الفصل السابع والعشرون: محبّة الله في المسيح يسوع

الفصل السابع والعشرون
محبّة الله في المسيح يسوع
8: 31- 39

قدّم لنا الرسول في نهاية القسم الثالث استنتاجاً أول حول نظرة جديدة إلى الإيمان في علاقته بالأفراد وبالبشريّة كلها. علاقة بالمؤمن في الحاضر وفي المستقبل. علاقة بالبشرية مع قصد برّ الله الذي نقلَنا من آدم الأول إلى آدم الثاني. وها هو القسم الرابع يقدّم لنا استنتاجاً آخر، هو انتصار الله. أمانته هي سند إيماننا. لهذا أطلق بولس نشيداً لمحبّة الله التي عملت وما زالت تعمل. التي بدأت مع الشعب الأول وواصلت مع الشعب الثاني. لهذا لا يمكن المؤمن إلاّ أن يعيش في الرجاء، فينال قوّة تجعله لا يخاف من قوى الأرض ولا من قوى السماء، من الموت ولا من الحياة، من هذا الدهر ولا من الآتي. إذا كان الله هو الذي برّرنا، فمن يجسر أن يحكم علينا؟ إذا كان الله أعطانا ابنه، فماذا لا يعطينا بعد؟ يبقى علينا أن نشارك المسيح في آلامه لنشاركه في مجده، وهكذا لن يعود شيء يفصلنا عن محبّته.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 33، يمكن أن تكون الآية كلّها في شكل سؤال. أو نقول: من يتّهم...؟ الله هو الذي...
في آ 34، نقرأ: والمسيح يسوع. في عدد من المخطوطات لا نقرأ لفظ «يسوع». لهذا تلغيه بعض الترجمات. في عدد من الشهود، منها السينائي، يضاف: «من بين الأموات» بحيث تصير الجملة: «أقيم من بين الأموات»، لا أقيم، أو قام فقط.
في آ 35، نقرأ: محبة المسيح. السينائي يقرأ: محبّة الله. والفاتيكاني: محبة الله في المسيح يسوع (رج آ 38). أما الكلام عن الله فيشدّد على الاله الواحد.
في آ 37، نقرأ «ديا» (بواسطة) مع المجرور. البازي و10. و11. يجعلون المفعول: بسبب. عند ذاك يضيّقون النظرة، ويتوقّفون عند حدث من الماضي هو موت المسيح، ولا يحافظون على معنى التواصل والكلام عن فيض الحبّ.
في آ 38، تضيف بعض التقاليد «إكسوسياي» (السلطات) بعد «الملائكة». بعض التقاليد نقلت «القوّات» (دينامايس) التي تقع في آخر الآية قبل «ولا» لتربطها مع الرؤساء (ارخاي، الرؤساء).
ب- بنية النصّ
وجد القسمُ الأخير من ف 6- 8 ذروتَه في كلام عن تأكيد واثق (آ 26- 30)، فوصل إلى مديح يعلن ما صنعه الله في المسيح وعبر المسيح. فثبّت رباطَ المحبّة الذي لا يمكن أن يُحلّ، في هذا النصر. نشيد الثقة بالخلاص هو قلب الرسالة كلها. كانت البنية إيقاعيّة، فدلّت على شعور عميق، لا على أسلوب مصطنع (كما قال البعض). وهذا الاحساس بالعظمة، ينتقل في القراءة مع سؤال وجواب. التقسيم الطبيعيّ يمكن أن يكون: آ 31- 32، آ 33- 34، آ 35- 37، آ 38- 39. إن آ 32 هي صياغة آ 31 ب وآ 33- 34 صياغة آ 31 ج. وقال آخرون: تشكّل آ 31 ب- 32 القول الأساسيّ. آ 33- 37 هي الجدال. آ 38- 39 هي الخلاصة.
هناك جدال حول ما وراء هذا النشيد. هناك من قال بوجود نصّ قبل بولس يتضمّن آ 31 ب- 32 أ، آ 33- 35 أ، آ 38- 39. وكان ردّ يقلب آ 31 ب وآ 31 ج، ويعتبر بأن لا أساس لقطع آ 35 ب- 37، مع الشدّة (باريستاسيس). من الممكن أن تكون آ 32 و34 صدى لمواد اعتراف إيماني (رج 8: 32 و8: 34). واعتبر آخرون أن آ 31- 34 جاءت من محيط قبلبولسيّ.
إن ما نقرأه في آ 35 من لائحة، نجده في رسائل بولس. الشدّة (روم 2: 9؛ 2 كور 6: 4؛ 2 تس 1: 4). الجوع (2 كور 11: 27). العري (2 كور 11: 27). الخطر (2 كور 11: 26). السيف. وفي آ 38- 39، الموت (1 كور 3: 22؛ فل 1: 20). الملائكة (1 بط 3: 22). ثم الرؤساء (1 كور 15: 24؛ كو 1: 16؛ 2: 10، 15؛ أف 1: 21؛ 3: 10؛ 6: 12). الحاضر (1 كور 3: 22؛ أف 1: 21). المستقبل (1 كور 3: 22؛ أف 1: 21). القوى (1 كور 15: 24؛ أف 1: 21؛ 1 بط 3: 22). العلو (3: 18). العمق (3: 18)، خليقة (كو 1: 16).
في آ 38- 39، جاءت الألفاظ اثنين اثنين: الحياة والموت، الحاضر والمستقبل، العلو والعمق. ثم الملائكة والرؤساء (رج 1 كور 15: 24؛ رئاسة سلطة. ق أف 1: 21؛ 3: 10؛ 6: 12؛ كو 1: 16؛ 2: 10، 15؛ رج 1 بط 3: 22). ثم ليس من الواضح أن يكون بولس قد عاد إلى عبارات سابقة. هناك عناصر مثل «عروش» (كو 1: 16) و«سلاطين» (أف 1: 21). حين نقابل اللوائح المعروفة (2 كور 6: 4؛ 11: 27. ثم كو 1: 16؛ أف 1: 21)، نرى أن بولس كان حراً في استعمال عناصر وُجدت فيها، وإن ما أخذها كما قرأها.
هذا المقطع (آ 31- 39) هو خاتمة ف 8. عادت آ 31- 32 إلى مبادرة الله في آ 3. والثقة بأنه لا تكون دينونة في آ 34 هي صدى لما في آ 1. «معه» (سين أوتو) في آ 32، تجمع الألفاظ مع «سين» في آ 17. فعلُ «يشفع» في آ 34 يرتبط بما في آ 26- 27. ومناخ النصر التام في آ 35- 39، يُبعد كلَّ شكّ يرتبط بما في آ 17- 2 3. وهناك تذكّر لما في 5: 1- 11. عبر الخطيئة والموت اللذين لم يُذكرا (تتضمّنهما آ 33- 34)، ليس من قبيل الصدف أن اللفظ الأول في اللائحة النهائيّة (آ 38) هو الموت. وهناك تلميحات إلى ما سبق. «أسلم» في آ 32 (1: 24، 26، 28). «برّر» في آ 33 (2: 13 ...). «حكم» في آ 34 (2: 1). «الضيق والاضطهاد» في آ 35 (2: 9). «خليقة» في آ 39 (1: 25). وإن آ 31- 34 تعود إلى النقطة التي وصلنا إليها في بداية ف 3: مدافعة عن أمانة الله لاسرائيل. وهنا دفاع عن أمانة الله لخاصته. كل هذا يعود بنا إلى «من إيمان إلى إيمان»، من إيمان الله إلى أمانة الانسان.
وهناك سمة هامّة في هذا المقطع: طابعه اليهوديّ. نجد تلميحاً إلى اسحق (آ 32، ما بخل بابنه؛ رج اش 53: 6). اختيار الله (آ 33). المسيح (آ 35). استعمال مز 44: 23 (آ 36). إبراز محبّة الله (آ 37، 39). وفوق كل هذا، يتحوّل الموضوع في3 : 1- 8: حبّ الله الأمينُ يعبر ويتجاوز كلَّ شيء. أخذ بولس مواضيع من وعي اسرائيل أنه شعب الله، وطبّقها بدون تحفّظ على الأمم. وهذا ما دفع القارئ لكي يتساءل: ماذا عن شعب الله، عن اليهود؟ وهكذا يهيّئنا هذا المقطعُ للدخول في القسم الخامس من الرسالة إلى أهل رومة.

2- تحليل النصّ الكتابيّ (8: 31- 39)
نجد في هذا النص ثلاثة مقاطع. في الأول (آ 31- 34) يُطلق بولس صيحة، وهو الذي نال نعمة التبرير، انتصاره التام. إن كان الله معنا فمن يقدر علينا؟ وبمثل هذه القوة التي ينعشها الروح، يهتف: من يفصلنا عن محبّة المسيح؟ والجواب: لا شيء (آ 35- 37). هذا ما يعطينا الثقة التامة (آ 38- 39) بأننا نغلب جميع القوى المعادية على الأرض وفي الجو، بل تحت الأرض. أجل، لا شيء يفصلنا عن محبّة الله في المسيح يسوع ربّنا.
أ- إن كان الله معنا (آ 31- 34)
«بعد هذا كله» (آ 31). ماذا نقدر بعدُ أن نقول (3: 5)، بالنسبة إلى كل هذا. هو سؤال يبدو بشكل خاتمة. «إذا كان الله معنا». نلاحظ البهجة بالنصر. ليس الموت والخطيئة معنا. بل الله. إذا. أي بما أن. «هيبار» من أجلنا (أسلم من أجلنا). رج مر 9: 40؛ 2 كور 13: 8. هذا ما يجعلنا في خطّ المزامير، في إطار البريء الذي يتألّم. يتطلّع بولس هنا إلى الدينونة الأخيرة في نهاية التاريخ. فهي التي ستنتصر، والكلمةُ الأخيرة هي لأمانة الله.
«الله الذي» (آ 32). فهو الذي، أو: ما بخل حتى بابنه. رج 11: 21؛ 2 كور 13: 2. أرسل الله ابنه في النعمة، رداً على الغضب الذي يهدّد الخلائق. أرسله من أجل خيرهم (آ 27، 31، 34؛ 9: 27؛ 10: 1؛ 15: 30؛ 16: 4). وموتُه سيكون ذبيحة (14: 15؛ 1 كور 1: 13؛ 11: 24؛ 15: 3). «جميعاً». أي الأمم واليهود. وهكذا كان بولس أميناً لمنطقه. رج 1: 5، 16؛ 2: 9- 10؛ 3: 4، 9، 20، 22، 23؛ 4: 11، 16؛ 5: 12، 18). «نحن». أي البشريّة الجديدة، اخوة (وأخوات) المسيح القائم من الموت. آدم الاسكاتولوجيّ. هناك من يقابل بين هذه الآية وبين تك 22: 16. قال بولس ابنه «الخاص» (لا الحبيب). أراد أن يبعد أي لبس حول البكر (آ 14- 17، 29)، حيث «الحبيب» (اغابيتوس) تقابل «ي ح ي د» (الوحيد) في العبريّة. فقرّاؤه هم أحبّاء: 1: 7؛ رج 11: 28؛ 12: 19. رج أيضاً مقابلة بعيدة مع 2 صم 21: 1- 14. نشير هنا إلى أن بولس لم يتكلّم عن ذبيحة اسحق في ف 4، لأن همه ليس أن يتحدّث عن أمانة اليهوديّ التقي، بل عن أمانة الله. وهكذا ابتعد عن التوسّع اليهوديّ الذي عرفته ذبيحةُ اسحق في بداية المسيحيّة (كعب 18: 5؛ 32: 2- 4؛ 40: 2).
«كيف لا يهب لنا». كيف بمعنى: بالأولى، بالأحرى (5: 9، 10، 15، 17). معه (سين أوتو). مع هذا الابن الذي وهَبنا، سيهب كل شيء. هي إشارة إلى موت المسيح. وتضامنه في جسد الخطيئة (آ 3) ورفقته لنا في الموت والقيامة (آ 17). «كل شيء». أي ملء الخلاص. وبالأحرى الخليقة كلها. عندئذ نشارك في سيادة المسيح (مز 110: 1 مع تلميح في آ 34: عن يمين الله). الفعل «خاريتوو» (وهب) هو في صيغة المضارع: كمال صنع الله في مقصد الله. وهب الله كلَّ هذا كنعمة (خاريس). هذا ما يميّز انجيل بولس (1: 5؛ 3: 24؛ 4: 4، 16؛ 5: 2). إن سيادة الانسان على الكون هبةٌ من الله، وتمارَس في ارتباط بالله. وهكذا جاء انتصار الله في خلقه رداً على عبوديّة رفض فيها الانسان أن يُقرّ بارتباطه بالله (1: 21- 25).
«فمن يتّهم» (آ 33). إنكاليو. لفظ قانونيّ يعود إلى المحكمة. اتهم، لاحق، اضطهد، اتّخذ إجراءات. رج أم 19: 5؛ حك 12: 12؛ سي 46: 19؛ أع 19: 38؛ 23: 28. هو اتهام في نهاية التاريخ والدينونة الأخيرة (في الفكر اليهودي، إبليس هو الذي يتهم، أي 1- 2؛ زك 3: 1- 2). «مختاري الله». هو عنصر مركزي في فهم اليهود لأنفسهم (1 كور 16: 13؛ مز 89: 3؛ 105: 6؛ اش 42: 1؛ حك 3: 9؛ 4: 15؛ يوب 1: 29؛ 1 أخن 1: 3، 8؛ 5: 7- 8؛ 25: 5). وبولس يريد أن يبيّن التواصل بين الشعب الأول والشعب الثاني كما في مر 13: 20، 22، 27 وز؛ لو 18: 7؛ كو 3: 12؛ تي 1: 1؛ رؤ 17: 4، ويتكرّر هنا اسم الله ليُبرز الفكر بقوة. «برّر». رج 2: 13؛ 8: 30. صيغة الحاضر تدلّ على أن عمل الله يتواصل. برّر وما زال يبرّر. رج اش 50: 8؛ قرُبتْ براءتي. ومن يخاصمني فليتقدّم للقضاء».
«ومن يقدر». (آ34). من هو الذي يحكم. اسم الفاعل. في نظرة اسكاتولوجيّة (الدينونة الأخيرة). بما أن الله هو الديّان، فمن يتجرّأ أن يحكم؟ وقد جاء الجواب في آ 33 ج: الله برّرهم. حين يمنح الله برّ الخلاص، فمن يحكم؟ والمسيح هو من يشارك الله في مهمّته كالديّان. رج 2: 16؛ ق 2 كور 5: 10 مع روم 14: 10. مات. بل بالأحرى قام. هناك تصحيح لما سبق (1 كور 14: 1، 5؛ غل 4: 9). يذكّرنا بولس في كلامه عن المسيح (سوتيريولوجيا) أن موت يسوع وحده لم يكن حاسماً من أجل خلاص خاصته. الموت هو نهاية آدم الأول (آ 3). وهو يفتح الطريق لآدم الجديد في القيامة.
«عن يمين الله». رج مز 110: 1. ورد هذا المزمور مراراً في المسيحيّة الأولى. مر 12: 36 وز؛ 14: 62 وز؛ أع 2: 34- 35؛ عب 1: 13. «يميني». تدلّ على القدرة (خر 15: 6، 12؛ تث 33: 2؛ أي 40: 9؛ مز 17: 7؛ 18: 35؛ مز سل 13: 1؛ يوسيفوس، الحرب 1: 378). والجلوس عن اليمين يدلّ على الكرامة الخاصة (1 مل 2: 19؛ مز 45: 9؛ أع 2: 33؛ 5: 31؛ 7: 55- 46). «يشفع لنا». رج آ 27. كان العالم اليهوديّ يتكلّم عن شفاعة الملائكة. آدم الأخير يشفع في نسله (وص ابراهيم 11). وتحدّثت آ 26 عن شفاعة الروح.
ب- من يفصلنا عن محبّة المسيح (آ 35- 37)
«هيماس» (نحن، نا). (آ 35). بعد أن كنا مع (سين) المسيح (آ 17)، فمن يقدر أن يفصلنا عنه؟ فهذه الآلام تدلّ أننا اتحدنا مع المصلوب وما شككنا بحبّه. هناك كلام عن «حبّ الله» (5: 5؛ 8: 39؛ 2 كور 13: 13؛ 2 تس 3: 5)، وعن «حبّ المسيح» (2 كور 5: 14؛ أف 3: 19). رج لو 11: 42؛ يو 5: 42؛ 1 يو 2: 5؛ 3: 17؛ 4: 9؛ 5: 3؛ يهو 21). مع الشدّة والضيق نحن في نهاية الزمن (آ 18؛ 2: 9). «ديوغموس» هو الاضطهاد لسبب دينيّ. مر 4: 17 وز؛ 2 كور 12: 10؛ 2 تس 1: 4. والجوع هو أيضاً سمة الزمن الأخير (مر 13: 8 وز؛ رؤ 6: 8؛ 18: 8). العري: أن يكون الانسان بلا لباس. هذا يدلّ على انحطاط. لهذا كان اللباس ضرورياً لصحة الجسد والعلاقات الطبيعيّة (وص زبولون 7: 1؛ مت 25: 35- 36؛ 2 كور 11: 27؛ يع 2: 15). الخطر. رج 2 كور 11: 26. والسيف يدلّ على القتل، على الحرب (تك 31: 26؛ سيب 8: 120؛ مت 10: 34). هو الحاجز الأخير. ولكنه ليس بحاجز والمسيح معنا.
«فالكتاب يقول» (آ 36). كما كُتب. رج 1: 17. ورد مز 44: 22 (في السبعينيّة 43: 23) حرفياً كما في اليونانيّة. ردّده المعلّمون في كلامهم عن الشهداء المكابيين والذين قُتلوا في زمن هرقانوس. وهناك صدى لذلك في زك 11: 4، 7 وإش 53: 7. مثل هذا الضيق هو ما يسبق الحقبة الجديدة. رج آ 18؛ 1 أخن 103: 9- 15. مات المكابيون من أجل شريعة الله (2 مك 7: 9؛ 4 عز 7: 8- 9). مع بولس، المسيح هو التعبير الحاسم عن علاقة خاصة بين الله وشعبه (آ 35- 39؛ مت 5: 11؛ مر 8: 35؛ رؤ 1: 9).
«ولكننا في هذه الشدائد» (آ 37). في قلب كل هذه الأشياء. وربما: بالرغم من كل هذا. «هيبارنيكاوو» (انتصر مع «هيبار» للتشديد)، رج «نيكاوو» في المعنى عينه. نقول في العربيّة: انتصر انتصاراً كبيراً. انتصرنا لا بقوّتنا، بل بقوّة الذي أحبّنا. وقد عبّر عن هذه المحبة حين أعطانا ابنه (آ 31- 32). استعمل بولس أكثر من مرّة الفعل مع «هيبار» مثلاً في 2 كور 11: 23 مع فعل فاق، تجاوز (هيباربالو). في روم 8: 26 مع تشفّع...
ج- أنا على يقين (آ 38- 39)
«أنا مقتنع» (آ 38). أُقنِعت. صيغة المجهول (الله أقنعني) الكامل. أقنِعتُ في الماضي وما زلت مقتنعاً الآن. لا شيء يحرّك اقتناعي. رج 14: 14؛ 15: 14؛ 2 تم 1: 5، 12؛ عب 6: 9. يستند هذا الاقتناع إلى محبّة الله في المسيح (آ 35- 39)، كما ظهر بشكل خاص على الصليب (آ 32) وما تلاه من انتصار (آ 34؛ رج 14: 9؛ 1 كور 15: 25- 27؛ كو 2: 5). لسنا أمام اقتناع عقليّ، بل أمام خبرة اختبرناها (5: 5). «الموت» هو في رأس اللائحة كقوّة معادية (ف 5- 8). ثم «الحياة» التي تعارض الموت. يسبق كل من الاسمين النافية: لا الموت، لا الحياة. يشير بولس إلى الحياة بما فيها من ألم (آ 17 ي)، والتي لم تصل إلى كمالها بعدُ في الخلاص (2 كور 5: 8؛ فل 1: 23). جمع الحياةَ والموت، فضمَّ كل الوضع البشريّ في نظرة واحدة (كما نقول السماء والأرض). رج 14: 7- 9؛ 1 كور 3: 22؛ فل 1: 20.
«الملائكة». كائنات سماويّة. يتميّزون عن الكائنات الأرضيّة (1 كور 4: 9؛ 13: 1). يُذكرون مع «الرؤساء» مرّة واحدة في روم. يُعتبَرون وسطاء بين السماء والأرض (غل 1: 18؛ 4: 14). هناك الملائكة الصالحون، ملائكة الوجه (8: 26؛ 2 كور 11: 14؛ 2 تس 1: 7) والملائكة المعادون. 1 أخن 6- 8؛ يوب 5: 1؛ وص رأوبين 5: 6. هؤلاء الملائكة الأدنون قد يكونون حاجزاً بين الله وشعبه على الأرض. أو بما أن الملائكة يسوسون الأمم (تث 32: 8؛ دا 10: 13؛ سي 17: 17؛ يوب 15: 31- 23)، فيمكن أن يتعدّوا دورهم ويتدخّلون في الأمّة اليهوديّة. «لا الأشياء الحاضرة ولا الأشياء الآتية». هكذا جمع بولس الزمان، كما سبق له وجمع المكان.
«لا العلو ولا العمق» (آ 39). التعارض واضح ليدلّ على الكليّة. العلو هو عالم الكواكب، عالم السماء، والعمق يدلّ على ما تحت الأرض. كل ما يمكن أن يتخيّله العقل. «ولا شيء». بما أن الله هو الخالق، ذُكرت كلُّ الخلائق. هي لا تقدر. نعود هنا إلى محبّة الله (آ 28، 35، 37). المحبّة ترتبط بالامتياز (آ 28؛ 1: 7). فحبُّ الله في المسيح يضمّ كلَّ المؤمنين، الذين يخصّون المسيح الربّ، اليهود والأمم، هي ثقة بولس وأمانة الله التي تضمّ الذين أحبَّهم وساندهم.

3- خلاصة لاهوتيّة
قال بولس الآن (آ 31) ما احتاج من كلام ليبيّن فهمه للانجيل على أنه يحمل برّ الله للجميع، عبر الإيمان، وبمعزل عن الشريعة. هذا لا يعني أنه يُلغي المجهود الأخلاقيّ (ف 6). إنه يتخلّى عن الشريعة للخطيئة والموت (ف 7)، ولا يتجاهل واقع المؤمن الذي ما زال خاضعاً لضعف الجسد (ف 8). ترك لبعض الوقت الصفة الاسكاتولوجيّة وترك العنان لثقته بالله. انطلق فكره مباشرة من نهاية البرهان، من هبة الروح التي أعطيت له. وبما أن الألم يتواصل والضعف هو هو في الزمن الحاضر، تأكّد قصدُ الله من أجل الجميع. ويرفع بولس نظره فوق التعبير عن الثقة الذي يتطلّع إلى الأفراد بل إلى الكون في الدهر الحاضر، ليضع كل الواقع في كل وقت. يمتدح الله كالخالق، القوّة الأخيرة في الكون. مع إله خلق كل شيء، وخلق كلَّ شيء من أجلنا، ما من قوّة يمكنها أن تقاوم قوّة الله. وإذ يمجّد الرسولُ الله ويشكره، يبيّن كيف أن الإيمان بالمسيح يعيد الانسان إلى موقف الثقة والارتباط بالله. وكل البراهين عن الإيمان تحوّلت إلى نشيد لأمانة الله.
أساس ثقة بولس (آ 32) وأمانة الله لخاصته، هما المسيح. في المقطع السابق كانت خبرة الروح وحياة الإيمان، في الأفق. والآن هو يعود إلى صورة تضمّ الزمان والمكان. هو حدث المسيح الذي هو في منتصف الزمن ومحور كل شيء. وبشكل خاص، أساس الثقة هو موت المسيح. ما وفّر الله ابنه، بل أسلمه عن الجميع كذبيحة قدّمها (3: 25؛ 8: 3). كما في 5: 9- 10 ينطلق إيمان بولس من هذه النقطة المركزيّة. إذا كان الله أعطى نفسه بهذه الصورة، فهو سيعطينا كلَّ شيء. لا شكّ، كل ما هو ضروريّ لخلاصنا. كما سيعطينا الخليقة كلها التي ستكون تحت قدمي الانسان (مز 8: 6). إن هدف الخليقة تمّ في المسيح، الانسان الجديد، وبكر القائمين من الموت، والأخ الأكبر في العيلة الجديد. تسلّم السيادة على كل شيء فجلس عن يمين الله. والذين يكونون له يكونون معه، فيشاركونه في سلطانه على سائر الخليقة، بحيث يُتمّون قصدَ الخالق الأصليّ حين خلق الانسان على صورته. كان الروح العربون لمخطّط الله الفدائي بالنسبة للأفراد. وها هو موت المسيح وقيامته وصعوده كفالة من أجل قصد الله في خلقه على مستوى الخلاص التاريخيّ والكونيّ.
سار مار بولس (آ 33) في خط إشعيا الثاني، حيث الانشداد بين الرجاء الحماسيّ والواقع القاسي، بدا مؤلماً. فعاد إلى البلاط السماويّ. إلى الدينونة الأخيرة. وسّع بولس نظرته فضمّت الكون كله والزمان كله. فأعلن: من يتجاسر أن يتّهم الذين اختارهم الله؟ والجواب: لا أحد. الله الذي خلق الانسان في البدء، هو الذي يبرّره الآن. فإن قبل الانسانُ وضعه كخليقة أمام الخالق، سانده الله وأكمل قصده في الخلق والخلاص.
كل هذا سيتفصّل ويتوضّح في آ 34. من يجرؤ أن يتهم؟ إبليس أو ملاك معادٍ أو قوّة روحيّة وقفت في وجه الله؟ الحكم أو البراءة هما في يد الله، في المسيح. فالمسيح القائم من الموت يتشفّع.
بالإضافة إلى ذلك، اقتنع بولس (آ 35) بأن دور المسيح في السماء ليس فقط كممثّل لشعبه على الأرض أمام الديّان الأبديّ. بل هو يساند أيضاً شعبه على الأرض. حبّه يحيط بهم كقوّة في وجه جميع الظروف. حبُّ المسيح هو حبّ الله. والمسيح الممجّد هو المسيح الذي أسلمه الله للموت من أجلنا. فدورُ الوسيط الوحيد هذا الذي يمثِّل الانسان أمام الله ويمثِّل الله أمام الانسان، لا يجد ما يوازيه في الفكر اليهودي (الحكمة تمثّل الله. والملائكة هم الشفعاء. أو هو أخنوخ الشفيع) بإيمانه بالله الواحد. هنا يعود بولس فيتذكر حدث موت المسيح وتأثيره في حياته. فكما أن المسيح مرَّ عبر الألم، هكذا يصل حبّه إلى الذين تلقّوا هذه الضيقات. فيساندهم ويأتي بهم إلى حيث هو.
ويُسند بولس كلامه عن الألم (آ 36)، فيورد مز 44: 23 في كلامه عن الأتقياء وعن الشهداء. في الأوقات القاسية، يصبح الضيق متواصلاً (النهار كله) فيبدو أنه لا ينتهي، ويصبح الموت أمراً عادياً (مثل غنم للذبح). حينئذ يئنّ المؤمن الذي ينتمي إلى المسيح، ويطلب أن يسير بالروح عبر هذا كلّه. الانشداد الاسكاتولوجيّ يبقى النسمة الأخيرة في جسده.
ولكن (آ 37) حن يذكر بولس وضع المؤمن لا يتركه في الظلام كما في 7: 21- 25. بما أن التزام الله لخاصته يدوم، فبرّه يصل إلى التبرير النهائي، وحبّ المسيح يؤهّل المؤمن لكي يتجاوز أصعب الصعاب. في كل هذه الاهتمامات والظروف، بل في وسطها، وعى بولس وقرّاؤه حباً يؤهّلهم لكي ينتصروا عليها كلّها.
أحسّ بولس (آ 38- 39) بالحاجة لكي يصل إلى عبارة تضمّ كل ما قاله عن إيمانه بالله، بالمسيح، في كلام شخصيّ يدلّ على يقينه. لا كلام عن وضع الألم في الحياة، بل قوّة تحدّد المصير الأبديّ. لا شيء يتغلّب على حبّ الله في المسيح. لا الموت. فالذين في المسيح، الذين شاركوا في موته، لا يحمل موتهم خوفاً. لا الحياة. لا ضيقات هذه الحياة، بل الحياة في الجسد، جسد الخطيئة وجسد الموت. يذكر الرسول القوى العديدة، ويرى ضعف الانسان، ولكنه متأكّد من قدرة الله الخالق والمساند والديّان.
بما أن الله هو الخالق، وبما أنه الواحد، كلُّ ما تبقّى هو خلائق وهي تخضع لله. لهذا، لا شيء يقدر أن يفصلنا عن حب الله في المسيح يسوع ربّنا. في هذا السرّ (الله لنا في المسيح يسوع المصلوب كالربّ) تكمن ثقة بولس: التزام الله بخاصته في المسيح والتزامهم تجاه المسيح كالرب الذي يسود كلّ شيء ويحدّد كلّ شيء. بعد هذا، لا نحتاج أن نقول شيئاً، فيبقى لنا الصمتُ أمام عظمة الله على مثال أيوب الذي سمع صوت الله ورآه، فترك الكلام الباطل: «تكلّمتُ مرة فلا أعود، ومرّتين فلا أزيد».

الخاتمة
في هذه الآيات، قيل لنا كلّ شيء: إذا كان الديّان يتقبّلنا ويرفع رأسنا، فمن يمكنه أن يعارضه؟ أجل، ما من أحدٍ بعدُ يتّهمنا. هذا هو الجديد بالنسبة إلى خبر أيوب. إن الديّان خاطر وأسلم ابنه من أجلنا. كان على الانسان أن يقدّم ذبيحة نفسه، فإذا الله يُعطي ما وجب على الانسان أن يعطيه. ذاك هو نظام النعمة التي تمضي أبعد من كل معقول: الله يقدّم أعزَّ ما له. فكيف نتخيّل أنه سيحسب حساب ما يعطينا؟ كيف نفكّر أنه يمنع عنا شيئاً؟ أجل، لا مكان للمتهم، لا مكان للديّان. جاء العقاب والربّ أخذ موتنا على عاتقه. وحلّت المحبّة التي هي الحياة الأبديّة كما تجلّت في يسوع المسيح. التي هي قوّة لا تقهر، ولا يُبعدها عداء بشريّ مهما كان. فلا يبقى لنا سوى أن نُنشد نشيد الشكر إلى الله الذي نعترف به مخلصاً. غير أن بني اسرائيل غابوا عن هذا النشيد، لأنهم فضَّلوا برّهم على برّ يأتي من الله، بل أرادوا أن يتهموا الله واعتبروا أنه أخلّ بعهده. على هذا الوضع يجيب القسم الخامس، ويفهمنا أنه كما رفض آدم، في بداية البشرية، نداء النعمة، هكذا فعل الشعبُ اليهوديّ. قلّة قليلة قبلت النداء. أما الأكثرية فتركت المكان للأمم الوثنيّة «الذين يسمعون» (أع 28: 28).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM