الفصل الثاني: تحيّة الرسول إلى أحبّاء الله

الفصل الثاني
تحيّة الرسول إلى أحبّاء الله
1: 1- 7

بدأ بولس فقدّم نفسه إلى المؤمنين في رومة، وهو يعرف عدداً كبيراً منهم بأسمائهم. هو عبد يسوع المسيح، وقد ارتبط به برباط الحبّ. وهو رسول ائتمنه الربّ على الانجيل في لقاء تمّ مع من كان شاول فصار بولس، على طريق دمشق. لا همّ لهذا الرسول سوى حمل الانجيل الذي يتلخّص في كلام عن الربّ يسوع وعن قيامته من بين الأموات. هذا الذي من ذرّيّة داود هو يسوع المسيح ربّنا. ويبدو بولس مسؤولاً عن هذا الانجيل في العالم الوثنيّ كله، كما كان بطرس مسؤولاً عن الانجيل لدى أهل الختان. بهذه الصفة سمح بولس لنفسه بأن يكتب إلى أحبّاء الله في رومة. إلى كنيسة لم يعرفها: فهو ما بشّرها ولا زارها. وحين زارها كسجين المسيح، لاقاه المسيحيّون الذين كانوا فيها إلى سوق أبيوس والحوانيت الثلاثة (أع 28: 15). هو المدعو ليكون رسولاً يكتب إلى المدعوّين القدّيسين الذين برومة.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 1، تقرأ بعضُ المخطوطات (برديّة 26، السينائي، الاسكندراني، 011، 012، 044) كما في النصّ المعتمد: «يسوع المسيح» لا «المسيح يسوع». رج آ 4، 6، 7، 8. «المفروز» هو اسم المفعول. صيغة المجهول: حدثٌ من الماضي ما زالت آثاره حاضرة. دُعي بولس في الماضي، وها هو يعبّر عن دعوته من خلال هذه الرسالة.
في آ 3، «المولود». كان الفعل اليونانيّ يحمل بعض الغموض، فكانت محاولات لكي يزول الغموض، فرُبط اسمُ المفعول بالفعل «غاناوو».
في آ 4، «المقام». وضعت اللاتينيّة العتيقة المسبّق «برو»: المقام سابقاً، المعدّ سابقاً.
في آ 7، غابت عبارة «الذين في رومة» في عدد من الشهود (11، 12، أوريجانس). كما أن المخطوطين 011 و012، قرأا «في حبّ الله»، لا «أحبّاء الله».
ب- بنية النصّ
هذه القطعة التي تفتح الرسالة، تسير في خط الرسائل في العالم اليونانيّ. تحيّةٌ (خايراين) من فلان إلى فلان. رج أع 15: 23؛ 23: 26؛ يع 1: 1. صاغ بولس كلاًّ من العناصر الثلاثة، مع سمات مميّزة. هوّيته الخاصة: هو «عبد المسيح يسوع». وهو «رسول». (آ 1). جاء الكلام موسّعاً، لأنه يكتب إلى جماعة لا يعرفها. هويّة قرّائه (رج 1 كور 1: 2؛ ق غل 1: 1). وفي الختام، تحيّة مسيحيّة معروفة: النعمة (خاريس) والسلام (آ 7 ب؛ رج 2 مك 1: 1).
وترك بولس عادته، فأدرج معترضة طويلة حول الانجيل ووضعه كرسول، بين العنصرين الأولين في الافتتاح النموذجيّ (آ 2- 6)، لكي يبيّن إيمانَه القويم ويُبعد كلَّ شكّ وارتياب منذ البداية. هذا ما يشرح بشكل خاص، إدراج «نؤمن» قديم أو تعبير إنجيليّ (آ 3- 4)، يشارك فيه الرسولُ مؤمني رومة، الذين آمنوا قبل أن يصل بولس إليهم: إيمان مشترك، إنجيل مشترك.
إن اكتشاف هذه السمات البولسيّة المميّزة منذ بداية الرسالة، يُقدّم إشارة أولى إلى ما رمى إليه بولس حين كتب. كتب أولاً على أنه «فُرز (وُضع جانباً كما تُوضع الذبيحة) من أجل الانجيل». وأن رسالته تتوجّه إلى الأمم (الوثنيّة، تجاه الأمّة اليهوديّة) (آ 1، 5). ولكنه عبَّر عن كل قول بدقّة، وبعبارات يهوديّة مميّزة: انجيل الله الذي «وعد به من قبل عبر أنبيائه في الكتب المقدّسة» (آ 1- 2). والمهتدون من الأمم هم «أحبّاء الله» و«المدعوّون قدّيسين» (آ 7). وهكذا تبرز ديناميّةٌ انشداديّة: إنجيل اليهود من أجل الأمم. ماذا يعني هذا بالنسبة إلى الأمم؟ وبالنسبة إلى اليهود كلّهم؟ إن أهميّة الموضوع تَبرزُ من خلال ألفاظ مفاتيح سوف تتواتر: «الإيمان». «الأمم». «الطاعة» (آ 5)، التي ستكون بشكل برنامج في الرسالة كلها.
يبدو أن هناك تعبيراً سابقاً لبولس في آ 3- 4. أولاً، هناك جملتان موصولتان ومتوازيتان توازياً متعارضاً: المولود، المقام. الذي وُلد. الذي أقيم... ثانياً، يتوازى الفعلان كاسم فاعل في صيغة الماضي البسيط. ثالثاً، تتوازى عبارتان: من نسل داود، حسب الجسد. ابن الله في القدرة، حسب روح القداسة. رابعاً، استعمال فعل «هوريزاين». خامساً، استعمال عبارة ساميّة: روح القداسة، لا الروح القدس. سادساً، وصف قيامة المسيح كما في الكرازة الأولى على أنها «قيامة من بين الأموات». سابعاً، ما نجده هنا (ابن داود، ابن الله) نقرأه في 2 تم 2: 8 وفي تقليد مشترك يرتبط بخبر طفولة يسوع (مت 1: 18- 25؛ لو 1: 32- 35).
وأسلوب بولس واضح في آ 1- 2 مع «انجيل» (أونغاليون)، «سبق فوعد» (بروإبينغايلاتو. ونجد في آ 5 حروف الجرّ: إيس (ل- طاعة). إن (في- جميع). هيبار (لأجل، اسمه). وتتوازى آ 1 مع آ 7:
عبد المسيح يسوع المدعو رسولاً
أحبّاء الله المدعوّون قدّيسين
ويرد اسم «يسوع المسيح» أربع مرّات في سبع آيات، فيدلّ على فكر بولس المركزيّ.

2- تحليل النصّ الكتابيّ (1: 1- 7)
ثلاثة أقسام في هذه القطعة. أعلن بولس من هو، وما هي وظيفتُه، في إعلان انجيل الله (آ 1- 2). وفتح معترضةً قصيرة أعلن فيها إيمانه بابن الله الذي هو في الوقت عينه انسان من نسل داود (آ 3- 4). وفي القسم الثالث (آ 5- 7)، نتعرّف إلى القرّاء الذين يوجّه إليهم الرسول كلامه: هم الأمم الوثنيّة الذين يعيشون في حبّ الله وينعمون باختياره، شأنهم شأن اليهود.
أ- بولس عبد يسوع ورسوله (آ 1- 2)
«بولس» (آ 1). هو الاسم الذي به يرغب بولس أن يُدعى في كل رسائله. ما استعمل اسم «شاول» إطلاقاً، مع أنه عُرف بهذا الاسم ساعة اهتدائه، وفي الحقبة الأولى من خدمته الرسوليّة في كنيسة أنطاكية (أع 9: 1، 4؛ 13: 1- 2، 7). وإذا عدنا إلى أع 13: 9 حيث يظهر الاسمان، نفهم أن الرسول أخذ اسم بولس حين دخل العالمَ اليونانيّ. كان بولس مواطناً رومانياً، شأنه شأن العديد من اليهود في ذلك الوقت. كان اسمه شاول في علاقته مع العالم اليهوديّ الشرقيّ. واليوم هي علاقات من نوع آخر مع الأمم وفي العالم الغربيّ.
ذكر بولس اسمه وما ذكر أحداً معه كما اعتاد أن يفعل (ولكن رج غل 1: 1). لا يمكن أن نشرح ذلك فقط في أن لا دور له ولرفاقه في تأسيس كنيسة رومة (1 كور 1: 1). وفي أي حال، سوى نرى تيموتاوس قرب الرسول في 16: 21، 2 كور 1: 1؛ كو 1: 1؛ 1 تس 1: 1؛ 2 تس 1: 1. فقد أراد بولس أن يُقدّم نفسه شخصياً إلى جماعات واسعة لا يعرفها، على أنه رسول الأمم (11: 13)، وعلى أن الانجيل الذي يعرضه بيسوع المسيح، سوف يدلّ على ما في القلوب والضمائر (2: 16؛ 16: 25). وانطلاقاً من ردّة فعلهم على هذا الوضع الشخصيّ، ستكون الرسالة ناجحة، أو لا سمح الله فاشلة.
«عبد المسيح يسوع». رج فل 1: 1. انطلق بولس هنا من إرثه اليهوديّ حيث المؤمن يحسب نفسه عبد الله وعابده (نح 1: 6، 11؛ مز 19: 11، 13؛ 27: 9؛ 31: 16؛ ق مد 7: 16؛ 9: 10- 11). يُستعمل لفظُ «عبد» (دولوس) في المفرد والجمع عن اسرائيل ككلّ (تث 32: 36؛ إر 46: 27؛ حز 28: 25). والوجوه الكبرى في الماضي تسمّت بهذا الاسم. موسى هو عبد الربّ (2 مل 18: 12؛ نح 9: 14؛ مز 105: 26؛ دا 9: 11 ملا 4: 4؛ رج يوسيفوس، العاديات 5: 39) وكذلك الأنبياء (عز 9: 11؛ إر 7: 25؛ 25: 4؛ 35: 15؛ حز 38: 17؛ دا 9: 6؛ عا 3: 7؛ زك 1: 6). كل هذا يرتبط بيقين يؤكّد فيه الشخص أن الله اختاره اختياراً خاصاً. فاسرائيل يخصّ الله حصراً ولا يخصّ أحداً آخر. وأبطالُ اسرائيل ارتبطوا ارتباطاً لا مشروطاً بإله اسرائيل، فلعبوا دوراً كبيراً في المحافظة على العهد بين الله وشعبه. قد يكون بولس جعل نفسه في خطّ هؤلاء الذين سبقوه، والتواصل واضح لديه بين العهد القديم والعهد الجديد. وفي أي حال، انتقل اللقبُ إلى العهد الجديد (فل 1: 1؛ 2 تم 2: 24؛ يع 1: 1؛ 2 بط 1: 1؛ يهو 1)؛ ق أع 4: 29؛ 1 كور 7: 22؛ أف 6: 6؛ كو 4: 12؛ رؤ 22: 3.
أخذ بولس بلغة عرفها العالمُ اليهوديّ، في ثلاثة أشكال. الأول، سمّى نفسه عبد المسيح يسوع. هذا يعني أنه يرى في يسوع الربّ (يهوه). فكما تعبّد اليهود لله الواحد، يتعبّد المسيحيون ليسوع، الذي قام من بين الأموات، وتمجّدَ جالساً عن يمين الله في الأعالي (تي 1: 1؛ عابد الله). الثاني، تذكّر بولسُ مقاطع من العهد القديم مثل اش 49: 1- 7، ففَهم دورَه كرسول إلى الأمم مثل عابد الله في اشعيا. رج غل 1: 15 (اش 49: 1)؛ 2 كور 6: 1- 2 (اش 49: 8)؛ روم 15: 21 (أش 52: 15)؛ فل 2: 16 (اش 49: 4)؛ أع 13: 47 (اش 49: 6)؛ 26: 18 (اش 42: 7). وفي غل 1: 10، يسمّي نفسه «عبد المسيح». إن دعوة الله لعبده من أجل رسالة وسط الأمم (والشتات كجزء من مخطّط العهد)، واضحة في اش 49: 1- 8 حسب السبعينيّة. وافتتاحُ الرسالة في روم 1: 1- 7 يُفهمنا أن بولس يرى خدمته إلى الأمم كمكمّلة لدور اسرائيل في العهد (حسب اشعيا) ومتمّمة لدور يسوع كعبد الربّ. الثالث، إن الفكرة التي تعتبر شخصاً من الأشخاص عبد الإله، عُرفت في الشرق وفي الغرب عبر العبادات السرّانيّة. ولكن الفرق كان شاسعاً بين العبد والحرّ في العالم الرومانيّ، بحيث وجب على بولس أن لا يترك الصور تتضارب. ولكن ما همّ، إن كان هذا الرسولُ عبداً لذاك الذي صار عبداً طائعاً حتى الموت والموت على الصليب.
«المدعو (كليتوس) ليكون رسولاً». رج 1 كور 1: 1. في المعنى الأول، هي دعوة إلى وليمة (1 مل 1: 41، 49؛ 3 مك 51: 4؛ مت 22: 14). يتفرّع هذا المعنى من فعل «كالاين» (دعا) الذي يعني أيضاً ألحَّ فأمر. وقوّته تأتي من صاحب الدعوة الذي هو الملك أو الاله (مت 22: 3، 9). وهو يحمل القوّة نفسها في الاستعمال المسيحيّ (4: 17؛ 9: 11- 12). فقرّاء بولس هم أيضاً مدعوّون ليدخلوا في مخطّط الله بقوّة هذا النداء (1: 6- 7؛ 8: 28، 30؛ 1 كور 1: 2، 9، 24؛ 7: 15، 17- 24؛ غل 1: 6؛ 5: 8، 13). في إطار هذه الدعوة التي هي إحدى السمات المميّزة للذين يخصّون المسيح، تطلّع بولس إلى واجب خاص (1: 1؛ 1 كور 1؛ 1)، مع أنه ما أراد أن يفصل هذه الدعوة الخاصّة عن الدعوة إلى الجميع (1: 6- 7؛ 1 كور 1: 2). كل هذا يدلّ على أن بولس تأمّل في نصوص اشعيا حول عبد الرب (اش 41: 9؛ 42: 6؛ 43: 1؛ 45: 3- 4؛ 48: 12، 15؛ 49: 1؛ 51: 2)، ليُبرز موضوعَ النداء وما فيه من إلحاح من قبل الربّ.
«أبوستولوس». رسول، مرسَل، موفد. شخص أُرسل باسم شخص آخر. رج 2 كور 8: 23؛ فل 2: 25. من هنا جاء اللفظ كلقب خاص في العالم المسيحيّ. حين دعا بولس نفسه «رسولاً»، دلّ على أن المسيح القائم من الموت قد كلّفه بمجموعة محدّدة داخل الحقبة التي تلي القيامة (1 كور 15: 8: آخر الجميع)، وأعطاه سلطة ليحمل الانجيل ويقيم الكنائس (1 كور 9: 1- 2). أعلن بولسُ هذا اللقب وما توسّع فيه. بل اعتنى بأن يُبرز سمتين: نال رسالته من المسيح القائم من الموت. وهو رسول إلى الأمم (1: 5. في 1 و2 كور وفي غل، نراه يدافع عن نفسه). في كل وضع، عمل بولسُ وهو متيقّن أن سلطته كرسول حُصرت في حلقة رسالته، ومُورست في علاقة مع الكنائس التي أسّسها (1 كور 12: 28؛ 2 كور 10: 13- 16؛ ق روم 15: 20).
«المفروز (أفوريسامانوس) لانجيل الله». لقد نال رسالته على طريق دمشق. «فُرز» (أفوريزاين). يقابل «هاغيازاين» (هاغيوس): كرّس، قدّس. رج حز 45: 4؛ لا 20: 26، حيث الفكرتان تترافقان. كان اليهود يُفصَلون (يُفرَزون) عن الوثنيّين. أما بولس ففُرز من أجل الوثنيين (2 كور 6: 17= اش 52: 11). خُصّص لهم.
«انجيل» (اوانغليون). رج 1: 16؛ 10: 16؛ 11: 28؛ 1 كور 4: 15. هو الخبر الطيّب حول يسوع المسيح. هي البشارة التي حملها اليهود إلى أهل الشتات. ثم المسيحيّون. رج اش 61: 1- 2؛ مت 11: 5= لو 7: 22؛ أع 10: 36. سيطر هذا اللفظ في القسم الثاني من سفر اشعيا (40: 9؛ 52: 7؛ 60: 6؛ 61: 1)، وظلّ متداولاً في أيام يسوع (مز سل 11: 1؛ مد 18: 14). قرأ المسيحيّون نصوص اشعيا واعتبروا أنها تعلن خبرَ الله الطيّب. «لانجيل الله». الهدف من العمل هو حمل الانجيل (2 كور 2: 12؛ أع 13: 2). قد لا يشير بولس إلى عمل التبشير والكرازة (كيريغما، 16: 25؛ 1 كور 1: 21؛ 2: 4؛ 15: 14)، بل هو يريد أن يشدّد على تأثير الانجيل على حياته منذ اهتدائه (غل 1: 16). وهذا الانجيل هو «إنجيل الله» (15: 16؛ 2 كور 11: 7؛ 1 تس 2: 2، 8، 9؛ رج مر 1: 14؛ 1 بط 4: 17). الله هو ينبوع هذا التعليم وقوّته (1: 9). ترك بولس عبارة «بمشيئة الله» (1 كور 1: 1؛ 2 كور 1: 1؛ كو 1: 1؛ أف 1: 1). ولكنه حافظ على تواز ذُكر فيه المسيح يسوع، كما ذُكر الله الذي يعطي صفة شرعيّة لرسالته.
«الذي سبق فوعد به» (آ 2). لا يرد الفعل إلاّ هنا وفي 2 كور 9: 5. جاء الوعدُ من عند الله. «أنبيائه». ما اعتاد العهد الجديد على ضمير الغائب (- ـه). ولكن أراد بولس أن يشدّد على السلطة التي تُسند الرجاء النبويّ. هؤلاء الأنبياء هم عبيد الله. لقد جاءت كتاباتُ الأنبياء كمتطلّبة دفاعيّة في هذه الحركة الجديدة التي هي المسيحيّة (1 كور 15: 3- 4). «في الكتب المقدّسة». هي أقوال الله المكتوبة دون أي تحديد (فيلون، الشرائع الخاصة 1: 214). ق 15: 4؛ 16: 26؛ 2 بط 1: 20. هي أسفار التوراة المقدّسة التي دخلت في التقليد قبل أن تصبح لائحةً قانونيّة في نهاية القرن الأول المسيحيّ.
ب- ابن داود وابن الله (آ 3- 4)
«عن ابنه» (آ 3). في ما يخصّ ابنه، في شأن ابنه. تحدّثنا عن الله (انجيل الله) الذي يبدأ رسائل بولس. وها نحن نتحدّث عن الابن (آ 3). ويرد لفظُ «الابن» حين يريد بولس أن يتحدّث عن العلاقة بين الله ويسوع (آ 4، 9؛ 1 كور 15: 38)، أو عن هدف الله من أجل الشعب في علاقته بيسوع (8: 29؛ 1 كور 1: 9؛ 2 كور 1: 9). كما يرد في أوقات حاسمة (5: 10؛ 8: 3، 32؛ غل 1: 16؛ 3: 20؛ 4: 4؛ كو 1: 13؛ 1 تس 1: 10). أجل، يسوع هو ابن الله في شكل مميّز، هو «ابنه». فبنوّة الابن غير بنوّة المؤمنين (آ 3- 4). نشير هنا إلى أن لقب «الابن» أخذه حكّامُ الشرق، بمن فيهم ملوك اسرائيل (2 صم 7: 14؛ مز 2: 7؛ 89: 26- 27)، الجنس البشريّ عند الرواقيين، العالم اليهوديّ كله (خر 4: 22- 23؛ إر 31: 9؛ هو 11: 1؛ حك 9: 7؛ 18: 13؛ ق يوب 1: 24- 25؛ مز سل 17: 30؛ 18: 4؛ وص موسى 10: 3؛ سيب 3: 702)، الأبرار بشكل خاص (حك 2: 13، 16، 18؛ 5: 5؛ سي 4: 10؛ 51: 10؛ 2 مك 7: 34؛ ق مز سل 13: 8. تحدّث قمران عن «أبناء الحق» في نظح 17: 8؛ مد 7: 29- 30؛ 9: 35؛ 10: 27؛ 11: 11).
ويُطرح السؤال: كيف رأت المسيحيّة الأولى في يسوع ابن الله الوحيد؟ هذا ما يجد جذورَه في صلاة يسوع (8: 15- 17؛ غل 4: 6- 7 ). وهذه البنوّة جعلتها القيامةُ فريدةً في أعين أوّل تبّاع يسوع (آ 4). ثم إن الاعتراف بيسوع كالمسيح تضمّنَ بنوّة فريدة، حيث المسيح ابن داود دُعي ابن الله في معنى مميّز. وأخيراً، هذا الابن جاء من السماء (روم 8: 3؛ غل 4: 4). «المولود». اسم فاعل لا يتطلع فقط إلى وضع انسان «وُلد من امرأة» (أي 14: 1؛ 15: 14؛ ق نج 11: 20- 21؛ مد 13: 14؛ 18: 12- 13، 16)، بل إلى حدث يهب الولادة نفسها.
«من ذريّة داود». هذا قول يوضح أن يسوع مُسح كابن داود، كالمسيح الملكيّ، كتتمّة الرجاء النبويّ الذي تاق إليه شعب اسرائيل في الدهر الآتي (اش 11: 1 ي؛ إر 23: 5- 6؛ 33: 14- 18؛ حز 34: 23- 31؛ 37: 24- 28؛ ق مز سل 17: 23- 51). أن يكون يسوع من نسل داود أمرٌ معروف في العهد الجديد (مت 1: 1- 16، 20؛ لو 1: 27، 32، 69؛ 2: 4؛ 3: 23- 31؛ رج 2 تم 2: 8؛ أع 2: 30؛ رؤ 5: 5؛ 22: 16). «بحسب الجسد». ساركس (اللحم والدم). أي على المستوى البشري. وسوف نقول: بحسب الروح (بنفما). ما يميّز الانسان في المواتيّة والضعف والعلاقات والحاجات والرغبات. رج 11: 14؛ 1 كور 6: 16؛ 15: 39؛ كو 2: 1. اللحم (والدم) هما مصدر الفساد والعداوة لله (8: 5، 7، 12؛ 13: 14؛ غل 5: 13، 24؛ 6: 8؛ كو 2: 11، 13، 18، 23). والناحية السلبيّة واضحة حين يتعارض «ساركس» مع «بنفما» (2: 28؛ 8: 6، 9؛ غل 3: 3؛ 5: 16، 17، 19؛ فل 3: 3، 4). أو «بحسب الجسد» و«بحسب الروح»، كما هو الأمرُ هنا وفي 8: 4- 5؛ غل 4: 29. والعبارة «بحسب الجسد» ليست عاملاً محدّداً في نظر الله (4: 11- 12، 16- 17؛ 9: 8). والانجيل الذي يتجاوز حدودَ العالم اليهوديّ (آ 5- 7)، يدلّ على يسوع المسيح الذي يتعدّى دورُه دورَ مسيح يهوديّ وحسب (آ 3- 4).
«المقام بحسب الروح» (آ 4). «هوريستانتوس» (لا يرد إلاّ هنا عند بولس). «عُيّن، أعلن». هو عمل الله (المجهول الالهيّ) الذي أعطى يسوع هذا الوضع، فصار قديراً بقدرة الله. وقد ظهر هذا «التعيين» في القيامة من بين الأموات. لهذا السبب، وضعت اللاتينيّة العتيقة المسبّق «برو» لتدلّ على أزليّة قرار الله الذي أقام المسيح بحسب الروح. «في قدرة» (ديناميس). أجل، برزت بنوّةُ يسوع في القيامة، بحيث شارك في قدرة الله لا في وضع جعله يجلس عن يمين الله وحسب، بل في سلطة تنفيذيّة تستطيع أن تعمل في المؤمنين (8: 10؛ 1 كور 15: 45؛ غل 2: 20؛ كو 2: 6- 7). هذا يعني، في نظر بولس، أن الانجيل لا يتحدّث فقط عن يسوع كمسيح اليهود. فهذا الدور لا يتوافق مع ملء مخطّط الله. إن مسيحنا قام من بين الأموات، وصار ابن الله بالقدرة على كل شيء.
«بحسب روح القداسة». هي عبارة ساميّة. رج مز 51: 11؛ أش 63: 10- 11؛ ق وص لاوي 18: 11؛ نج 4: 21؛ 8: 16؛ 9: 3؛ مد 7: 6- 7؛ 9: 32. هناك عبارات مماثلة نقرأها في روم 8: 15؛ غل 6: 1؛ أف 1: 17؛ 2 تم 1: 7. هو كلام عن الروح القدس، الروح الذي تميّزه القداسة، الذي يشارك في قداسة الله. «كاتا» بحسب. لقد ميّز الروح القدس حياة يسوع ودوره، كما سبق للحم والدم أن فعلا. «بنفما»، الروح. هناك تحديد جامد: دائرة السماء، جوهر السماء. وهناك تحديد ديناميكيّ يدلّ على الحياة، حياة يسوع على الأرض ودور الروح فيها. «بالقيامة من بين الأموات». لا بقيامته هو، بل بالقيامة بشكل عام. قيامته وقيامة جميع البشر من أجل الدينونة الأخيرة. رج أع 4: 2؛ 23: 6 واستعارة قيامة المسيح كباكورة القيامة الأخيرة (1 كور 15: 20 ، 23) والتقليد القد يم عن قيامة يسوع التي ترافقها القيامة العامّة (مت 27: 52- 53). هذا يعني التأثير الكبير الذي تركته قيامةُ يسوع في التلاميذ الأولين والحماس الذي ولّدته هذه القيامة.
«يسوع المسيح ربّنا». هذا ما يقابل «عن ابنه» (آ 3). وهكذا يكتمل الإطار حول «النؤمن» بالنسبة إلى يسوع كابن داود وابن الله. وتبرز مركزيّةُ الكرستولوجيا في إيمان المسيحيّين الأولين. «الربّ» (كيريوس). هو لقب مفضّل للمسيح عند بولس (230 مرّة في المجموعة البولسيّة). ثم إن ربوبيّة المسيح هي نتيجة قيامته. «المسيح يسوع ربّنا» يقابل «عبد المسيح». فبولس والمسيحيّون يرتبطون بيسوع كالعبد بسيّده، فتستنير حياتُهم بالذي قام من الموت.
ج- أحبّاء الله في رومة (آ 5- 7)
«الذي به» (آ 5). لا في شأنه وهو عابد الله الذي مات. لا «منه» وكأن المسيح ينبوع القدرة الالهيّة. بل به، بواسطته. فالمسيح القائم من الموت هو فاعل، ومشارك في مسيرة الخلاص (5: 9، 17- 18، 21؛ 8: 37). منذ الآن، بان أن يسوع الممجّد هو الوسيط بين السماء والأرض (1: 8؛ 7: 25؛ 2 كور 1: 20؛ كو 3: 17). «نلنا». هي صيغة المتكلّم الجمع. فبولس ليس وحده رسول الأمم. وقد تكون هذه الصيغة شكلاً من أشكال الأسلوب الرسائليّ. رج 1 كور 9: 11- 12؛ 2 كور 1: 12- 14؛ 1 تس 3: 1- 2 هنا نتذكّر أن بولس لا يكتب وحده وقربه تيموتاوس، سلوانس...
«النعمة» (خاريس). لفظ بولسيّ، في شكل خاص، يعبّر عن حرّية الله في تعامله مع البشر. يقابل في العبريّة: ح ن؛ حنّ، وجد حظوة في نظره. هو المعنى الديناميكيّ الذي فيه ينحني القويّ على الضعيف (خر 3: 21؛ 11: 3؛ 12: 36؛ مز 84: 11؛ دا 1: 9؛ با 2: 14). ليست «النعمة» عند بولس موقف الله أو استعداده فحسب (طابع الله الذي يُنعم). بل تدلّ على قدرة الله الذي يعمل بسخاء ومجانيّة. هذه القدرة التي يختبرها الانسان في حياته. هذه النعمة ننالها. تُعطى لنا. من أجل «الرسالة» (أبوستولي). رج فقط 1 كور 9: 2؛ غل 2: 8. هذه النعمة تتجلّى في الرسالة، في خبرة المسيح القائم والذي ظهر للرسول على طريق دمشق (غل 1: 12، 15- 61)، هي خبرة الاهتداء (3: 24؛ 5: 1،25، 17، 20؛ 1 كور 1: 4- 5). وفيها كلّف بولسُ بالرسالة حين التقى بالمسيح القائم من الموت (غل 1: 15- 16؛ 1 كور 9: 1- 2).
«لطاعة الإيمان». «هيباكوي». لفظٌ قلّ استعماله في العالم الوثنيّ. وتواترَ في العالم المسيحيّ في علاقة مع التعليم (5: 19؛ 6: 16؛ 15: 18؛ عب 5: 8؛ 1 بط 1: 2، 14، 22). يتفرّع «هيباكوو» (أطاع) من «أكوو» (سمع. في العربيّة ترتبط الطاعة بالسماع. أنصت، أجاب. «ش م ع» في العبريّة). هو جواب على كلام تلفّظ به آخر. قرأنا هنا «طاعة الإيمان». وفي غل 3: 2، 5: «سماع الإيمان».
«الإيمان» (بستيس). لفظ يرد 40 مرة في روم. والفعل «آمن» (بستاوو) يرد 21 مرة. أما صيغة المضاف فقد تعني: الجواب الذي هو الإيمان. الطاعة التي تنبع من الإيمان. وقد نقول: الطاعة للإيمان بحيث نكون أمناء لله. إن طاعة الإيمان ستعود في16: 26 فتشكّل تضميناً في روم. بالنسبة إلى فعل «هيباكوو» رج 6: 12- 16، 17؛ 10: 16. ماذا نفهم من كل هذا؟ الإيمان بالتعليم حول يسوع. الاستسلام له في المعموديّة. وبالتالي أسلوب حياة يحدّده هذا الإيمانُ (3: 31؛ 4: 12؛ 6: 16؛ 8: 4؛ 13: 8- 10).
«في جميع الأمم» (اتنوس). هي الأمم الوثنية تجاه الأمّة اليهوديّة. رج «ج و ي م» في العبريّة: الأمم الغريبة عن العالم اليهوديّ. أما في العالم اليونانيّ، فيدلّ اللفظ على الغرباء بشكل عام. لم ترد هذه العبارة بالصدفة لتؤمّن الانتقال مع ما سبق. فرسالة بولس تجاه الأمم هي أساس فهمه لرسالته (11: 13؛ 15: 16، 18؛ غل 1: 16؛ 2: 2، 8- 9). ومخطّط الله الخلاصيّ تطلّع إلى الأمم كموضوع رئيسيّ في هذه الرسالة. «اتنوس» ترد 29 مرة في روم، منها9 مرات أُخِذت من العهد القديم (15: 9). «جميع». هو انجيل الله بنظرته الشاملة. وقد اعتبر بولس أنه أنهى العمل بحيث قرُب الوقتُ من أجل خلاص اسرائيل (11: 13- 27؛ 1 كور 4: 9). ستكون طاعة الإيمان في الأمم، في وسط الأمم الوثنيّة. رج مز 2: 8 (الأمم ميراث لك)؛ اش 49: 6- 7 (عبد الربّ هو نور الأمم). تحدّث العهدُ القديم عن طاعة اسرائيل كتجاوب مع العهد (تث 6: 4، اسمع يا اسرائيل؛ 26: 17؛ 30: 2). وتحدّث بولس عن طاعة الأمم، ومنهم جماعة رومة.
«من أجل اسمه». الاسم هو ما به يُعرف الانسان، ما به يتجلّى، ما به يتّصل بالآخرين. هكذا يُعرف الله. فبولس يُتمّ عهدَ الله حين يأتي بالأمم إلى طاعة الإيمان (2: 24؛ 9: 17؛ 10: 13؛ 15: 9). طاعة الأمم (2: 24) تقدّم أرفع شهادة لله. وفشلُ اليهود عبر تكبّرهم وعصيانهم، يحقّر اسم الله وسط الأمم.
«الذين أنتم أيضاً» (آ 6). جماعة رومة هم من هؤلاء الأمم. هذا يعني أن أكثريّة المسيحيّين في كنيسة رومة كانوا من أصل وثنيّ (1: 13- 15؛ 11: 13، 17- 21). «أيضاً» (كاي). كما تجاوبت الكنائسُ البولسيّة مع نداء الله، كذلك فعلت جماعةُ رومة. «مدعوّي يسوع المسيح». أي لتكونوا ليسوع المسيح. فالمؤمنون يرتبطون بيسوع المسيح. هكذا يتميّزون عن الوثنيّين الذين يرتبطون بزعيم في رومة، وعن اليهود الذين لا يشاركونهم إيمانهم بيسوع (آ 7).
«إلى جميع الذين في رومة» (آ 7). ها هم قرّاء الرسالة. ويوجّه بولسُ كلامه إلى جميع الذين جاؤوا إلى المسيحيّة، سواء من اليهود أم من الوثنيّين. وقد يكون هناك سوء تفاهم بين مختلف المجموعات، ولا سيّما بين «الأقوياء» و«الضعفاء» (14: 1- 5). ما دعاهم «كنيسة الله قي رومة» (رج 16: 23 والكلام عن كنيسة كورنتوس)، لأنهم كانوا أكثر من أن يجتمعوا معاً في مكان واحد. «أحبّاء الله». الله أحبّكم. رج مز 60: 5؛ 108: 6؛ ق روم 9: 25؛ كو 3: 12؛ 1 تس 1: 4؛ 2 تس 2: 13. أنتم المدعوّين لكي تكونوا قدّيسين (1 كور 1: 2). أنتم قدّيسون لأنكم دُعيتم. أجل، يتميّز المسيحيّون عن سواهم. دعاهم الله، اختارهم (كليتوس). قدّسهم (هاغيوس). فالمؤمنون ككلّ هم قدّيسون (8: 27؛ 13: 13؛ 15: 25؛ 1 كور 6: 1- 2). المقدَّس هو من فُرز، جعل جانباً، كرّس في شكل خاص من أجل العبادة. وقد دعا بولس المؤمنين في رومة أن يجعلوا من أنفسهم «ذبيحة حيّة مقدّسة» (12: 1). الجماعةُ كلها مكرّسة لله. جماعة القدّيسين. رج مز 16: 3؛ 34: 9؛ 74: 3؛ 83: 3؛ اش 4: 3؛ دا 7: 18، 21، 22، 25، 27؛ 8: 34؛ طو 8: 15؛ حك 18: 9. اعتبر بنو اسرائيل أنهم اختيروا اختياراً خاصاً من أجل الله. وهكذا صوّر بولسُ جماعة رومة. كان اليهود يعتبرون الأمم نجسين لأنهم لا يعرفون الشريعة الموسويّة. أما بولس فدعاهم «قدّيسين» بعد أن دعاهم الله بيسوع المسيح. «نعمة لكم». بعد الجزء الأول (من بولس) والجزء الثاني (إلى الذين في رومة)، ها هو الجزء الثالث مع التحيّة (خايراين). اللفظ المميّز هو «النعمة» (خاريس). رج آ 5. في غل 6: 16 قال بولس: «الرحمة والسلام معكم». رج يهو 2؛ ق2 با 78: 2. أما هنا فذكرَ النعمةَ التي هي قدرة الله الخفيّة، والمتجلاّة في الحياة اليوميّة. «السلام» (ايريني). جاءت النعمة من العالم اليونانيّ، والسلام من العالم اليهوديّ. رج قض 19: 20؛ 1 صم 25: 5- 6؛ دا 10: 19 حسب تيودوسيون؛ طو 12: 17؛ 2 مك 1: 1؛ يع 21: 6. مفهوم السلام (ش ل و م) في العالم العبريّ مفهوم إيجابيّ. لا يعني فقط «اللاحرب»، بل الازدهار الماديّ والروحيّ. السلام شيء منظور يعيشه الفرد مع الفرد، والجماعة مع الجماعة، داخل شعب الله.
«من الله أبينا». عرف العالم القديم مفهوم الله على أنه أب. هو صانع الكون. موجِّه العالم. أبو الجنس البشريّ. اعتُبر زوش «أبا البشر والآلهة». هنا نتذكّر العالم الرواقيّ، والجماعات السرانيّة. وفي العالم اليهوديّ، الله أب بسلطته على شعبه ومسؤوليته عن الذين اختارهم (تث 32: 6؛ اش 63: 16؛ إر 3: 4، 19؛ 31: 9؛ ملا 1: 6؛ طو 13: 4؛ 3 مك 5: 7). وهناك فكرة تقول إن الله هو أبو الأتقياء (سي 23: 1، 4؛ حك 2: 16؛ 14: 3). حين أخذ المسيحيّون هذا اللقب في علاقتهم مع الله (أبانا)، تأثّروا بيسوع المسيح (لو 11: 2؛ رج روم 8: 15؛ غل 4: 6). ق 1 كور 1: 3؛ 2 تس 1: 1- 2؛ غل 1: 3- 4؛ أف 1: 2؛ فل 1: 2؛ 1 تس 1: 1، 3؛ 2 تس 1: 1- 2؛ فلم 3. كل هذا يدلّ على أن أبوّة الله دخلت في علاقة المسيحيّين بالله دخولاً واسعاً. «والربّ يسوع المسيح». رج آ 4. أراد الله أن يُشرك المسيحَ الممجّد في سلطته. رج مز 110: 1؛ 1 كور 15: 24- 28.

3- خلاصة لاهوتيّة
هذه المقدّمة التي هي طويلة جداً، تتميّز عمّا نقرأ في بداية الرسائل البولسيّة. الرسمة المعروفة في العالم الهلينيّ نجدها هنا مع المرسِل والمراسلين والتحيّة بما فيها من تمنٍّ. غير أن هذه العناصر تحمل سمات خاصة. وما نلاحظه هو أن الرسول أدرج معترضةً حول «الانجيل» (آ 2- 4) مع عبارة اعتراف إيمانيّ ورثه بولس من الكنائس اليهومسيحيّة. وأخرى حول رسالته (آ 5- 6). إن إدراج هذه القطعة التقليديّة في عنوان الرسالة يُفهَم، إن نحن عرفنا أن بولس يكتب إلى جماعة لم يؤسّسها ولم يَزُرها. لهذا، أبرز الرسول هويّته في إطار من الثقة أعلن فيه أيماناً يشارك فيه جماعةَ رومة.
في آ 1، قدّم بولس نفسه على أنه صاحب الرسالة. هو وحده بدون مرافقيه ولا العاملين معه، بمن فيهم تيموتاوس الذي سيذكره في النهاية. لقد أراد أن يقدّم نفسه شخصياً. فكما في غل، بولس هو وحده المسؤول عمّا سيقول. غير أن وضع غل يختلف عن وضع روم. فهنا ما أراد بولس أن يُصلح الانحرافات، كما فعل في غل، بل قدّم نفسه، كمسؤول عن الرسالة بين الأمم، لجماعة رومة، وهيّأ مجيئه إليهم. هو عبد المسيح يسوع. هذا ما قاله أيضاً عن نفسه في فل 1: 1، فعاد إلى لقب شريف عرفته السبعينيّة في حديثها عن الموظفين الملكيّين، وفي مقابلتها بين العبد وخدمة الله: كان شعب اسرائيل عبد الله. وموسى والأنبياء. وتشرّف بولسُ بهذا اللقب، فربط حياتَه بالمسيح الذي له يخضع وبانجيله يلتزم.
إذا كان بولس أعلن نفسه «عبد» المسيح، فهو ما اختار هذا اللقب اختياراً شخصياً. بل دُعي إليه دعوة خاصة. هي دعوة ملحّة، فيها يؤمر الانسان بأن يتجاوب مع الله، وإلاّ دلّ على عصيانه. شابه الرسولُ الأنبياء (إر 1: 6)، فجاء جوابه بلا تردّد ولا تحفّظ. وهذه الدعوة جعلت من بولس رسولاً، وهو لقب يفتخر به بعد أن رأى المسيح القائم من الموت (1 كور 9: 1)، ويجعله على مستوى المسؤولين في أورشليم. فهو مثلهم رسول ومبشّر بالانجيل. هو مرسل. هو موفَد. هذا يعني أنه يمتلك سلطة، أنه أعطي عوناً من الله يتيح له أن يكرز بالانجيل الذي يدعوه «إنجيلي» بفضل النعمة الالهيّة (1 كور 3: 10؛ 15: 10). كان من الضروريّ أن تتذكّر جماعة رومة هذا الحقّ الذي يسمح لبولس أن يتصرّف الآن تصرّفاً يرفضه بعضُ المسيحيّين الجدد.
ووظيفة بولس كرسول هي نتيجة فرز. وضعه الربّ جانباً، كما توضع الذبيحة التي ستقدّم على المذبح. اختاره من بين «القطيع»، ذاك الذي هو الراعي الصالح. نحن بعيدون عن تمييز بين الطاهر والنجس، وكأن بولس وحده طاهر. بين الدنيويّ والمقدس، وكأن بولس وحده نال روح القداسة. فهو سيقول لنا إن جماعة رومة دُعوا لكي يكونوا قدّيسين. بين من هو الرسول تجاه سائر المسيحيّين. فالجميع مدعوّون لحمل الرسالة، وقد سبق المؤمنون بولس في حمل الرسالة إلى أنطاكية. لا شكّ في أن المؤمن ينفصل، يتكرّس لله، لكي يحيا حياة توافق مشيئته (لا 20: 26). ولكن بولس فُرز، أخذ من بين اليهود، ليحمل الخلاص إلى الوثنيين ويبشّرهم بإنجيل الله.
يُذكر «الانجيل» بدون أن يضاف إليه شيء (1 تس 2: 4؛ روم 1: 16؛ 11: 28). ويتحدّث بولس عن إنجيلي (1 تس 1: 5؛ روم 2: 16). غير أن هذا الانجيل الذي يعتبره بولس انجيله، هو في الواقع انجيل الله، انجيل المسيح. فالله كلّفه به. هذا الاله الذي هو كاتب الانجيل وموضوع الانجيل الذي هو الخبر الطيّب. حين نتحدّث عن «انجيل الله»، نفهم أن الله هو في أساس مهمّة الرسول (غل 1: 1)، وأنه هو الذي ألهم الرسول بما يحمله من تعليم (1 كور 2: 10- 16). ونفهم أيضاً أن هذا التعليم موضوعه الله وعمله الخلاصيّ الذي تحقّق في يسوع المسيح.
وواصل بولس كلامه في آ 2، فبيّن أن الانجيل ليس أمراً جديداً يقلب نظام الله رأساً على عقب. هذا الانجيل هو في الواقع تحقيق لما وعد الله به من قبل، بواسطة أنبيائه في الكتب المقدّسة. فالرسول مقتنع أن ما يكرز به هو «عثار لليهود» (1 كور 1: 23)، لأن العمى سيطر عليهم. فلو أرادوا أن يتركوا نور الله يقودهم، لعرفوا أن يقرأوا في الكتب المقدّسة ما لا يقدرون أن يحتملوه اليوم في الكرازة الرسوليّة. فبولس يتوجّه هنا إلى جماعة جاءت من العالم الوثنيّ. لا كتب مقدّسة لهم. بل كتُب اليهود كتُبهم. إذن، لجأ بولس إلى هذه الكتب مع التقليد المسيحيّ (1 كور 15: 3- 4)، كما إلى أساس عاديّ لإعلان أو وعد. كما إلى كفيل قدّمه الله بواسطة الأقوال النبويّة. أجل، كل ما حقّقه الله ويحقّقه بالمسيح قد تمّ «بحسب الكتب».
فكل شيء يرتبط بشخص المسيح وبعمله (آ 3). بشخص ابن الله. وهذا الابن هو موضوع الاعلان الانجيليّ (غل 1: 16). والرسل يبشّرون بالمسيح، بحياته وأعماله وأقواله. ذاك هو الانجيل الذي يكرزون به. إن هذا الابن يدخل في حياة البشر في خطّ بشريّ وملكيّ. إنه المسيح الداوديّ. فالمسيح هو ابن داود «بحسب الجسد». ارتبط باخوته اليهود على مستوى اللحم والدم. هي ولادة بحسب الطبيعة البشريّة. هذا ما يعرفه المسيحيون في رومة، وإلاّ لما كان ذكرَه بولس.
غير أن الأصل الداودي يبقى المستوى الأدنى. فهناك مستوى آخر (آ 4) يبرّر ارتباطنا بالإيمان بشخص يسوع المسيح. فيسوع هذا، قد أقامه اللهُ ابنَ الله بالقدرة، بحسب روح القداسة. ماذا تضيف هذه البنوّة على سابقتها؟ قد نكون هنا أمام كرستولوجيا بولسيّة تنظر إلى المسيح من وجهة الضعف والموت مع النهاية على الصليب. ولكن في الواقع، الانتماء إلى داود يدلّ على كرامة ستتبعُها كرامةٌ أخرى تسمو على الأولى وتقابلها. تقوم هذه الكرامة بأن يكون يسوع «ابن الله القدير»، في حالة تميّز منذ الآن، ذاك الابن الذي قام من بين الأموات. هذه القدرة دلّت على ابن الله في قيامته، وما جعلت المسيح ابن الله. فهو ابن الله منذ الأزل.
روح القداسة هو الروح القدس. هو الروح المقيم في الدائرة الالهيّة. نشير هنا إلى أن بولس حين يجعل روح الله في علاقة مع المسيح، يعطيه وظيفة بالنسبة إلى المؤمنين: أن يعطيهم الحياة (1 كور 15: 45: روحاً محيياً). ولكن حين نعرف أن «القداسة» هي حياة يُوجَد فيها المؤمنون ويجب أن يظلّوا فيها لكي يتحقّق فيهم مخطّط الفداء (1 تس 3: 13؛ 2 كور 7: 1)، نتردّد في جعل كل شيء يعود إلى المسيح، وننسى التأثير على الذين آمنوا به. فإن نحن عدنا إلى السياق البولسيّ، نعرف أن روح القدوس هو قدرة تقدّس البشر، هو روح مقدّس يعمل لخلاص المسيحيّين، يفعل في ابن الله الذي أقامته القيامة في القدرة. والقداسة الناتجة عن هذا الوضع لا تنحصر في النظام الخلقيّ. إنها حاله تنبع من تكريس، من تقديس، وتتوق إلى هذا التقديس: تقديس الحياة كلها لله من أجل عبادة روحيّة أساسها الطاعة والحبّ.
بدأ الوضعُ الجديد والحالي للمسيح بقيامة الموتى، ومنذ هذه القيامة. هي قيامته أولاً على المستوى الزمني (منذ). وعلى مستوى الواسطة. فحين أقام الله يسوع، أقامه ابن الله في القدرة. ويسوع هو الربّ حسب تقليد مسيحيّ. مارانا تا: تعال، أيها الربّ يسوع (1 كور 16: 22؛ رؤ 22: 20). واعلان الإيمان الذي نقرأه في فل 2: 11 يحتفل بيسوع على أنه «الربّ». إن يسوع هو «ربنا» نحن المسيحيّين. هو سيّد وجودنا وحياتنا، ونحن نُعلن نفوسنا «عبيداً» له (1 كو 72: 22)، مع الرسل، من أجل نوال الخلاص من يده.
بعد أن عاد بولس إلى اعتراف قديم في المسيحيّية الأولى (آ 5)، استعاد مجرى الرسالة: بيسوع نلنا النعمة. جعل بولس نفسه مع جماعة رومة. كلهم نالوا نعمة الرسالة، أنعِم عليهم بأن يكونوا مرسلين. فنعمةُ الفداء لا تنفصل عن مسؤوليّة الرسالة التي لا ترتبط بمبادرة بشريّة ولا باستحقاق من قبل المدعو (1 كور 15: 10). ورافقت «طاعة الإيمان» هذه النعمةُ الرسوليّة. نسمع لنعمل ونطيع. أما الإيمان فهو فعل به يتعلّق الانسان بالتعليم الانجيليّ. إنه جواب على كلمة الله (9: 6) كما نقلها الرسل. وهذا الجواب للانجيل الذي كُرِز به يتضمّن خضوعاً نعبّر به في عقلنا وفي حياتنا. وهكذا نعبّر عن طاعتنا بإيماننا.
تتوخّى رسالة بولس أن يتجاوب المؤمنون «بين الأمم» مع هذه الدعوة. في مخطط الله الذي يتصوّره بولس «سراً»، نجد مرحلتين قبل النهاية القريبة للعالم الآتي: دخول «ملء الأمم» في جماعة المخلّصين، ثم خلاص كل اسرائيل (11: 26). هو ما قال إن جميع الأمم، فرداً فرداً، سيتجاوبون بالإيمان مع الكرازة الرسوليّة. بل إن عدد المختارين بين الأمم سيكون كاملاً. يبقى أن جميع الأمم يجب أن تكون موضوع تبشير. كما عرف بولس أنه كلّف بمثل هذه المهمّة في هذا الاتجاه (1: 13)، واقتنع أنه عمل الكثيرَ (15: 19). وإذ عمل ما عمل، فقد عمل في الماضي وما زال يعمل، لا من أجل مجده الخاص أو تقدُّمه، بل من أجل كرامة اسم المسيح، من أجل مجده ومجد الله (15: 9؛ فل 2: 11).
ونعرف في آ 6 أن جماعة رومة تألّفت من الأمم. هي جزء من هؤلاء الأمم الذين كانوا موضوع نداء توخّى أن يجعل منهم «مؤمني يسوع المسيح». وجاء هذا النداء بواسطة بشر، بواسطة الرسل. ومع ذلك، هو نداء إلهي كذاك الذي أمرَ الخليقةَ فكانت. هو نداء فاعل (4: 17) شرط أن يجيب المدعو بفعل الإيمان، بعون الله (1 تس 5: 24).
وقرّاء الرسالة (آ 7) هم أحبّاء الله الذين في رومة. جميعهم إلى أية فئة انتموا. في آ 8، سيقول بولس: «من أجلكم جميعاً». وفي 15: 33: «إله السلام معكم أجمعين». فهناك توتّرات وانقسامات في رومة. وبولس لا يقف مع فئة ضد فئة. بل يوجّه كلامه إلى كل فئات المسيحيّين. هؤلاء المؤمنون هم أحبّاء الله، لا بسبب استحقاقاتهم وأعمالهم الصالحة، بل لأن الله أظهر حبّه، قبل أي محاولة بشريّة، فخلّص البشريّة بيسوع المسيح (8: 37- 39). وكانت نتيجة هذا الحبّ اختياراً يُذكر هنا للمرة الثالثة. دعوة الله هي التي تخلق «القديسين». هذا يعني أنهم إن أرادوا أن يحقّقوا دعوتهم إلى القداسة، وجب عليهم أن يكرّسوا حياتهم لهذا الاله الذي وهبهم كلَّ شيء حين وهبهم ابنه.
ماذا تمنّى الرسول لهؤلاء المؤمنين؟ النعمة والسلام. رضى الله وحظوته. عطاؤه وملء بركاته. هو وضع جديد من علاقة الانسان بالله، تدّشن بالمسيح فتميّز عن نظام الشريعة الموسويّة (6: 14). هي مجانية خلاص جذريّة لا تهتمّ كثيراً بالأعمال البشرية. تخلّصَ المسيحيّ من حالة حرب حين غفر الله له وبرّره، وتلك هي النعمة الكبرى التي ترافق السلام. تمنّى الرسول، وصلّى من أجل جماعة رومة. فكل شيء يأتينا من لدن الآب بواسطة الابن. أو هو يكون عطيّة الآب والابن.

خاتمة
هكذا بدأ بولس رسالته إلى رومة فدلّ على الرباط الذي يوحّد بين المرسل والقرّاء. فبولس تسلّم رسالة من القائم من بين الأموات، وهو يعتبر نفسه مسؤولاً بشكل خاص عن الأمم. ومنهم جماعة رومة. فإن وصل الانجيل إلى اليهود وحدهم، صار سفراً من أسفارهم المقدّسة. بل هو يجب أن يصل إلى العالم كله، وهذا ما وعاه بولس الذي بدأ البشارة في الشرق ومدّها إلى الغرب، فأراد أن يوصلها إلى اسبانية، إلى نهاية العالم المعروف آنذاك، إلى مضيق هرقل أو جبل طارق. وبولس هو الشاهد الذي يلتزم شخصياً برسالته، فيكتب ويعلّم ويكرز ويحثّ ويأمر ويهدّد. وهو لا يرتبط بحضارة، ولا بنسل، ولا بسلطة بشريّة. كما لا يرتبط بكنيسة ولو كانت كنيسة أورشليم. الشيء الوحيد الذي يريد أن يقوله الآن هو أنه عبد يسوع المسيح. وهو رسول يحمل كلمة الخلاص بذاك الذي هو انسان وابن داود، وهو الله وابن الله الذي ظهرت قدرته بقيامته. والإيمان الذي يعلنه الرسول هو إيمان جماعة رومة. وكما دُعيَ على طريق دمشق، دُعوا هم أيضاً ليكونوا قدّيسين. من أجل هذا أراد بولس أن يزورهم ليُفيدهم ويستفيد منهم، وليتعزّى الجميع بالإيمان الذي يشارك فيه الرسول مؤمني رومة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM