الفصل السادس عشر: التبرير والخلاص

الفصل السادس عشر
التبرير والخلاص
5: 1- 11

يستخلص بولسُ الآن نتائج النظرة الجديدة إلى الإيمان. أولاً بالنسبة إلى المؤمن الفرد في الحاضر وفي المستقبل. هو يتألّم ولكنه يرجو الخلاص (آ 1- 11). ثم على مستوى تاريخ الخلاص الذي يوجز تاريخ البشريّة من الخلق إلى التتمّة في رَجلين، هما آدم والمسيح. واحد يحدّد مجال الخطيئة والموت، والآخر مجال النعمة والحياة (آ 12- 21). يُعتبر ف 5 خاتمةَ البرهان، ولا سيّما 5: 1- 11 في علاقته مع ما سبق. أما 5: 12 فيركّز على الوجهة الكونيّة، مع الانتقال من صيغة المتكلّم الفرد (أنا) إلى صيغة الغائب المفرد (هو). والتواصل مع آ 1- 11 يظهر في عودة الموضوع حول العصيان والطاعة اللذين يحدّدان حقبتين تضمّان التاريخ البشريّ.
بعد كلام عن التبرير في ف 1- 4، نصل في هذا المقطع إلى كلام عن التبرير الذي هو عربون الخلاص. أجل، بالإيمان نلنا هذه النعمة. ونحن نعيش على الرجاء الذي هو انتظار الخيرات الاسكاتولوجيّة، وهذا الرجاء لا يخيب بعد أن حلّت محبّة الله في قلوبنا.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 1، بدل «نعمنا» (أي كان لنا) في الحاضر، هناك من قرأ صيغة التمني: لننعم. لو كنا أمام إرشاد (رج إش 27: 5: بوييسومان: لنصنع) لكان الأمر صحيحاً. ولكننا أمام تأكيد بسيط نستخلصه ممّا سبق.
في آ 2، هناك انقسام بين المخطوطات والترجمات حول «بالإيمان». هل نُبقي عليها، أم نستبعدها؟ يمكن أن نُبقي عليها في خطَ ما برهن عنه بولس سابقاً.
في آ 8 غاب لفظ «الله» من الفاتيكاني وافرام الأرمنيّ. كما تبدّل ترتيبُ الكلمات هنا وهناك.
في آ 11، نسيَ بعضُ النسّاخ أسلوب بولس، فبدّلوا اسم الفاعل إلى صيغة الحاضر: «مفتخرون» صارت «نفتخر». في الفاتيكاني وعدد آخر قليل من المخطوطات غاب لفظ «المسيح» فقرأوا: «الفضل لربّنا يسوع الذي».
ب- بنية النصّ
هذا المقطع مبنيّ بناء محكماً. جاءت آ 9- 11 جواباً على آ 1- 3 عبر تكرار «تبرّرنا» (آ 1، 9)، نفتخر (آ 2، 3، 11)، «ديا» (آ 1، 2، 9- 11، بواسطة، بالمسيح)، ليس فقط بل أيضاً (آ 3، 11). ونلاحظ أيضاً التدرّج البلاغيّ في البرهان (آ 3- 5)، والذروة في آ 6- 10 (ضعفاء، أشرار، خطأة، أعداء)، ويتكرّر فعل «مات» أربع مرات في نهاية كل جملة من آ 6- 8. ويتكرّر في آ 9- 11: فكم بالأولى. هناك من تكلّم عن نشيد ليسوع المصلوب في آ 6- 11. إذا أردنا أن نكتشف العنصر المشرف على النصّ، نتحدّث عن السلام، المصالحة، الر جاء (آ 2- 5). وهناك الانشداد الاسكاتولوجيّ الذي هو سمة خاصة تميّز المقطع كله.

1- تحليل النصّ الكتابيّ (5: 1- 11)
نجد في هذا النص أربعة مقاطع. نقطة الانطلاق (آ 1- 3). تبرَّرنا بالإيمان فوصلنا إلى النعمة التي يمنحها الله لنا. وهكذا يصل الرسول إلى كلام عن الصبر في الشدّة (آ 4- 5). في آ 6- 8، مات المسيح عنا نحن الضعفاء، وهكذا برّرَنا بدمه (آ 9- 11).
«فلما برّرنا» (آ 1). استعمل بولس «ديكايوو» في الماضي الناقص (رج 3: 4 عن الله، 4: 2 عن ابراهيم). مع أنه اعتاد أن يستعمل الحاضر (3: 24، 26، 28؛ 4: 5) أو المضارع (2: 13؛ 3: 20- 30). استعمل هذه الصيغة هنا ليدلّ على عمل الله في الماضي. هو اسم الفاعل: إذ بُرّرنا. قبلَنا الله في هذه العلاقة وفي هذا الوضع (الذي نعم به ابراهيم «خليل الله». «هذه النعمة التي نقيم فيها» آ 2). وبرّرنا في الدينونة الأخيرة («رجاء المجد»، آ 2). رج 2: 13.
«بالإيمان». هو عمل خاص فيه يمارَسُ الإيمانُ أولاً. هو أول عمل فيه نرتبط بالله. هو العمل الأول في الاستسلام لله. يعتبر بولس أن جميع (أو معظم) قرّائه مرّوا في هذا الاهتداء، وأن هذا جزء أساسيّ في التزامهم. ومع أن المعموديّة جزء من هذه المسيرة (6: 4)، إلاّ أنّ لا شيء يشير إلى أن بولس يحدّث قرّاءه هنا عن المعموديّة. وفي الوقت عينه، مع أن الصورة الأولى تدلّ على الإيمان كما مارسه ابراهيم (4: 16)، إلاّ أن هذه الجملة هي المفتاح لما في 1: 17 (أمانة الله وإيمان الانسان): إيمان ابراهيم هو إيمان بالله الأمين لوعده.
«نعمنا بسلام». «ايريني». السلام أي اللاحرب. معنى سلبيّ في العالم اليونانيّ. رج تث 20: 12؛ قض 4: 17؛ 1 صم 7: 14؛ 1 مل 2: 5؛ اش 6: 16. يمكن أن نقرأ هذا المعنى هنا (آ 10). ولكننا نستطيع أن نجد المعنى الايجابي (1: 7). ولا سيّما البُعد الروحي للسلام (سلام في علاقة مع الله). لسنا فقط أمام موقف باطني. «ش ل و م» هو موقف روحيّ (رج المصالحة في آ 10- 11). وقد يتبع هذا السلامَ التبرير.
لا بدّ أن نتذكّر في سياق النصّ (في الفكر اليهوديّ) أن عطيّة السلام ترتبط بالعهد (عد 6: 22- 27؛ مز 55: 18- 19؛ اش 48: 17- 22؛ إر 14: 19- 21؛ سي 47: 13؛ 2 مك 1: 2- 4). وهناك عهد سلام مع كهنوت فنحاس (عد 25: 12؛ ملا 2: 4- 5؛ سي 45: 24). ثم إن السلام والبرّ مفهومان يتكاملان (مز 35: 27؛ 72: 3؛ 85: 10؛ إش 9: 7؛ 32: 17)، وفي الرجاء النبويّ، ملءُ ازدهار سلام الله ينتمي إلى الزمن المقبل (اش 9: 6- 7؛ 54: 10؛ حز 34: 25- 31؛ مي 5: 4). ما يريد أن يقوله بولس هو أن السلام الاسكاتولوجي بدأ مسيرته وهو سيتمّ. فيبدو الانشداد حاضراً بين ما تمّ حتّى الآن وما لم يتمّ بعد (2: 10؛ 14: 17).
«المسيح يسوع». رج آ 1، 11، 21. في كل آية نجد وجهة مختلفة في دور الوسيط الذي يُنسب إلى المسيح الممجّد. فوق، حركة مديح (آ 11). تحت، حركة نعمة (آ 21). نرى هنا التبادل في دور الوسيط «وسيط الدخول» (آ 2). ذاك هو دور خاص ليسوع في وجوده كقائم من الموت.
«به دخلنا» (آ 2). رج آ 1. «بروساغوغي» (دخول): لفظ عبادي. الدخول إلى المعبد حيث حضور الله. رج نج 11: 13- 15. هي علاقة شخصيّة بين الله والمؤمنين. استعمل الرسول الفعل في صيغة الكامل، فدلّ على بدايةِ الدخول إلى حضرة الله (بعد أن تبرّرنا) وتواصُلِ العمل (سلام مع الله). هكذا عبّر الرسول عن الخلاص وعن مفهوم التبرير (1: 17). «النعمة» (خاريس). حالة نَدخلُ فيها. هي قدرة الله المجانيّة تصل إلى البشر وتعمل فيهم. هي دائرة النعمة. هي حالة انطبعت بنعمة الله (مد 4: 21- 22؛ 7: 30- 31). هذه النعمة تدلّ على علاقة إيجابيّة بين الله والانسان. والوعد بالدخول إلى العهد، ينتج عن علاقة مع الله قامت وتثبّتت.
«ونفتخر» (نقدر أن نقول أيضاً: لنفتخر. رج آ 1). نفتخر. رج 2: 17، 23؛ 3: 27؛ 4: 2. الرجاء. رج 4: 18. مجد الله. رج 1: 23؛ 3: 23. انقلب الوضع الآن. فالافتخار الذي يتحدّث عنه بولس الآن، هو إيجابي ويمكن أن نأخذ به. ومجد الله شيء نستطيع أن ننظر إليه (ليس شيئاً ضائعاً). هناك افتخار لائق، ولكن هذا الافتخار ممكن فقط لإنسان يُقيم في نعمة الله، بحيث يُصبح افتخارُه من الله الذي به ارتبط كلّه دون أن يعود إلى أي امتياز. هو افتخار واع لما ليس بعد، وواثق بما سيأتي. هو ثقة الخليقة بأن مخطّط الخالق يتمّ في خليقته. أما بالنسبة إلى مجد الله، فيعود إلى موضوع آدم (1: 21؛ 3: 23). ومخطّط الله في الخلاص، يُفهم بلغة تكوين (وتتميم) البشريّة الساقطة إلى المجد الذي سقط عنه الجميع (8: 17؛ 2 كور 3: 18؛ 1 تس 2: 12).
«ليس فقط بل أيضاً» (آ 3). طريقة خاصة ببولس (5: 11؛ 8: 23؛ 9: 10؛ 2 كور 8: 19). أخذها من العالم اليوناني والأدب اليهودي. «تليبسيس»: الشدة، الضيق الذي تحمله الظروف. رج 2 كور 1: 4، 8؛ 2: 4؛ 6: 4؛ 7: 4؛ غل 1: 17؛ 1 تس 1: 6؛ 3: 3). ويمكن أن يكون كلامٌ عن الشدائد في اليوم الأخير (دا 12: 1؛ مر 13: 19، 24). وهناك الانشداد الاسكاتولوجيّ بين ما هو الآن وما لم يأتِ بعد، كسِمة في كل هذا المقطع (آ 1- 11). رج 8: 35؛ 12: 12؛ 1 كور 7: 28؛ 2 كور 4: 17؛ كو 1: 24. وهناك وجهة في النظر إلى الخلاص بيسوع المسيح: الآلام التي يقاسيها المؤمنون في الحقبة الواقعة بين زمن قديم (زمن آدم) وزمن جديد (زمن المسيح)، هي محمولة لأنها مشاركة في آلام المسيح وموته.
«عارفين» (لعلمنا). هي خبرة مشتركة بين بولس والمؤمنين. «هيبوموني»: الصبر، المقاساة، القوّة، الثبات. هي فضيلة مميّزة لدى اليونان ولا سيّما الرواقيّين، ولدى اليهود (مز سل 2: 36؛ وص يوسف 2: 7؛ 10: 1- 2). رج 4 مك 1: 11؛ 7: 9؛ 9: 8، 30. يرى بولس أهمية «الصبر» المسيحي. رج 2: 7؛ 5: 3- 4؛ 2 كور 1: 6؛ 6: 4؛ 2 تس 1: 4؛ 3: 5. ق يع 1: 3- 4؛ 1 بط 2: 20؛ رؤ 2: 2- 3. أراد بولس أن ينظر إلى الضيق نظرة إيجابيّة، ولكنه يرى أنه يجب أن نستعدّ لاحتمال الألم، لا أن نتهرّب منه، أن نتحمّله في طريق حياتنا.
ب- الصبر امتحان (آ 4- 5)
«والصبر امتحان» (آ 4) «دوكيمي» (امتحان) كلمة خاصة ببولس في العالم اليونانيّ البيبليّ: صفة شيء امتُحن، اختُبر. رج 2 كور 2: 9؛ 9: 13؛ فل 2: 22. بما أننا لم نقرأ هذا اللفظ قبل بولس، فقد يكون بولس أول من استعمله. أما الصورة التي وراءه (امتحان الذهب بالنار) فهي معروفة. هنا يقف الرسول في عالم الحكمة مع أي 23: 10؛ أم 8: 10؛ 17: 3؛ سي 2: 5؛ حك 3: 6. ويفكّر، بلا شك، أن يمنحه لإبراهيم ولا سيّما حين قدّم ابنه. وارتبط الامتحان بالصبر في العالم اليهودي. رج يوب 19: 8؛ وص يوسف 2: 7؛ 4 مك 9- 8؛ 17: 12؛ ق يع 1: 3؛ 1 بط 1: 7. النظر إلى الضيق كاختبار إلهي من أجل الامتحان والنضوج هو المفتاح الذي يقدّمه بولس تجاه الألم. لا بدّ للقرّاء أن يروا التعارض، بين مسيرة الخلاص المطبوعة بالامتحان، ومسيرة الغضب المطبوعة بروح لم يُختبَر (1: 28).
«والامتحان يلد الرجاء». هنا يبتعد العالمان اليهوديّ والمسيحيّ عن العالم اليونانيّ، ولا سيّما الرواقيّ منه. فالرجاء (اليونانيّ) تنقصه الناحيةُ الايجابيّة، فيشدّد على الصبر والامتحان (رج 4: 8). أما الرجاء اليهوديّ المسيحيّ الذي هو ثقة بالله، فينظر إلى أبعد من العالم المنظور في الدهر الحاضر. في العبريّة «ت ق وه». رج أي 14: 19؛ مز 9: 18؛ 62: 5. ربط بولس بين هذه الأفكار في 12: 12؛ 15: 5، 13. في ا تس 1: 3 نقرأ «صبر الرجاء».
«رجاؤنا لا يخيب» (آ 5). «كاتايسخينو» (خجل). هناك فكرة افتخار لا يخيب. مز 22: 5؛ 25: 2- 3، 20؛ 31: 1، 17. رج اش 28: 6 الذي ورد في روم 9: 33؛ 10: 11 كما في 1 بط 2: 6. يتطلّع بولس إلى خبرة الرجاء. هو يفكّر بالتبرير النهائي. ولكن الفعل هو في الحاضر. منذ الآن لا نخيب. وصيغة المجهول تعني أن الله لا يخيّبنا.
«لأن محبّة الله». «هوتي» (لأن) تدلّ على أن ما يتبع يجد أساسه في رجاء واثق. بالنسبة إلى المحبّة (أغابي) رج 12: 9. محبّة الله هي محبته لنا لا محبتنا له. محبّة الله ليست شيئاً نؤمن به على أساس الانجيل أو شهادة الصليب (آ 8)، وليست تأكيداً على حبّ الله، بل هي حبّ الله نفسه الذي نختبر في قدر كبير من الغنى. رج 8: 35، 39؛ 2 كور 5: 14؛ أف 2: 14؛ 1 يو 2: 5؛ 3: 17. أما عبارة محبّة الله، فنقرأها فقط في 5: 5؛ 8: 39؛ 2 كور 13: 13. والرباط بين الروح والمحبة. رج 15: 30؛ غل 5: 22؛ فل 2: 1؛ كو 1: 8؛ 2 تم 1: 7.
جاء الفعل «إكخايو» (سكب) في صيغة الكامل. ومع أنه يُستعمل عن شيء نلناه في الماضي (بالنعمة، مز 45: 2، بالرحمة سي 18: 11)، فالارتباط مع الروح الحاضر في هذا السياق يدلّ على لغة مسيحيّة في عودة إلى حدث العنصرة المؤسّس. إن صيغة الكامل تدلّ على حدث سابق ما زال فعلُه حاضراً. تلك هي خبرة بولس. «في قلوبنا». الله يعمل عمله على مستوى الإرادة والعاطفة (1: 21؛ 2: 15). يعمل عبر الروح في تتمةٍ لوعِد إر 31: 31- 34 (رج 2 كور 3: 3). وهنا يَفترقُ المسيحيون عن اليهود. رج 2: 29. «بالروح القدس». أي بواسطة الروح القدس. رج 1 كور 12: 7 والمواهب التي هي تجلّي الروح القدس. هنا لا نحصر الروح كله في خبرة محبّة الله. في الانتظار النبويّ نُظر إلى سكْب الروح كعلامة للدهر الجديد (اش 32: 15؛ 34: 16؛ حز 11: 19؛ يو 3: 1- 5). أجل مع موت المسيح وقيامته، بدأ الدهرُ الجديد الذي انتظره اليهود.
الخبرة هنا هي خبرة محبٌّة الله، ولا فرق بين عطيّة الروح وسكب المحبّة. في مواضع أخرى، جُمع الروح مع خبرة الفرح (1 تس 1: 6) والمعجزات (غل 3: 5) واعلان المواهب (1 كور 1: 4- 7) والتحوّل الخلقيّ (1 كور 6: 9- 11؛ رج أع 8: 17- 19؛ 10: 44- 47؛ 19: 6). وهبةُ الروح هي التي تحدّد انتماءنا إلى المسيح، وتلعب وظيفة علامة بأننا نخصّ المسيح. بما أن بولس يرى في الله (لا في المسيح، رج أع 2: 33) ذاك الذي يعطي الروح، فهذا يدلّ على نظرته إلى العلاقة بين المسيح الممجّد والروح. وخبرةُ الروح هذه تعود بنا إلى المعموديّة. رج 1 كور 12: 13؛ 2 كور 1: 22؛ غل 3: 2- 5.
ج- ولما كنا ضعفاء، مات المسيح (آ 6- 8)
«ولما كنّا ضعفاء» (آ 6). إن آ 6- 8 تبرّر الرجاء المذكور في آ 3- 5. «مات المسيح». نحن أمام إعلان مسيحيّ يربط الصلب بالمسيحانيّة. رج 1 كور 1: 23؛ غل 2: 20- 31. «استانيس» (ضعيف). هو الوضع البشريّ مقابل قدرة الله (8: 26؛ 1 كور 15: 43؛ رج حك 9: 5). بعد الضعفاء يأتي الخطأة والأعداء (آ 6، 8، 10). كنّا ضعفاء، في الوضع السابق للإيمان. ولكننا لا نزال ضعفاء، خلال وجودنا البشريّ في زمن الانشداد الاسكاتولوجيّ وما يرافقه من آلام (رج آ 3؛ 8: 26؛ 2 كور 11: 29- 30؛ 12: 5، 9- 10). «في الوقت». هو الوقت المناسب. أو وقت الرضى. أو الزمن الاسكاتولوجيّ. وقد يعني: في وقت نكون فيه ضعفاء. ولكن يبقى المعنى الاسكاتولوجيّ هو الأفضل. «مات المسيح من أجل». رج 14: 15؛ 1 كور 25: 3؛ 2 كور 5: 15؛ 1 تس 5: 10؛ 1 بط 3: 18. هو تعبير الإيمان في الأناجيل كما وَرثهَ بولس. ويعلن بولس أن المسيح مات، لا من أجل الأبرار، بل من أجل الأشرار (اسابايس، يعيشون خارج الأمانة للعهد). هذا يعني البشريّة كلها، اليهود والأمم. في موضع آخر يقول بولس: من أجلنا نحن الذين تمرّدنا على الحبّ، نحن الخليقة التي سقطت (8: 19- 23).
«وقلّما يموت أحد» (آ 7). تذكّر بولس حك 10: 20: الأبرار يسلبون الأشرار. وفي كتب المكابيّين، مات الشهداء من أجل العهد، من أجل أمّة هي شعب الله، وما ماتوا من أجل أفراد أتقياء. وموت انسان من أجل انسان آخر لم يكن أمراً يُنصَح به. ولكن المسيح، كما قال بولس، قلب الموازين. ويتابع الرسول: قد يرضى واحد أن يموت عن انسان صالح (وص أشير 2: 3).
«ولكن الله» (آ 8) فعل ما لا يفعله أحد من البشر. وليس من أجل انسان واحد، بل من أجلنا جميعاً. بعد صيغة الكامل (آ 5)، ها هي صيغة الحاضر حيث يعود الرسول إلى موت المسيح الذي يدلّ في كل وقت على حبّ الله (1 كور 1: 23). وحبّه من أجل الخطأة (هامرتولوس). إن حبّ الله لا ينحصر في الذين يعيشون داخل العهد (الأبرار، آ 7)، ولا يرتبط بما يمكن أن نمارس من أعمال الشريعة. وهذا الحبّ الذي بدأ في موت المسيح ما زال حاضراً. تحدّث بولس عن موت المسيح كبرهان عن حبّ الله (3: 25؛ 2 كور 5: 19). إن موت المسيح الذي هو خير للخاطئين، يُثبت أن هذا الموت ذبيحة (ذبيحة عن الخطيئة)، من أجل الخطأة لأنهم خطأة. وهو «يستر» خطاياهم التي اقترفوها ضدّ الشريعة. بل إن الشريعة صارت خارج هذه النظرة مع التكفير عن الذين في داخل العهد.
د- بعدما تبرّرنا بدمه (آ 9- 11)
«فكم بالأولى» (آ 9). عبارة معروفة لدى المعلّمين (ق ل. و. ح و م ر: خفيف وثقيل). استعملها بولس أربع مرّات في ف 5 (آ 9، 10، 15، 17). رج مت 6: 30؛ 1 كور 12: 12؛ 2 كور 3: 9، 11؛ فل 1: 23. «تبرّرنا». رج آ 2 الذي تجعلنا في الزمن الحاضر. وهنا، على المستوى الاسكاتولوجيّ. هذه اللغة تفترض علاقة العهد بين الله وشعبه، حيث الذبيحةُ (بدمه) تكوّن جزءاً أساسياً في مسيرة العهد. إن موت المسيح الذبائحيّ يقيم العهد الجديد (الذي يضمّ أيضاً الأمم)، يأخذ دور كلّ الذبائح ويجعل الذبائح السابقة غير ضروريّة.
«نخلص». يتابع بولس هنا الموضوع الكرازي (1 تس 1: 9- 10). الصورة المستعملة هنا هي نجاة من وضعٍ يحملُ الخطر. والخطر هو ذات الغضب الذي صوّره بولس في 1: 18- 32، ولا سيّما في تعبيره الأخير (2: 5). مدلول الخلاص، يتوجّه إلى المستقبل. وقد استعمل بولس الفعل في صيغة المضارع (آ 9- 10؛ 9: 27؛ 10: 9). إن البرّ يقود إلى الخلاص، والبرّ ينظر إلى الخلاص. تلك هي النظرة اليهوديّة (سي 34: 13؛ حك 5: 2؛ 1 أخن 1: 1؛ 5: 6؛ وص نفتالي 8: 3). أما تمييز المدلولَين عند بولس فيتركّز على عبارتين: «في دمه»، «به». فوساطة المسيح حاسمة في نهايتَي هذه المسيرة. فعملُ الله عبر المسيح، حوّل المقولات وطبّقها تطبيقاً شاملاً. «نحن» الأمم واليهود، لا فقط «أتقياء» اسرائيل. هناك علاقة بين التبرير الأول والتبرير الأخير. وبما أن مسيرة الخلاص لم تكتمل، فهذا يعني أن المؤمن لم ينجُ بعد من عمل الغضب في الزمن الحاضر، ولا من الدينونة في اليوم الأخير (14: 10؛ 1 كور 3: 14- 15؛ 2 كور 8: 10). «فكم بالأولى» تدلّ على مسيرة تامّة، لا على بعض تبدّل، في قلب لاهوت بولس، من التبرير إلى الحياة في المسيح.
وتأتي مرة أخرى في آ 10 عبارة «فكم بالأولى». «اختروس» عدو، مُبغَض لدى الله (اسم المفعول). رج 11: 28 والمقابلة مع «أحبّاء». وقد نكون أمام اسم الفاعل: الانسان يُبغض الله. رج 8: 7؛ كو 12: 1. حينئذ نكون أمام تمرّد حرّ على الله (1: 18 ي). ثم إن الغضب يدلّ على جزء فاعل من العداوة لله. تجاه هذا، نكتشف مبادرة الله وما فيها من سخاء ومجانيّة. «صالَحَ». إن صورة المصالحة قد استُعملت فقط في الكتابات البولسيّة. رج آ 11؛ 11: 15؛ 2 كور 5: 18- 20؛ كو 1: 20- 22؛ أف 2: 16. هي عداوة بين اثنين. تنتهي هذه العداوة فيحلّ السلام والرضى (آ 1- 2). مصالحة بين الرجل وامرأته. مصالحة بين الملك وعبيده. مصالحة بين قوى متحاربة. «كاتالاسو» (صالح) يقابل «بُرّر» (آ9 ) «بموت ابنه». فكرة المصالحة عبر وسيط أمرٌ معروف. هناك موسى وغضب الله على اسرائيل (مز 106: 23؛ يوسيفوس، العاديات 3: 315). وهرون (حك 18: 20- 25) وفنحاس (سي 45: 23). ثمّ الكهنوت الذي يقدّم ذبائح الخطيئة عنه وعن نسله. حين يُذكر «الابن»، فهذا يعني أننا لسنا فقط أمام مبادرة إلهيّة، بل أمام عمل الله بواسطة ابنه (2 كور 5: 19). ابنُ الله قريب من الآب. هو ابنه الوحيد. والعلاقة تامّة بينهما. هنا لن نتكلّم عمّن يميل بغضب الله عن البشر. إن موت يسوع كابن الله كان نقطة رئيسيّة في لاهوت بولس. «أن نخلص». رج آ 9. ما أراد الرسول أن يتحدّث عن وظائف مختلفة في المسيح: الموت القيامة، وهنا الحياة (زوئي). إن موت المسيح حلّ مسألة غضب الله والعداوة بين الله والانسان. والخلاص تمّ، لا فقط بقدرة المسيح القائم إلى الحياة، بل عبر تماهي المؤمنين مع هذا الخلاص: مسيرة الخلاص هي مشاركة في موت المسيح وقيامته (6: 3، 11؛ 7: 4؛ 8: 17). في هذا المجال، يجد الانشدادُ الاسكاتولوجيّ عباراته القويّة (6: 4؛ 8: 10؛ 2 كور 4: 10- 12؛ كو 3: 3- 4). والقيامة (ملء خبرة الحياة) المقبلة للمؤمن تُذكَر في 6: 5، 8؛ 8: 11؛ 1 كور 15: 20- 22؛ 2 كور 4: 14؛ فل 3: 10- 11. كان الرجاء بالقيامة معروفاً في العالم اليهوديّ المعاصر، ولكن لا القيامة التي تتمّ بواسطة وجه خلاصيّ خاص.
«وليس فقط، بل أيضاً» (آ 11). رج 5: 3. استعمل بولس عبارة مفتوحة، ليدلّ أنه يريد بعدُ أن يقول، فيضيفُ إلى ما سبق وقال. أما هدفُه فجمْعُ ما قاله في عبارة واحدة، منذ بداية المقطع (الافتخار، آ 2- 3) إلى نهايته (المصالحة، آ 10). «نفتخر». هو اسم الفاعل في معنى الحاضر: الافتخار هو سمة متواصلة لدى المؤمن، حتى في الوقت الفاصل بين المصالحة والخلاص، والذي يتميّز بالألم (آ 2- 3). إن الافتخار الذي يتطرّق إليه بولس هنا يُفلت من النقد في 2: 17، لأن المسيحيّين يفتخرون في المسيح (فل 3: 3): تصالحوا بعمل الله في المسيح، فارتاح رجاء الخلاص في الله وحده. نحن هنا في إطار ليتورجيّ (المجدلة)، في خطّ العبادة اليهوديّة. هو تواصل ولاتواصل، لأن «نحن» الذي يفتخر هو الأمم واليهود معاً.
«ربّنا يسوع». يسوع هو وسيط شكرنا لله (1: 1). ووساطتُه تضمّ موتَه وقيامته للحياة. استعمل بولس هنا اللقب كاملاً (الربّ، يسوع، المسيح) ليفصل العبادة المسيحيّة عن العبادة اليهوديّة. «به نلنا المصالحة». وهكذا ظلّ دورُ يسوع كوسيط حاضراً حتّى النهاية (آ 1، 2، 9، 10، 11). و«الآن» تحافظ على الرجاء الاسكاتولوجيّ الذي تمّ الآن (آ 9؛ رج 3: 21). والفعل الأخير في صيغة الماضي الناقص، اعاد الكلام عن الرجاء والافتخار إلى حيث كان العملُ الحاسم (على الصليب وفي حياتهم) دون أن ينسى التشديد (آ 10، 11) على أن الخلاص ما تمّ بعد.

3- خلاصة لاهوتيّة
انطلق بولس من شهادة الكتاب حول ابراهيم، فبيّن كيف يجب أن يُفهم كلامُ الكتاب حين يقول إن الله برّر الانسان. وها هو يعود إلى هذه النظرة وما تشتمل، من أجل المؤمن الفرد ومن أجل البشريّة كلها.
«لهذا» (آ 1). هو بولس يستعيد استنتاج تأويله ليصل إلى كل من يؤمن (4: 23- 24). في ف 4 كان كلام عن «البرّ» مع تك 15: 6. وهنا عاد إلى فعل «برّر» الذي يعني «حسب باراً» (3: 20- 26). ما يقول بولس الآن عن نفسه وعن قرّائه (تبرّرنا)، هو ما قاله تك 15: 6 عن ابراهيم. والكلام الذي يستعيده من ف 4، هو أن الله يبرّر بالإيمان. يجعل الله الانسان واقفاً. يرى فيه شريكاً مقبولاً في علاقة العهد، على أساس ثقة الانسان به وقبوله لوعد الله غير المشروط بأن يعمل من أجله. فالعهد مع ابراهيم يبقى الخلفيّة الضروريّة لهذا الكلام. استعمل الرسول الماضي الناقص، ولكن كلامه لا ينفي صيغة أخرى. فتبرير المؤمنين حاضر، وقبولُهم ليس عملاً من الماضي وحسب. أجل، جئنا إلى وعد الله وتمامه حين قبلنا هذا الوعد.
ويصوّر بولس نتائج هذا القبول الأول، قبولنا في دائرة عهد الله الموعود به. كما يصوّر تبريرَ الله يوماً بعد يوم في الواقع. هناك خبرة السلام مع الله (أو أقلّه إمكانيّة السلام مع الله). والتبرير الناتج عن السلام يعود إلى اش 32: 17. فالسلام ليس انتفاء الحرب وحسب، بل النجاح والازدهار، وكل هذا يرتبط بعلاقة الانسان مع الله.
سلام مع الله، ولكن هناك سلام بين البشر. لا يستبعد بولس هذه الوجهة، ولا بروحن المدلول، ولا يحصره في بعض الراحة، بل يعطيه بُعداً اسكاتولوجياً ينطلق من الحياة اليوميّة. بدون سلام بين الله والانسان، بين الخليقة والخالق، لن يُوجد سلامٌ بين الانسان والانسان. ورجاء السلام الاسكاتولوجي تحقّق في المسيح كما وعد به الأنبياء. وهذا السلام لا يكون في شعب واحد، بل في البشريّة، في الأمم واليهود. إن السلام الذي يمنحه الله، يضمّ الأعراق والأمم بدون تمييز، «بواسطة ربنا يسوع المسيح». إن يسوع قام من الموت، وما زال يعمل من أجل العلاقة بين الله والمؤمنين. ويسوع الذي يسود البشر (الربّ)، هو وسيط سلام بين الله والجنس البشريّ. ذاك هو أساس إيمان بولس حول دور يسوع في تحريك العلاقة الشخصيّة مع الله والحفاظ عليها. مشى الله مع بولس في طريق دمشق وما زال يفعل، لا من أجل يسوع الذي انتهت حياته على الصليب، بل عبر يسوع نفسه.
وهناك وجهة أخرى (آ 2) لموقف المؤمن في علاقته بالله عبر الرب كوسيط (آ 2)، نجدها في عبارة «لدخول إلى هذه النعمة». هو امتياز. وهو رضى من قِبَل الله. فالمؤمن يقف في حضرة الله (وراء الحجاب). أما المسيح فأعان الذين يطلبون القرب من الله بواسطته، واثقين به. «ونفتخر». يستعيد بولس لغة الافتخار التي استدناها (رآها دنيئة من قبل 21: 17، 23؛ 3: 27؛ 4: 2). افتخر اليهود بسبب وضعهم المميّز بين الأمم. وتحدّث بولس عن افتخار بالخالق (1 كور 1: 29، 31). الافتخار بالشريعة وبالاختيار الالهي أمر سيّئ (الختان، النظرة الوطنيّة). لهذا كان كلام عن افتخار «برجاء المجد». هذا المجد هو مشاركة في حياة الله وسيادته على الخليقة. هو رجاء الخليقة بأن يتمّ مخطّطُ الله في البشر. وهذا الرجاء هو ثقة، لأن تتمّته تكون مع الله. وهو يربطنا فقط بقدرة الله ورضاه في ثقة متواضعة كما كان الأمر بالنسبة إلى ابراهيم (4: 18). إن الله يفرح بمثل هذا الافتخار، افتخار الانسان بخالقه، حيث يتمّ قصدُه من أجل البشر وتصل قدرتُه إلى ما يشاء.
وهناك افتخار آخر (آ 3- 4): الافتخار بالشدائد. هنا يشعر المؤمن أنه خليقة، وأنه واعٍ لارتباطه بالله. في نظر بولس، مثلُ هذا الألم لا يعارض خبرة المؤمنين الذين يقبلهم الله، بل يكمّلها. ولا يعارض وقفة الانسان في نعمة الله، بل هو شرط لاختبار النعمة في ملء قوّتها.
اللغة هنا بولسيّة وإن كان وراءها الفكر الرواقيّ والكتُب اليهوديّة. فالشدائد ليست فقط سهاماً يرسلها الحظُّ التعيس، بل نهاية تصل بنا إلى انحلال الزمن الحاضر (دا 12: 1)، واحتمال صبور حتّى نهايةٍ يدعونا يسوع إليها (مر 13: 13) وخبرة تنقية أخيرة (ملا 3: 2- 3) بدأت منذ الآن. كل هذه المسيرة تُنتج الرجاء لأنها مسيرة خلاص، مسيرة فيها يعيد الله خلق البشريّة على صورته. كلُّ هذا يعارض فساد الجنس البشريّ الذي تحدّث عنه 1: 21- 32. فالانسان الذي ترك مجد الله يستسلم إلى التسامح مع غرائزه، ما عاد له أن ينظر إلاّ إلى الموت. أما المؤمن الذي ينظر إلى مجد الله، فهو يرى في الألم ما يقدّمه العالم من واقع ويتنقّى في حياته ويتقوّى في إيمانه.
مثل هذا الرجاء لا يمكن أن يخيّب الانسان (آ 5). هنا يسير بولس في خط معاكس لذاك الذي سار فيه في ف 1. مثل هذا التسامح الغرائزي يحمل الخيبة. أما الرجاء الذي يُولَد من الخلاص فلا يخيّب. فلا الضعف ولا الفشل ولا الألم هي خيبة. إن رجاءنا هو في الله، على مثال الرجاء الذي عاشه ابراهيم فأكرمه الله.
ولكن السبب الذي يذكره بولس الآن هو أن محبّة الله وروح الله أغنيا خبرة المؤمنين في حياتهم. استعمل بولس لغة العنصرة (سكب في قلوبنا)، فذكّر المؤمنين بخبرة كانت لهم حين صاروا مسيحيّين. ميّز بين عنصرين: روح الله يُعطى مرة واحدة (الماضي الناقص). محبة الله ما زلنا نختبرها (صيغة الكامل). وقد يكون فكّر بروح الله كبداية عمل قدرة الله، فجعل الخلاص يسير مسيرته، والقناة التي فيها يجرى موج الحبّ الالهي. هي نقطة واضحة: رجاء خلاص تام أو بناء من أجل مجد الله. هذا ليس بباطل وليس برجاء حالم، لأن المسيرة قد بدأت منذ الآن. إن رجاء المؤمن المستقبل لا يتأسّس حتّى النهاية. بما أن رجاء القيامة المقابلة يرتكز على قيامة المسيح التي تمّت (1 كور 15: 17- 22)، فرجاء المجد الآتي يرتكز على خبرة النعمة التي ننعم بها الآن (آ 2). وهكذا يُولد رجاء الخلاص التام من خبرة قدرة الله الاسكاتولوجيّة التي تُكمل قصد حبّ الله (آ 5).
وتقدّم آ 6- 8 أساساً آخر لما قيل في آ 1- 5. الأساس للثقة هو موت المسيح. ويتكرّر فعل مات في نهاية كل جملة. فموت المسيح هو تعبير عن حبّ الله الواحد. حبُّ الله الذي سُكب في قلوبنا، يقابل حباً عبِّر عنه بصلب المسيح. إن التفكير في مدلول موت المسيح يُثبت شهادة قلوبنا، لأنه الحب الواحد في الحالين.
ويذكّر النصّ القرّاء بوضعهم البشريّ، وهو وضع يجب أن يُفلتوا منه ليصلوا إلى نعمة الله، وضع وصلت إليهم فيه نعمة الله وتصل الآن. كانوا ضعفاء. على المستوى الجسديّ والمعنويّ. هناك الجسد المائت على المستوى الجسديّ، وهناك عدم تمكّن فعل إرادة الله تجاه قوّة الخطيئة. هم بلا إله. عاشوا بمعزل عن الله. أو رأوا نفوسهم أكثر من خليقة. فالمفارقة بأن الله يحبّ الأشرار يعود بنا إلى 4: 5. كانوا خطأة لأنهم لم يعرفوا الشريعة، أو عرفوها وما حفظوها. ولكن الله لا ينظر إلى شروط مسبقة ولا يخضع لممارسة الشريعة. فالمسيح مات من أجل الخطأة. هؤلاء الخطأة بولس هو منهم والمؤمنون في رومة، سواء كانوا من اليهود أم من الأمم. لهذا جاءت صيغة المتكلّم الجمع (نحن خاطئون).
«فكم بالأولى» (آ 9) قدّمت آ 6- 8 الركن الأول: رجاء الإيمان أو يقين حبّ الله في موت يسوع (الركن الآخر هو خبرة المؤمنين لحبّ الله، آ 5). والآن انطلق بولس من آ 6- 8 من أجل متتالية تصل إلى ثقة الإيمان كمجال لعرض الرجاء المسيحيّ. ما في آ 9 يُثبت القارئ في ما سبق. من جهة، هناك طابع ذبائحيّ لموت يسوع (بدمه)، وهو دور ضروريّ كأساس قبول الله. في منطق بولس لا يصوَّر اللهُ «كالبار» إذا رفض النظر إلى اللاأبرار (رفضوا أن يعيشوا كخليقة حسب مشيئة الله). هو الضعف البشري ورفض الله والخضوع لقوّة الخطيئة. وموتُ يسوع هو الجواب. ومن جهة ثانية، أكّدت آ9 ب أن مسيرة الخلاص في نظر بولس، تُناقضُ مسيرة غضب الله. ما فعله حبّ الله في موت يسوع وكمّلته القيامة، هو نجاة الانسان من حلقة مفرغة تقوم في استقلال عن الله ينتج عن ارتباط عميق بالشهوات البشريّة، وهذا الحبّ نجّاه أيضاً من الحكم الأخير في يوم الدينونة: زال غضبُ الله في موت يسوع. وتماهى المؤمنون مع المسيح في موته. كل هذا نجده في لاهوت الذبيحة ويصبح واضحاً في ف 6.
وترد صورة أخرى مع «فكم بالأولى» (آ 10). هي صورة المصالحة. سبق وكان كلامٌ عن العداوة بين الله والبشريّة. فالاستقلاليّة عن الله ليست فقط وضعاً من الضعف البشريّ وابتعاداً عن الله ومسؤوليّة تجاه الخطيئة، إنها أيضاً تمرّد على دور الخليقة التي لا تريد الارتباط بالخالق. بالمصالحة تعود علاقة الانسان بالله إلى ما يجب أن تكون. قد تزول قوّةُ الخطيئة ويزول الدمارُ الذي ألحقته بالانسان. إذا كان المؤمنون اختبروا المصالحة مع الله على أنها علاقة استُعيدت، فهم يتأكدون أن مسيرة وصول العلاقة إلى ملئها التام وصل إلى الخاتمة الأخيرة.
يعود بولس إلى الرجاء مع آ 2- 3 في آ 11. إن الإيمان المسيحيّ يفتخر ليس فقط في رجاء المجد، وليس فقط في الشدائد الاسكاتولوجيّة، بل أيضاً في الله. هنا يُكمل الرسول ما قاله في ف 2. كان الافتخار غير صالح في 2: 17، فصار صالحاً الآن لأنه يتمّ بواسطة يسوع المسيح. ما هو افتخار بالله هو افتخار بالشريعة في الوقت عينه (2: 23). فبولس يحث الجماعات المسيحيّة على أن يدلّوا على افتخارهم في علاقتهم بالله. غير أن هذه العلاقة تبدّلت في جوهرها: تميّزت بالحاجة إلى المصالحة، وحدّدها المسيح الذي صالحنا بموته وحياته (هو الوسيط). فما عادت علاقة تحدّدها عوامل وطنيّة (أعمال الشريعة). حين نفهم آ 11 بهذه الطريقة، فهي تشكّل خاتمة موافقة لبرهان توسّع فيه بولس مطوَّلاً منذ ف 2.

خاتمة
بدا ابراهيم نموذج البار، وقد أعلِن كذلك، لأنه استند إلى وعدٍ بنسلٍ وبأرض. جعل وعد الله فوق كل يقيناته وخبرته (وهو عجوز عاجز) وحكم البشر. آمن بالله الخالق، فاستند إليه، لا إلى ذاته. فابراهيم تبرّر بالإيمان. انتظر من يعتبره باراً. ما أراد أن يبني نفسه بنفسه، بل انتظر كلَّ شيء من الله الذي وحده يبرّر الانسان. والانسان الذي يتبرّر، شأنه شأن ابراهيم، هو في سلام مع الله، هو في زمن الملكوت، بربّنا يسوع المسيح. زال زمنُ الغضب وانفتحت الطريق إلى الملكوت، بعد أن صار المسيح الطريق الوحيد. بمجيء المسيح تمّت المواعيد ونحن ننتظرها في الإيمان، رغم المحن التي يمكن أن تنتابنا. أما النتيجة، على مستوانا، فانتقال من الشد ة إلى الصبر، ومن الصبر إلى الامتحان، ومن الامتحان إلى الرجاء. أما الرجاء فلا يمكن أن يخيب، لأنه أكثر من انتظار بسيط. هذا الرجاء بدأ يتحقّق منذ الآن بفعل الروح الذي في قلوبنا. ولماذا كل هذا؟ لأن المسيح مات من أجلنا ونحن خطأة. فما تراه يفعل لنا بعد أن تبرّرنا؟ لقد تصالحنا مع الله، والفضل في ذلك لربّنا يسوع المسيح.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM