الفصل الخامس
جماعة متى
الخوري مكرم قزاح
بات من المعروف أن الإنجيل بحسب القديس متّى كان الأكثر قراءة ورواجاً في الأجيال المسيحية الأولى، بل وفي الأجيال اللاحقة، لما يتميّز به من بُعدٍ كنسي وتعليمي. كيف لا والكنيسة أحوج ما تكون إلى أقوال السيد المسيح وتعاليمه الإلهية تستند إليها خصوصاً في فترة نشأتها الأولى وإطلالتها الفتية على الأمم. فكان لهذا الإنجيل، ولا يزال، الأَثر الأكبر في تعرّفنا إلى وجه السيد المسيح، يطبعنا بطابع صفحاته الخاصة وملامحه المميزة. والكنيسة على سبيل المثال، تتلو صلاة "الأبانا" كما وردت في متّى. والتطويبات التي نشأنا عليها كدستور لحياتنا المسيحية هي التي دوّنها متّى. وكذلك الحال مع نسَب يسوع والكثير من الروايات والأمثال الواردة في هذا الإنجيل.
أصل جماعة متّى ومعاناتها
فما هي هذه الجماعة التي ترعرع في وسطها هذا الإنجيل، وتكوّن كبشرى واحتفال وتعليم قبل أن يُدوَّن في كتاب؟ ما كانت معاناتها وهواجسها وتطلعاتها؟ وما كان جواب كاتب هذا الإنجيل الذي أجمع التقليد الكنسي على أن ينسبه إلى متى؛ أسئلة كثيرة سنحاول الإجابة عليها بإيجاز نظراً إلى ضيق الوقت المتاح لنا.
يُجمع الشرّاح على أن هذه الجماعة هي من أصل يهودي. إنتمت إلى كنيسة سوريا أو فلسطين، وكانت تعاني في العمق من أزمة في الهوية والمصير، خصوصاً بعد الطلاق النهائي الذي تّم وتثبَّت في الثمانينات بين اليهودية والمسيحية.
مجمع يمنية
كان يهود فلسطين، في القرن الأول الميلادي، يرزحون تحت نير الاحتلال الروماني حتى صمّموا، سنة 66 م، على الانتفاضة بقيادة حزب الغيارى. فاستولى تيطس، إبن الأمبراطور فسباسيان، سنة 70 م، على أورشليم بعد حصار دام ومرير، تمَّ على أثره تدمير الهيكل تدميراً نهائياً وتشريد من بقي حيّاً من سكان المدينة.
قضى تيطس على مدينة أورشليم وهيكلها، لكنه لم يستطع القضاء على اليهودية. فإذا هي تنتفض، وقد تطهرت، وتقوم من تحت الأنقاض والرماد، بفضل حزب الفريسيين والربّان يوحنان بن زكّي. وكان هذا الأخير، قبيل حصار أورشليم، قد قام بتأسيس مدرسة في يمنية، بالقرب من تل أبيب الحالية. وبعد حصول الكارثة ببضع سنوات، أي حوالي الثمانين م، نرى الفريسيين يلتئمون بمجمع في يمنية بالذات، بقيادة يوحنان بن زكي، أرادوه تأسيسياً لليهودية بوجهها الجديد، كما ستستمر إلى أيامنا هذه: أعادوا تحديد الهوية وتنظيم الصفوف والمؤسسات وتصويب الأهداف لانطلاقة جديدة تتناسب ومرحلة ما بعد دمار الهيكل. فأصبحت التوراة محور الديانة اليهودية وأساسها بدلاً من الهيكل وتقادمه.
خطران
وكان، إذ ذاك، على اليهود مجابهة خطرين، أولهما داخلي والآخر خارجي.
ففي الداخل، وجددوا أنفسهم أمام انقسامات وانشقاقات أسهَمَتْ في ما أسهمت في خراب أورشليم. فكان لا بد من فرض رزنامة واحدة موحَّدة للأعياد اليهودية من جهة، وتوحيد الاحتفالات الطقسية في المجامع من جهة أخرى. كما كان لا بدَّ من تحديد قانونية الكتب المقدسة. فاعتُبِرَ قانونياً ما كُتِب بالعبرية دون سواها؛ فيما كان المسيحيون يعترفون بقانونية الترجمة اليونانية المعروفة بالسبعينية.
وفي الخارج كانت المسيحية هي التي تشكّل الخطر الأدهى. فقد تجمع المسيحيون. بعد هروبهم من أورشليم، في بلا، عبر الأردن، جنوبي بحيرة طبريا، كما كانت لهم تجمعات هامة في الجليل. فقرَّر الملتئمون في مجمع يمنية اتخاذ سلسلة من التدابير لمجابهة الخطر المسيحي، أبرزها إلقاء الحرم على المسيحيين بطردهم من المجامع، مع إضافة مباركة جديدة، هي أشبه باللعنة، إلى البركات الثمانية عشرة، المعروفة بالعبرية بـ "شمونة عسره" وهاكم ترجمتها:
لا يكون رجاء للكفار (مِنيم). إقتلعْ، يا ربّ سريعاً، في أيامنا، مُلْك المتكبرين والنصارى والهراطقة. فليُبادوا بلحظة، وليُمحوا من سفر الأحياء، ولا يُكتبوا مع الأبرار. مبارك أنت يا من تُحني المتكبرين".
والمتكبرون والهراطقة هم، طبعاً، النصارى. طُردوا من المجامع ومُنعوا من التكلم فيها، كما كان يفعل بولس، مثلاً، في رحلاته الرسولية، أيام. السبت (أعمال 13/ 14). ولذا نرى يسوع، في الإنجيل بحسب متّى، يتكلم عن "مجامعهم"، أي عن مجامع اليهود (9/ 35؛ 10/17، 23/ 34)، وكأن الطلاق حاصل بين الديانتين قبل موته وقيامته، كما نراه يميِّز بين الصلاة المسيحية والصلاة في المجامع (6/ 5) وبين تعليمه وتعليم كتبتهم (7/29) وبين نيره اللطيف الخفيف وبين نيرهم (11/29- 30).
عواقب النبذ
إن عواقب هذا النبذ كانت وخيمة على المسيحيين الذين كانوا، إلى حينه، يُعتبرون شيعة من شيع اليهودية. وكان اليهود، آنذاك، على الرغم من كل شيء، يتمتعون بامتيازاتٍ لا يستهان بها داخل العالم الروماني، من أهمها: عدم دفع الجزية بكليتها إلى رومة، وإعفاؤهم من الخدمة العسكرية وعما ينجم عنها من الاعتراف بالأمبراطور كإله والسجود له. هكذا، أصبح لزاماً على المسيحيين، بعد أن طُردوا وفُصلوا، أن يخضعوا، مرغمين، لكل هذه المضايقات التي تتناقى وجوهر معتقداتهم، كالسجود لقيصر وحمل السلاح. ووجب عليهم دفع الجزية التي ترهق كاهلهم- وهم في غالبيتهم من الطبقات الشعبية - وإلا طالتهم أشدّ العقوبات وحلّت بهم أبشع ألوان التنكيل والتعذيب. وهكذا تحوّلت المجامع اليهودية في جميع أنحاء حوض البحر المتوسط، إلى منابع للتحريض على شتى أنواع الاضطهادات ضد المسيحيين، على حد تعبير ترتوليانس. وبعد أن اعتاد المسيحيون العيش في حضن اليهودية الدافئ حيث ينعمون بالامتيازات ذاتها، نراهم يواجهون، عُزَّلاً، وَضْعهم الجديد المليء بالصعوبات والمخاطر، مع ما ينجم عن ذلك من تساؤلات عن المصير تطرح نفسها في وضع كهذا.
البُعد الفصحي
وفي خضم هذا الوضع المتوتر والمُقلق، سيقوم متّى بمحاولة للإجابة عن تساؤلات جماعته هذه المصيرية، مبيّناً لهم أن كنيسة المسيح لا يسعها أن تكون إلاَّ فصحية في جوهرها ومسيرتها، وأن التوتر الذي تعيش هو شكل من أشكال الحياة بما تنطوي عليه من موت وقيامة على خطى سيدها، قاهر الموت والجحيم بقيامته، والقادر وحده أن يُضفي على التوترات بُعدها الفصحي، أي أن يحوّلها إلى انشداد مليء بالرجاء. كيف لا وهو العمانوئيل، الحاضر أبداً وسط كنيسته إلى منتهى الدهور على حسب وعده لها.
ويقف، إذ ذاك، كل حضور كنسي بين نقيضين يهدّدان كل جماعة مسيحية: الإنعزال والتقوقع على الذات من جهة، والذوبان من جهة أخرى. وكلاهما شرّ قاتل. فالإنعزال يُلغي الرسالة التي من أجلها انتدَبَنا القائم من الموت بقوة روحه القدوس. والذوبان يقضي على هوية الكنيسة، فلا تعود جماعة العمانوئيل. ويبقى المطلوب واحداً، لا غير: حضور أصيل، هو حضور الملكوت بالذات وسط عالم أراده الاب السماوي مكاناً لتجلي وحيده. "فحيث المسيح، هناك يكون الملكوت"، على حد قول القديس أمبروسيوس.
محوران
لذا نرى الإنجيل بحسب متّى يدور حول محورين أساسيين يعكسان هذه التوترات المطلوب تحويلها انشداداً وشهادة:
- المحور الأول: ويدور حول الكنيسة وإسرائيل التي كانت إليه تنتمي. ويحتوي على السؤال الجوهري التالي: من هي الكنيسة بالنسبة لإسرائيل؟ والجواب على هذا التساؤل يأتينا، لا محالة، من خلال نظرة إلى المسيح (كرستولوجيا)، أي من خلال توضيح لهوية المسيح وفهم لرسالته. ويبقى، اليوم، السؤال ذاته مطروحاً: من هي الكنيسة بالنسبة إلى العالم الذي تعيش فيه؟ والجواب يبقى هو هو، أي كرستولوجي.
- والمحور الثاني: يدور حول ماهية الكنيسة التي تنتظر عودة سيّدها المنتصر على الموت ليدين الأحياء والأموات. والجواب يأتينا هنا من خلال نظرة نهيوية، أي إسكاتولوجية، حيث يتزامن الماضي والحاضر والمستقبل ويتفاعلون بقدر ارتباطهم بالملكوت وتجلياته. فالكنيسة تعيش مسيرة لا تكلّ نحو تمام الملكوت.
وحين نتمعّن في هذين المحورين، الكرستولوجي والنهيوي، نتمكّن من أن نستشف سر الكنيسة، كما فهمه متّى، أي كنيسة العمانوئيل، كنيسة الرب (البُعد الكرستولوجي) والديان (البُعد النهيوي).
إنشدادان
وإذا بنا أمام انشدادين يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بهذين المحورين ويعتبران نتيجة لهما:
الأول رسولي، بمعنى الإرسال، أي انشداد بين دعوة الجماعة المسيحية إلى الشمولية بانفتاحها على الأمم، وبين تجذّرها الأصلي في اليهودية.
والثاني نهيوي، كون الكنيسة جماعة الملكوت وزرعٌ منه في قلب العالم.
وهكذا لا تستطيع الجماعة المسيحية أن تكون وتحيا دون هذين البُعدين أو الانشدادين: الشمولي والنهيوي، لكي تصبح جماعة تلمذة وإرسال، والاَّ بَطُلت أن تكون فصحية. هذا يعني أن الكنيسة لا تستطيع أن تكتشف حقيقتها هذه إلاّ من خلال وعيها لمتطلبات الملكوت المتجسّد والمتجلي في شخص المسيح من جهة، ولفرادتها تجاه اليهودبة المتصلّبة في وجهها- أو العالم الذي تعيش وسطه- من جهة أخرى، إذ إنها جماعة العمانوئيل، الله معنا.
عمانوئيل أو الله معنا
هذا هو بالفعل الموضوع الأساسي الذي يجتاح الإنجيل بحسب متّى بأكمله، ويسكن حياة الكنيسة بكليتِها. وعندما تلتفت الكنيسة إلى الماضي لتفهم حاضرها وتنفتح على المستقبل، تحدّق في العمانوئيل لتسمع له، فتتبعه دون أدنى تردّد في مسيرته الفصحية.
وهكذا نرى متّى يفتتح في البيان ليوسف سلسلة من الاستشهادات الكتابية اتفق الشراح على تسميتها استشهادات تتميمية لنبوءات العهد القديم، وعددها عشرة (1/ 22- 23؛ 2/ 15؛ 2/ 17- 18، 2/ 23؛ 4/ 14-16؛ 8/17 ؛ 12/17-21؛ 13/ 35؛؛ 21/ 4-5؛ 27/9-10). والاستشهاد التتميمي الأول (1/ 22- 23)، في بدء الإنجيل، هو للنبي أشعيا عن حبل العذراء التي ستلد ابناً يُدعى عمانوئيل أي الله معنا. ويوازيه، في ختام الإنجيل، تأكيدٌ للمسيح القائم من بين الأموات، يتوّج به وصيّته الأخيرة لتلاميذه بقوله: "وهاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم" (28/ 20).
هذا هو بالفعل المحور الرئيسي الأساسي لإنجيل الأول: أن يكون- الله- معنا، حاضراً بيننا في شخص يسوع المسيح، فهذا حضور خلاص وتأليه. هو الضمانة الوحيدة، لا غير، والأكيدة لكنيسته، ضمانة بقاء وخصب رسولي في نقلها بشرى هذا الحضور بالذات إلى العالم أجمع.
ويتضح لنا حين نقرأ متّى أن هذا الحضور (كون- الله- معنا) لا يعاش بانتظار قريب لعودة المسيح المتجلي مجداً. إنه يعاش من خلاله سهر يقِظٍ ودائمٍ: "إسهروا وصلوا"، ومن خلال ضرورة الإلتزام بحيثيات حياةٍ كنسيةٍ وسط العالم، هي بمثابة تجسيد لمتطلبات الملكوت الحاضر والموعود به في آن: "أنتم ملح الأرض... أنتم نور العالم".
اللقاء الأخير وفهم سر المسيح
يدعونا متّى إلى فهم هذه الأمور وعيشها بعودتنا إلى خاتمة الإنجيل كما يرويها. إنها الخلاصة والعصارة والمفتاح لقراءة كل ما سبق قراءة صحيحة.
يُنهي متّى كتابه بلقاء وحيد وفريد للمسيح القائم من الموت بتلاميذه، به يتكشّف الماضي، ويتمهّد المستقبل، ويتصف حاضر كل مؤمن. فمتَّى لا يضع حداً لزمن المسيح؛ بل بالعكس، ينبئ بانبلاجه ويبشر بامتداده إلى مدى الدهور (28/ 20).
فلسنا هنا أمام مرحلة لاحقة تتبع ما سبق نحن أمام واقع علوي يتجلى في السفلي، أي في أرض البشر.
ففي هذا الظهور الأخير نحن أمام تجلٍّ للمسيح في مجده يدلّ على التواصل الحاصل في شخصه بين ماضي الله مع شعبه في العهد القديم وحاضره المتجلي خلاصاً وإرسالاً في الكنيسة. فالتاريخ يبقى ويتجلى في الأساس عهداً بين الله والناس. والمسيح المنتصر على الموت أصبح هو العهد الأبدي والحضور الدائم والشراكة الفصحية بين الله والبشر.
موعد سجود وإرسال
يسوع هو عمانوئيل. الله معنا، وإلى الأبد. وحضورُه كذلك أبدي، إذ أصبح حضورَ القائم من بين الأموات والمتجلي في كنيسته التي هي على موعد دائم معه. إنها تذهب إلى حيث يأمرها هو، فتلتقيه عند بوّابة الأمم، في الجليل (28/16): "فذهبوا إلى الجليل، إلى الجبل الذي أمرهم يسوع أن يذهبوا إليه".
غريب وجميل أن يختار رب المجد مكان تجليه الفصحي عند بوابات العالم ومعابره، كما اختار أيضاً أن يتجلّى بصورة خاصة في إخوته الأصاغر إلى أن يعود دياناً على السحب: "الحق أقول لكم: كلما صنعتم شيئاً من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه" (25/40).
وهناك، في الجليل، وليس في أورشليم، تسجد الجماعة لربها: "فلما رأوه سجدوا له" (28/17). فهم قبل كل شيء جماعة سجود وتلمذة (وكلنا يعلم أهمية فعل "سجد" عند متّى: 13 مرة، مقابل 2 عند مرقس و 3 عند لوقا)، رغم قلة إيمانهم والشكوك التي تهدد مسيرتهم الفصحية: "ولكن بعضهم ارتابوا" (28/ 17).
فيدنو، عندئذ، السيد المسيح من الجماعة، وهو المبادر أبداً إلى الدنو، كما أنه المبادر إلى الإرسال؛ فدُنوُّه هو حضور الممجَّد في سبيل الإرسال: "فدنا يسوع وكلّمهم قال: إني أُوليت كل سلطان في السماء والأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم... وهاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم" (28/19- 20). فلا إرسال في متّى، خلافاً لمرقس ولوقا، قبل القيامة، إذ إن الإرسال هو نتيجةٌ لحضور المسيح الفصحي وسط الجماعة. ففي لوقا مثلاً، نرى الإثنين والسبعين يذهبون مرسلين من قبل المسيح. ثم يرجعون إليه فرحين ليخبروه بما جرى (لوقا 10/1، 17). بينما لا نرى أبداً في متّى الاثني عشر ينطلقون بعد عظة الإرسال (متّى 10). فالسيد المسيح هو الذي ينطلق، وكأنه وحده، فيكتب متّى قائلاً: "ولما أتمّ يسوع وصاياه لتلاميذه الإثني عشر، ذهب من هناك ليعلّم ويبشر في مدنهم" (11/ 1). كما أن كلمة "رسل" لا ترد في متّى إلا مرة واحدة في كل إنجيله: "وهذه أسماء الرسل الإثني عشر: أولهم سمعان الذي يقال له بطرس..." (10/2).
وهذا الحضور يتطلّب أيضاً، في ما يتطلب، حفظ الوصايا، أي مسلكية تليق بأبناء الملكوت: "وعلّموهم أن المقدّس يحفظوا كل ما أوصيتكم به" (28/20). إن حفظ الوصايا يصبح ممكناً بسبب هذا الحضور بالذات، حضور من "أولي كلّ سلطان في السماء والأرض" (28/ 18).
وهذا السلطان الذي يملأ السماء والأرض، هو أيضاً مالئ الزمان بكليته: "وهاءنذا معكم كل الأيّام إلى نهاية العالم" (28/ 20).
ومهمة التلاميذ المتجلية إرسالاً بين هذين "الكلّين"- كل السلطان وكل الأيام- هي أيضاً انشداد دائم ومتواصل بين "كلّين" آخرين وشاملين:
- يجب تلمذة كل الأمم: "فاذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمّدوهم... " (28/ 19).
- تشمل هذه المهمّة كل الوصايا التي أوصى بها من أُولي كل السلطان: "وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به" (28/ 20).
هوية العمانوئيل
من هنا السؤال الأساسي والجوهري الذي يطرح نفسه لا محالة: من هو هذا الشخص الذي يتطلب طاعة كهذه من خلال اتباع كلي وغير مشروط له؟
إنه، طبعاً، ابن الله الحي (16/16)، كما أنه هو إسرائيل الحقيقي والمسيح المنتظر. إنه يجسّد الملكوت بأقواله وأعماله، أي بشخصه، ويعيد تاريخ شعبه لتتحقق به كل الوعود. إنه يجعل من تلاميذه جماعة الملكوت، يوليهم كل سلطانه دون أي انتقاص لتجسد دينامية هذا الملكوت في قلب العالم. ليست الجماعة هي الملكوت، بل جماعة الملكوت وزرع منه في حقل العالم (13/ 36- 38)، وهي في مسيرة إلى اكتماله. إنها مشدودة بكل كيانها ورسالتها إلى تجلي هذا الملكوت الذي يبقى علة وجودها الوحيد، كما هو دينونتها وله تشهد.
الخصوم
معالم الخصوم ومواقفهم واضحة. إنهم جماعة الفريسيين والشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة (أنظر متّى 16/ 21؛ 21/ 45؛ والفصل 23 بأكمله)، الذين سيؤول بهم المطاف إلى التآمر على المسيح وقتله.
الجموع
أما الجموع، فهي في اندهاش أمام أقوال السيد المسيح وأعماله. تتبعه لما ترى فيه من أعمال قِوى. ولنا في متّى 15/29 ملخص بليغ عن حالة الجموع هذه حين يكتب:
"فأتت إليه جموع كثيرة ومعهم عرج وعمي وكسحان وخرس وغيرهم كثيرون، فطرحوهم عند قدميه فشفاهم. فتعجب الجموع لمّا رأوا الخرس يتكلمون والكسحان يصحُّون والعرج يمشون مشياً سوياً والعمي يبصرون. فمجدوا إله إسرائيل".
كما نرى هذه الجموع في متّى 7/28، "معجبة بتعليمه، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان لا مثل كتبتهم".
ولكنها، في آخر المطاف، ستنقلب في غالبيتها على من تبعت، لأنها بطبيعتها متبدّلة ومتقلبة.
ففي يوم الشعانين، ترحّب الجموع بالمسيح ملكاً. يقول متّى بهذا الصدد: "وكانت الجموع التي تتقدمه والتي تتبعه تهتف: "هوشعنا لابن داود" (21/ 8- 9).
"ولكن عظماء الكهنة والشيوخ أقنعوا الجموع بأن يطلبوا برأبا ويهلكوا يسوع"، وصاروا "يبالغون في الصياح" على حد تعبير متّى، طالبين من بيلاطس أن يصلب المسيح. وكانوا يقولون: "دمه علينا وعلى أولادنا" (متّى 27/ 20- 26). وهذه الآية خاصة بمتّى.
وهكذا تنقلب الآية. فبينما نرى في بدء الإنجيل بحسب متّى (2/17- 18)، الملك هيرودس، يقتل أطفالاً من بني إسرائيل نرى في نهاية الإنجيل (27/3- 26) بني إسرائيل يقتلون الملك، يسوع. ولكن بقتلهم هذا الملك، يؤول بهم المصير إلى الانتحار على مثال يهوذا الذي صار رمزاً لمصيرهم.
وفي آخر المطاف وفي العمق، إن ما يميّز حالة الجموع، هو أنها لا تتبع السيد المسيح في مسيرته الفصحية، بل تبقى خارجها، أي على هامشها أو تعود فتنقلب وتظهر له العداء. ولكن يرتد في قلب الجموع تلميذٌ ينتظر من يوقظه لينطلق بدوره في مسيرة فصحية، على خطى السيد المسيح. على مثال أعميي أريحا اللذين تبعا حالاً يسوع عندما انفتحت أعينهما على بهاء جماله (20/34). مسؤولية يسوع هي بالذات مسؤولية التلاميذ تجاه الجموع.
التلاميذ
أدرك متّى أن الوجود المسيحي هو بجوهره تتلمذٌ دائم للرب يسوع واتباع فصحي له في قلب عواصف هذا العالم وتقلباته (أنظر متّى 8/23- 27، حيث التلاميذ هم الذين يتبعون المسيح في صعوده إلى السفينة).
إن ما يربط المسيح بتلاميذه يتعدى العلاقة التي كانت تربط "الرابي" بتلميذه.
صحيح أن يسوع هو المعلم (10/24- 25؛ 26/18)؛ بل المعلم الأوحد (23/ 8) والمرشد الأوحد (23/ 10)، وهذه الكلمة، "مرشد"، هي خاصة بمتّى. ولكن لا نرى أبداً في متّى أحداً من التلاميذ أو من المؤمنين- من هم على وشك الانتقال إلى حال من التلمذة باتباعهم ليسوع- يتوجهون إليه بأحد من هذين اللقبين: "معلم" أو "مرشد". بل يدعونه بلقب "رب" ورب فقط، مع كل ما لهذه الكلمة من معانٍ وأبعاد، إذ إن المسيح أصبح رب حياتهم ومسيرتهم. والعلاقة به لم تعد مجرد علاقة تلميذ بمعلمه أو عبد بسيده، بل أصبحت علاقة الرب بتلاميذه.
أمَّا الخصوم، في المقابل، أو من يرفض لسبب أو لآخر، التتلمذ للسيد المسيح، كالشاب الغني (19/16)، فهم يتوجّهون إليه بلقب "معلم"، ومعلم فقط، إذ لا يرون فيه أكثر من معلم. قارن، مثلاً، بين الكاتب والتلميذ في متّى 8/19- 22، حيث الكاتب يدعو يسوع: "يا معلم"، والتلميذ يدعوه: "يا رب".
يبقى "يهوذا الإسخريوطي ذلك الذي أسلمه" (10/ 4). هو وحده يتفرد ويلقّب يسوع "برابي" (26/ 25، 49)، تلك الكلمة المحظورة تدوالها إطلاقاً في قلب جماعة التلاميذ: "أما أنتم فلا تَدَعوا أحداً يدعوكم "رابي" لأن لكم معلماً واحداً وأنتم جميعاً إخوة" (23/ 8).
فالرابي يفسر التوراة ويقود تلامذته إلى الشريعة التي هي التعبير الكامل والشامل عن إرادة الله. بينما يسوع هو المحور ويطلب من أتباعه التعلق به شخصياً وبه وحده (10/ 37- 38؛ 16/ 24 - 26؛ 19/27- 28). هو البرّ بكماله. هو الشريعة الواجب اتباعها؛ ونعرف تأثير فعل "تبع" في متّى وأهميته (يكرر 25 مرة). وهذا الاتباع يتجلى تطابقاً كلياً بين الرب وتلميذه حيث يبقى هذا التطابقُ التحديدَ الأساسي لكل تلمذة:
"ما من تلميذ أسمى من معلمه، وما من خادم أسمى من سيده. فحسب التلميذ أن يصير كمعلمه والخادم كسيده"؛ فيصبح التلميذ إذ ذاك من "أهل البيت" (10/ 24- 25).
ولذا نرى الرب يسوع يولي سلطانه، كل السلطان، الذي هو سلطان الملكوت، لتلاميذه بفعل هذا التطابق بالذات الحاصل بينه وبينهم. فيتفوهون بالأقوال ذاتها ويقومون بالأعمال ذاتها، أي بأقوال الملكوت وأعماله:
"ودعا تلاميذه الإثني عشر، فأولاهم سلطاناً يطردون به الأرواح النجسة ويشفون الناس من كل مرضٍ وعلة... ثم أوصاهم قال: إذهبوا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل، وأعلنوا في الطريق أن قد اقترب ملكوت السموات" (10/ 1- 7). راجع بدء بشارة يسوع حيث نراه ينادي فيقول: "توبوا، قد اقترب ملكوت السموات" (4/ 17). فلا داعي للخوف في وجه المضايقات والشدائد: "فلا يهمكم حين تتكلمون أو ماذا تفعلون. فسيُلقى إليكم في تلك الساعة ما تتكلمون به. فلستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم يتكلم بلسانكم" (10/19- 20).
وهكذا ينفتح الإرسال، بفعل هذا التطابق بين الرب والتلاميذ، على بعده الثالوثي وعلى شمولية الأمم: المسيح يُرسِلُ، وروحُ الاب يتكلم بلسان المرسلين. العماد سيتم، وقت الإرسال، بعد قيامة المسيح، "باسم الآب والابن والروح القدس" (28/ 19)، وليس فقط باسم يسوع المسيح كما هو الحال في أعمال الرسل:
"إني أوليت كل سلطان في السماء والأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس..." (28/ 18- 19).
الوثنيون
"تلمِذوا جميع الأمم". هذه هي وصية القائم من الموت. ونرى بوادر قوافلها في غير صفحة من صفحات الإنجيل.
فيطل علينا الوثنيون، بادئ ذي بدء، في وجه المجوس، وهم طليعة الساجدين في الإنجيل. أتوا ليسجدوا أمام المولود الجديد، بينما هيرودس الملك يحاول قتله، وعظماء الكهنة وكتبة الشعب يتجاهلونه بانتظار ساعتهم.
وفور دخول المجوس إلى أورشليم، نراهم يطرحون السؤال المصيري الذي من أجله قدموا من المشرق والذي سيضطرب له هيرودس ومعه المدينة كلها. والسؤال هو كما جاء في النص اليوناني:
"أين هو المولود ملك اليهود" (2/ 2)؟
ولن يتجلى لنا الجواب واضحاً إلاَّ من أعلى الصليب، لأنه لا يستطيع أن يكون إلاّ فصحياً. "وضعوا فوق رأس المسيح المصلوب علة الحكم عليه، كُتب فيها:
"هذا هو يسوع ملك اليهود" (27/37).
وكما كان الأمر في المهد، كذلك سيكون عند الصليب. فنرى وثنيين أيضاً، أي قائد المائة والرجال الذين كانوا معه، يعترفون بالمصلوب رباً وإلهاً، إذ قالوا: "كان هذا ابن الله حقاً" (27/54). بينما كان المارة مع عظماء الكهنة والكتبة والشيوخ يشتمونه ويسخرون به (27/39- 44). ولا ننسى شاهدين وثنيين آخرين من كبار الشهود:
أولهما، قائد المائة في كفرناحوم الذي يبرز متّى إعجاب يسوع بإيمانه: "الحق أقول لكم: لم أجد مثل هذا الإيمان في أحد من إسرائيل. أقول لكم: سوف يأتي أناس كثيرون من المشرق والمغرب، فيجالسون ابراهيم وإسحق ويعقوب على المائدة في ملكوت السموات، وأما بنو الملكوت فيُلقون في الظلمة البرانية، وهناك البكاء وصريف الأسنان" (8/ 5- 13).
وثانيهما، المرأة الكنعانية، بنت شعبنا وأرضنا، التي أتت هي تسجد له: "جاءت فسجدت له وقالت: أغثني يا رب!" وبعد الحوار الشهير، يجيبها يسوع: "ما أعظم إيمانك أيتها المرأة، فليكن لك ما تريدين" (15/ 21- 28).
هاءندا معكم
فالتلمذة للمسيح تبقى هي الأساس في جماعة متّى، وهي التي تعود إلى السجود (الانشداد النهيوي أو البُعد الإسكتولوجي). كما إلى الإرسال (البُعد الكرستولوجي)، إنها اعتراف بيسوع رباً دائم الحضور وسط الجماعة. كما أنها عيش لمتطلبات الملكوت إلى أن يعود المسيح في المجد ليدين العالم، بدءاً بتلاميذه. وليس من يقول لي: يا رب، يدخل ملكوت السموات، بل من يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات" (7/ 21).
وهكذا، منذ الصفحات الأولى من الإنجيل حتى آخرها، يبقى السيد المسيح القلب والمحور. فمتّى يبدأ روايته لإنجيل بالاستشهاد التتميمي لنبوءة أشعيا عن العمانوئيل، الله معنا، كما رأينا، مع بشارة الملاك ليوسف. وهكذا ننطلق سوية في مسيرة فصحية تنتهي بنا إلى ظهور المسيح الأخير في الجليل لانطلاقة جديدة، تتحول إلى انطلاقة كنسية. في متّى تنفتح الكرستولوجيا على الإكليسيولوجيا، وهي مرتبطة بها ارتباطاً عضوياً بتأكيد المسيح أنه سيبقى مع كنيسته طوال الأيام إلى نهاية العالم (28/ 20).
فنرى أنفسنا أمام كتابٍ يوصلنا من الله ("الله معنا، عمانوئيل"، في بدء الإنجيل، 1/23)، إلى المسيح ("هاءنذا معكم" 28/20)، في نهايته. وقد ألِفنا الطريق المعاكس الموصل من المسيح إلى الله وليس من الله إلى المسيح. إنه كتاب كرستولوجي أكثر مما هو لاهوتي بالمعنى الحصري للكلمة. أي شهادة من الآب لابنه الأوحد في الروح القدس (أنظر الولادة، العماد، التجلي، ألخ...).
والهدف من تكوين الجماعة، كجماعة تلمذة وإرسال في خدمة الملكوت، كما تبدو لنا في متّى، هو إشراكها في شهادة الآب لابنه يسوع في الروح القدس: "فلستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم يتكلم بلسانكم" (10/ 20). وهذا هو علة وجود كل جماعة كنسية.
بدايتان
وإذا بنا، بعد روايات الطفولة، أهام بدايتين في إنجيل متّى، ذات أهمية كبرى لانطلاقة جديدة في كل مرة وكلتاهما تبدأان بالآية ذاتها. نحن لا نجدهما في مكان آخر: "من ذلك الحين بدأ يسوع...".
نقرأ الأولى في متّى 4/17، بعد اعتماد يسوع وتجربته في الصحراء: "وبدأ يسوع من ذلك الحين ينادي فيقول: توبوا، قد اقترب ملكوت السموات". إن هذا "البدء" هو بدء لاهوتي، بدء الإعلان لبشارة الملكوت في تاريخ البشر؛ وهو إعلان يتوجّه إلى الجموع.
والثانية نقرأها في متّى 16/ 21، بعد شهادة بطرس بلاهوت يسوع في قيصرية: "وبدأ يسوع من ذلك الحين يظهر لتلاميذه أنه يجب عليه أن يذهب إلى أورشليم ويعاني آلاماً شديدة من الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة ويُقتل ويقوم في اليوم الثالث". وهذا "البدء" هو أيضاً بدء لاهوتي، لكنه موجه هذه المرة إلى التلاميذ. إنه البدء بإعلان موته وقيامته، أي بكشف أبعاد مسيرته الفصحية لتلاميذه لإشراكهم فيها.
وفي هاتين المجموعتين أَوجهُ شبهٍ عميقة، وحلقات مماثلة تكمّل بعضها البعض، كما سيتضح لنا.
وحي وتجربة
ففي الحالتين وحيٌ وتجربة.
أما الوحي فمن الآب:
- في العماد، يشهد صوت الآب أن يسوع هو ابنه ويتوجه الصوت إلى الحاضرين ("هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت"، 3/17)، لا إلى المسيح كما في مرقس ولوقا: "أنت إبني الحبيب، عنك رضيت" (مر 1/ 11؛ لوقا 3/ 22).
- وفي قيصرية، يشهد التلاميذ، بلسان بطرس، ولكن بوحي من الآب ("ليس اللحم والدم كشفا لك ذلك، بل أبي الذي في السموات")، يشهدون بأن يسوع هو المسيح، ابن الله الحي (16/16 - 17). وهذه الشهادة ستبقى قمة كل شهادة واعتراف في الكنيسة إلى المنتهى.
وفي الحالتين أيضاً تلي الشهادة تجربة:
- في الصحراء، يُجرَّب يسوع عن يد الشيطان، بعد اعتماده في الأردن.
- وفي قيصرية، يجرَّب عن يد بطرس، بعد انبائه الأول بموته وقيامته.
ولكن الفارق بين تلك الحالتين هو أنه في البدء الأول (أو المرحلة الأولى)، لا يزال يسوع وحده وبمفرده. فلم تتكون بعدُ أية جماعة تحيط به وترافقه في تجواله الرسولي. فالآب هو الذي يشهد مباشرة في العماد: "هذا هو ابني الحبيب" (3/17). والشيطان هو الذي يجرب مباشرة في البرية: "فَدَنا منه المجرب وقال له..." (4/3).
دور الجماعة
ثم ينطلق يسوع، بعد انتصاره على الشيطان، ليعلن اقتراب الملكوت بشخصه ويعيد توجه شعبه نحو هذا الملكوت: "وبدأ يسوع منذ ذلك الحين ينادي فيقول: توبوا، فقد اقترب ملكوت السموات" (4/ 17).
ويبدأ رسالته هذه باختياره لتلاميذه الإثني عشر، فتتكوّن بهم نواة كنيسته المزمعة أن تشاركه في نقل بشرى الملكوت إلى جميع الأمم. وينفرد متّى بين الإنجيليين الأربعة باستعماله لفظة "كنيسة" (إكليسيا، في اليونانية) إذ إن الكرستولوجيا، كما رأينا عند متّى، لا يمكن فصلها قطعاً عن الإكليسيولوجيا، ونرى المسيح في قيصرية بالذات يتكلم عن الكنيسة بصيغة المتكلم، فيقول لبطرس: "أنت صخر وعلى الصخر هذا سأبني بيعتي" (16/18). إنها بيعته التي سيبقى وسطها إلى المنتهى، فلن تقوى عليها أبواب الجحيم.
وهكذا نصل إلى البدء الثاني أو المرحلة الثانية، حيث تكوّنت الجماعة، ومن وسطها، بدأ بطرس يبرز كرئيس لها.
فنرى الكنيسة، بلسان بطرس، هامة الرسل، تشهد هي الآن للمسيح، في نواحي قيصرية فيلبس، وتكشف للعالم هويته: "أنت هو المسيح ابن الله الحي". طبعاً قالت ما قالت بإلهام من الآب. أو بالحري، نرى الآب يواصل شهادته لابنه بواسطة الجماعة ومن خلالها.
والجماعة، بلسان بطرس، هي التي تجرب سيدها أيضاً، وذلك بإلهام من الشيطان. أو بالحري، هو الشيطان الذي يجرب المسيح من خلال الجماعة وبواسطتها: "فانفرد به بطرس وجعل يعاتبه فيقول: حاشى لك يا رب! لن يصيبك هذا" (16/22)!
وهكذا نرى الجماعة ذاتها تتحوّل إلى مكان للشهادة كما إلى مكان للتجربة. فهي التي ستشهد للمسيح منذ الآن أو ستجربه وتعرقل مسيرته الخلاصية بتحولها إلى شيطان.
إذهب ورائي
يبقى طبعاً فارق أساسي وجوهري ما بين الجماعة وبطرس من جهة، والشيطان من جهة أخرى.
ففي البرية يطرد المسيح الشيطان المجرب بقوله: "إذهب يا شيطان" (4/ 10)!
بينما، في قيصرية، نرى يسوع يلتفت ويقول لبطرس: "إذهب خلفي (ورائي)، يا شيطان! فأنت لي حجر عثرة، لأن أفكارك ليست أفكار الله، بل أفكار البشر" (16/ 23).
ويلي ذلك، مباشرة، ما يطلب من أتباع يسوع كشرط لا بدّ منه للتلمذة: "ثم قال يسوع لتلاميذه: من أراد أن يتبعني (يسير ورائي)، فليزهد في نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (16/24).
فالجماعة تتحول إلى صخرة يستطيع السيد المسيح أن يبني عليها بيعته، فلن تقوى عليها أبواب الجحيم، وإلى جماعة شهود، بقدر ما تتتلمذ له، أي تقبل أن تسير وراءه وتتبعه في مسيرته الفصحية، وهي تحمل الصليب معه فتقبل أن تكون بحال اهتداء واقتداء دائم. كما أنها تستطيع أن تتحوّل إلى حجر عثرة وإلى شيطان يعرقل مسيرة الخلاص كلما رفضت الانصياع لتعاليمه ولمتطلبات الملكوت الذي يجسد. ولذلك، ليست بمنأى عن الدينونة، بل ستُدان هي أيضاً على نوعية ثمارها وشهادتها: "كل شجرة لا تثمر ثمراً طيباً تقطع وتلقى في النار. فمن ثمارهم تعرفونهم" (7/ 19- 20).
عندك أقيم الفصح
وفي الختام، إن الجماعة كما يراها متّى هي أيضاً مكانٌ للاحتفال الفصحي، فيها يُنهي يسوع فصح العهد القديم إذ يحتفل به كمسيح لليهود، ويبدأ فصحاً جديداً بدمه، كربٍ، لعهد جديد:
وفي أول يوم من الفطير، دنا التلاميذ إلى يسوع وقالوا له: "أين تريد أن نُعِدَّ لك لِتأكل الفصح"؟ فقال: "إذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له: يقول المعلم: إن أجَلي قريب، وعندك أقيم الفصح مع تلاميذي". ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع وأعدّوا الفصح (26/17 -19).
إن الدعوة ذاتها لا تزال مفتوحة، يوجِّهها السيد المسيح إلى كل واحد منا وإلى كل جماعة من جماعاتنا. نعم، "عندك أقيم الفصح مع تلاميذي... حتى ذلك اليوم الذي فيه آكله وأشربه معكم جديداً في ملكوت أبي" (26/ 18- 29).
أنَحْنُ على استعداد، أفراداً وجماعات، لهذا اللقاء الفصحي بالعمانوئيل كما يتجلّى لنا في متّى؟ هنا يكمن السؤال.