الفصل العاشر
ما هو فضل اليهوديّ
3: 1- 8
لجأ اليهوديّ إلى العهد، فأزال بولس هذا الملجأ. ولجأ إلى الشريعة والختان، ولكن بان أن اليهوديّ تجاوز الشريعة، فصار خاطئاً، شأنُه شأن الأمميّ. كما أن الوثنيّ الذي يمارس الشريعة صار مختوناً وحكم على اليهوديّ الذي لا يمارس أحكامها. وبقي لليهوديّ ملجأ أخير: بالنظر إلى مواعيد الله، اسرائيل هو شعب الله المختار. فكيف يجعله بولس خارج طريق الخلاص بعد أن اعتبر هو أن الختان ينجّيه من الهلاك؟ هنا يقدّم بولس جواباً سريعاً على افتراض سيردّ عليه مطوّلاً في ف 9- 11: ليس الله هو الذي خان الأمانة، بل البشر. وفي أي حال، حين يخون البشر الله، فهم لا يُلغون مواعيده. لا شكّ في أن أمانة الله تأخذ وجهاً آخر، ولكن هذا لا يعني أن الخاطئ هو في مأمنٍ من غضب الله (آ 6)، كما لا يعني أنه في حلٍّ من خطيئته فيسمح لنفسه بأن يتمادى فيها (آ 8).
1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 2، أراد بعضهم أن يحسّنوا النصّ، مثل أوريجانس، فجعلوا محلّ «بروتون» (أولها) «بروتوي»: كانوا أول من أؤتمن. قرأ الناشر «كاتوس» (كما كُتب) في آ 4، بدل «كاتابر». رج 9: 13؛ 10: 15؛ 11: 8. نشير إلى أن اللفظ غاب من البرديّة 46. ونشير أخيراً إلى أن آ 7 ليست شرحاً لما في آ 6، بل تكراراً لما في آ 5، بعد أن قدّمت آ 6 جواباً كافياً.
ب- بنية النصّ
إن هجوم بولس في ف 2 ليس فقط على تجاوز الشريعة (كما اتّهم الأممُ في 1: 19- 32)، بل على اعتبار اليهود أنفسهم مميّزين عن اللايهود لأنهم شعب مطبوع بالختان. كل هذا تثبته آ 1. فبولس وعى أن برهانه جَعل على المحك الفهمَ التقليديّ لاختيار اسرائيل من قبل الله (آ 3). فأمانة الله هي أمانة الخالق البار والديّان، لا إله اسرائيل الذي تحدّده مقاييسُ ترتبط بهويّة عرقيّة. غير أن هذه النقطة ترتبط ببرهان مفصَّل سوف نعود إليه في الفصول اللاحقة.
هذا المقطع (آ 1- 8) ينقلنا من قسم إلى آخر. أولاً، يواصل بولس الأسلوب الجداليّ، ولكن مع نفسه لا مع محاورٍ. والأسئلة ليست بعدُ مسائل بلاغيّة تساعده على تقديم طرحه، بل أسئلة قاسية من أجل إيمانه (رج صيغة المتكلّم المفرد، أنا، في آ 5- 7). ومع أنه ليس مستعداً لكي يواجه هذه الأسئلة، إلاّ أن اندفاع الجدال وصراحته جعلاه يطرحها في الحال. ولكن بما أنه قَدر أن يقدّم جواباً كافياً في هذه المرحلة، خسر الحوارُ اندفاعه ووجهته. وطابعُ جواب بولس غير المُرضيّ (قدّم هنا أقوالاً مأثورة) جعل الشرّاح يضيعون في الطريقة التي فيها أخذ بولس المناسبة لكي يتطلّع إلى الجدال اللاحق (ف 6، 9- 11)، ويربط جداله بالجزء الأول من اتهامه. وهكذا بدت آ 1- 8 جسراً بين الأقسام الأولى في الرسالة والأقسام الأخيرة، أو رباطاً بين أفكار مفاتيح ومواضيع نجدها في روم. هناك بنية تصالبيّة في آ 4- 8 حيث الاعتراض الأول (آ 5) يعود إلى الايراد الكتابيّ الثاني (آ 4 ب)، والاعتراض الثاني يعود إلى الإيراد الكتابيّ الأول (آ 4 أ). والتعارض بين خطيئة الانسان وأمانة الله يستمرّ في هذا المقطع.
2- تحليل النصّ الكتابيّ (3: 1- 8)
يرد هذا النصّ في مقطعين. في الأول (آ 1- 4) نتعرف إلى خيانة الانسان تجاه أمانة الله لمواعيده. في الثاني (آ 5- 8) نكتشف صلاح الله وصدقه.
أ- أمانة الله وخيانة الانسان (آ 1- 4)
«ما هو... ما هو» (آ 1). ذاك هو أسلوب بولس. رج 10: 6- 7؛ 11: 34- 35. «فضل» (باريسوس). هو ما يزيد على الأساس العاديّ، اليهوديّ هو نموذج الانسان اليهوديّ. رج 2: 17. هو لا يعني جميعَ اليهود، بل يشير إلى نمطٍ اليهوديّ الوطنيّ. و«فضل» يقابل «نفع» (أوفاليا). انتفع اليهوديّ حين خُتن، افتخر بأنه يهوديّ، والختان يتعلّق تعلّقاً وثيقاً يهويّة اليهوديّ (2: 25).
هناك أكثر من فضل ومن نفع (آ 2). فكأن بولس ترك الاتهام السابق. «بروتون» (أولاً) يدلّ على أن هناك لائحة (1 كور 12: 28). ولكن بولس لا يُكمل اللائحة (1: 8)، وإن كانت هناك منافع أخرى سيذكرها في 9: 4- 5. «أقواله». هي أقوال (لوغيا) الله التي أعطيت لموسى وللأنبياء (لا يميّز) والتي تشكّل الكتب المقدّسة (1: 2). هذا الاستعمال نجده في السبعينيّة (تث 33: 9؛ إش 5: 24؛ مز 12: 6). غير أن هذه الأقوال سوف تصبح واضحة عبر الانجيل.
«فماذا» (آ 3). ماذا يبقى لنا؟ ما هو الوضعُ إذن؟ رج فل 1: 18. «بعضهم» هذا يعني أن 2: 1- 29 لا يحكم على جميع اليهود. ثم إن النقص في الإيمان أمرٌ موقّت (ف 11). رج 4: 20؛ 11: 20، 23. يتركّز الفكر كله على علاقة العهد بين الله واسرائيل، وبالتالي على واجبات «اليهود» الخاضعين للعهد، وعلى الأمانة للعهد. فاليهوديّ النموذجيّ يرى هذه الأمانة في حفظ الوصايا (سي 32: 24؛ 2 با 48: 20)، ويفتخر بأن إيمان اسرائيل بالعهد مع الله يميّزه عن سائر الأمم (4 عز 3: 32). إلاّ أن الرسول رأى واجبات العهد الآن على مستوى أعمق (2: 28- 29) كما فكّر في الأمم في إطار اسكاتولوجيّ مقبل (4: 11- 18) بحيث يلغي العضويّة الجسديّة في الأمّة اليهوديّة كأساس ليكون الواحد عضواً في العهد (2: 17- 29). فعدمُ أمانة اليهوديّ في نظر بولس يعني، لدى «بعض» اليهود، عدم التعرّف إلى ما أؤتمنوا عليه الآن (4: 20). وهكذا لا تستبعد «أبيستيا» (اللاايمان) الإيمان (10: 16). إن بُعد المعنى الممكن يثبّت خطّ معانى الإيمان وكأنها منفعلة بدل أن يكون هناك تواصلٌ، حيث مفهوم «الإيمان» يصل إلى مفهوم «الأمانة».
«أمانة الله». وفاء الله، تجاه عدم أمانة الانسان وخيانته. رج مت 23: 23؛ غل 5: 22؛ 2 تس 1: 4؛ ق مز 33: 4؛ هو 2: 22 (ا م و ن ه في العبريّة، التي تعني الثبات والمصداقيّة). تحدّث بولس عن وفاء الله. هنا نميّز بين أمانة (بستيس) الله لاسرائيل والإيمان بيسوع المسيح. لا نجد هنا فكرة العهد الجديد، بل تواصلَ قصدِ الله في عهد أوّل سُلّم إلى اسرائيل. هناك من رأى أن بولس تطلّع إلى مواعيد الله (عبر ابراهيم مع الأمم)، فميَّز بين اختيار اسرائيل والوعد للأمم (4: 6). لكن يبقى أن 3: 3 هو جواب على 2: 27- 29.
«أما يكون» (آ 4). أو: «ألا يكون»؟ هو نفيٌ قويّ يستعمله بولس مراراً في سؤال بلاغيّ. رج 3: 6، 31؛ 6: 2، 15؛ 7: 7. ق تك 44: 7، 17؛ تث 24: 16. نترجم: مستحيل، حاشا وكلا. إن بولس يرى قوّة عهد الله مع اسرائيل، الذي ما زال حاضراً. ويرى أن فهم اليهوديّ للعهد هو لافهم. ويرى أخيراً في انجيله امتداداً وتتمّة لعهد الله مع اسرائيل. بدون هذا الموضوع المثلّث كعنصر مهم في بناء هذه الرسالة، تبدو لغةُ بولس هنا وفي مكان آخر بلاغةً فارغة.
هناك علاقة فكريّة بين صدق (أليتايا) الله وأمانة (بستيس) الله (آ 3). إن «ا م و ن ه» تدلّ على الأمانة والصدق. رج مز 89: 1، 2، 5، 8، 14 ... تطلّع بولس إلى ثبات الله وأمانته وحقيقته. كل هذا يعني أن اليهودي ما عرف أن يتصوّر الطابع الحقيقيّ لعهد الله مع اسرائيل. الله صادق وكلُّ انسان كاذب. رج مز 116: 11 (115: 2 حسب السبعينيّة). قد لا يكون بولس أراد أن يورد النصّ الكتابيّ. أما عبارة «كما كُتِب» فتدلّ على الايراد اللاحق (مز 51: 4). إن أمانة الله وصدقه لا يُفهمان إلاّ في منظار النهاية. والنظرة إلى التاريخ البشريّ ككلّ، تدهشنا كعلاقة بين صدق الله وطلبات الانسان. فالله يكون الله مهما قال الانسان. في هذه الآية، يكمن أعمقُ موضوع في تعليم بولس عن التبرير. ونلاحظ كلاماً كثيراً عن برّ الله في دينونته في مز سل 2: 16- 19؛ 3: 3؛ 4: 9، 28؛ 5: 1. بل نكون بالأحرى أمام ثقة بإله العهد.
ب- صلاح الله وصدقه (آ 5- 8)
«وإذا كان ضلالنا (آ 5). «سونئستيمي» : وضع معاً. بيَّن. برهن (5: 8؛ 2 كور 7: 11؛ غل 2: 18). «أديكيا» (اللابرّ) تقابل «أبستيا» (اللاإيمان، اللاأمانة). إن عدم أمانة اليهود جزء من عدم أمانة البشريّة. أما أمانة الله وصلاحه وبرّه، فهي تدلّ على عمل الله من أجل شعبه، كما من أجل البشر كلهم. وهكذا يستعمل بولسُ لغة العهد لكي يؤكّد النظرة الأساسيّة إلى مفهوم العهد، كما سيطرت في الكتابات اليهوديّة. حين يتكلّم عن «لابرّنا» فهو يتكلّم عن كل انسان أو بالأحرى عن اليهوديّ الذي يرى الآن المتطلّبات الشاملة لما كان عليه في الماضي.
«ماذا نقول». عبارة نجدها عند بولس. رج 4: 1؛ 6: 1؛ 7: 7؛ 8: 31؛ 9: 14، 30. ويأتي السؤال بشكل يفرض جواباً بالنفي مع «مي»: أيكون الله ظالماً؟ والجواب يكون كلا. إن لفظ «أورغي» هو اسكاتولوجيّ (آ 6). بما أن الله ليس بجائر، فهذا يدلّ على أن مفهوم برّ الله يسيطر عليه رضى الله المجانيّ على الانسان (9: 4). فالغضب ليس فقط وجهة من البرّ، وإلاّ لما ظهر السؤال.
«كانسان». حسب الانسان، حسب مفهوم البشر. رج 6: 19؛ 1 كور 9: 8؛ غل 3: 15. نحن أمام معترضة، لأن الكلام عن الله الجائر هو كلام تجديف. راح بولس في هذا الخطّ الفكريّ، لا بسبب منطقه الخاصّ، بل بسبب انشداد بين ما فهمَه من علاقة بين برّ الله وامتيازات عهد اسرائيل ومتطلّباته. تحدّث بولس عن موقف كل انسان، لا اليهودي النموذجيّ وحسب. وهكذا بدت العلاقة بين الله والانسان (أقلّه في نظر اليهوديّ) غامضة.
«كلا». (آ 6). هذا لا يكون. رج 3: 4. ويصوّر النصّ دينونة الله وعمله (آ 6). هو الآن يفعل. كما يفعل في النهاية. «كوسموس» هو الكون كلّه (1: 20). والجنس البشريّ (3: 19؛ 11: 12، 15). لا صفة دنيئة للعالم كما في 1 كور 1: 20- 21، 27- 28؛ 3: 19 وكما في يو 1: 10؛ 7: 7؛ 8: 23. جاء برهانُ بولس كعودة إلى العبث: كيف يدين الله العالم وهو الذي اختار اسرائيل ليكون شعبه؟ أن يكون حُكمُ الله «باراً» فهذا أمر أساسيّ (تك 18: 25؛ تث 32: 4؛ أي 34: 10- 12). وقد جعله بولس حجر الأساس الذي به نجا شعبه الخاص من مثل هذا اللغز.
«صدق الله» (آ 7). تتكرّر «اليتايا» (صدق) مرّة أخرى في 1: 18- 3: 20، فتبدو اللفظَ المفتاح في كل هذا المقطع (1: 18، 25؛ 2: 2، 8، 20؛ 3: 7). فالكلمة العبرية (ا م ت، ا م و ن ه) هي في أساس الكلمة اليونانيّة. في متتالية الأسئلة المتوازية في آ 3، 5، 7، نجد توازياً في المضامين: أمانة الله، برّ الله، صدق الله.
«كذبي» (بسوسما) يقابل صدق الله. ما هو ضدّ الحقّ. في 1: 25، كان تعارض بين صدق الله وكذب الانسان من أجل الحكم على الذين في الخارج. أما هنا فكذب الانسان لا يحرّك الغضب، بل يبيّن وفاء الله وأمانته تجاهي أنا الكاذب. ومع أن بولس بعيد عمّا في 3: 20، إلاّ أنه لا يستطيع أن يبتعد عن وضع حرج يعرفه الأمميّ اللاّبار واليهوديّ اللاأمين.
«يزيد» (باريساواين). وُجد بافراط. كان أكثر من كافٍ. كان وافراً. فالله في وفائه، كخالق وإله العهد، لا يحسب كذب الانسان وخيانته، بل يظلّ يحسبه خليقته وشريكه في العهد. وهذا السخاء الفيّاض يحمل إلى الله الكرامة والمجد (دوكسا، رج 1: 21؛ 3: 23). هي سمة في لاهوت بولس، أن ما يحمل المجد لله (يجعل صورته ظاهرة) هو ممارسة رحمته ونعمته (9: 23؛ 2 كور 4: 15). وهو لا يتكلّم بالطريقة عينها عن غضب الله. ففي جوهر إيمانه، الله هو قبل كل شيء إله النعمة والحنان (9: 15): «خاطئ» (هامرتولوس): من تجاوز الشريعة، عصا الشريعة لأنه جهلها (الوثنيّ، مز 119: 53، 155؛ 1 مك 2: 44، 48)؛ مز سل 2: 1- 2؛ مت 5: 47؛ لو 6: 33؛ مر 2: 15- 17. مثل هذا الفهم لأمانة الله يصل بنا إلى مفهوم الدينونة والشريعة والحكم. فعندما يكون الله متسامحاً، فما هي وظيفة الشريعة؟
«ولماذا لا نعمل الشر» (آ 8). يرد فعل «افترى» (بلاسفيماين). جدّف على الله. جدّف الوثنيّون حين لم يعرفوا رضى خاصاً من الله تجاه شعبه (2 مل 19: 4- 6، 22؛ حز 35: 12؛ 2 مك 15: 24؛ يوسيفوس، ابيون 1: 59). وهذا ما يفعله اليهود اليوم بالنسبة إلى المسيحيّين. «بعضهم». لا يهاجم بولس الجميع، بل مجموعة خاصة. هؤلاء الذين انتقدوا تعليمه (6: 1). أن يستطيع بولس أن يضع مخرجاً صريحاً، يدلّ بوضوح على خطر يتعرّض له حين يحرِّر برَّ الله من ارتباطه بالشريعة وبشعب العهد: ففكُّ الرباط بين برّ العهد وشريعة العهد، بدا للكثيرين احتقاراً لخلقيّة الله. لهذا احتاج الرسول إلى إيضاح كلامه الخلقيّ. وهذا ما سيفعله بشكل عام في ف 6- 8 وبالتفصيل في 12: 1- 15: 6. «هؤلاء عقابهم عادل» (كريما، رج 2: 2؛ 11: 33). هو يتأسّس على ما هو مستقيم، حقّ. أجل، التعليم مستقيم، وحكم الله عادل (9: 20).
3- خلاصة لاهوتيّة
كل من تبع بولس في برهانه (آ 1) مع المحاور اليهودي، لا بدّ له أن يتساءل: ما فضل اليهوديّ، وما قيمة الختان؟ أن يكون الانسان واحداً من الأمّة اليهوديّة وعضوا في شعب اسرائيل، هو شيء قليل. ما الذي يناله اليهوديّ من الله، وما ناله الجنسُ البشريّ كلّه؟ أن يُطرح السؤال بهذه الطريقة، هذا ما رمى إليه بولس في ف 2: اليهوديّ الواثق بنفسه أنه يهوديّ، المتكّل على امتيازه بأنه من شعب الله المختار. كانوا يعتبرون امتيازاً أن يكون الانسان يهودياً، ويرون في الختان قيمة حتّى إن تجاوز الانسانُ الشريعة (2: 25). كلّ هذا هاجمه بولس بقوّة بحيث احتجّ اليهوديّ احتجاج من أضاع هويّته.
إن جواب بولس (آ 2) للوهلة الأولى يُدهشنا. هناك فضل «من جميع الوجوه». في أكثر من طريق. وتزداد الدهشةُ حين نفهم برهان بولس الذي رفضَ الاعتداد بالعهد، وتساءلَ حول قيمة امتلاك الشريعة والطقس الخارجي بحيث أنكر كلَّ دور للشريعة وأيَّ مدلول للختان. ولكن كما قلنا في ف 1- 2، لا يتخلّى بولس أبداً عن ميراثه كيهوديّ. بل إن أساس فهمه للانجيل، هو الاعتقاد بأنه في تواصل تام مع ما قاله الأنبياء في الكتب المقدّسة (1: 2). خطّط الله بأن تُعطى الشريعة وبأن تتمّ (2: 13، 27). وللختان مدلول هام (2: 26، 29). ذاك كان جواب بولس المباشر.
بدأ فقدّم جوابه بطريقة تدلّ أن عنده الكثير يقوله (أوّلها). هو أسلوب به يدلّ قرّاءه على أن عنده ما يقوله عن هذا الموضوع، ولكنه لا يوافق طرح الموضوع. أو هو دخل في روح الجدال، ووجد نفسه مدفوعاً بمنطق برهانه لكي يجد مخرجاً لوضع اسرائيل الخاص قدّام الله، فاستعدّ لأن يقدّمه بتفصيل. أو ما أراد أن يتوقّف عند هذا المخرج فقطع سؤال محاوره بكلام عامٍ. يبقى أن بولس كان يهودياً، ولا يقدر أن يُلغي هذا الوضع، وإن كان في موقع لا يقدر أن يهتمّ به.
جاء جواب بولس جزئياً، وبداية عرضٍ واسع (ف 9- 11): التواصل بين وحي أعطي لاسرائيل وانجيل ابن الله. فضلُ الشعب اليهوديّ هو أنه اؤتمن على أقوال الله (عبارة فريدة عند بولس. ما قال «مواعيد»). هذا يعني أنه يعود إلى كلام الله الذي قِيل ودُوّن في الكتابات اليهوديّة. أما بالنسبة إلى القارئ الأمميّ، فالأقوال تعني كلاماً ملهماً جاء من الماضي وما زال سرّياً وملغزاً الآن، فينتظر مفتاحاً يدلّ على معناه. يتضمّن كلامُ بولس أن اليهود أؤتمنوا على هذه الأقوال وحفظوها إلى أن يأتي المفتاح الذي هو انجيل المسيح الذي يكشف سرَّ ما كان دوماً مخطّط الله ولكنّه ظلَّ مخفياً إلى زمن النهاية (11: 25- 27؛ 16: 25- 26). كما يتضمّن أن يفهم اليهود ما قاله الله لهم في كل وقت (1: 19)، ويجعلوه معروفاً في العالم كله.
بعضهم خان (آ 3). ليتذكّر قرّاؤه أن جميع اليهود لم يرذلوا الانجيل. خانوا أمانة الله. أولئك الذين حفظوا أقوال الله أجيالاً عديدة، ما استطاعوا الآن أن يعرفوا معناها الحقيقيّ الذي أعطي لهم في الانجيل. وبما أنهم لم يعرفوا المعنى الحقيقيّ، تخلّوا عن مسؤوليّتهم للأمم (2: 19- 20)، فتصوّروا تصوّراً خاطئاً العهدَ والشريعة، في حياتهم (3: 21- 29).
والسؤال الذي يطرحه اليهوديّ اللامؤمن على بولس لافتٌ للنظر: هل أمانتُه جعلت أمانة الله غير فاعلة؟ لماذا هذا السؤال؟ الجواب الذي نكتشفه عند بولس هو الاقرار بأن الله هو الذي أعطى العهد مع اسرائيل. أي أن العلاقة بين الله وشعبه المختار قد أقامها الله وثبّتها، وهو الاله الأمين. والأسئلة الذي لا يمكن أن نتجنّبها: هل خيانةُ اليهود (رج ف 2) وفشلُهم في التعرّف إلى مخطّط الله ومدلول «أقواله»، يعنيان أن وفاء الله لشعبه كان باطلاً؟ أو هل «غسل» الله يديه من اسرائيل فألغى عهده مع اليهود؟ هل كان اختيار اسرائيل وائتمانه على كلام الله خطأ منذ البدء؟ هل ترك الله شعبه وبدأ من جديد؟ جاء جواب بولس بالنفي: كلا، خيانة اليهود لا تحدّد وفاء الله. فالله ظلَّ أميناً لعهده في الماضي رغم خيانة اسرائيل، وهو يبقى أميناً في الزمن الحاضر والمقبل، رغم خيانة اسرائيل المستمرة في رَذْلِ الانجيل.
إن مدلول هذه الآية هو أبعد من ذلك، وأعمق، لأننا نجد في القسم الأول من الرسالة، العنصرَ المفتاح (من إيمان إلى إيمان، 1: 17): البرّ من أمانة الله. فأمانة الله موجّهة قبل كل شيء إلى اسرائيل. فبرّ الله في عمله الخلاصيّ هو من أجل اسرائيل وحفظ الشعب. فبولس لا يقدر أن يسمح بأن تلغي خيانةُ اسرائيل اختيار الله لشعبه وبرَّه تجاه شعبه، لأنه عند ذاك يدمّر إنجيله. هذا هو التواصل بين مخطّط الله من أجل شعبه وانجيل ابنه. فتواصل أمانة الله لشعبه هو التثبيت الأول لاعتقاد بولس بأن برّ الله هو من إيمان إلى إيمان: هو لا يرتبط بعدم فهم اسرائيل للشريعة ولا لدورها، ولا يدمّره هذا اللافهم. كما لا يدمّره الانسان بأعمال يخون فيها العهد.
ولكن بولس ليس مستعداً (آ 4) لأن يتوسّع في هذا البرهان قبل أن يطرحه في ف 9- 11: «من أمانة الله» على ضوء «إيمان الانسان» (3: 21- 5: 21). أما الآن، فهو يكتفي برذل الفكرة التي تقول بعدم أمانة الله، عبر ايرادين من المزامير. إن أمانة الله لا يحدّدها جوابُ الانسان، سواء كان جواب الإيمان أو اللاإيمان. وصدق الله ليس على المحك بسبب فساد الانسان. إن ارتباط آ 3 وآ4 يبيّن أن الكذب ينطبق أيضاً على اليهوديّ اللاأمين، كما ينطبق على البشريّة. فاليهوديّ اللامؤمن ألغى الحقّ (1: 18)، حوّل الحقّ إلى كذب (1: 25)، عصى الحقّ (2: 8) مثله مثل غيره. ومع ذلك أراد الله أن يكون أميناً لمخطّطه حين خلق الانسان (1: 18، 25)، حين اختار شعبه (2: 8، 20).
والإيراد الثاني (مز 51: 4) يتضمّن كلاماً عن دينونة الله الأخيرة (2: 16) حيث يرى الحكمَ على الانسان الخائن وكذبه على أنه عادل وبحسب الصدق (2: 2)، كما يرى انتصار أمانة الله المتواصلة لشعبه، رغم لاأمانة اسرائيل: «أنت صادق في أقوالك، ومبرّر في حكمك». اعترف المرنّم بضعفه وخطيئته. هي خطيئة أمام الله. والله يبرَّرُ حين يحكم على الخاطئ. مع أن الأمر غير معقول، فالله يبقى على وفائه رغم شريكه الخائن تجاه العهد. هكذا كان في الماضي، وهكذا هو الآن في عمله الخلاصيّ تجاه شعبه.
ويأتي السؤال سريعاً: لابرُّ الانسان يبيّن برَّ الله (آ 5). إذن، لماذا الأمانة لله؟ ولماذا نُلام إن كنّا لاأمينين؟ هنا يتماهى بولس مع محاوره اليهوديّ في استعمال صيغة المتكلّم الجمع (نقول، ضلالنا)، وخيانتُهما تتماهى مع لابرِّهما الذي حُكم عليه في المراحل السابقة من البرهان (1: 18، 29؛ 2: 8). في هذا الإطار لا نستطيع أن نقول شيئاً.
ويُطرح السؤال: هل الله جائر؟ هل يحقّ له أن يحكم على اسرائيل؟ تحدّث بولسُ عن غضب الله على البشريّة الشرّيرة (1: 18)، على اليهود كما على الأمم (2: 8- 9). وها هو يقول الآن أن لابرّ اليهود يدلّ على برّ الله (ظلّ رؤوفاً تجاه الخطأة). فكيف يقدر أن يحكم على مواقف وأعمال تُبرز هذا البرّ؟ إذا فُهم برّ الله بهذه الطريقة، فماذا يبقى لغضب الله؟ فكأني ببرهان بولس يأخذ اتجاهين متعارضين.
وعى بولس حدّة السؤال (آ 6) فقال: أتكلّم بطريقة بشريّة. وهذه اللغة لا تكفي للكلام عن الله. لهذا اكتفى بالقول: الله يدين العالم في النهاية، ودينونتُه تكون بحسب الحقّ. ثم هو أمين تجاه شعبه ويبقى كذلك. هذان القولان يسيران معاً ويرتبط الواحد بالآخر، تدفعهما أمانةُ الله قبل خيانة الانسان.
ولكن مثل هذا السؤال قريب من التجديف (آ 7)، فلا يمكن لبولس أن يتركه من دون جواب. «إذا كان كذبي يظهر صدق الله». صدقُ الله هو أمانته. والمزج بين صدق الله وكذب الانسان ومجد الله يعود بنا إلى البداية (1: 18، 23، 25). لسنا فقط أمام أمانة الله تجاه لا أمانة شعبه، بل أمام صدق الله تجاه كذب الانسان. من يعلن برّ الله تجاه اللاأبرار، سواء الأمم أو اليهود اللاأمناء (1: 16- 17). فمسألة فهْم برّ الله في علاقة بغضبه، تبقى هي هي في قوّتها على الجهتين. ويتوقّف بولس عند نفسه: هو الخاطئ وقد صار الآن إناء لبرّ الله الخلاصيّ. هكذا لا يستطيع اليهوديّ أن يحكم على غير اليهود، لأنهما كليهما في الوضع نفسه.
بدا تعليمُ بولس (آ 8) وكأنه حضّ على الخطيئة: نعمل الشرّ ليجيء الخير. لكن بولس لا يقول مثل هذا القول، بل هو محاوره يتخيّل. إن أمانة الله لشعبه هي جزء من برّ الله للبشريّة. وأن يكون بولس الذي حمل الانجيل إلى الأمم، تماهى مع سقطة اسرائيل. وأن يكون انتقل من اعتراض يتحدّث عن أمانة الله لشعبه الخائن، إلى اعتراض على إنجيله، يدلّ على أن نموذج الانجيل قد أعطي في عهد الله مع شعبه أي في المحافظة على الأمانة. كان على الشعب أن يفهم هذا (الاعتراض نفسه على برّ الله في أشعيا كما عند بولس)، ولكنه رفض الانجيل الذي قدّمه الله للبشريّة. هذا الانجيلُ قدّم لليهوديّ كما للأمميّ (1: 16)، ورفضُه يجعل غضب الله يصيب اليهوديّ أولاً ثم الأمميّ.
خاتمة
وأعلن بولس أن شعب اسرائيل لا يشكل استثناء، بل إن وضعه هو وضع كل شعب، بحيث لا فرق بين اليهود والأمم. كلّهم تحت الخطيئة، وكلّهم يحتاجون إلى الإيمان لكي يتبرّروا. عندئذ يُطرح السؤال حول مخطّط الله: ما نفع الاختيار، والخروج من مصر، وعطيّة الشريعة، والوعد، والهيكل؟ لقد وصل مخطّط الله إلى الفشل، وانتهى الدور اليهوديّ، والله سيبدأ مشروعاً جديداً. وجاء جواب بولس: عالم اليهود مسيرة لها معناها، وأوليتهم طبعت تاريخ البشريّة بطابعها، والختان احتفظ ببعض الفائدة. هذا لا يعني أن الديانة اليهوديّة وسيلة لكي تؤمّن علاقة الانسان بالله، بل العكس هو الصحيح: لقد اختار الله شعباً وانتظر منه جواب الطاعة. وهكذا تكون خاصيّة شعب الموعد وقداسته، أن يجعل نفسه تجاه مشيئة الله. نال وحياً، فماذا فعل بهذا الحي؟ حُمّل كنزاً في إناء من خزف، فماذا فعل بهذا الكنز؟ هو مرسَل الله والقائم مقامه على الأرض. بعد هذا، هل يتجاسر اليهود أن يقولوا عن الله إنه كان ظالماً بالنسبة إليهم؟ أما الجواب فسيأتي فيما بعد.