الفصل الحادي عشر
الله يدين الجميع
3: 9- 20
في هذا المقطع، نصل إلى نهاية القسم الثاني مع خاتمة تقول إن دينونة الله تصل إلى الجميع، ولا تستثني أحداً كما لا تحابي أحداً. الأساس هو غضب الله على لابرِّ الانسان. في نظرة أولى، تطلّع اليهوديّ إلى غضب الله على الجنس البشريّ، واعتبر نفسه بعيداً عن هذا الغضب. ولكن الرسول بيّن أن الغضب يصيب اليهود كما يصيب الأمم. وأعطى خمسة براهين: لا محاباة عند الله. فمن خطئ وهو تحت الناموس يُدان تحت الناموس. الشريعة لا تعفي الانسان من حفظ الوصايا، ولا تؤمّن له الحماية. والوضع المميّز لشعب الله لا يمنح الطمأنينة. والختان لا يكفل الخلاص. وهكذا لم يبق لليهوديّ شيء يستند إليه. حينئذ تساءل: ماذا تعني أمانة الله، وما الفرق بين اليهوديّ والأمميّ إذا كان الجميع متساوين أمام الله؟ أبقانا بولس هنا أمام دينونة الله، بانتظار أن يُفهمنا البرّ بالإيمان لا بأعمال الشريعة اليهوديّة.
1- دراسة النصّ وبنيته
السؤال الذي يبدأ المقطع هو الخطوة الأخيرة في جدال أشرف على 2: 1- 3: 9، بل على القسم الثاني كلّه. أما جواب بولس الاجمالي فهو: اليهوديّ واليونانيّ هما كلاهما «تحت الخطيئة»، ولا قيمة لامتلاك الشريعة. ويبني بولس سلسلة من الايرادات الكتابيّة (رج وثص 5: 13- 17؛ 4 عز 7: 22، 24) قد تكون وُجدت قبله، فاستعملها من أجل البرهان الكتابيّ. ويُصبح الأمر واضحاً حين نلاحظ أن إيرادات المزامير تفترض تعارضاً بين الأبرار (الأعضاء الأمناء للعهد) واللاأبرار. هذا يعني أنه حين نترك وضعاً مميّزاً أمام الله، تكون الكتب المقدسة للحكم على البشريّة. ويتّضح هذا في آ 19: تتحدّث الشريعة للذين هم داخل الشريعة، أي أولئك الواثقين بأنهم ينتمون إلى شعب محدَّد انطبع بطابع الشريعة. هناك من قسم النصّ ثلاثة أقسام: آ 10- 12، آ 13- 14، آ 15- 18. أما نحن فنلاحظ ست مرات «ليس واحد» (أوك استين) في آ 10، 11، 12، 18. ما من أحد بار... ما من أحد يفهم... أما آ 20 فتقدّم خاتمة البرهان في 1: 18- 3: 20، وتُعدّ الطريق للحوار التالي: عمل الشريعة (3: 27، 28؛ 4: 2، 6، 9، 11، 32؛ 11: 6). ثم برّر (3: 24، 26، 28، 30؛ 4: 2، 5؛ 5: 1، 9؛ 6: 7؛ 8: 30، 33). وأخيراً شريعة معرفة الخطيئة (4: 15؛ 5: 13؛ 7: 13).
2- تحليل النصّ الكتابيّ (3: 9- 20)
يرد النصّ في ثلاثة مقاطع. يبدأ بولس فيطرح سؤالاً يُجيب عليه: ليس اليهود أفضل من الوثنيين (آ 9)، ويستند إلى الكتاب المقدس (آ 10- 8) فيورد آياته. ويُنهي كلامَه باستخلاص النتيجة (آ 19- 20) حول أقوال الشريعة وأهمّيتها.
أ- فماذا إذن (آ 9)
ماذا نفعل من أجل هذا الوضع الذي نعيش فيه؟ هل نحن اليهود أفضل من الآخرين؟ الجواب: كلا. صيغة المتكلّم الجمع تجعل النظرة واسعة: اليهود هم مع الأمم. نقرأ فعل «بروإخوماي». تفوّق، تميّز. رج 1 أخن 99: 3- 4. هنا يبدأ الحوار الذي انطلق في 3: 1- 8. نحن البشر ماذا نعمل للدفاع عن أنفسنا؟ هو سؤال بلاغيّ، ولا يحتاج إلى جواب. في الواقع، أعطيَ الجوابُ في نهاية سلسلة الايرادات. هذا يعني غياب كل امكانيّة دفاع. عاد اليهوديّ يدافع عن موقعه وامتيازه بأنه شعب العهد، الذي يفترق عن الأمم «الخطأة». ما فكّر بولس في ما يميّز اليهوديّ، بل بما يجعله متضامناً مع البشر الخطأة. إن نصّ المزامير الواردة تتّهم الأمم. ولكن بولس أوردها كاتهام شامل يَدخل فيه اليهودُ والأمم.
الفئتان هما في قفص الاتّهام. كان كلام عن اتهام الأمم (1: 18- 32) ثم كلام عن اتهام اليهود (2: 1- 29). وها هو اتهام البشريّة كلها في ألفاظ نموذجيّة بها يحكم اليهود على الأمم: لقد بيّن اتهام اليهود أن امتياز العهد (وهو حقيقيّ)، فُهم فهماً خاطئاً وضالاً بحيث دلّ على أن 1: 18- 32 هو في الواقع حكم على البشريّة كلها، اليهود والأمم (2: 1- 3: 8). تحدّث النص عن اليهود، في صيغة الجمع، لا عن اليهوديّ النموذجيّ، فدلّ على انطلاقة جديدة في الحوار. «جميعاً». هو كلام بلاغيّ. رج 1: 16؛ 2: 1. صارت الخطيئة قوّة في العالم تلعب دوراً سلبياً لدى الانسان (سي 21: 2؛ 27: 10؛ مد 1: 27؛ 4: 29- 30). لا ننسَ قوّة الصورة لدى قائد يسود أو شخص يُستعبَد (5: 21؛ 6: 12- 23؛ 7: 14). فالنتيجة هي الموت (5: 21؛ 6: 16، 21). يرى بولس في الخطيئة (وفي الموت) أخطر قوّة في الخبرة البشريّة. أما كيف يتصوّرها، فهذا أمر ثانويّ. يبقى أنها تعمل في الانسان (بوعي أو بدون وعي) لتقوده إلى الموت والفساد، وتجعله أضعف من أن يعرف الله ومشيئته، وتحرّك فيه الرغبات الحيوانيّة التي تجعله ينسى أنه خليقة الله. هذه القوّة يدعوها بولس الخطيئة. في ف 6- 7، سوف نرى علاقة الخطيئة بالموت، باللحم والدم (بالجسد)، بالشريعة.
ب- فالكتاب يقول (آ 10- 18)
«كما كُتب». نجد هنا سلسلة من النصوص الكتابية التي لا تتوخّى قبل كل شيء أن تبيّن الحكم على البشر جميعاً، بل أن تبيّن أن النصوص قُرئت في إطار التمييز بين الأبرار والخطأة. وبما أن لا تمييز بعد الآن، فالبشريّة كلها هي تحت الحكم. نجد في هذه السلسلة سبعة ايرادات، بينها خمسة من المزامير، وكلها أخِذت من اليونانيّة السبعينيّة.
يرى الشرّاح (آ 10) أن الافتتاح أَخذ مز 13: 1 وكيّفه. ولكن هناك توازياً مع جا 7: 20: لا، ما من بارّ (ديكايوس). إن ظنّ أحد أنه بار، دلّ على أنه لم يفهم ما هو العهد ولا مسؤوليّة العهد. في آ 11- 12 نجد مز 14: 1- 3 ثم 53: 2- 3. هنا يشير بولس إلى عبادة الأوثان وإلى الفجور، كما إلى نكران الجاهل لله. في آ 13 استعمل مز 5: 9 و140: 3 حيث يميّز المرتّل نفسه، منتظراً بأن يقوده الأبرار فيُحسب بين الأبرار ويُبعَد عن فاعلي الشرّ (مز 5: 5؛ 140: 4). ويبيّن بولس هنا أيضاً أن لا تمييز بين يهوديّ وأممي، لأنّ كليهما يقفان أمام الربّ. وتُورد آ 14 مز 10: 7 مع اتّهام الأشرار الذين يحتقرون الله (مز 10: 2- 4، 6، 10)، في كلام عن اليهود والأمم. وعادت آ 15- 17 إلى إش 59: 7- 8 الذي هو بكاء على خطايا اسرائيل الذي ابتعد عن البرّ (اش 59: 12- 15). هذا يتضمّن ما سبق وقاله بولس في 2: 24 عائداً إلى إش 2: 5: اليهود الآن هم مثل اسرائيل في أيام اشعيا: تسامحوا مع نفوسهم مستندين إلى عهدهم قدام الله. كانت خطاياهم كافية لتقطعهم من الله (اش 59: 2)، مع أن هناك أملاً ببرّ الله وخلاصه (إش 59: 17). وهناك كلام عن طريق السلام. رج 1: 7؛ ق 5: 1. نستطيع أن نستنتج أن فهم بولس للبر تأثّر تأثُّراً كبيراً بما في اشعيا الثاني.
في آ 18 تنتهي السلسلة مع مز 36: 1 حيث التعارض واضح بين الذين يتجاوزون الشريعة (36: 1- 4، 11- 12) والذين يستندون إلى برّ الله (36: 10). وجميعُ البشر هم في الفئة الأولى. وبما أن مخافة الله موضوع هام في الكتاب المقدس والديانة اليهوديّة (تك 22: 2؛ تث 6: 2؛ أم 1: 7؛ ق وص لاوي 13: 1؛ مد 12: 3)، جاءت الآيةُ الأخيرة بحكم قاسٍ: «مخافة الله ليست نصب عيونهم».
ج- نحن نعلم (آ 19- 20)
«ونحن نعلم» (آ 19). رج 2: 2. هي معرفة مشتركة (غل 2: 16). ما تقوله الشريعة تقوله للذين هم في الشريعة. رج «تحت الشريعة» في 1 كور 9: 20؛ غل 4: 5. والذين «لهم الشريعة» في 2: 14؛ والذين «من الشريعة» في 4: 14، 16 (نلاحظ حروف الجرّ). هنا دلّت الشريعة على الحدود بين الأمم واليهود. هؤلاء هم داخل الشريعة. الديانة والوطنيّة وطريقة الحياة تحمل طابع الشريعة. «كل». بما أن طابع الشريعة الفصل بين الذين في الداخل والذين في الخارج، لا نستطيع أن نُنكر أنها تتوجّه إلى الذين في الداخل. ولكنها تتوجّه أيضاً إلى الجميع، كاتهام للذين في الداخل وفي الخارج (3: 10- 18). نلاحظ أن بولس لا يميّز الشريعة عن سائر أسفار العهد القديم. رج 1 كور 14: 21؛ يو 10: 34؛ 15: 25. يرد هنا لفظ «الشريعة» ست مرّات (في 2: 12- 15: تسع مرات). فبولس هو هنا في أول مرحلة من ذروة عرضه، وسوف ينتقل إلى المرحلة الحيويّة المقبلة.
الشريعة تتّهم وهي المسلّطة. فلا يستطيع الانسانُ أن يجادل بعد. «هيبوديكوس». استحقّ العقاب بعد أن وُجد مذنباً. هو انسان لا يقدر أن يجيب في المحكمة، بعد أن استنفد كلَّ امكانيات الردّ على ما يُتهم به. «العالم» أي الجنس البشريّ. كلّ فمّ، والكون كله بلا دفاع أمام اتّهام الكتب. وهكذا لن يكون لليهود ما به يدافعون عن أنفسهم بشكل خاص في الدينونة الأخيرة.
ارتبطت آ 20 بما في مز 143: 2. استعمل هذا النصّ في غل 2: 16 (ما عدا عنده أو قدّامه). ما أورد بولس النصّ حرفياً لكي يستطيع أن يوجّهه بحسب مقصده، وهذا أمر مبرَّر تقبل به أذن يهوديّة. «لا يبرّر». الصورة هي انسان يقف أمام سيّده. وهنا في الدينونة الأخيرة. هل يبرّر بأعمال الشريعة؟ نحن هنا في إطار هجوميّ، لأن اليهوديّ هو تحت الخطيئة، مثله مثل سائر البشر. وهكذا نكون أمام شيء خاص باليهود. ثم إن أعمال الشريعة تعني خدمة الشريعة، خدمة فرائضها ونظامها الدينيّ. هكذا يُعرف العضو في الجماعة (نج 5: 21، 23؛ 6: 18). في العبرية: م ع ث ي. ه. ت و ر ه. انتظر اليهوديّ التقيّ برَّ الله من أجله لأنه داخل الشريعة، لأنه عضو في شعب العهد.
«الشريعة لمعرفة الخطيئة». المعرفة تشير إلى طابع الحياة وتؤثّر على السلوك (1: 28). وعى بولس الخطيئة على أنها قوّة تسيطر على الحياة (3: 9: تحت الخطيئة) أو يقين حول العمل الخاطئ، يقين بالذنب (4: 15؛ 5: 13؛ 7: 13). تبدو الشريعةُ وسيلةَ حياة داخل العهد (سي 45: 5؛ مز سل 14: 2) وسياجاً في وجه الأمم. أما بولس فرأى أن الشريعة لا تعطي امتيازاً ولا طمأنينة، بل تجعل الذين تتوجّه إليهم واعين أنهم وإن كانوا أعضاء في شعب الله، فهم ما زالوا يحتاجون إلى النعمة، شأنهم شأن الوثنيّين.
3- خلاصة لاهوتيّة
إن خطّ التساؤل في 3: 1- 8 وارتباطه بما سبق وبما يلي (آ 9) راح بعيداً. لهذا عاد بولس ليوجز اتهامه لليهود وللأمم (1: 18- 3: 8). انطلق من السياق المباشر فواصل الجدال. هذا يدلّ منذ بداية الخاتمة أن بولس لا يعود إلى منظور سابق يوجزه، أي اتهام الأمم (1: 18- 32) واتهام اليهود (2: 1- 29). بل جاء كلامُه في امتداد 3: 1- 8، فرأى أن لا دفاع ولا مرافعة تجاه لابرّ البشريّة بشكل عام. وحكمُ اليهود على خطأ الأمم (2: 3، 1) صار حكماً على اليهود أنفسهم، حكماً على اعتدادهم بأنهم يختلفون بإيمانهم عن الوثنيين اللاأبرار. رُفض كلُّ عذر لليهوديّ (2: 1) كما لكل انسان. وإذ أراد اليهوديّ أن يلجأ وراء العهد والشريعة والختان، دلّ على لا فهمْه، كما دلّ على اتكاله الكاذب. ماذا بقي للانسان من دفاع؟ لا شيء إطلاقاً.
جاء الاتهام على اليهود واليونانيّين. فما قيل في1 : 18- 2: 29 صار واضحاً الآن. لم يعد لليهوديّ سندٌ في الشريعة ولا في العهد، فصار مثل كل انسان تحت الحكم الذي يصيب البشريّة (آدم، رج ف 1). سبق لبولس وتكلّم عن اليهوديّ واليونانيّ في صيغة المفرد. وها هو يعود إلى صيغة الجمع ليدلّ على التضامن. ويرد هنا للمرة الأولى لفظ «خطيئة» (ذكر الفعل في 2: 12)، على أنها قوّة تسيطر على البشر، وتُحرّك اللابرّ والافتخارَ والطموح الذاتيّ وتبتعد عن الحقّ (رج ف 1- 2). وهكذا تجعل الانسان ينسى أنه خليقة.
وتأتي الايرادات الكتابيّة (آ 10- 18) لتحرم اليهوديّ من أي اعتبار لنفسه قدّام الله. أما النقطة الأساسيّة فنقرأها في آ 19: تتكلّم الشريعة للذين أعطيت لهم. وماذا تقول؟ ما من بار ولا واحد. وتقول جا 7: 20: لا بارّ على الأرض. فالتعليم واضح: ما من أحد يقدر أن يعتبر نفسه باراً، سواء كان داخل الشريعة أو ظنّ أنه يحفظ الشريعة. وقرأ بولس اش 59: 7- 8 الذي ينفي البرّ عن شعب اسرائيل. أما المزامير الواردة فتقول لليهوديّ الذي يصلّي في المجامع أنه بار تجاه الأمميّ الشرّير في خط أخنوخ (1 أخن 99: 3- 4).
ونقرأ في آ 19: كل ما تقوله الشريعة، تقوله للذين هم داخل الشريعة. وهي تلفظ حكماً لا يُفلت منه أحد. فهي تصيب أيضاً شعب الشريعة. وهكذا وجب على الكون كله أن يؤدّي جواباً لله، وأن يقف أمام الديّان. هذا ما يجب أن يقتنع به اليهودُ الذين يرون نفوسهم داحل الشريعة. فالشعب اليهوديّ لا يستطيع أن يفصل نفسه عن سائر الكون، أو يعلن براً يجعله غير مرتبط بالدينونة. وإن كان اليهوديّ لا يقدر أن يتعلّق بأي اعتبار، فما من أحد يقدر.
وتأتي آ 20 بشكل ضربة قاضية، كالسبب الأساسيّ والركن اللاهوتيّ للبرهان كله. هذا يجب أن يكون هكذا، لأن ما من بشر يتبرّر أمام الله بأعمال الشريعة. وعاد بولس إلى مز 143 بما فيه من نداء إلى الله: «يا ربّ اسمع صلاتي، أصغ إلى تضرعي في حقّك، أصخْ إليَّ في برِّك ولا تدخل في حكم مع عبدك، لأنه لا يبرَّر حيّ أمامك». يُقرّ المرتّل أنه تحت حكم الله ودينونته، لأنه (هو والبشر كلهم) لا يعتبر نفسه بريئاً ومبَّرراً لدى الله. حوّل بولس النصّ فطبّقه مرتين. أولاً، أضاف «بأعمال الشريعة» كما فعل في غل 2: 16. نحن هنا أمام موقف يهاجمه ف 2. وأول الأعمال هي الختان. هي أعمال تطبع بطابعها شعب الله، وتجعل ابن العهد يكتشف هويّته كيهوديّ في داخل العهد.
أعمال الشريعة ليست العمل بالشريعة (2: 13- 14) ولا تتميم الشريعة (2: 27). وليست عملَ الشريعة المكتوبة في القلب (2: 15) ولا ختان القلب بالروح (2: 29). أعمال الشريعة هي شيء سطحيّ، على مستوى «الحرف» (2: 27، 29) وعلامة خارجيّة تدلّ على تضامن على مستوى العرق (2: 28). أعمال الشريعة هي الضروريّ للدخول في العهد.
وحوّل بولس نصّ المزمور ثانياً فقرأ: «لا بشر» بدل «لا حيّ». هو الانسان في ضعفه وفي فساده وارتباطه بهذا العالم. هو الانسان الذي يريد أن يستقلّ عن الله، ويحيا كما يرتئي هو مع رغباته التي تقود إلى الموت. هو انسان يأخذ القيم من هذا العالم ومن المجتمع وعاداته. انسان لا أمل له بأن يبرّأ في يوم الدينونة. ويعلن الرسول أن من يستند إلى امتياز العهد الذي يؤمّن له التبرير في يوم الدينونة، هو انسان يعيش على المستوى البشريّ، على مستوى اللحم والدم.
وتجاه هذا الفهم السطحيّ للشريعة، قدّم بولس فهماً آخر لدور الشريعة: «عبر الشريعة تأتي معرفةُ الخطيئة». لسنا هنا أمام مبدأ، مع أن بولس يستعمله كقوّة في نهاية القسم الثاني من رسالته. أجل، إن اليهود معاصري بولس لم يعرفوا دور الشريعة كما قال لهم في 3: 10- 18. فلو فهموا لما وثقوا بالشريعة ولا افتخروا بالامتيازات الخارجيّة. إن الرسول توجّه إلى شعب العهد ليجعله يعي خطيئته، وليُفهمه أنه تحت سلطان الخطيئة ولو كان عضواً في شعب العهد (3: 9،19).
خاتمة
بعد أن فهمنا أن الله يقبل أن نسأله، أن نُحاجّه. وأن لا انسان يحقّ له أن يسأله إن لم يقرّ أنه خاطئ تجاه الذي هو قدوس، أنه لاأمين تجاه الذي هو الأمانة بالذات. عندئذ يردّ العقل البشريّ بمحدوديّته وهو يحاول التهرّب من الحقيقة. يقول: بما أن أمانة الله تسطع أمام لاأمانتنا، فلماذا نكون أمناء؟ وإذا كانت الخطيئة تُبرز النعمةَ، فلماذا لا نكثر من الخطايا؟ مثل هذا الكذب ينال الحكم القاسي. ولكن لا بدّ من التذكير بأن الله لا يبقى لامبالياً: أعطى شريعتَه وهو يدين ويحكم. والخطيئة ليست فقط موقفاً لا أهميّة فيه. أمّا ما يقوله الكتاب فهو: لا بار ولا واحد. ونجد النور حين نتذكّر أن برّ الله هو وحي. وهو أبعد ما يكون عن تطبيق شريعة وفرائض. فلو كان الأمر كذلك، لما احتجنا إلى وحي ولا إلى إنجيل. ولكن برّ الله يختلف كل الاختلاف عن هذا، وهو يُكشَف لنا في وحي، وحي الخلاص الذي تتبعه الشريعة وترافقه.