الفصل الرابع إنجيل متّى

الفصل الرابع
إنجيل متّى
يوسف ضرغام

مقدمّة:
تُعلِن بشارة متّى أن يسوع هو المخلّص الموعود به في العهد القديم، وتتوجّه إلى اليهود أولاً ثم إلى الوثنيّين. وهذا المخلّص هو المعلّم الأعظم الذي له حق تفسير موسى والأنبياء، لا بل إنه أعظم من موسى والأنبياء الذين جاء يكمل تعاليمهم بما له من سلطان في السماء وعلى الأرض، كما جاء يبشّر بملكوت الله. فهو الملك الذي يجلس على عرش داود أبيه ولن يكون لملكه إنقضاء. وإنجيل متّى هو إنجبل هذا الملكوت، كما نتبيّن ذلك من كثرة إستعمال هذه الكلمة ومن تصميم الكتاب الذي يدور على فكرة الملكوت.

تصميم الكتاب:
يتفق المحلّلون في غالبيتهم، على تقسيم هذا الإنجيل إلى مقدمة وقسمين أساسيين:
- المقدمة (ف 1- 2) تشدّد على سر يسوع: من هو وما هي رسالته، على ضوء القيامة؟ وهذا ما دعوه "إنجيل الطفولة".
- القسم الأول: يسوع ينادي بملكوت الله ويمهّد للكنيسة (ف 3 – 16).
لقد أتى الملكوت. يسوع يُرسل تلاميذه ليبشرّوا كما يبشِّر هو.
القسم الثاني (ف 17- 28): الجماعة في ملكوت الله. إنتقال هذا الملكوت من الشعب اليهودي إلى الكنيسة. إفتتاح الملكوت في سر الفصح، موت وقيامة السيد المسيح.

مؤلِّف الكتاب:
وصل الينا إنجيل متّى باليونانية وفي رأس النص عبارة "كتاب متّى". وإسم متّى وارد في لوائح الرسل الإثني عشر كلّها (متّى 10/ 3؛ مر 3/18؛ لو 6/ 15؛ رسل 1/ 13). ويوضح هذا الإنجيل أن متّى المُراد هنا هو متّى العشار الذي دعاه السيد المسيح وكان جالساً إلى مائدة الجباية (متّى 9/ 9...).
هناك نوعان من الشهادات لنسبة هذا الإنجيل إلى متّى:
1- شهادة خارجية: يذكر بابياس، مطران هيرابوليس، في أوائل القرن الثاني، أن متّى "رتّب الأقوال في اللغة العبرية العامية وفسّرها كلُ واحد قدر المستطاع". هذا ما كتبه أوسابيوس في تاريخ الكنيسة عن بابياس، وهذا ما تبناه التقليد منذ بداية القرن الثالث (إيريناوس وأوريجانوس وترتليانوس). ويضيف إيريناوس أن إنجيل متّى وُضع يوم كان بطرس وبولس في روما أي ما بين سنة 60 و 62. هذا بالنسبة إلى متّى الآرامي.
2- شهادة داخلية: أسلوب إنجيل متّى خاص به. أسلوب سامي مأخوذ من تقليد سابق مع تفسير جديد. عبارات سامية (ملكوت السماوات، أبي الذي في السماوات، أتمّ الشريعة، الناموس والأنبياء...). كما يمتاز باستعمال العهد القديم إستعمالاً واسعاً واستشهاده به على الطريقة اليهودية التي كانت تراعي الحرف الذي تعتبره مقدّساً (ليتم ما قيل على لسان النبي...). فالكاتب سامي يراعي التقليد اليهودي ويكتب لجماعة مسيحية من أصل يهودي. فهناك صلة قوية بالتوراة ورابط قوي بين شعب العهد القديم وشعب العهد الجديد.
3- إنجيل متّى اليوناني وضعه تلميذ لمتّى حافَظَ على روح معلمه واحتفظ باسم المؤلّف الأولّ. وقد وُضع بين سنة 80 و 90 أي بعد خراب أورشليم ودمار الهيكل. وذلك في سوريا وعلى الأرجح في أنطاكيا حيث يشهد به اغناطيوس الإنطاكي في أوائل القرن الثاني وحيث كان المسيحيون قد لجأوا بعد خراب أورشليم.

جماعة متّى:
بعد حرب سنة السبعين التي دمرَّت الهيكل، هرب اليهود من أورشليم ولجأ قسم منهم إلى مدينة جمنيا، جنوبي يافا. هناك راح الفريسيون يجدّدون النشاطات الدينية، ويفضّون الخلافات القائمة بين مدارسهم، ويضعون تقويماً جديداً موحّداً لأعيادهم، ويقرون ليتورجيا المجامع، ويحدّدون كتبهم القانونية، ويدوّنون الشريعة التقليدية ويُعلون شأن الربانية الخ... إنها نهضة شاملة حملهم عليها تحدي الوثنية والغنوصية والمسيحية.
قامت جدالات بين اليهود والمسيحيّين، وشعر هؤلاء بعداوة اليهود لهم ومحاربتهم علناً في صلواتهم. فأخذوا يبتعدون عن المجمع شيئاً فشيئاً. لهذا يتكلم متّى عن "مجامعهم" (4/ 24)، ولكنّه لا يدعو إلى البغض أو الإنتقام أو العنف. بل يدعو إلى محبة الأعداء واليهود منهم (5/ 44). وإنجيل متّى أكثر من سواه، يندّد بالفريسيين: "الويل لكم". ويهدّدهم بسوء المصير: "ها إن بيتكم يُترك لكم خراباً" (23/ 28) أو: "ملكوت الله يُنزعَ منكم" (21/ 43) أو:" أبناء الملكوت يُطرحون خارجاً" (8/ 12). فهذا الشعب مسؤول عن موت البريء، ولا يتنصّل من هذه المسؤولية، كما لا يخاف القصاص فيقول: "دمه علينا وعلى أبنائنا" (27/23- 25). لذا ففي الدينونة سيكون "حظ سادوم وعمورة أفضل من حظه" (10/ 15).
هذه النقمة على اليهود تبدو منذ بدء الإنجيل. فبينما مولد يسوع، في إنجيل لوقا يحمل الفرح والإبتهاج، نرى يسوع الطفل يهدّده شعبه في شخص هيرودس فيلجأ على الهرب. وإنجيل متّى إنجيل منفتح، منذ البدء، على الوثنيين الذين قبلوه في شخص المجوس.
هذا يدل على أن هذا الإنجيل وُضع بعد سنة السبعين. واضعه مسيحي من أصل يهودي يعرف العهد القديم والعادات اليهودية ويكتب لمسيحيين من أصل يهودي، هم تلاميذ المسيح. فجاء الكتاب في إطار يهودي بتعاليمه الإخلاقية والعملية. شريعة موسى لا تزال قائمة، إنما يُنظر إليها بعيون جديدة وقد جاء السيد المسيح ليوصلها إلى كمالها. الصلاة والصوم والصدقة قِيَمٌ تتبناها المسيحية لكنّها تُضفي عليها روحاً جديدة. العهد القديم بتوراته وأنبيائه لا يزال محترماً: "حرف واحد من الناموس لا يسقط" (5/ 11). لكن على هذا العهد أن يصل إلى كماله (5/ 17). متّى يأمر المسيحيين بسماع كلام الفريسيين، لكنّه يحذرهم من سلوكهم: "على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون. فافعلوا كل ما يقولونه لكم لكن مثل أعمالهم لا تعملوا" (23/ 1- 3).
كتاب الكنيسة:
كان إنجيل متّى الإنجيل الأكثر استعمالاً في القرنين الأول والثاني، أي من أغناطيوس الأنطاكي حتى إيريناوس أسقف ليون. هو كتاب في خدمة الكنيسة، كتاب كرازة، رفيق المبشرين، كما هو كتاب السلطة الكنسية. واضعه إنجيلي وواعظ وراعٍ. وقد استعملته الكنيسة نظراً إلى تشديده على الناحية الجماعية للكنسية. فيسوع يعلّم ويعمل داخل الجماعة. إنه إنجيل وُضع في الكنيسة وللكنيسة. وهو يعبرّ عن تقليد طويل يرقى إلى أحداث حياة يسوع، ويمتد إلى حياة الجماعة في أواخر القرن الأول. إنه كتاب أناس يعيشون إيمانهم في تقليد كنسي حيّ.
الكنيسة التي يكتب لها متّى إنجيله تبدو شبيهة بكنيسة اليوم بتنظيمها وطقوسها وتقاليدها.، كنيسة تتجدد بتركيز إيمانها على سيّدها القائم من الموت وهي تريد أن تكون كنيسة من أجل العالم. طقوسها الثلاثة، العماد والتوبة والإفخارستيّا تنظّمت إلى حد بعيد. أصبحت تعمِّد باسم الآب والإبن والروح القدس، لا بإسم يسوع كما نرى في سفر أعمال الرسل (2/ 38). والرب أعطى رسله سلطان الحل والربط ليكمّلوا من بعده خدمة غفران الخطايا. كما أولاهم أن يقدسوا الخبز والخمر فيحوّلوه إلى جسده ودمه. ولهذه الكنيسة هيكلتها ووظائفها:
- هناك الأنبياء: "إحذروا الأنبياء الكذبة" (7/ 15- 23). إذن، هناك أنبياء حقيقيون (23/34) يضطهدهم اليهود (لو 11/49)، أنبياء جوالون يزورون الكنائس ويعيشون من عملهم الرسولي (10/ 41) والكنائس تستقبلهم وتهتم بمعيشتهم.
- هناك أيضاً الكتبة (3/ 34) الذين أرسلهم يسوع بعد قيامته (13/ 52) ووضع بين أيديهم كنز تعاليمه يطبّقونه وينقلونه دائماً طبقاً للظروف. وكل كاتب، ومتّى هو أحدهم، يُخرج من ذخائره جدداً وقدماء (13/ 52)، وله في الكنيسة دور تعليمي وتنظيمي.
- وهناك درر خاص ببطرس (16/18- 19). فهو أساس الكنيسة وبيده سلطان الحل والربط. وهو الشاهد لتعليم الرب يشرحه ويعبرّ عن شهادة الرسل، وله أن يطبّق التعاليم بحسب الظروف. وظيفته بين إخوته الرسل فريدة. هو يسأل والمسيح يجيب الرسل (15/ 15؛ 17/ 24؛ 18/ 21)0 إنه يمثّل الباقين وأسئلته هي أسئلتهم والأجوبة للجميع. إنه مثال التلميذ الذي تتلمذ على سيّده وهو يمثل ضعف التلميذ وعظمته (14/ 22- 23). وككل رسول هو يتأرجح بين الشك واليقين وباستطاعة كل مؤمن أن يتّخذه مثالاً لإيمانه: "إيماني إيمان بطرس".
وجماعة متّى تجابه تحدّيات: تريد أن تبقى أمينة لسيدها، ولكنّها تدافع عن الحقيقة المهدّدة. فالفريسيون يحاربونها والأنبياء الكذبة يحاولون فرض نظرياتهم الخاطئة. من جهة ثانية، ضَعُف حماسُ الزمن الأول، وطال الإنتظار لعودة المسيح، وصار على المؤمن أن يعيش إيمانه في ظروف يومية عادية. الفتور واللامبالاة طَغَيا على عقول الكثيرين. لهذا يشدّد متّى على الثبات والأمانة والصبر: "من يصبر إلى المنتهى يخلص" (24/13). من هنا أيضاً ترد العبارة: "يا قليلي الإيمان" (8/ 26؛ 14/ 31). أو: "لو كنتم تؤمنون" (21/ 21). كلام موجَّه للذين لا يعيشون إيمانهم في ظروفهم ووسط الأحداث اليومية. كما أنه يتكلّم على الأحداث العتيدة: "ستقوم أمة على أمة ومملكة... ويسلّمونكم" (24). هذا عدا عن الأضاليل التي سينشرها الأنبياء الكذبة (5/ 17).
إنجيل متّى هو إحياء لتقليد عريق وصحيح، وفي الوقت عينه هو وصف لولادة كنيسة جديدة. نهاية الإنجيل تدل على قدرة يسوع. إرساله للتلاميذ ووعده بالبقاء معهم يدل على أنه ملك الكون، سيد التاريخ، رب الزمان والمكان. فهو يدعو الناس أجمعين. وإنتماؤه اليهودي لم يحدّ من نظرته الرسولية الشمولية. فهو مع الكنيسة الجامعة الكبرى التي وعدها بالعون لتكّمل رسالتها.
كنيسة يسوع مضطهدة من قبل المجمع اليهودي، وهي تدافع عن تعاليمها وعن طريقة عيشها مرتكزة على ما علّمها سيّدُها سابقا. فهو وحده المعلم وهو المثال والأنموذج: "تعلّموا مني" (11/ 29)؛ "قيل لكم وأنا أقول لكم" (5/ 21). نجد في هذه الكنيسة الأخيار والفاترين (13/ 36-50). لأن المحبة قد فترت (24/ 12)، وأصبح أعداء الإنسان أهل بيته (10/ 36). وبدأ التلاميذ يتساءلون: "من هو الأكبر" (22/20)؟ لكل هذا يحث متّى على التواضع والمحبة والشفقة نحو الفقراء وروح الخدمة والإصلاح الأخوي (20/ 26- 28؛ 18/ 15 - 18). وتجاه إبطاء المسيح عن المجيء، يأمر بالسهر والصلاة (24/ 42).
من هنا ضرورة إعطاء التلاميذ دستوراً للحياة جديداً، برنامج عمل متكاملاً، فيه التعليم العقائدي، ومنهج السلوك، والحياة الطقسية والإهتمام بالصغار والمسامحة...
لقد أرسى متّى أسس الكنيسة مقابل الشعب الإسرائيلي. إنه يدعونا إلى السير وراء يسوع الناصري، سيد الكنيسة، عمانوئيل، حتى إنقضاء العالم. فهو لا بدء الإنجيل "عمانوئيل" (1/ 22- 23)، وهو في النهاية "أنا معكم" (28/ 20). إنجيل متّى يعني حياة الكنيسة: تأسيسها ودعوتها ورسالتها. حياتهُا لا تنفصل عن حياة المسيح، والكلام على المسيح لا ينفصل عن الكلام على الكنيسة.
إنجيل متّى ينطلق من التناقض القائم بين إثنين: تلاميذ المسيح واليهودية المتمثلة برؤسائها. فالتلاميذ يقبلون المسيح وتعاليمه، واليهود يرفضونه ويقتلونه. التلاميذ هم صورة الكنيسة أي جماعة المؤمنين بالمسيح. لقد رافقوا يسوع الناصري وتعلّموا منه. والتلاميذ هم أيضاً جميع الذين يتبعونه إلى منتهى الدهر. والتلميذ هو رسول إلى كل الشعوب، والتلاميذ التقوا سيدهم القائم من الموت في الجليل، جليل الأمم، جليل الوثنيين. إلى هناك دعاهم، ومن هناك بدأت المسيرة إلى العالم كلّه. هنا بدأ زمن الكنيسة. ومن هنا تُرسَل وتنتشر حتى أقاصي الأرض وحتى انتهاء العالم. لا عزلة ولا تقوقع، بل إنفتاح على العالم كلّه.
هذا أوّل ما يسترعي إنتباه القارئ لإنجيل متّى: لا نكون مسيحيين من دون كنيسة، ولا تكون كنيسة إلاّ من أجل العالم.

آنيّة إنجيل متّى:
كنائسنا حقائق بشرية إجتماعية يجب تنظيمها من الداخل لكي تعيش تقاليدها. كما عليها أيضاً أن تنفتح على العالم تلبية لأمر سيّدها القائم من الموت. لا نكون مسيحيين إلاّ في الكنيسة حيث نقبل الرسالة ونفهم الإنجيل. كما أن هناك ضرورة الإتحاد بين الكنائس التي مزّقتها الإنقسامات. إنجيل متّى إنجيل كنسي، هو ثمرة إختبار حياة مشتركة، وهذا ما يجعله قريباً منّا. فمن كان للمسيح عاش في جماعة ليتورجية منظّمة، حيث يجد الفرح في الصلاة والمحبة، وحيث يبلغ هذا الفرح ذروته في الأفخارستيّا التي تجمعنا في جسد واحد. هناك الحياة، وهناك الإنفتاح، وهناك إستقبال جميع الناس. في الكنيسة نقبل الأسرار، في الكنيسة نصير ونبقى مسيحيين. لذا وسط أن تكون جماعتنا متماسكة، واحدة وسط التنوع. وحدتها علامة محبتها ونبع فرحتها. الفرح الذي يحتاج إليه العالم هو فرح المسيح الذي لا يُنزع منكم.
إنجيل متّى إنجيل وحدة الجنس البشري. فهو منفتح على اليهود وعلى الوثنيين. فالسيد لا ينسى الخراف الضالة من آل اسرائيل (10/ 6). لكنّه يدعو إلى تخطي الحدود الجغرافية والعرقية. فبعد قيامة الرب، إنفتحت جميع الحدود وسقطت كل الحواجز. القبر المفتوح ربط بين اليهود والأمم، ووحّد بين أعضاء البشرية الموّزعين في سائر أقطار المعمورة.
إنجيل متّى لا يزال إلى اليوم، وسيبقى إلى الأبد يُقرأ في الجماعة الكنسية، منطلقاً من حياة كل جماعة داخل تقليد كنسي حي. فهو ليس فقط قصة حياة يسوع المسيح التي انتهت بقيامته وصعوده إلى السماء. بل هو قصة تهّم الكنيسة كلّها في كل زمان ومكان. إتباع التلاميذ ليسوع هو صورة لاتباعنا له. يُخبر متّى قصة يسوع على الأرض في جماعة معرَّضة للمصاعب والتساؤلات والإضطهادات. إنها جماعة منظمة تريد أن تجدّد أطرَها وتفكيرها لكي تتوجّه إلى العالم. ألفا سنة من التقليد غنى وافر وحمل ثقيل في الوقت معاً. هذا هو إختبارها. هي تشعر بأنها إسرائيل الجديد المتجذّر في القديم، وبأن يسوع هو موسى الجديد الذي جاء لا ليحل، بل ليكملّ (5/ 17). إنها كنيسة من أجل العالم. همّها تجديد هيكليتها وتنظيم طقوسها والتبشير "حتى أقاصي الأرض" (28 / 19).
متّى يعطي المسؤولين في الكنيسة روح الحياة الجديدة المبنية على المحبة. الصغير فيكم هو الكبير، إنتبهوا إلى الصغار، ساعدوا الخراف الضالة، صالح أخاك، أي إربحه. إغفروا، سامحوا لتبقى الكنيسة متناغمة، متماسكة، فهي مؤسّسة على حضور المسيح فيها بتعاليمه وأسراره وروحه، وبحضوره في كل واحد من الإخوة.
إنجيل متّى هو نقيض الفردية والأنانيّة. يسوع يدعو وجواب الإنسان هو الإيمان. لكن الإيمان لم يكن يوماً قضية فردية. الإيمان يخلق جماعة والجماعة لا تتقوقع. جماعة الرسل إنفتحت على العالم بسرعة مدهشة.
هذا ما يذكرنا به متّى، وهذا هو عمل القائم من الموت والباقي معنا إلى النهاية.
إنجيل متّى يطرح علينا اليوم الأسئلة التالية:
- من هو الأكبر؟ كم مرة يجب أن تغفر؟ هل يجوز الطلاق؟
- ماذا نعمل لنرث الحياة الأبدية؛ هل يجب دفع الجزية لقيصر؟ هل أنت ملك اليهود؟
- هل ستبقى الكنيسة محصّنة وراء أسوار من الفرائض والطقوس، أو ضمن دور الصلاة والعبادة؟ هل ستفتح أبوابها للخارجين؟ هل ستصبح كنيسة الصغار والمستضعفين؟ هل ستبادر إلى إرساء أسس عدالة إجتماعية جديدة؟ هل ستبقى مرتبطة بحرف الشريعة؟ أم هل ستلج إلى الأعماق، إلى عمل الروح في القلوب، إلى المساهمة مع ذوي الإرادة الحسنة في بناء عالم أفضل، أكثر عدالة ومحبة؟
لا شك في أنه كان يوجد إيمان في إسرائيل، لكن السيد وضع هذا الإيمان خارج جدران اليهودية، وغيرّ مفهوم الشريعة. وكل من يتبع السيد المسيح يجب أن يتغيرّ. حياتنا الرتيبة تتطلّب تبديلاً جذرياً، فهل نحن مستعدون لهذه النقلة، لهذه الثورة على الذات؟ كنا إلى الأمس القريب نكتفي من الدين بالممارسة والحفاظ على مواسم الأعياد والأصوام والتعليم المسيحي في المدارس... إيمان صحيح لكنّه غير كاف، إيمان معرّض للجفاف فالموت إن لم يتغذَّ من روح الرب، روح المحبة والعدالة وإحترام الإنسان. نحن بحاجة اليوم إلى الخروج من الأسوار، إلى لقاء أناس لا دين لهم ولكنّهم يبحثون عن حل لمشاكل الحياة والإنسان. عملنا رائع ولكنّه مخيف. يبدو وكأنه سوفَ يهدم كل شيء عندنا.
إنجيل متّى يساعدنا ضد التقوقع كما ضد الإرتجال والخطر. تحقيق الرجاء بالمسيح يقتضي دائماً تخطّي حدودنا الضيّقة والمسيرة إلى حيث حرية أبناء الله. هناك مجازفة وحمل مسؤوليات وإمكانية إكتشاف طرق جديدة.
إنجيل متّى إنطلاقة قوية وإحترام للقديم في الوقت معاً، للقديم الصحيح، قديم الروح، الذي رفَّ على المياه في بدء الخليقة، والذي لا يزال يجدّد وجه الأرض. فالسيد المسيح يحترم الشريعة لكنّه يبقى حرّاً تجاهها. محبته لله مطلقة إنما من خلال شريعة باطنية هي شريعة الروح الذي يحرّر. فهو يشكو كل خبث ورياء ويريد أن يضع الكلام في حيّز التطبيق كيلا يفقد معناه. فهناك علاقة بين ما يفكر به وما يقول، وبين ما يقول وما يعمل. في المسيح يصبح حب الله وعدالته أموراً معيوشة، وهذا يتطلّب من التلاميذ صلاة ومثابرة وجهاداً. لكنّه وعدهم بأن يكون معهم حتّى انتهاء العالم. إرسال الرسل إلى العالم هو إرسال الجماعة المسيحية على مر العصور، هو إرسالنا نحن. تعرف جماعة متّى أنها ليست الملكوت بل هي علامة الملكوت في العالم. هي المركز الذي فيه يمارس إبن الإنسان سلطانه كربّ. ومن هنا يتّسع وسع الكون كله. يجب أن تعيش كنيسته ساهرة منتظرة. فهي جماعة أتباع يسوع الذين يعيشون وفق إرادة سيدهم في الخدمة المتبادلة والحب والغفران. إنها مسافرة على متن مركب سريع العطب حيث التجارب والصعوبات والعواصف. لكنّها تعلمّ أن الله ينتصر فيها بموته وقيامته، وهي تعلم أن إطمئنانها يعود إلى أنّ الله أصبح في المسيح إلى الأبد عمانوئيل إلهنا معنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM