الفصل الحادي والثلاثون
المدعوّون من اليهود والأمم
9: 25- 33
السبب الذي لأجله تجاوب الأممُ مع نداء الله، ساعة بدا اسرائيل وكأنه أضاع هذه الطريق، قد قيل بوضوح في ف 2- 4. ولكن بولس يقدّم الآن ما طرحته التعارضاتُ السابقة. هو يعبّر عن هذه النقطة بلغة عبّر عنها حين قدّم الموضوع الأول في الرسالة: البرّ والإيمان. مع ما يقابلهما: موضوع الشريعة الذي ضُمَّ ضماً تاماً. ما حصل لبني اسرائيل هو أنهم مَزجوا الشريعة والبرّ. إن أعمال الشريعة، مثل الختان، استُعملت لتعطي البرّ وظيفة من أجل الهويّة اليهوديّة، لا نعمة الله التي تصل إلينا بالإيمان. وكان تعبير عن هذا الفشل حين رفضوا أن يُقرّوا أن يسوع هو المسيح. وإذ أراد بولس أن يثبت هذه النقطة، عاد إلى الاتهام: مزجوا الغيرة من أجل الله مع حميّة وطنيّة، واعتبروا أن البرّ شيء خاص بهم دون سواهم. كل هذا سيجد البرهان عنه في الكتاب المقدّس ولا سيّما الأنبياء، بحيث إن اللاأمانة (اليهود) والنداء (الأمم) دخلا في مخطّط الله. أجل، هذه الدعوة توجّهت إلى الأمم واليهود، والأمم هم الذين لبّوا النداء، أما اليهود فرذلوا أنفسهم حين رذلوا الانجيل.
1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 25، نقرأ: قال في (إن) هوشع. ترك الفاتيكاني حرف الجرّ، فصار النصّ: قال لهوشع.
في آ 27، «بقية» (كاتالايما). تجد سنداً لها، ولا سيّما في البردية 46، ولكن يبدو أن اللفظ تحوّل ليتوافق مع نصّ السبعينيّة.
في آ 28، اتّجه النسّاخ إلى إدخال كلمات اش 10: 23 التي تركها بولس.
في آ 31، أضاف النسّاخ، باكراً «البر» على لفظة «الشريعة». فصار النص: لم يبلغوا إلى شريعة البر.
في آ 33، أضيف «كل» (رج 10: 11). فصار النص: كل من آمن. «لا يخيب». إن البازي، و010، و011، جعلوا النص قريباً من السبعينية فجعلوا «أو مي» بدل «أو»: لا. ب- بنية النصّ
بعد أن نستعيد ما قلناه في آ 6- 13، نضيف:
هناك عدد من الشرّاح يفضّلون أن يقرأوا البرهان متواصلاً بدون أية وقفة منذ آ 19- 23. وآخرون يفضّلون ضم آ 24 إلى 22- 23. إن آ 25 إلى آ 29 تشكّل سلسلة من الايرادات الكتابيّة، عُرفت في الكرازة والتعليم، ولكنها لم تكن قطعة مستقلّة قبل أن يُدخلها بولس في توسّعه. من الممكن أن يكون هناك مقتطفات حول موضوع واحد مثل عودة اسرائيل، فكيّفه بولس وبدّل ما قال اشعيا عن الأمم. في أي حال، هذه السلسلة تثبت الموضوع الذي نقرأه في آ 6 أ: لا أقول إن كلمة الله خابت (فشلت).
1- تحليل النصّ الكتابيّ (9: 25- 33)
في مقطع أول يورد الرسول مقاطع من هوشع ومن أشعيا (آ 25- 29). وفي مقطع ثان (آ 30- 33) يستخلص أن اليهود لم يبلغوا البرّ لأنهم استندوا إلى أعمال الشريعة، لا إلى الإيمان. أما الأمم فنالوا البرّ دون أن يطلبوه، بعد أن وهبه الله لهم مجاناً.
أ- الآيات الكتابيّة (آ 25- 29)
«وفي كتاب هوشع» (آ 25). حرفيا: كما يقول أيضاً في هوشع (مر 1: 2). «كاي» (العطف) يعني: بالاضافة. «الذي ما كان». هذا نص هوشع في 2: 25 حسب العبري، 2: 23 حسب السبعينيّة. قال هوشع: «وأرحم لا رحمة. وأقول لشعبي: شعبي أنت». وفي روم 9: 25: «الذي ما كان شعبي، أدعوه شعبي، واللامحبوبة محبوبة». أدرج بولس «سأدعو». وتحدّث عن المحبّة لا عن الرحمة. هكذا دلّ على حريّته في التعامل مع النصّ. فالذين سقطوا يمكن أن يعودوا. ولكن اسمعيل وعيسو وفرعون رُذلوا وما استعيدوا.
«وحيث قيل لهم» (آ 26). ويرد هو 2: 1 في السبعينيّة. في الماسوري 1: 9. «في الموضع» (توبوس). أي في فلسطين حيث تنبّأ هوشع. فقد يشير بولس إلى الحجّ الاسكاتولوجيّ الذي تقوم به الأمم إلى صهيون (مز 22: 27؛ اش 2: 2- 3؛ 56: 6- 8؛ 60: 2؛ مي 4: 2؛ صف 3: 9؛ زك 2: 11؛ 14: 16؛ طو 13: 11؛ 14: 6- 7؛ مز سل 17: 34؛ سيب 3: 710- 720، 772- 775). ولكن قد يكون المعنى لاهوتياً، لا جغرافياً: حتى هنا. عندئذ يكون تعارض بين «لا شعبي/شعب الله الحيّ». هناك شعب اثني وأولاد الله مع الشموليّة. «الله الحي» يقابل عند اليهود «الأصنام الميتة». رج 2 كور 6: 16؛ 1 تس 1: 9. هنا نشير إلى أنه إن كانت نصوص معادية للأمم. فهناك نصوص تنتظر خلاص الأمم. الخلاف ليس في موقف اليهود تجاه الأمم، بل النظرة إلى الخلاص (بواسطة الشريعة).
«ويكتب اشعيا» (آ 27- 28). حرفياً: نادى، هتف، صرخ (كرازو). صفة الالحاح الحاضرة. لا مكان للانتظار. «اسرائيل». الشعب الذي يرضى الله عنه. لم يعد بولس يميّز بين اليهود والأمم. كلهم صاروا اسرائيل. «إن كان بنو اسرائيل». مزج بولس هنا هو 1: 10 (2: 1 في السبعينية) واش 10: 22- 23. ونقرأ هوشع: «وعدد بني اسرائيل مثل رمل البحر». واشعيا: «وإن كان شعب اسرائيل كرمل البحر» (آ 22). روم 27 ب: «وإن كان بنو اسرائيل مثل رمل البحر». اشعيا: «بقيّة منهم تعود مكمّلاً كلمته». روم 9: 27 ب: «بقيّة تعود». روم 9: 28: «مكمّلٌ الكلمة». أشعيا: «مسرعٌ في البرّ لأن الكلمة مسرعة». روم: «مسرع». اشعيا: «الله يعمل في المسكونة كلها». روم: سيَعمل الربّ على الأرض».
تبع بولس السبعينيّة مع فعل «تعود» (ي ش وب). ولخّص النصّ فصار واضحاً. «البقيّة» (هيبولايما). لها معنى سلبي وتهديدي (2 مل 21: 14؛ اش 14: 22، 30؛ حز 5: 10). أما المعنى عند بولس فهو إيجابيّ (تك 45: 7؛ 2 مل 19: 31؛ مي 4: 7؛ 5: 7- 8؛ سي 44: 17؛ 47: 22؛ 1 مك 3: 35).
«وأنبأ اشعيا» (آ 29). ذكر النبي هنا أيضاً. هذا يدلّ على أهميّة اشعيا بالنسبة إلى بولس وإلى الكنيسة الأولى. أورد النص اش 1: 9 كما في السبعينيّة مع «سبارما» (نسل) الذي ترجم بقية قليلة في العبريّة (ث ر ي د. ك م ع ط). رج اش 6: 13؛ 37: 3- 4؛ وثص 2: 11- 12؛ 1 أخن 83: 8؛ 84: 5. سدوم وعمورة هما نموذجان عن الدينونة الاسكاتولوجيّة (تث 32: 32- 35؛ يوب 16: 5- 6؛ مت 10: 15 وز؛ 11: 23- 24؛ لو 17: 28- 30؛ 2 بط 2: 6؛ يهو 7؛ رؤ 11: 8. وضعُ اسرائيل وصل إلى حدّ جعله بولس في خط سدوم وعمورة.
ب- بالإيمان لا بالأعمال (آ 30- 33)
«ماذا نقول» (آ 30). رج آ 3، 5. هو سؤال يتبعه سؤال (6: 1؛ 7؛ 7؛ 8: 31؛ 9: 14) ولكن في أسلوب جدال. مع «هوتي» أن، ننتظر جواباً بالإيجاب. «الأمم». لا الأمم كلهم، بل بعض الأمم (آ 24). ديوكو (سعى) مع «كاتالمبانو» (أدرك). هي ملاحقة ووصول. تك 31: 23؛ خر 15: 9؛ تث 19: 6؛ يش 2: 5. أما صورة النسل فهي بولسيّة (فل 3: 12؛ 1 كور 9: 24). وهناك سعي وراء البر (تث 16: 20؛ أم 15: 9؛ اش 51: 1؛ سي 27: 8). تردّد لفظ البرّ ثلاث مرات.
«أما بنو اسرائيل» (آ 31). ما قال «اليهود»، فبولس لا يتّهم الأفراد اليهود. بل يعارض فهم الشعب أنه شعب العهد. شريعة البرّ هي ما يسعى (ديوكو) إليها اليهود. هي معيار يحدّد ما يطلبه الله من شعب العهد= البرّ. رج حك 2: 11. وهذا يُفهم بلغة الإيمان، لا بلغة الأعمال (آ 32). «فتانو» (بلغ). هي صورة السعي تتواصل (آ 30؛ فل 3: 16؛ رج قض 20: 42؛ 2 صم 20: 13؛ وص نفتالي 5: 3، 7). ما نجح في تتميم الشريعة. تبدّلت الصورة.
«ولماذا» (آ 32). سؤال مفاجئ يدلّ على قوّة العاطفة (2 كور 11: 11). وعى بولس ما في أقواله السابقة من نتيجة مشككة. «لأنهم سعوا». شريعة البرّ، أو الشريعة التي تحدّد البرّ. من الإيمان، من الأعمال. عاد بولس إلى ما قاله في دفاعه في 3: 20، 27- 28؛ 4: 2؛ 9: 11: من جهة، الشريعةُ التي تحدّد البرّ تُفهَم فهماً ضيقاً في لغة متطلّبات الشريعة، التي تميّز اليهوديّ عن الأمميّ. ومن جهة ثانية، الشريعةُ التي تحدّد البرّ تُفهم في لغة طاعة الإيمان التي يمكن أن يقدّمها الأمميّ كأمميّ (3: 20؛ 3: 27). خطيئة اسرائيل كانت أنه فهم البرّ وكأنه يخصّه وحده (10: 3). وجاءت «هوس» (كما) فدلّت على أن نظرة اسرائيل هي وهم وسراب. «عثروا بحجر العثرة». «بروسكوبتيو»: صدم، ضربت رجله بحجر (مز 91: 12). رج أم 3: 23؛ إر 13: 16؛ طو 11: 10. «بروسكوما»، العائق، العثرة، سبب العثرة (سي 31: 7؛ 1 بط 2: 8).
«كما يقول الكتاب» (آ 33). كما كُتب (1: 17). الايراد التالي هو مزيج اش 28: 16 و8: 14. هذا ما لا نجده في التأويل اليهوديّ، بل في الحلقات المسيحيّة الأولى (10: 6؛ 11: 8، 26- 27). رج مت 2: 23؛ لو 11: 49؛ يو 7: 38؛ 1 كور 2: 9؛ يع 4: 5.
اش 28: 16 ها أنا أضع في صهيون حجر أساس
روم 9: 33 ها أنا أضع في صهيون حجراً
ويتواصل اشعيا: فمن آمن به لا يُخزى
وتتواصل روم: فمن آمن به لا يُخزى
قال النص العبريّ «لن ينهزم» بدل «لا يُخزى». لا نجد «به» (ان اوتو) في الفاتيكاني. ولكن الترجوم يفهم هذا عن الملك المسيح. هذا يعني أن تفسيراً مسيحانياً برز في الحلقات المسيحيّة.
ونقرأ اش 8: 14- العبرية: الرب يكون حجر عثرة وصخرة شك
السبعينية: حجر عثار، صخرة سقوط
روم: حجر عثرة وصخرة شكوك
كل هذا من عند الرب، مع صورة الصخر السلبيّة لا الإيجابيّة كما في اش 28: 16 (رج 1 بط 3: 6). في أي حال، الامكانيّتان هما أمام اسرائيل. ونحن هنا أيضاً أمام نصّ مسيحانيّ، كما سبق وقلنا. وذكر النص «صهيون» التي تدلّ على افتخار اليهود (اش 1: 27؛ 2: 3؛ 4: 3- 5). مع أن لا إشارة إلى أن بولس استعمل فكرة «الشريعة» الآتية من صهيون (اش 2: 3؛ مي 4: 2) كمفهوم اسكاتولوجيّ للشريعة، التي تتميز عن شريعة سيناء، إلاّ أنه احتفظ بنظرة إيجابيّة إلى شريعة.
«بروسكوما» (عثرة). رج 9: 32. «سكاندالون» (شك). ما يسبّب القرف أو المقاومة. ما هو موضوع غضب أو عدم رضى. في السبعينيّة: ما هو سبب دمار (حك 14: 11). اللفظان مترادفان تقريباً (14: 13). ولكن «الشك» استُعمل كثيراً في الدفاع المسيحيّ (مت 16: 23؛ 1 كور 1: 23؛ غل 5: 11). عاد بولس إلى صورة الصخرة لأنها تحمل معنيين. تكون حجر زاوية. كما تكون حجر عثار وشك. وما عاد إلى مز 118: 22: الحجر الذي رذله البناؤون. «بستاوو» (آمن). رج 1: 16. ذُكر هذا الفعل وسيكون له دوره في ف 10 (آ 4، 9- 11،14، 16).
3- خلاصة لاهوتيّة
في آ 25- 26 رأى بولس في كلام موجه إلى مملكة الشمال (هوشع) تهيئة لهذه النقطة. يستطيع الله بندائه أن يحوّل وضع العهد للذين هم خارج العهد أو يرذلهم خارج العهد. هو يستطيع أن يدعو الذين لا يقفون في مكان لكي يكونوا «أبناء الله الحيّ». هذا يعني أن الأمم الذين تجاوبوا مع نداء الله هم مثل قبائل الشمال التي ضاعت وتشتّتت. والكتاب بيّن أن الذين لم يكونوا شعب الله، يستطيعون أن يكونوا شعبه بنعمة منه. فشعب اسرائيل خسر العهد «بزناه» (خيانته)، وسيكون له في كلام هوشع وعداً بالعودة. ولكن القوة الكبرى للايراد الكتابيّ مع ادراج لفظ «دعوة»، تقوم في أن يُبرز مفهوم شعب الله كدعوة من الله وحده بحيث إن هذه الدعوة تستطيع أن تحوّل تحويلاً تاماً ما ظهر وكأنه رذْل إلهيّ. هذا ما يعارض اذاً اعتداد اسرائيل بأنه الأمّة المرضيّ عنها. وامتياز البنوّة لا يعود ينحصر في اليهود، بل يصل إلى جميع الذين يتجاوبون الآن مع نداء الله بواسطة الانجيل.
في آ 27- 28 نقرأ إيراداً كتابياً ثانياً يعود حصراً إلى اسرائيل. هذا الايراد الذي يمزج اشعيا مع هوشع، يتعلّق بمملكة الشمال مع انحطاطها وسقوطها. مقطع اشعيا صدى لمواعيد العهد للآباء، بنسل يكون كالرمل على البحر (تك 32: 2). لهذا يعلن أن أسس مواعيد العهد لا تكفل أن يمارس الله عدم الرضى تجاه اسرائيل. بل إن الوعد يمكن أن يتمّ، ولو مع بقيّة، وبحيث ينال القليلون الخلاص. هنا أيضاً نبّه الكتاب اعتداداً حصرياً بخلاص نهائي يستند فقط إلى مواعيد أعطاها الله في البدء. فالمواعيد تبقى صحيحة. والاعتداد يجعلها كاذبة. وبيّن بولس دهشته حين رأى أن بعض شعبه تجاوبوا مع الانجيل. ولكن لا شك في أنه رأى في كلام اشعيا تثبيتاً إلهياً: إن تجاوب شعبه الفقير هو جزء من مخطّط الله الشامل في نهاية الزمن. وقد يكون ترجّى في تتمة كلام اشعيا أن شعبه لن يكون البقية الباقية، بل يكثر عددهم وينمو.
وفكرة البقية (آ 29) قادت بولس إلى النصّ الأخير (اشعيا) الذي يعالج الموضوع عينه. نقرأ هنا شكراً لله الذي لم يسمح أن يدمّر شعبُه كلّه. وكان كلام عن «الزرع»، النسل. هذا النسل هو نسل الموعد كما يراه بولس، والأمم العديدة التي وُعد بها ابراهيم لنسله. كل هذا جعل بعض الأمل في قلب الرسول. فالبقية هي قلّة تثبط الهمة. أما الزرع فيضمّ جميع الشعوب، الأمم واليهود.
في آ 30، أدخل بولس مرحلة جديدة من برهانه مع سؤال: ماذا نقول؟ وما يلي هو نصف سؤال، نصف قول، وهو يوجز ما قيل بشكل مختلف في آ 24- 26: الأمم الذين لم يسعوا إلى البرّ. هو لا يتطلّع إلى الأمم كأمم أو كفئة خاصة (وإلا يعود إلى مقال يعارضه)، بل إلى الأمم الذين تجاوبوا مع نداء الله في الانجيل، الذين جاءوا إلى الإيمان بالمسيح. هم ما سعوا إلى البرّ. أي لم يسعوا وراء علاقة مع إله واحد، تعطيها النعمةُ وتسندها. البرّ هنا يعني كلمة العهد. هذا شيء غير ممكن للأمم بالطبيعة، فهذا يرتبط في النهاية بالله. وقدرة الله هي التي تساند الانسان في ارتباطه كخليقة بالخالق وتؤهّله ليحيا عبر هذه العلاقة. هذه العلاقة بعهد مع اليهود ومع الأمم، ظلّت مجهولة إلى أن عرّفنا الانجيل ببرّ الله لكلّ انسان. هذا هو التبرير بالإيمان: يَقبله الانسانُ من البداية إلى النهاية، ولا يسعى إليه (آ 32). هذا البرّ يقدّمه الله في أمانته للعهد. لليهود أولاً. ويقدّمه أيضاً للأمم.
ولكن ساعة لم يطلب الأممُ البرّ (آ 31)، أدركوا البرّ. أما اسرائيل ففشل في البلوغ إليه رغم مجهود جدّي. ما قال بولس: اسرائيل الذي سعى إلى البرّ لم يدركه. بل قال: إن اسرائيل سعى إلى شريعة البرّ فما أدرك هذه الشريعة. هنا نتذكّر أن بولس لا يحتقر الشريعة، بل يعتبرها هدفاً لا بدّ أن نسعى إليه. وفشلُ اسرائيل ليس في أنه لم يفهم البرّ كشريعة، بل لأنه جعل الشريعة محلّ البرّ. أدركوا الشريعة وما أدركوا البرّ. هذا نناله بالإيمان، وتلك بالسعي البشريّ مثل الفريسيّين.
ولماذا لم يبلغ اسرائيل إلى شريعة البرّ (آ 32) مع أنه سعى وراء العهد وشريعته؟ ليس لأن اسرائيل سعى وراء كمال خلقيّ، مستحيل على الانسان، بل لأنه رأى ارتباطه بالعهد كموضوع أعمال لا موضوع إيمان. أخطأت أمّة بولس حين فهمت البرّ بلغة الأعمال. وليس البرّ فقط، بل لم يفهموا الشريعة عينها حين فهموها أعمالاً. هنا يعود بولس إلى 3: 27 مع التمييز بين «شريعة الإيمان» و«شريعة الأعمال». فهمَ اسرائيلُ البرّ طاعة للشريعة، والطاعة للشريعة تقوم في أعمال خاصة مثل الختان وحفظ السبت والطهارة الطقسيّة. ظلّوا على المستوى الوطني، وأرادوا تتميم الشريعة على مستوى الجسد. تلك هي العبرة التي يجب أن يتعلّمها اليهود مع اختيار الله لاسحق (لا لاسمعيل) وليعقوب (لا لعيسو).
ورأى بولس هذا الفشل في كلام قاله اشعيا (آ 33). نبّه ضد سياسة وطنيّة خلال أزمة الأشوريين، فدعا إلى الإيمان بالله. شبّه النبي الإيمان بحجر ثمين، مختار (28: 16). وكان قد أعلن أن الله سيكون لبني اسرائيل حجر عثرة (اش 8: 14). رأى بولس في هذين النصين رجاء في بقيّة مؤمنة. وقارب بين وضع واجهه اشعيا ووضعٍ عرفته كنيسة رومة: البقية المؤمنة التي تحدّث عنها اشعيا هي قلّة من اليهود قبلوا الانجيل. أما الأكثريّة فعثرت بحجر العثرة كما أنبأ اشعيا. فشل اسرائيلُ في فهم الشريعة كشريعة الإيمان، فشل في التجاوب مع نداء الإيمان في المسيح، فشل في تقدير الطاعة للشريعة أنها طاعة للمسيح (6: 17). الحجر الذي تكلّم عنه اشعيا هو المسيح. غير أن هناك حجرين: حجر المسيح أو الإيمان بالمسيح (اش 28: 16) هو أيضاً حجر عثرة (إش 8: 14). فيا ليت اسرائيل يعود إلى كتبه فيكتشف فيها الوعود التي تصل في النهاية إلى المسيح.
الخاتمة
ذكر بولس هنا قساوة اعداء الله، على أنه حلقة في سلسلة تربط تاريخ البشر بتاريخ الخلاص. أما «العدوّ» اليوم فهو العالم اليهوديّ الذي يرفض المسيح ويقاوم الرسالة الشاملة التي يقوم بها المسيحيّون. غير أن هذا «العداء» يخدم مخطّط الله ورحمته اللامتناهية. هكذا في الماضي وهكذا الآن. فيسوع الذي قام، يعبده البشرُ في العالم كله. أما البرهان فقد أخذه بولس من نبوءة هوشع حول الشعب الغريب الذي صار الشعب المحبوب، ومن نبوءة اشعيا حول البقيّة التي منها تستخرج قدرةُ الله نسلاً أميناً هو نسل ابراهيم الذي يجد كماله في المسيح. وماذا كانت النتيجة؟ ما عرف الأمم الاله الحقيقيّ معرفة دقيقة، وما تسلّموا شريعة مثل اليهود. ومع ذلك نالوا البرّ من الله، لأنهم استندوا فقط إلى رحمة الله، وتيقّنوا يقين الإيمان أن الله أحبّهم وبذل نفسه من أجلهم. أما اليهود فاعتبروا أنهم يصلون إلى البرّ حين يحفظون الوصايا. أرادوا مع الله علاقة على مستوى الشريعة التي تحمل الحكم للخاطئ واللعنة. أما الله فجاءهم بكلمة الحب والرحمة. فردّوا برفض قاتل. ما آمنوا، فصار لهم المسيحُ المخلّص، سببَ عثار كما قال النبي اشعيا وصخرةَ سقوط. لهذا خابوا. ولكن الكلمة الأخيرة ليست الدينونة بل الخلاص. وفشلُ الله الموقت سيتحوّل إلى نجاح، لأنه سيرحم الجميع في النهاية، اليهود والأمم.