الفصل الثاني والثلاثون: برّ الشريعة وبرّ الإيمان

الفصل الثاني والثلاثون
برّ الشريعة وبرّ الإيمان
10: 1- 13

توسّع بولس حتّى الآن في سببين يبيَّنان أن كلمة الله ما فشلت مع أن العدد الكبير من بني قومه رفض الانجيل (9: 6). ولكنه وثق أن الكتاب أوضح أن هدف الله هو الرحمة التي تعمل عبر الاختيار وعبر الرذل (الدينونة تعود إلى السلوك في هذه الحياة، لا الاختيار). ورأى مسبقاً أن نداء الله يمتدّ إلى الأمم، وأن شعب العهد صار بقيّة باقية. هذا الانشداد بين ثقته الثابتة، بأمانة الله لاسرائيل (3: 3- 4)، ورذل اسرائيل، وجد له حلاً جزئياً. وسيعود إلى ذلك في ف 11. ولكنه يقدر أن يضع الأساس لحلّ شامل، وهذا ما يكفيه الآن. وبهذا وصل إلى كلام عن البر بالإيمان. منذ ف 5 عرض ما يعني هذا بالنسبة إلى الخطيئة والموت والشريعة (ف 6- 8)، باحثاً عن معنى لعدم إيمان اسرائيل (ف 9). وهكذا جمع الموضوعين المهمّين في برهانه: البرّ من إيمان إلى إيمان (1: 17)، رفضُ اسرائيل بأن يؤمن. وسيصل إلى القول بأن لليهود وللوثنيين رباً واحداً. وإن كان اليهود جهلوا برّ الله، فهذا ما سبق لموسى وأنبأ به. حين لا يفهم المؤمن الوضع الذي يواجهه، يعود إلى الكتب المقدّسة. هذا ما فعل بولس، فعاد إلى موسى بعد أن ذكر الأنبياء.

1- دراسة النص وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 1، جُعل الفعل «كان» (استين) وبعده «اسرائيل» بدل الضمير (خلاصهم). هي الحاجة إلى الوضوح حين يُقرأ النصّ في الجماعة الليتورجيّة ويبدأ مع 10: 1.
في آ 3، نقرأ «وسعوا إلى البرّ». هناك من يجعل «البرّ». وهناك من يلغيه. أما الشعبيّة اللاتينية فقالت: وسعوا إلى الشريعة.
في آ 9، نقرأ: فإذا شهدتَ. أدرج الفاتيكاني «الكلمة» (تو ريما) ثم «هوتي» (أن) لكي يتضح أننا أمام اعتراف إيماني.

2- بنية النصّ
هناك جدال حول وظيفة 9: 30- 33، وسؤال: هل 10: 1 يشكّل وقفة لافتة في البرهان؟ إن الشعور بأن 9: 30- 33 هي انتقالة، يعود إلى عدد من الشرّاح اليوم. أولاً: «ماذا نقول». هي مقدّمة معروفة عند بولس من أجل خطّ جديد من الفكر (4: 1؛ 6: 1؛ 7: 7؛ 8: 31؛ 9: 14). ثانياً، العودة إلى الكتاب في آ 33 بُنيت على السلسلة في آ 25- 29 (جمع هو 2: 25 مع إش 28: 16 و8: 14 في 1 بط 2: 6- 10). ولكننا أمام توسّع لا أمام ملخّص للفكرة، وهو يتطلّع إلى القسم التالي من البرهان (10: 11) وما بعد. فتكرارُ اش 28: 16 في روم 9: 33 و10: 11، يربط المقطع بعضه ببعض. ثالثاً، السبب الرئيسيّ لجعل 10: 1 بداية مقطع جديد، هو لفظ «أيها الاخوة». ولكن يبدو أن بولس استعمل اللفظ أيضاً في الختام (1: 13؛ 7: 4؛ 8: 12؛ 1 كور 1: 11؛ 7: 24، 29). لا شكّ في أن مثل هذا النداء يحرِّك العاطفة لتقبّل البرهان، ولكنه لا يدلّ بالضرورة على وجهة جديدة في البرهان.
ويتواصل الكلام بين آ 4 وآ 5. إن آ 5- 10 تقدّم الذروة في 10: 1- 21 مع «غار» (لأن) التي ترد أكثر من مرة. إن «غار» في آ 5 تُدخل السبب الأخير في المتتالية. ولكن بما أن ما يدخله هو تابع لما في القول الكتابيّ، اقترح بعضهم أن تشكّل آ 9- 13 مقطعاً مستقلاً. ولكن هذا لم يكن موقفنا. فالنصان في آ 5 وآ 6- 8 يرتبطان، على مستوى البنية، بما في آ 1- 4.
آ 2 غيرة لله ولكن لا حسب المعرفة
آ 3 سعوا ليقيموا برّهم لم يخضعوا لبرّ الله
آ 4 الشريعة... للبرّ المسيح... لكل من يؤمن
آ 5 برّ من الشريعة برّ من الإيمان
آ 6- 9: لا 13: 5 تث 30: 12- 14.

2- تحليل النصّ الكتابي (10: 1- 13)
نقرأ هنا ثلاثة مقاطع. في الأول (آ 1- 4)، نفهم أن اليهود لم يعرفوا برّ الله مع أن فيهم غيرةَ الله، فنسوا أن غاية الشريعة هي المسيح. في الثاني (آ 5- 9)، يرد ما كتب موسى عن هذا البرّ. وأخيراً (آ 10- 13)، يطبّق الرسول هذا الكلام على موضوعه، حول برّ يصل إلى اليهود وإلى الأمم. ما يُطلب، هو الإيمان بالقلب والشهادة باللسان.
أ- اليهود وبرّ الله (آ 1- 4)
«أيها الاخوة» (آ 1). رج 1: 13. هم اخوته وبنو قومه (9: 3). هو انشداد بين أمانتين: للعالم اليهوديّ وللانجيل. لهذا يتوسّع معنى «الاخوة». «رغبة قلبي». إذا كان الأمر يتعلّق برغبتي. «أودوكيا» (رغبة، رضى). تكاد لا تُعرَف خارج اليونانية البيبليّة (ر ص و ن في العبرية)، المسرة. يعود اللفظ عادة إلى الله (23 مرة في سي). «هي مسرّتنا...» (سي 11: 17؛ 15: 15 ...). رج 2 أخ 15: 15؛ مز 145: 9. كارديا (القلب). هو داخل الانسان ومركز تحرّك الارادة والعاطفة (1: 21؛ 2: 15؛ 8: 27). هذا يدلّ على الصراحة، ويحرّك التزام الشخص كله. «وصلاتي» (دائيسيس). رج فل 1: 3- 4؛ 4: 6. «من أجلهم» (2 كور 1: 11؛ 9: 14؛ فل 1: 4). من أجل خلاصهم. رج 1: 26. ما يريده بولس هو أن يكون كلّه لشعب الله، من يهود وأمم. وإذ يصلّي من أجلهم، يعرف أنه في خطّ التقليد الكتابيّ. رج خر 32: 11- 14؛ عد 21: 6- 9؛ 1 صم 7: 8- 9؛ مز 99: 6؛ إر 42: 2- 4، 9- 22؛ حز 11: 13؛ وص موسى 11: 17.
«أشهد» (آ 2) (مرتيرايو). فقد يُستعمل في المحكمة. ولكن بولس ينطلق من خبرته الشخصية (غل 4: 15؛ كو 4: 13). غيرتهم هي غيرة الشعب اليهوديّ، التي عرفها الرسول قبل اهتدائه. هي نار مشتعلة من أجل الله (خر 20: 5؛ 34: 14؛ تث 4: 24؛ 5: 9؛ 6: 15؛ يش 24: 19). من أجل المحافظة على نقاوة العهد والانتماء له. شمعون ولاوي (قض 9: 4؛ يوب 30: 5- 20) بالنسبة إلى تك 34. فنحاس (عد 25: 10- 13؛ سي 45: 23- 24؛ 1 مك 2: 54؛ 4 مك 18: 12). إيليا (سي 48: 20؛ 1 مك 2: 58). متتيا (1 مك 2: 19- 26؛ يوسيفوس، العاديات 12: 271). وهناك غيرة من أجل الشريعة (1 مك 2: 26، 27، 50، 58؛ 2 مك 4: 2). غيرة ضدّ الأشرار (نج 4: 4؛ 9: 23؛ مد 14: 14). يشير بولس إلى عمق تكريس اليهود لعهد الله مع اسرائيل. رج مز 106: 30- 31؛ يوب 30: 17. «غير معرفة». لم تكن غيرة اليهود في الخط الصحيح. لم يعرفوا كيف يُعطى برّ الله. دافعوا عن امتيازاتهم، فقتلوا الشريعة، وما أتمّوها.
«لأنهم جهلوا» (آ 3). «اغنوياوو». ما أرادوا أن ينظروا. هناك مسؤوليّة وبالتالي خطأ، ضد ما يعتبره بولس تعامل الله مع شعبه وما يطلبه من هذا الشعب. برّ الله المجاني نقبله، وهو قوّة تُسند المؤمن. هو مفتوح للجميع وليس امتيازاً ندافع عنه بالسيف (آ 2). رج 2: 4. «كيف يبرّر الله». «زيتايو». بحث، طلب باجتهاد. هذا ما يلتقي مع الغيرة (زيلوس، آ 2). هذا البرّ هو لهم، يخصّهم (إيديوس)، وهو يهتمّ بالعمل بأعمال الشريعة. «ستيساي». رج «ه ق ي م» في العبريّة، أقام (ق و م). فعل يرتبط بالعهد. فالله يُقيم عهده. رج تك 6: 18؛9: 11؛ 17: 7، 19، 21؛ خر 6: 4؛ لا 26: 9؛ تث 8: 18؛ إر 11: 5. هنا يقال عن ابراهيم إنه أقام العهد في لحمه (سي 44: 20). وفنحاس قام (ثبت) ساعة الجميع مالوا بوجوههم عن الله (سي 45: 23). «فما خضعوا». النفي هنا يعارض ما قيل في 3: 31. المحافظة على خاصيّة البرّ تعني عصيان الله. بما أن البرّ شيء نتقبّله من الله، وحده الإيمان الذي يتقبّل هذا البرّ يُسند الشريعة.
«غاية الشريعة» (آ 4) ... «تالوس». هي النهاية أو هدف الشريعة. الشريعة تجد كمالها في المسيح. في الواقع، وصلت الشريعة إلى النهاية حسب الاستعمال العاديّ (1 كور 1: 8؛ 10: 11؛ 15: 24؛ 2 كور 11: 15؛ فل 3: 19).
ب- كلام موسى (آ 5- 9)
«وكتب موسى». (آ 5). أشار بولس إلى موسى في أكثر من مناسبة. هو ينتمي إلى حقبة قديمة عزلها المسيح (5: 14؛ 1 كور 10: 2؛ 2 كور 3: 7- 15). تبدأ الآية مع «غار» فتدلّ على شرح أو صياغة جديدة للفكرة التي بدأت في آ 2- 4. صيغة الحاضر في الفعل، تدلّ على أن كلام موسى ما زال محافظاً على قوّته على شعب الله. برّ الشريعة هو برّ اليهود، كما يقول بولس (9: 31- 32). يقابل هذا شريعةَ البرّ بالأعمال.
ويرد هنا لا 18: 5: «احفظوا كلّ فرائضي وكلّ أحكامي. فالانسان الذي يعمل يحيا بها». وفي روم: الانسان الذي يعملها يحيا بها. هذا التعبير نموذج عمّا يراه اسرائيل من فرائض ووعد في حكم العهد (تث 4: 1؛ 5: 32- 33؛ 8: 1؛ نح 9: 29؛ حز 18: 9- 17، 19- 21؛ مز سل 14: 2- 3؛ 4 عز 7: 21). ونجد «شريعة الحياة» في سي 17: 11؛ 45: 5؛ 4 عز 14: 30. الحياة هي الحياة في العهد (فيلون، الجماعة الباحثة 86- 87)، لا الحياة في الدهر الآتي. هنا نشير إلى أن لا وجود لبرّ يتمّ على هذه الأرض. وحده يسوع أتمّه.
«وأمّا التبرّر» (آ 6)، «من (إك) الإيمان» (بستايوس). إنه يعود إلى تجاوب الانسان مع نعمة الله (9: 32)، وإلى أمانة الله الذي أقام العهد (آ 3)، لا إلى صدق اسرائيل تجاه العهد. شُخّص برُّ الله (6: 18، 22)، فبلغ إلى خليقته وإلى شعبه (الحكمة، الاسم، الكلمة، المجد) كما في مز 85: 10- 13؛ اش 45: 8. وهكذا نكتشف مرّة ثانية بُعداً كونياً لبرّ الله. «لا تقل». أورد بولس هنا تث 30: 12- 14 مع بعض الحريّة. نقرأ تث: «فلا هي في السماء لتقولوا من يصعد لنا إلى السماء... من يعبر لنا إلى ما وراء البحر (روم: من ينزل إلى الغمر). فالكلمة هي قريبة منك، قويّة في فمك وفي قلبك». نلاحظ أن النصّ البولسيّ قريب من تث. ونتعرّف إلى الطريقة اليهوديّة في عرض النصّ الكتابيّ. ترد آية، ويليها شرح (رج تفسير حبقوق في قمران، 5: 6- 8؛ 6: 2- 8؛ 7: 3- 5؛ 10: 2- 4؛ 12: 2- 10). ويبدأ الشرح مع: أي (توت استين: هذا هو). رج عب 10: 5- 10؛ أف 2: 8- 11. هذا النص من تث له رنّة خاصة في الشتات، مع الكلام عن ختانة القلب التي تنتج عنها المحبّة. هذا يعني أن بولس يرى أن مهمّته بين الأمم هي طلب الاهتداء وطاعة الإيمان (1: 5) مع ختانة القلب (أي انفتاحه على كلام الله، 2: 29) والمحبّة الآتية من القلب (لا تلك التي تبقى سطحيّة فتتوقّف عند الطقوس والعبادات الخارجيّة، 5: 5). نشير هنا إلى أن تث 30: 11- 14 استعمل مراراً في الفكر اليهودي. رج با 3: 29- 30 (من صعد إلى السماء، فتناول الحكمة ونزل بها من الغيوم)؟ فيلون، سلالة قايين 84- 85 (أهرب إلى السماء أو أعبر البحر... الكلمة في فمك وفي قلبك وفي يدك)؛ ترنيو حول تث 30.
«من يصعد». رج أم 30: 4. قال يوحنا: وحده يسوع صعد (3: 13؛ 6: 62). أرادوا أن يصعدوا إلى السماء ليكشفوا أسرارها (اخنوخ...). ولكن الانجيل الرابع أعلن أن الأمر مستحيل. «أي ليُنزل المسيح». هذا لا يعني أننا نماهي المسيح مع وصيّة تث 30: 11. هي كلمة الإيمان، أي الاعتقاد بقيامة المسيح والاعتراف به كالرب (آ 8- 10). الكلام هنا هو عن سرّ الخلاص (سوتيريولوجيا)، لا عن التجسّد.
«أو من يهبط» (آ 7). في تر نيو، كلام عن السماء وعبر البحر. صار: السماء والشيول (مثوى الأموات). رج مز 107: 26 (كانت تعلو إلى السماء وتهبط بهم إلى الأعماق)؛ اش 7: 11؛ عا 9: 2؛ سي 16: 18؛ 24: 5؛ يوب 24: 31؛ 4 عز 4: 8. «توت استين»، أي. رج مز 71: 20 (من أعماق الأرض ترفعني)؛ حك 16: 13 (تُنزل من تشاء إلى أبواب الجحيم وتصعده منها). هذه الصورة عن نزول المسيح إلى عالم الموتى وعودته، هي أساس ما نقرأ عن نزول المسيح إلى الجحيم كما في 1 بط 3: 19؛ 4: 6.
«ولكن ماذا يقول» (آ 8). «ريما» (الكلمة). نادراً ما يستعملها بولس. رج 2 كور 12: 4؛ 13: 1؛ أف 5: 26؛ 6: 17. في الفم وفي القلب. أي الانسان كله، في الخارج وفي الداخل. «كيريسو» كرز، بشّر (1 كور 1: 23؛ 15: 11؛ 2 كور 1: 19؛ 4: 5؛ 11: 4؛ 1 تس 2: 19). موضوع كرازة بولس هو الانجيل (غل 2: 2؛ كو 1: 23؛ 1 تس 2: 9)، هو المسيح (1 كور 1: 23؛ 15: 12؛ 2 كور 1: 19؛ 4: 5؛ 11: 4؛ فل 1: 5). «كلمة الإيمان». هكذا يدلّ بولس على تضامنه مع جماعة لا يعرفها. هناك الإيمان المشترك (آ 14- 15).
«فإذا شهدتَ» (آ 9) «هومولوغايو». هو اعتراف علنيّ في اطار المحكمة أو شهادة خاصة. هو يقابل «اسمع، يا اسرائيل» (تث 6: 4). بهذه الصلاة يدلّ اليهودي أنه ينتمي إلى اسرائيل. والمسيحي الذي يعترف بالرب يسوع، أنه ينتمي إلى المسيح. هذا ما نقوم به في المعموديّة، وفي سائر شعائر العبادة. «الربّ يسوع». رج يو 9: 22؛ 1 يو 4: 2؛ 2 يو 7؛ 2 كور 4: 5. هي عبارة إيمانيّة. رج أع 2: 36؛ فل 2: 11. هذا يعكس تأثير القيامة على الكرستولوجيا. يسوع، كشخص تاريخيّ، هو الربّ (4: 24؛ 1 كور 11: 23؛ 12: 3). «كيريوس» (الرب ترجم العبرية «ي ه و ه»، في الشتات اليهوديّ). «وآمنت بقلبك». آمن. رج 1: 16. آمن أن (هوتي). رج 6: 8. في قلبك. أي ما اكتفيت بتلاوة تعابير الإيمان بفمك، بشفتيك. «الله أقامه». هي عبارة إيمانيّة معروفة (4: 24). نلاحظ أن الاعتقاد بقيامة يسوع هنا، هو نتيجة الاعتراف بأن يسوع هو الربّ. «ستخلص». المضارع. الخلاص خير اسكاتولوجيّ ونهاية المسيرة. هناك الحاضر مع الاعتقاد والاعتراف. والماضي مع حدث قيامة المسيح. والمستقبل مع الخلاص.
ج- الإيمان بالقلب (آ 10- 13)
«فالإيمان بالقلب» (آ 10). ضمّ بولس هنا، مرّة أخرى، وجهتَي الإيمان الخلاصيّ، في ترتيب طبيعيّ: الإيمان الداخليّ يُعبَّرُ عنه بالكلمة التي تُقال. هنا تقابلٌ بين القلب والفم، بين الإيمان والاعتراف (آ 9). وهناك مقابلة بين البرّ والخلاص في الفكر اليهوديّ. فالخلاص هو ملء المستقبل الاسكاتولوجيّ، وبرّ الله ليس فقط القبول الأول لدى المؤمن، بل تواصل المسيرة حتى التبرير النهائيّ.
«فالكتاب يقول» (آ 11). هذا ما يثبت تث 30: 12- 14. عاد الرسول أيضاً إلى اش 28: 16 (رج 9: 33)، وأضاف «كل» (باس) بتأثير من يؤ 3: 5. نلاحظ التفسير الذي يُبنى على إيراد آخر.
«ولا فرق» (آ 12). رج 3: 22. عاد الموضوع هنا لأنه أساسيّ: تداخل التاريخُ البشريّ في حقبة آدم. هناك شموليّة الخطيئة التي تخفّف الفرق بين اليهوديّ والأمميّ، بحيث يصبح كلا شيء (3: 22). وفي الزمان الاسكاتولوجيّ الذي بدأه المسيح، هناك انفتاح شامل على نعمة الله لجميع المؤمنين، بحيث لا يبقى فرق بين اليهوديّ والأمميّ. فالأمم يشاركون اليوم في ما اعتُبر في الماضي محصوراً باليهود في علاقة بالعهد. نقرأ «دياستولي» الفرق، في خر 8: 23. حين تؤخذ الكلمة في الإيمان وفي الاعتراف، يزول التمييز في تاريخ الخلاص بين اليهود والأمم. رج 1 كور 12: 13؛ غل 3: 28؛ كو 3: 11.
«ربّهم جميعاً». رج 1 كور 12: 5. قد نكون هنا أمام عبارة مسيحيّة قديمة (أع 10: 36)، استلهمت العلاقة بالله في المحيط الهلنستيّ (أي 5: 8؛ وص أشير 13: 11؛ وص موسى 4: 2؛ يوسيفوس، العاديات 20: 90). البرهان هنا يوازي برهاناً سابقاً في 3: 29- 30: سيادة المسيح الشاملة هي عبارة اسكاتولوجيّة عن هدف الله الشامل. «غني» (يفيض). هو الغنى الروحي. رج 2: 4؛ 9: 23؛ 11: 33؛ أف 3: 16 بالنسبة إلى الله. وهناك غنى المسيح (1 كور 8: 9؛ أف 3: 8). وغنى الله الذي يُعطى بالمسيح (1 كور 1: 5؛ فل 4: 19؛ كو 1: 27) «يدعوه» (إبيكالابن). رج تث 4: 7؛ 1 صم 12: 17- 18؛ مز 4: 1؛ 14: 4 (يدعو الربّ). يدعو اسم الربّ. رج تك 4: 26؛ 12: 8؛ اش 64: 17.
«كل من يدعو» (آ 13). يرد لفظ «كل» (باس) للمرّة الرابعة في آ 11- 13. رج يوء 3: 5. نظر الأنبياء إلى جميع الذين يدعون الربّ في الأيام الأخيرة. هذا لا يقابل نظرة اسرائيل كأمّة وطنيّة داخل العهد. كلمة «كل» ثم «بشر»، كافيتان لكي تقدِّما تبريراً كافياً للطريقة التي بها فسّر بولسُ هذا النصّ. ونص يوئيل استُعمل في المسيحيّة الأولى (أع 2: 17- 21؛ رج روم 5: 5؛ تي 3: 6؛ مر 13: 24 وز؛ رؤ 6: 12). كل هذا يجعلنا في إطار الدعوة التي بها ندعو اسم الربّ فنحيا.

3- خلاصة لاهوتيّة
وتتواصل الفكرة (آ 1) بحيث لا يحتاج بولس إلى أن يُوضح مرجعَه. أضاع اسرائيل هذه النقطة في الشريعة، وكرّر ذات الخطيئة القديمة مع نتائجها، فتألّم بولس كثيراً (9: 1- 3). فاهتمامه باسرائيل يتجذّر في العمق ويُلزم شخصه كلَّه. هو يصلّي إلى الله من أجلهم. بل يبدأ بصلاته من أجلهم، ثم يصل إلى الأمم. ورغبته من أجلهم تتلخّص في كلمة واحدة: الخلاص، خلاص الشعب كله الذي فيه وُضع قصدُ الله النهائيّ. هذا الخلاص يُعلنه بولس في إنجيله ويتمنّى بأن يؤمن به الجميعُ، اليهود والأمم. رغم شهادة الكتاب حول البقية وعددها القليل، لا يستطيع أن يرضى بهذه البقيّة. هو الآن مسيحيّ، ولكنه كان يهودياً فما تنكّر لما كانه.
بمثل هذا الاحتفال (آ 2) الذي به بدأ هذا القسم (9: 1)، شهد بولس أنه معجب بأبناء قومه، بغيرتهم من أجل الله، بحرارتهم في ممارسة ديانتهم. لسنا هنا أمام أمر رخيص في موقف بولس تجاه الذين كانوا معه في إيمانه السابق. حرارتهم معروفة في عبادتهم لله ولشريعته. فهذا العالم القديم الذي يتكلّم عنه، انطبع بالعالم اليهوديّ وبمد تضحياتهم. ولكن هذه الغيرة جاءت متطرّفة ولا سيّما على المستوى الوطنيّ. مثلاً، الغيورون تجاه الشريعة وطهارة اسرائيل كشعب الله المختار. عرف بولس هذا الموقف الذي جعله يضطهد المسيحيين الأولين (فل 3: 6؛ أع 22: 3- 4). ولكن مثل هذا العمل لا يتمّ عن معرفة، لأنه تركّز على الروح الوطنيّة للدفاع عن امتيازات شعب الله.
وراح بولس بشرح ما يتضمّنه هذا (آ 3). يُقال عن اليهود أنهم يعرفون قدرة الله الخلاصيّة. وهم ينشرون برَّ الله الذي حُسب لابراهيم (تك 15: 6)، ويبتهجون في اختيار النعمة لاسرائيل كشعب الله المختار (تك 21: 12؛ خر 33: 19). والوثنيون أنفسهم عرفوا شيئاً من طبيعة الله وقدرته (1: 18- 21). ماذا يعني بولس في ذلك؟ ما قاله بولس في آ 2، ها هو يوضحه هنا في آ 3. اللفظان اللذان يلقيان الضوء على كل شيء هما» برّهم (هم)»، «أقام». هو شيء يخصّهم دون سواهم. هو لهم، لا للآخرين. وما يخصّهم يعارض ما هو لله. برّهم يتمّ بأيديهم لا بيد الله. وفعل أقام، يعني خلق. هو عمل خلق يُوجِد ما لم يكن موجوداً. هم لا يسعون إلى أن يكملوا، بل يريدون أن يُقيموا ويُثبتوا ما أعطاهم الله (9: 4). إن متتيا مثلاً غار على العهد ليقيم العهد، فحمل السلاح ليحافظ على هويّة اسرائيل المميّزة، كشعب الله. هم يتميّزون على الآخرين بحفظ الشريعة، بأعمال الشريعة (الختان، السبت) التي تُميّز براً خاصاً بهم. هم لا يخضعون لبرّ الله، وهذه هي نتيجة جهلهم. فبرّ الله يطلب التواضع. ويقبل به الانسانُ في الخضوع كالخليقة المرتبطة بخالقها. وهكذا قاوموا نعمة الله الخلاصيّة وما تقبّلوها.
وقدّمت آ 4 سبباً يشرح نقص المعرفة، بل الجهل لبرّ الله، فنقلتنا إلى المرحلة التالية من البرهان. وجاء كلام عن غاية الشريعة. هنا نأخذ الشريعة والبرّ معاً. لا شريعة البرّ، ولا شريعة تعود إلى البرّ (9: 31)، ولكن شريعة من أجل البرّ. فبرٌّ خارج الشريعة هو في الواقع برّ داخل الشريعة. تطلّع بولس إلى شريعة موسى التي فُهمت «بالأعمال». هل هذه الشريعة انتهت. المسيح هو نهاية أيّة وظيفة في الشريعة. هذا يعني أنه قبل المسيح كان بعضُ الأساس لفهم الشريعة. فقبل المسيح، عمل مخططُ الله بالنظر إلى اسرائيل، وانحصر برّ الله، من قليل أو بعيد، بشعب اسرائيل. وهكذا كان توافق بين برّ الله وممارسة اسرائيل للشريعة. أما الآن، مع المسيح، فبدأت حقبة جديدة في تعامل الله مع البشريّة (3: 21). المسيح هو نهاية حقبة قديمة، ومعها امتيازات اليهود الحصريّة. ولكن هذا يعني أيضاً أن ما بدأ في الحقبة القديمة، يجد تتمته مع المسيح، مع توسّعه إلى أبعد من شعب واحد. لهذا يُعرف البر بمعزل عن الشريعة. وهو مفتوح للجميع على أساس الإيمان، لليهود وللأمم (3: 21- 22).
فالبرّ الذي طلبه اسرائيل (آ 5) يُعبَّر عنه الآن كبرّ بالشريعة، يأتي من الشريعة. شريعة البرّ في لغة الأعمال (9: 31- 32)= برّهم الخاص (آ 3)= برٌّ من دون الشريعة (آ 5). ذاك الموقف له تبريره في الحقبة القديمة كما يبيّن موسى. فالفرائض والأحكام هي طريقٌ لحياةٍ توافق العهد. قال موسى (وما جعله بولس يقول): إن حفظ الشريعة وسيلة لربح الحياة. بل إن الشريعة توصي بحياة يجب أن يعيشها شعبُ العهد. فالحياة التي يسندها الله هي حياة تتوافق مع فرائض الشريعة ونظُمها.
تجاه هذا، هناك التبرّر بالإيمان (آ 6). هذا التعارض أراده بولس الذي رأى في موسى صاحب الايراد الثاني كما كان صاحب الإيراد الأول. فالحقبة القديمة تتماهى مع موسى، والشريعة وموسى يلتقيان في فكره (2 كور 3). شريعة الإيمان هي شريعة البرّ وشريعة الله. وهكذا يكون الخلاص ارتباطاً بالله وانفتاحاً على قدرته في طاعة واثقة. أجل، مع المسيح بدأت الحقبة الجديدة والنهائيّة، حيث العلاقة مع الله لا تكون بالختان بل بالبرّ في الإيمان.
في آ 6- 8 نقرأ الايراد الثاني (تث 30: 11- 14) حول البرّ من الإيمان. يعلن التثنية أن وصيّة الله ليست صعبة. وما يطلبه الله لا يتجاوز امكانيّاتنا. هم يعرفون ما يطلب الله، ويقدرون أن يعملوه إنهم أرادوا. ولكن بولس لم يتكلّم عن الوصيّة بل عن المسيح الذي نزل إلينا وصعد. أما الكلمة التي يذكرها تث، فهي كلمة الانجيل، الكلمة التي نبشّر بها. لهذا نلاحظ أن لا 18: 5 شدّد على التباعد بين حقبتين، حقبة الشريعة وحقبة الإيمان. أما تث 30 فشدّد على التواصل بين الشريعة وطاعة الإيمان. وهكذا ما فشلت كلمة الله (9: 6). أجل إن الوصيّة تتمّ في كلمة الإيمان، وكلمة الإيمان هي شريعة البرّ التي نفهمها كما يجب. فبولس لا يعارض الشريعة (والوصيّة) كشريعة، بل الشريعة بمعنى أعمال الشريعة (9: 32)، في لغة برّ وطني. لهذا تحدث تث 30 عن حقبتَي مخطّط خلاص الله: حقبة اسرائيل قبل المسيح، والحقبة التي تأتي بها كل الشعوب إلى المسيح.
كيف شرح بولس تث 30 بالنظر إلى المسيح، لأنه كان هناك أكثر من شرح لهذا المقطع؟ تكلّم باروك عن الحكمة، وفيلون عن الخير، وترجوم نيوفيتي عن الشريعة. هؤلاء اليهود توقفوا عند الشريعة. أما بولس، فالنظرة الكونيّة جعلته يتطلّع إلى المسيح، إلى الانجيل، إلى كلمة الإيمان التي تعطي أعمق معنى لوصيّة الشريعة على مستوى القلب. وسهلت العودة إلى المسيح مع مرحلتين في حدث المسيح: صعوده إلى السماء (آ 6) وقيامته من بين الأموات (آ 7).
وتابع بولس عرضه في آ 9- 10 مع توضيح: في الفم، في القلب. سبق له وتكلّم عن «كلمة» تث 30 على أنها «كلمة الإيمان التي نبشّر بها». هذا يعني أن العبارتين تعودان إلى التعليم الرسوليّ والمناداة به. ولكنه في خط تث، تحدّث عن اعتراف الإيمان بالربّ يسوع، وعن الاعتقاد بقيامته. هكذا نبتعد عن الأعمال. والشرطُ الجوهريّ الوحيد للخلاص هو الإيمان، أي القبول بالقلب والشفاه ما فعله الله في المسيح وبالمسيح. أما الاعتقاد الأساسيّ والذي لا بدّ منه، فهو القول بأن «الله أقامه من بين الأموات» (1 كور 15: 17) وأن «يسوع هو الربّ» (1 كور 8: 6؛ فل 2: 11). هذا ما يُطلب من اليهوديّ كما يُطلب من الأمميّ. ويتكرّر الشيء عينه في آ 10، مع تشديد على التعارض مع برّ يأتي من الشريعة. فكلام القلب هو كلام الإيمان، والإيمان يعمل على مستوى القلب. وكلام الفم (الشفتين) هو كلام الاعتراف، والاعتراف هو التجلّي الخارجيّ الذي يوافق الإيمان، لا طقوس الشريعة. إذا نظرنا إلى البرّ، فالإيمان الذي لا يمكن أن يتراجع عن الشهادة، هو الطريق لعلاقة بالله في النعمة. وإن نظرنا إلى الخلاص، فالاعتراف الذي يخرج من القلب والاعتقاد الباطنيّ، هما الوسيلة التي بواسطتها يتمّ قصدُ الله.
استعادت آ 11 إيراد اش 12: 16 الذي ورد في 9: 33. فالإيمان الذي تحدّث عنه تث 30 (الكلمة في القلب) هو ذات الإيمان الذي تكلّم عنه إشعيا. طبّق الرسولُ الايرادين على المسيح، فثبّت صحّة تفسيره. وأضاف «كلّ» في البداية، فوسّع ما كان ضيقاً في إطار اسرائيل، وهكذا صارت النظرة شاملة.
مع آ 12- 13 ننطلق من «الكل» لنفهم أن لا فرق بين اليهوديّ واليونانيّ (أو غير اليهوديّ). ولكن التمييز بين الفئتين أمر أساسيّ لدى اليهود. لهذا تحدّث الرسولُ عن الأمميّ كما عن اليهوديّ بعد أن أعطى الأولويَّة لليهود (1: 16؛ 2: 9- 10)، وثبّت امتيازهم الخاص في حكم الشريعة في 3: 1- 2؛ 9: 4- 5. هو الذي أعطى أولاً عهد النعمة إلى اسرائيل وحده، قد وسّعه الآن ليضمّ الجميع في الإيمان. فما دُعي دوماً بالشريعة، وإيمان القلب في ذاك الذي أعطى العهد، عُبِّر عنه الآن كإيمان بالذي أقامه الله ومجّده وهكذا وسُع العهدُ عينه. على مستوى الامتياز التاريخيّ، ما زال اسرائيل مميّزاً. على مستوى برّ الله المنفتح على الجميع، لا فرق بين اليهوديّ واليونانيّ.
وشدّد بولس على دور يسوع كالربّ مع دور الله نفسه. حين دعا يسوعَ ربّ الكل، جاء كلامُه صدى للبرهان في 3: 29- 30. إن آمن اليهود بالله الواحد، إذن يجب أن يكون إله الأمم وإله اليهود. وإذا كان المسيحُ ربَّ الكلّ، فهو ربّ اليهوديّ واليونانيّ. وتكلّم عن الله الغني لكل من يدعونه، فطلب الصلاة إلى الله الذي يرسل العون من غناه الفيّاض.

الخاتمة
وهكذا أوصلنا بولسُ إلى عمق تاريخ الخلاص، المرتبط بالتعليم عن يسوع المسيح. شدّد على ملء التواصل بين مخطّط الله عبر عهده مع اسرائيل وقمّة مخطّطه في المسيح. فبقيّة يهوذا التي ستخلص، حسب يوئيل، تتماهى مع الذين يدعون باسم الربّ يسوع. ولكن عبر تمجيد المسيح وجلوسه عن اليمين، نقدر أن نرى الله يمارس سيادته كالسيّد على الجميع، على اليونانيّ كما على اليهوديّ. فعبر المسيح تتمجّد الأمم، كما قالت الكنيسة الأولى حين جمعت مز 110: 1 مع مز 8: 6. فوكيل الله على الأرض، هو ذاك الذي به تُرفع الطلبات إلى الله طلباً للعون. هو الذي يقدر أن يهب لنا غنى الله. لقد عمل الله في المسيح وبالمسيح، ليصل إلى المرحلة الأخيرة في مخطّطه من أجل البشر، بحيث لا يستطيع اليهوديّ بعدُ أن يطالب بحقوق خاصّة للاقتراب من الله، حقوق لا تُعطى لليونانيّ. فالله نفسه قد رتّب الاقتراب منه بواسطة المسيح. ما قاله بولس هنا ليس فقط امتداد نعمة الله إلى الجميع بحيث ينتهي العهد مع اسرائيل والامتيازات التي نعم بها الشعب اليهوديّ وحده. فالله الذي التزم بعهد مع اسرائيل، لا يمكن أن يبقى فقط إله اسرائيل. فهو أيضاً الاله الذي يهتمّ بالبشريّة في المسيح، الذي قام من بين الأموات وتمجّد وجلس عن اليمين. هو لن يُفهم ولن يُعرف إلاّ إله هذا المسيح. وإذ التزم أن يفعل في المسيح وبالمسيح، طلب من البشر جميعاً أن يقتربوا منه بالمسيح. تلك هي الطريق ولا طريق غيرها. وكل ما كان قبل المسيح يجب أن يتمّ في المسيح. وما خرج عن طاعة المسيح يُرذل، وتكون آخرتُه الحريق كما قالت الرسالة إلى العبرانيين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM