتنا بما قاله بولس في بداية الرسالة (3: 20 ي). فالنعمة لا تعارض الشريعة كشريعة، بل الشريعة التي نفهمها بلغة الأعمال. فالشريعة قد ترتبط بالنعمة والإيمان والبرّ. نقول «شريعة الإيمان» (3: 27). شريعة البرّ (9: 31). والأعمال هنا هي أعمال الشريعة اليهوديّة مثل الختان والحفاظ على السبت...
ستكون آ 5- 6 المنطلق الذي عليه يبني بولس جوابه على سؤال طُرح على إيمانه حول عصيان اسرائيل ورذل الانجيل. فالله ما رأى فقط مسبقاً فشل اسرائيل، بل أراده.
مع آ 7 تبدأ خلاصةُ البرهان. ما طلبه اسرائيل لم يحصل عليه، وما طلبه الأمم حصلوا عليه. اليهود أولاً. والأمم أيضاً. غير أن اليهود قسّوا قلوبهم، فما عادوا يُدركون النداء. والآن صار الاختيار اختيار البقيّة. وعدم الفهم لدى اليهود ليس عن طريق الصدفة. إنه عمل الله، بحيث تصل نعمةُ اختياره إلى الأمم كما إلى اليهود.
في آ 8 وصل بولس إلى استنتاج منطقي ينطلق من اثنين. طريقةُ اختيار الله التي عملت في التاريخ، تُماهي المسيحيين اليهود مع البقية التي تكلّم عنها الأنبياء. وكل هذا قرأه الرسول في الكتب المقدسة. وصار «ما أعطاهم الله عيوناً ليروا»، «أعطاهم الله عيوناً فما رأوا». رفضوا بإرادتهم. لهذا فلا عُذر لهم.
وجاء البرهان الثاني (آ 9- 10) من مز 69: 22- 23. قال داود كلامه على أعدائه، فجعله بولس على شعبه الذي قاوم اختيار النعمة. وتحدّث النصّ عن «المائدة» راجعاً إلى شعائر العبادة (1 كور 10: 21) التي أراد اليهود أن يتميّزوا بها.

الخاتمة
في بداية روم (3: 22) أعلن بولس أن جميع البشر، من يهود ويونانيين، هم خطأة أمام الله. أما هنا فيقول: إنهم يخلصون، بعد أن صاروا أولئك الذين يدعون هذا الاله الذي هو غنيّ بالبركات والذي يبرّر الخاطئ. كان بامكان بني اسرائيل أن يعبدوا هذا الاله بعد أن سمعوا الكرازة بالانجيل على يد مرسلين مكلّفين. غير أنهم لم يؤمنوا ولم يعرفوا من هو الله وما هو برّه. فإن سمع آخرون وأجابوا جواب الإيمان، فشكّلوا الشعب الجديد، فعلى اسرائيل أن يغار ويعود إلى هذا الاله الذي ينتظر شعبه. فهذا الاله ترك لنفسه بقيّة، ومنهم بولس. أما الآخرون فيقسّون فلوبهم. ذاك كان وضع بني اسرائيل. أترى الله رذل شعبه بحيث لم يعُد للعهد القديم من قيمة في تاريخ الخلاص؟ كلا. والوحي الذي يصل إلى الانجيل هو واحد. من أجل هذا، يمارس بولس خدمته كرسول الأمم، وهو يرجو أن يصل كلامه إلى شعبه. إنه يعمل في اتجاه مخطّط الله الذي يصل بالضرورة إلى إدخال بني اسرائيل في بشريّة تصالحت مع الله. تلك هي النهاية التي يريدها الله ويرجوها الرسول. ذاك ما يكون موضوع الفصل التالي.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM