الفصل الرابع
برّ الله
1: 16- 17
تشكّل هاتان الآيتان الوجهة التي يأخذها بولس في رسالته إلى رومة، مع شرحين حول الانجيل الذي هو قوّة خلاص. وحول برّ الله الذي يتجلّى من إيمان إلى إيمان. داك هو واجب بولس الرساليّ. وهو البرهان الرئيسيّ الذي سوف يتوسّع فيه، في ف 1- 15. جاءت عبارة النبيّ حبقوق تُطلق كلامَ بولس عن البرّ بالإيمان، في امتداد سفر التكوين وكلامه عن ابراهيم. وجاءت خبرة بولس الذي أعلن أنه لا يخاف أن يعلن الانجيل، وإن تميّز البشر بين يهود وغير يهود، بين يونان وبرابرة، بين حكماء وجهّال. وثقتُه تستند لا إلى ما في الانجيل من سفسطة، ولا إلى ما فيه من نداء إلى العقل والبرهان، بل إلى أنه قدرة الله من أجل الخلاص. هذا الانجيل هو في بداية الاهتداء إلى الله، وفي نهاية الحياة المسيحيّة، كما يرافق المؤمن فيُفهمه أنه تبرّر بإيمانه لا بأعمال الشريعة.
1- دراسة النصّ وبنيته
نلاحظ على مستوى الدراسة غياب «بروتون» (أولاً) من عدد من الشهود بينها الكودكس الفاتيكاني، ثم 011، 012، والترجمة الصعيديّة. هذا يعود إلى مرقيون الذي لم يكن ليقبل بأولية اليهود في تاريخ الخلاص، بعد أن اختلف إله العهد القديم عن إله العهد الجديد.
وعلى مستوى البنية، تبدو آ 16- 17 تعبيراً عن موضوع الرسالة كلها. ذُكر الانجيل (اوانغليون) والوعد المرتبط بالانجيل (اوانغاليزاستاي) في آ 9، 15، 16. والإيمان (بستيس) وآمن (بستاوو) في آ 5، 8، 12، 16، 17. لا نشدّد حصراً على آ 17: فالتشديد الرئيسيّ الآن هو على قوّة الانجيل من أجل الخلاص (آ 16 ب) مع آ 17 التي تلعب الوظيفة الرئيسية كتبرير أول لهذا الكلام عن الانجيل. إذا كانت آ 16 ب تربط الرسالة كلها في ف 1- 15، فإن آ 17 تُلقي بضوئها على القسم التعليميّ في ف 1- 11.
أما اللفظان المفتاحان اللذان يشكّلان البرنامج لما يلي فهما، الإيمانُ والتبرير. يبدأ «الإيمان» فيُشرف على ف 3- 5 (3: 22، 25، 27- 28، 30- 31؛ 4: 3، 5، 9، 11- 14، 16- 20؛ 5: 1- 2). ويغيب في ف 6- 8، ليعود فيظهر في ف 9- 11 (9: 30، 32، 33؛ 10: 4، 6، 8- 9، 11، 14، 17؛ 11: 20)، ثم في ف 12- 15 (12: 3، 6؛ 14: 1، 2، 22- 23). ويُشرف «البرّ» في 3: 20- 22، 24- 26، 28، 30؛ 4: 2- 3، 5- 6، 9، 11، 13، 22؛ 5: 1، 7، 9، 17، 19، 21؛ 9: 30- 31؛ 10: 3- 6. وهو يقدّم رباطاً بين الجدالات الحاضرة: 2: 13؛ 3: 4- 5، 10؛ 6: 7، 13، 16، 19، 20؛ 7: 12؛ 8: 10، 30، 33.
2- تحليل النصّ الكتابيّ (1: 16- 17)
الآية 16 تتحدّث عن الانجيل وقدرته في حياة المسيحيّ، وآ 17 عن البرّ الذي نناله بالإيمان. هذان هما المقطعان في هذا النصّ.
أ- لا أستحي بالانجيل (آ 16)
«الحياء» يدلّ على فرضيّة كاذبة أو على ثقة في غير محلّها. رج مز 35: 26؛ 40: 14- 15؛ 69: 19؛ 71: 13؛ 119: 6؛ ق روم 5: 5؛ 9: 33 مع «كاتايسخينو» (خزي). أجل، لا يخزى الانجيل في مواجهة قدرة أكبر. نجد رباطاً بين هذا القول وما في مر 8: 38= لو 8: 38 (من يستحي بي). وهكذا يكون بولس في خطّ تعليم يسوع حول فهم الانجيل. ويتضامن مع الجماعات المسيحيّة الأولى في استسلامها الصادق ليسوع. في هذا الإطار، يصبح «لا أستحي» مقابلاً لفعل «أشهد» (2 تم 1: 1، 28). هي شهادة خارجيّة، لا داخليّة فقط.
«قوّة الله». رج آ 20؛ 9: 17؛ 1 كور 1: 18، 24؛ 2: 5؛ 6: 14؛ 2 كور 4: 7؛ 6: 7؛ 13: 4. هو قوّة تعمل وتترك تأثيرها في المؤمنين فتحوّلهم. تظهر هذه القوّةُ في اهتداء المؤمنين (1 كور 2: 4- 5؛ 1 تس 1: 5)، في القيامة (آ 4؛ 1 كور 6: 14؛ 15: 43؛ 2 كور 13: 4؛ فل 3: 10)، وتكون ينبوع قوّة تُسند المؤمنَ في حياته (1 كور 11: 8؛ 2 كور 4: 7؛ 6: 7؛ 12: 9؛ 13: 4؛ كو 1: 11، 29؛ 2 تس 11: 1). لسنا هنا أمام ثقة عمياء أو قوّة فاعلة مهما كانت الظواهر، بل خبرة حاليّة (المعجزات، دينامايس في الجمع) تدلّ على تبدّل في الوضع الحاليّ لا يعود إلى سبب بشريّ (1 كور 12: 10، 28- 29؛ 2 كور 12: 12؛ غل 3: 5). أن يعلن بولس أن ينبوع هذه القوّة هو الله، ينتج عن السياق (نتيجة كرازة الانجيل) وعن التأثير المتواصل (1 كور 4: 20؛ 2 كور 1: 8؛ 6: 7؛ 12: 9؛ 2 تس 1: 11). مقابل قوّة سحريّة تجتمع حول اللفظ في حلقات لا يهوديّة، شدّد بولس على أن قوّة الله تجسّدت في الانجيل فكان لها مدلولها بالنسبة إلى القرّاء (1 كور 1: 18- 25). وقد تحدّث العهد القديم عن فعل كلمة الله. رج مز 107: 20 (أرسل كلمته فشفاهم، ونجّاهم من مهالكهم)؛ ق أع 10: 36- 38. أمّا بالنسبة إلى قوّة الكلمة في الكرازة، رج 1 كور 2: 4- 5؛ 1 تس 1: 5؛ يو 6: 63؛ 15: 3؛ 1 كور 4: 15؛ يع 11: 8؛ 1 بط 1: 23.
«لخلاص». نتيجة هذا الانجيل أن يحمل الخلاص (سوتيريا): صحّة الجسد، حفظ الانسان ونجاته. رج مر 5: 23، 28، 34؛ 6: 56؛ 10: 52؛ أع 27: 34. في المعنى الدينيّ، نجد اللفظ في السبعينيّة (34 مرة في مز، 18 مرة في اش) وفي العهد الجديد: ننجو من الخطر ونعود إلى الراحة بعد إصلاح الأمور. في بولس، هو المعنى الاسكاتولوجي: رجاء من أجل الزمن الآتي، نجاة من الدمار (أبولايا) الأخير، نهاية صالحة لمخطّط الله من أجل البشريّة. رج 5: 9- 10؛ 13: 11؛ 1 كور 3: 15؛ 5: 5؛ فل 2: 12؛ 1 تس 5: 8- 9. ولكن عبر قوّة الانجيل، قد أطلِق المؤمنون منذ الآن باتجاه الخلاص. لهذا استُعمل الفعلُ في صيغة الحاضر في 1 كور 1: 18؛ 15: 2؛ 2 كور 2: 15. الله يحفظ المؤمن عبر النجاة الأخيرة. وحرف الجر «آيس» (ل- خلاص) لا يدلّ فقط على حركة باتجاه ما، بل على حركة لها نتيجتها (10: 10؛ 2 كور 7: 10؛ فل 11: 9؛ 2 تس 2: 13؛ 2 تم 3: 15).
«لكل من يؤمن». هي صيغة الحاضر (يؤمن الآن)، لا صيغة الماضي الناقص (3: 22؛ 4: 5، 11، 24؛ 9: 33؛ 10: 4، 10- 11؛ 15: 13؛ 1 كور 1: 21؛ 14: 22؛ 2 كور 4: 13؛ غل 3: 22؛ فل 1: 29؛ 1 تس 1: 7؛ 3: 10، 13؛ أف 1: 19. لا نجد صيغة الماضي الناقص إلاّ في2 تس 1: 10). ما أراد النصّ فقط أن يشدّد على فعل الإيمان الأولاني، بل على الإيمان كاتجاه مستمرّ وباعث من أجل الحياة. سوف نتحدّث عن الإيمان (بستيس) في آ 17. وتحدّث بولس عن «كل» من يؤمن. هذا أمر أساسيّ لا يمكن التخلّي عنه في كل الرسالة (3: 22؛ 4: 11؛ 10: 4، 11). «كلّ» هو مفتاح في الرسالة. اليهود والأمم. الإيمان هو البداية ونقطة الاستمرار في قدرة الله الخلاصيّة في حياة الانسان، والقاسم المشترك الذي ينظر إليه الله في كل حالة.
«لليهوديّ أولاً». اليوناني هو الأمم. هو اللايهوديّ الذي يتميّز بالختان والشرائع الطعاميّة. رج 2 مك 4: 36؛ 11: 2؛ ق 3 مك 3: 8؛ 4 مك 18: 20؛ سيب 5: 264. نجد اللفظين مجتمعين عند القديس بولس (2: 9- 10؛ 3: 9، 29؛ 9: 24؛ 10: 12؛ 1 كور 1: 22، 24؛ 10: 32؛ 12: 13؛ غل 2: 14- 15؛ 32: 8؛ كو 3: 11). هذه الجملة تعكس وعي بولس أنه كان يهودياً آمن بمسيح يهوديّ، ويجب الآن أن يتعدّى إنجيلُه الحدود الوطنيّة والدينيّة التي رسمها العالم اليهوديّ. إن «بروتون» (أولاً) يقابل «بنتي» (كل). هو لا ينسى الأمم ولا يريد أن ينساهم، كما قال بعض الشرّاح. ولكن على قرّائه أن لا ينسوا أولويّة اليهود في مخطّط الخلاص (3: 3- 4؛ ف 9- 11). وهناك يقين أساسيّ أيضاً بأن أولويّة اليهود لا تجعل عمل الخلاص بمعزل عن الإيمان. هذه الأمور سيُشدّد عليها بولس في الرسالة كلها. أما أولويّة اليهود فتظهر في عدد الأمم الذين تأثّروا بالعالم اليهوديّ (خائفو الله) قبل أن يأتوا إلى المسيحية (كورنيليوس مثلاً، أع ف 10- 11).
ب- البرّ والإيمان (آ 17)
«البرّ» (ديكايوسيني). نحتاج إلى ولوج لغة بولس اليونانيّة، لنفهم فكره على ضوء خلفيّة يهوديّة تربّى عليها. المدلول الذي نبع من التقليد اليونانيّ والرومانيّ فأشرف على الفكر الغربي، هو أن البرّ (والتبرير) مثال أو قاعدة خلقيّة مطلقة يجب أن تُقاس الواجباتُ بالنسبة إليها. أما في العهد القديم، فنقرأ «ص د ق»، «ص د ق ه» في إطار من العلاقة. فالبرّ ليس شيئاً يمتلكه انسانٌ ولا يمتلكه آخر، بل هو يقوم في علاقة اجتماعية. يكون الانسان باراً حين يلتقي بما ينتظره منه الآخرون في علاقاتهم. وهكذا تُرجم «ص د ق» باللطف والمحبّة في تك 19: 19؛ 20: 13؛ 21: 23؛ 24: 27؛ 32: 10.
وحين يرتبط البرّ بالله، تصبح العلاقة عهداً به يدخل الله مع شعبه. فالله بارٌّ حين ينجّي بني اسرائيل ويعاقب أعداءهم (خر 9: 27؛ 1 صم 12: 7؛ دا 9: 16؛ مي 6: 5). والبرّ هو عهد الأمانة (3: 3- 5، 25؛ 10: 3). في المزامير وفي أشعيا الثاني، منطقُ نعمة العهد تتبعه نتيجةٌ تعلن أن البرّ والخلاص يترادفان: فبرّ الله هو عمل الله لكي يُصلح خاصته ويسندهم داخل العهد (مز 31: 1؛ 35: 24؛ 51: 14؛ 65: 5؛ 71: 2، 15؛ 98: 2؛ 143: 11؛ اش 45: 8، 21؛ 46: 13؛ 51: 5، 6، 8؛ 62: 1- 2؛ 63: 1، 7. رج نج 11: 2- 5، 12- 15؛ مد 4: 37؛ 11: 17- 18، 30- 31؛ با 5: 2، 4، 9؛ 1 أخن 71: 14؛ رؤ موسى 20: 1؛ 4 عز 8: 36. إن بر الله صار الطريقَ لشرح قدرة الله من أجل الخلاص. بهذا المعنى تُقدّم الجملةُ مفتاحاً للعرض الذي نجده في روم (3: 5، 21- 22، 25- 26؛ 10: 3) وفي لاهوت القديس بولس (2 كور 5: 21؛ فل 3: 9).
هناك طريقان لفهم برّ الله عند بولس. هل هو مضاف ذاتيّ أم مضاف موضوعيّ؟ هل هو موقف الله أو شيء يفعله الله؟ حين ننظر إلى لقاء الله الذي يطالب بعلاقة العهد، لا يكون الجواب «أو... أو»، بل هذا وذاك. قال بعضهم: يدلّ برّ الله على وجهة من طبيعة الله ورفض لنشاط الله. بما أن الفكرة الأساسيّة هي فكرة علاقة فيها يفعل الله وإن سقط المتعاقد معه، وهو فعل يُسند فيه الله شريكَه الضعيف داخل علاقة العهد، نكون أمام المضاف الذاتيّ والمضاف الموضوعيّ. فبرّ الله عطيّة لها ميزة القوّة، لأن الله هو نشاطٌ مخلّص. نلاحظ هنا التوازي بين «قوّة الله» و«برّ الله». برّ الله يؤهّل برّ الانسان ويكمله.
انطلق بولس من الارث اليهوديّ، ففهم برّ الله في إطار العهد في لغة الإيمان: كل من يؤمن. اليهوديّ أولاً ثم اليوناني. هذا يعني أن برّ الانسان يُفهَم دوماً على أنه إيمان، وهذا ما يشرح أن برّ الانسان ليس شيئاً آخر سوى برّ الله. وبما أن اليهود لم يفهموا هذا الأمر، نتج اللافهم من قِبَلهم داخل العهد، فتحدّثوا عن برّهم بحيث خسروا برّ الله. إذ شدّد بولس على هذه النقطة، استعاد تقليدَ يسوع كما نقرأه في لو 18: 10- 14. التبرير هو دوماً بالإيمان، بمعنى أن ما ينتج عن قوّة الله الخلاّقة هو دوماً ثقة تربط الخليقة بالله (الإيمان). وتبرير اليهوديّ والأمميّ بالإيمان، هو تعبير يفهمنا نظرةَ بولس إلى برّ الله.
هل يتضمّن برّ الله أيضاً فكرة الدينونة (غضب الله، آ 18)؟ لا نجد هذا في آ 17، لا سيّما وأن البرّ كانجيل وخبر طيّب هو ما يشرف على آ 16- 17. ويجب أن لا ننسى أن البرّ (أي تمام ما يفرضه العهد) يرفض أي فكرة عن خلاص يُعطى بشكل اعتباطيّ. «والبرّ» يُستعمل بعض المرات للكلام عن عقاب الله لشعبه (اش 51: 6؛ 10: 22؛ مرا 1: 18). ثم إن مفهوم العلاقة بين الخالق والخليقة يوسّع مفهوم العهد مع اسرائيل: نظرة تدلّ على سلطان الله الواسع (9: 14- 24) ودينونته الأخيرة التي لا مهرب منها (3: 4- 7).
«يتجلّى». هي صيغة الحاضر. يتجلّى (أبوكالبتو) الآن. رج 16: 25- 26؛ 1 كور 2: 9- 10؛ أف 3: 3- 5. يرتبط الوحي بسلطة سماويّة. الله هو الذي يوحي، يجعل هذا البرّ يتجلّى (المجهول الالهيّ). ق مت 11: 25، 27= لو 10: 21- 22؛ مت 16: 17؛ 1 كور 2: 10؛ 14: 30؛ غل 1: 12، 16؛ 2: 2؛ أف 1: 17؛ فل 3: 15. هنا نتذكّر الفكر اليهوديّ مع دخول في سرّ السماء (2 كور 2: 1، 7). كما نتذكر الطابع الاسكاتولوجيّ للوحي الذي أعطي منذ الآن (16: 25؛ 1 كور 1: 7؛ غل 3: 23؛ أف 3: 3، 5؛ 1 بط 1: 12) والذي يعمل حتى النهاية (لو 17: 30؛ روم 2: 5؛ 8: 18- 19؛ 1 كور 3: 13؛ 2 تس 1: 7؛ 2: 3، 6، 8؛ 1 بط 1: 5، 7، 13؛ 4: 13؛ 5: 1؛ رؤ 1: 1. فما كان محصوراً في اسرائيل فُتح الآن على كل من يؤمن. هذا هو الوحي الحاسم والجديد لمخطّط الله (3: 21) مع عودة إلى حدث المسيح الذي يُدخلنا في عهد جديد فيه يقدَّم خلاصُ الله.
«من إيمان إلى إيمان». إن الفعل «آمن» (بستاواين) والاسم «إيمان» (بستيس) يتضمّنان معنيين في نظر بولس. هو الاعتقاد، القبول بحقيقة ما قيل، المصداقيّة. رج 4: 3؛ 6: 8؛ 10؛ 9، 16؛ 1 كور 11: 18؛ غل 3: 6؛ 1 تس 4: 14؛ 2 تس 2: 11- 12. ثم الثقة (الارتباط) التي هي نتيجة هذا الاعتقاد وهذا القبول (4: 5، 24؛ 9: 33؛ 10: 11؛ غل 2: 16؛ فل 1: 29). هذا ما نعبّر عنه في قبول العماد: نتماهى مع يسوع في موته (6: 3- 4)، ونجعل نفوسنا تحت سيادته (10: 9). ولكن الانسان فشل في قبول وضعه كمرتبط بالله (1: 21، 25، 28): الأمميّ واليهوديّ معاً. فهذا حدّد عهد البرّ تحديداً ضيقاً، في لغة هويّة اتنية (9: 6- 13). أما نظرة بولس الأساسيّة، فهي أن الإيمان من جانب الانسان هو الأساس الوحيد الممكن والكافي من أجل علاقة مع الله على مثال ابراهيم بثقته اللامشروطة وارتباطه بالله وبعهده (4: 4- 5، 18- 21).
«من ... إلى». هو تدرّج ينطلق من نقطة فيصل إلى نقطة أخرى. رج مز 83: 8؛ إر 9: 2؛ 2 كور 2: 16؛ 3: 18: ننطلق من إيمان الانسان ونصل إلى إيمان الانسان. الإيمان منذ البداية إلى النهاية. «من إيمان». أي بواسطة الإيمان. هذا ما نفهمه من نصّ حبقوق. رج روم 3: 26، 30؛ 4: 6؛ 5: 1؛ 9: 30، 32؛ 10: 6؛ 14: 23. وهناك من قال: من أمانة الله إلى إيمان الانسان وثقته بالله.
«كما كُتب». عبارة ترتبط بالشريعة. «غرافو» (كتب). هكذا يبدأ إيراد من العهد القديم لإسناد قول نريد أن نبرهن عنه. رج 2: 24؛3: 4، 10؛ 4: 17؛ 8: 36؛ 9: 13، 33؛ 10: 15؛ 11: 8، 26؛ 15: 3، 21. يرد نص حب 2: 4 في أربعة أشكال: الصدّيق بأمانته يحيا (النص الماسوري). الصديق من إيماني يحيا (السبعينية). الصدّيق من الإيمان يحيا (بولس). صدّيقي (أنا) يحيا من الإيمان (عب 10: 38). نقول الإيمان أو الأمانة. وقال تفسير حبقوق، كما في قمران: «تفسيره يعني حافظي الشريعة في بيت يهوذا الذين يخلّصهم الله من بيت الدينونة بسبب قتالهم وأمانتهم لمعلّم البرّ» (فحب 8: 1- 3). هناك ترجمات يونانيّة أخرى تتبع النص الماسوريّ. أما بولس فيورد النصّ أيضاً في غل 3: 11.
«ص د ي ق». في النص الماسوريّ هو الانسان البار. هو العضو الأمين في العهد الذي يُتمّ المتطلّبات المرتبطة بشريعة العهد. هو اليهوديّ الصادق. فمثال التقوى اليهوديّة هو حفظٌ أمينٌ للشريعة. هذا الفهم للبرّ بارز بشكل خاص في المزامير (1: 5- 6؛ 5: 12؛ 7: 9- 10؛ 14: 5) وفي الأدب الحكميّ (أم 3: 32- 33؛ 4: 18؛ 9: 9؛ حك 2: 10، 12- 16، 18؛ 3: 1، 10) رج 1 أخن 1: 8؛ 5: 4- 6؛ 82: 4؛ مز سل 2: 38- 39؛ 3: 3- 8. برّ الانسان هو نتيجة أمانة الله لالتزامه تجاه البشر بشكل عام، وشعب اسرائيل بشكل خاص لأنه الشعب المختار. إن الايمان هو ثقة بالله وارتباط. والأمانة تعبير عن هذا الإيمان. غير أن بولس يهاجم بني اسرائيل لأنهم يحصرون الأمانة في حفظ للشريعة. هذا يعني عدم فهم الإيمان، وبالتالي عدم فهم برّ الله وبرّ الانسان. هذا يعني أيضاً أن الحياة التي يطلبون، تبقى بعيدة عنهم. والخلاص الاسكاتولوجيّ يترادف مع حياة مع المسيح (1 تس 5: 9- 10).
3- خلاصة لاهوتيّة
يلخّص بولس في هاتين الآيتين ما سيكون الموضوع الرئيسيّ في القسم العقائديّ من الرسالة، الذي يمتدّ حتّى 11: 36. لهذا نجعلهما قمّة القسم الأوّل (1: 1- 18). كان بولس قد عبّر عن رغبته الحارّة بأن يحمل الانجيل إلى رومة (آ 15)، وقدّم السبب الرئيسيّ لذلك في آ 14. أما الاعلان الشخصيّ الذي يبدأ في آ 16 أ، فهو عنصر انتقالة إلى ما في آ 16 ب- 17، وهو عنصر ذو طابع لا شخصيّ. وإذ أعلن بولس أنه لا يستحي، دلّ على أنه خطّ كلامَ الانجيل الذي يحذّر التلاميذ من الابتعاد علناً عن يسوع حين يأتي الاضطهاد أو تُمتحن أمانتُهم.
لماذا يحتجّ بولس فيعلن أنه لا يستحي؟ إنه تأخّر في حمل الانجيل إلى رومة. وهو يشرح ما دعاه إلى ذلك. فإن كانت تلك رغبته وذاك قصده، فإنه أراد أن يتجاوب مع المهمّة التي كلِّف بها مهما كانت العداوة التي يواجهها أو الاحتقار الذي يصطدم به. فلو استحى بالانجيل، ولو رفض أن يعلنه بالصوت العالي، لما كان يذهب إلى رومة عاصمة الامبراطوريّة المزيّنة بزينة الحضارة: فموضوع هذا الانجيل هو المسيح المصلوب (1 كور 1: 23؛ 2: 2).
غير أن بولس متيقّن أن هذا الانجيل الذي تستخفّ به مقاييسُ الحكمة البشريّة هو في الواقع «قدرة الله من أجل خلاص كل مؤمن». لهذا لا يستحي الرسول به، بل يفتخر، وهو مستعدّ دوماً لكي يُعلنه. والقوّة الكامنة في كلام الله هي موضوع بيبليّ (اش 55: 10). فالانجيل هو كلام الله وإن تلفّظ به بشر. إذن يستطيع بولس أن ينسب إليه فاعليّة لدى الذين أدركهم فحوّلهم وأعدّهم من أجل الخلاص النهائيّ. لسنا هنا أمام معجزات ترافق الكرازة وتساندها، بل أمام ما ينتج عن الانجيل الذي يُكرَز به فيتقبّله المسيحيّون في الإيمان. وبولس شاهد مندهش لهذا الوضع، لأن هذا العمل يتمّ الآن ونلاحظه في الزمن الحاضر.
ومع ذلك، فهذا العمل موجَّه لخلاص آتٍ. فلفظ الخلاص، حتّى في العهد القديم، يحمل رنّة اسكاتولوجيّة. وهو كذلك عند القديس بولس الذي ينطلق من الحاضر ليصل إلى المستقبل. ولكن ممَّ يخلص المسيحيّ؟ من الغضب (5: 9) أي من العقاب الالهيّ الذي سينصبّ قريباً على البشريّة الخاطئة. ذاك هو الوجه السلبيّ. ويكون الوجهُ الايجابيّ حياةً أبديّة للمختارين. ويشارك فيها أولئك الذين تقبّلوا في الإيمان الانجيل الذي كرز به الرسل. فالخلاص، وإن استند إلى مبادرة الله ونعمته، هو مشروط بجواب بشريّ. وبدون هذا الجواب لا يمكن أن نرجوه ولا هو يتمّ.
فهذا الشرط ضروريّ وهو كافٍ، ولا يقبل أي شواذ. وكلُّ انسان يستطيع أن يتقبّل قدرة الله التي تقود إلى الخلاص، شرط أن يؤمن. ويُفصّل بولس حالاً مضمونَ العبارة العامة: خلاص لليهود وخلاص لليونانيّين. هذا من الوجهة اليهوديّة. ومن الوجهة اليونانيّة خلاص لليونانيّين وخلاص للبرابرة. لا حدود للانجيل، لا الختان الذي يفصل اليهوديّ عن الأمميّ، ولا الحضارة اليونانيّة التي تفصل «المتحضّرين» عن البرابرة.
وغياب كلّ تمييز على مستوى الخلاص الذي تدشّنَ الآن في يسوع المسيح، لا يُلغي أولويّة اليهود. على المستوى الزمنيّ أولاً، حيث وصلت المسيحيّة أولاً لدى اليهود في المجامع المنتشرة بشكل خاص في حوض البحر المتوسط. وعلى مستوى تدبير الخلاص الالهيّ الذي أراد أن ينتقل النظامُ الجديد والشامل إلى الأمم، عبر شعب اسرائيل، عبر يسوع والرسل مع كفالة الشريعة والأنبياء (3: 21). وإذ تحقّق مخطّطُ الله كلّ التحقيق في يسوع المسيح، لم يعد منذ الآن تمييز بين يهوديّ ويونانيّ (10: 12). فجميعُهم حصلوا بالمساواة على نعمة المسيح، لأنهم تساووا جميعاً في الخطيئة (2: 9- 10).
ومع ذلك، هل نجعل أولويّة اليهود في الماضي وكأنه أمر عفّاه الزمن؟ إن بولس سيقول في 12: 29: «لا ندامة في مواهب الله وندائه». حين أراد بولس أن يبرّر الخلاص النهائيّ لاسرائيل، ذكر امتيازات الشعب المختار التي لا يمكن أن تصبح غريبة. فهنا، حيث الموضوع ليس مستقبل بني اسرائيل الذين هم في الخطّ الأول، حسب مخطّط الله، نراهم لا يستطيعون أن يطالبوا بأيّ امتياز. بل يُدعَون، شأنهم شأن سائر المسيحيّين، إلى الإيمان بالانجيل إن أرادوا أن ينالوا غفران الخطايا والخلاص. هذا ما يجعلنا في إطار برّ الله.
نستطيع أن نقول إجمالاً إن بولس تحدّث عن «برّ الله» كما قرأه في العهد القديم. وهذا البرّ يمارَس من أجل الخلاص، كما تقول النصوص البولسيّة. فبرُّ الله هو ما به يحيا البار بعطيّة من الله، بالإيمان. فبرّ الله ليس صفة إلهيّة، ليس براً يكون به الله باراً، بل هو برّ به يتبرّر الخاطئ. هنا نتذكّر 1 كور 5: 21: «ذاك الذي لم يعرف الخطيئة، جعله الله خطيئة لأجلنا لكي نصير نحن برّ الله». ذاك هو البرّ الموضوعيّ الذي يتحدّث عنه بولس في موضع آخر (فل 3: 8، 10): هنا يجعل بولس نفسه في قلب الكلام: إن هو تخلّى عن الشريعة الموسويّة كطريق خلاص، فلكي يربح المسيح ويوجَد فيه، لا ببرّه الشخصيّ، البرّ الذي نحصل عليه بالشريعة، بل البرّ الذي نحصل عليه بالإيمان بالمسيح، البرّ الذي يأتي من الله ويتأسّس على الإيمان. ونجد المعنى عينه حين يتحدّث بولس عن المسيح الذي هو برّ لأجلنا (1 كور 1: 30)، أو عن «عطيّة البرّ» كنتيجة نعمة الفداء (روم 5: 17).
ولكن إن عدنا إلى المضاف الذاتيّ، تبدو العبارة صفة ديناميكيّة بها يبرّر الله الانسان الخاطئ. ففي 1: 17 يبدو هذا البر موازياً «لقدرة الله» (آ 16). وفي آ 17- 18 يتعارض البرّ مع «غضب الله». وفي 3: 26، هذا البرّ هو ما به يبدو الله باراً. نستطيع أن نقرّب «برّ الله» من «أمانة الله» (3: 3)، من «صدق الله» (3: 7). غير أن هناك من ينفصل عن هذا البرّ فيبحث عن برّه الخاص منطلقاً من الشريعة الموسويّة.
حين نتطلّع إلى «برّ الله» كصفة الهيّة، نفهم أنه موضوعُ وحيٍ، به يكشف الله عن ذاته. وصاحب هذا الوحي هو الله، الذي يُعبَّرُ عنه في صيغة المجهول الالهيّ (يُجلَى، يُكشَف). والإشارة الاسكاتولوجيّة واضحة مع فعل «كشف» على مثال ما نقرأ في مز 98: 2: «الربّ عرّف خلاصه أمام الأمم، وكشف برّه». وكشفُ سرّ الله في الأزمنة الأخيرة، يتمّ مع الانجيل الذي يكرز به الرسلُ، ويختبره الآن السامعون واقعاً يعيشونه.
هذا البرّ يتجلّى من إيمان إلى إيمان. قال ترتليانس في ردّه على مرقيون 51/13: 22: «من إيمان الشريعة إلى إيمان الانجيل». واعتبر ترتليانس أن الكلام يدور حول عبورٍ من إيمان العهد القديم أو الشريعة إلى الانجيل. أما الشرّاح المعاصرون فيقدّمون أربعة تفاسير. الأوّل، يأتي وحيُ برّ الله من أمانة الله التي تتوجّه إلى إيمان الانسان. الثاني، هو كلام عن درجات الإيمان البشريّ الذي ينمو، كما في مز 84: 8 (من قوّة إلى قوّة كما في السبعينيّة) وإر 9: 2 (من شرّ إلى شر) و2 كور 2: 16 (من موت إلى موت)؛ و2 كور 3: 18 (نتحوّل من مجد إلى مجد). أما النموّ في الإيمان فنقرأ عنه في2 كور 10: 15؛ 2 تس 1: 3: البرّ الذي يعطيه الله للانسان يفترض الإيمان عند الانسان. ثم: برّ الله وغفرانه ونعمته تتجلّى في الانجيل، والإيمان الذي هو مبدأها ينمو دوماً. الثالث، اللفظ الأول (بستيس) هو مجرّد. والثاني هو محسوس (بستيس). أي من الإيمان إلى المؤمنين كما في 3: 22: الإيمان يتقبّل الوحي الذي يدرك الإيمانَ بهذه الواسطة. الرابع، العبارة من إيمان إلى إيمان تساوي عبارة: الإيمان وحده. الإيمان أولاً وأخيراً: فبرّ الله هو كلّه، من أوله إلى آخره، موضوع إيمان في ما يخصّ الانسان.
ويُطرَح حلٌّ معقول: «بستيس» تدلّ على إيمان الانسان. والعبارة من إيمان إلى إيمان، ترتبط بفعل «تجلّى»: الله يكشف عن برّه انطلاقاً من الإيمان ولأجل الإيمان. وحين نفهم الجملة بهذه الطريقة، نفهم «من إيمان» كنقطة انطلاق للخبرة المسيحيّة حين يتقبّل المؤمنُ الانجيل الذي هو كشْفُ برّ الله. غير أن الإيمان هو أيضاً هدفُ هذا الكشف عينه في مخطّط الله، وهو الوضعُ الجديد لعلاقات الانسان بالله، الذي يأتي بعد نظام الشريعة (غل 3: 23). وما قاله بولس هنا استند إلى قول حب 2: 4: «البار بالإيمان يحيا». هنا تصرّف بولس بحريّة حين أورد النصّ الكتابيّ، في شرح نجده في غل 3: 11: «وأما أنه لا يتبرّر بالناموس أحد لدى الله، فأمر ظاهر، إذ إن البار بالإيمان يحيا». ذاك هو أحد الطروح الرئيسيّة الذي سوف يتوسّع فيه بولس الرسول في الرسالة إلى رومة.
خاتمة
بعد أن وضع بولس المداميك الأولى لرسالته، وصل إلى الموضوع الأساسيّ: هو يريد أن يكرز بالانجيل، ولكن ما هو الانجيل بالنسبة إلى بولس؟ هو الخبر الطيّب حول يسوع، انطلاقاً من تقاليد دوِّن بعضُها ولبث الآخر شفهياً. وذلك على ضوء أسفار الشريعة وكتب الأنبياء. ولكن يبقى يسوع المسيح الكلمة الأخيرة التي وجَّهها الله للعالم من أجل خلاصه. إنه تتمّة جميع الكتب المقدّسة. إذن، لسنا أمام تعليم سريّ موجَّه إلى نخبة، ولا أمام قاعدة موجّهة إلى المختارين وحدهم. الانجيل هو خبر طيّب من أجل الكنيسة كلها. بل للعالم كله. هذا الانجيل لا نستحي منه. فهو قوّة الله من أجل الخلاص. كما أن فيه يتجلّى برّ الله. أجل مضمون الانجيل هو برّ الله. وهو برّ ناشط لا يكتفي بأن ينتظر لكي يرى كيف يتصرّف الانسان، بل هو يفعل ويُفهِم الانسانَ أنه لا يبرّر نفسه بأعمال يمكن أن يعملها (ولا سيّما الختان بالنسبة إلى اليهود). فالانسان لا يقدر أن يبرّر نفسه بنفسه. فالبرّ يأتي من الله. وكذلك الخلاص. ونحن نتقبّله عطاء مجانياً من قبل الله. هذا ما سوف يشرحه بولس في روم، مستنداً إلى كلام النبيّ حبقوق الذي يربط الحياة بالإيمان، بالنسبة إلى الانسان البار، بالنسبة إلى ذاك الذي برّره الله فنقله من الخطيئة إلى النعمة، ومن مناخ الغضب إلى الخلاص بيسوع المسيح.