الفصل الأول: خلفيّة الرسالة وتصميمها

 

الفصل الأول
خلفيّة الرسالة وتصميمها

جاءت رسالة بولس إلى رومة أطول رسائل بولس. صاغها بشكلٍ نضجَ عنده موضوعُ البرّ والإيمان، فتجاوز ما كتب في الرسالة إلى غلاطية. رسالة دوّنت سنة 55- 56 أو سنة 57- 58، وأرسلت من كورنتوس إلى أحبّاء الله في رومة، إلى مؤمنين هم أحبّاء الله. ما بشّرهم بولس ولا زارهم. ولكن له عدداً من الأصدقاء بينهم. وفي أي حال، هو رسول الأمم. ورومة عاصمة الأمم. فإن تأخر بولس في المجيء إليهم ليكلِّمهم وجهاً لوجه، فهو يكتب إليهم رغم الانقسامات الحاضرة في جماعاتهم، بين الأقوياء والضعفاء. بين أكثريّة آتية من العالم الوثنيّ ومتحرّرة من عدد من الممارسات. وأقليّة آتية من العالم اليهود ومتعلّقة بالختان والأطعمة التي تسمح الشريعة بأكلها.
فما هي خلفيّة هذه الرسالة، وما هي أقسامها؟

1- خلفيّة الرسالة إلى رومة
نطرح هنا سؤالين أساسيين. وضعُ حياة بولس. ثم تاريخ جماعة رومة.
أ- وضع حياة بولس
كتب بولس من كنخرية الذي هو مرفأ كورنتوس، أو من مكان قريب، لأنه يوصّي المراسلين بفيبة، شماسة هذه المدينة (16: 1- 2). ويرسل أيضاً سلامات غايوس الذي هو مضيفه ومضيف «الكنيسة كلها» من حيث يكتب. وقد وُجد في كورنتوس شخص معروف اسمه غايوس (16: 23؛ 1 كور 1: 14). وحين دوّن بولس رسالته، كان يستعدّ لأن يحمل ثمر التبرّع إلى أورشليم (15: 26- 33). قضى بولس شتاء 57- 58 (الكرونولوجيا التقليدية) في كورنتوس، ثم عاد عبر مكدونية وآسية وقيصرية، إلى أورشليم حيث أوقف (أع 20: 2- 21: 15). وهكذا توافق الشرّاح على القول بأن بولس كتب إلى الرومانيّين من كورنتوس.
ب- جماعة رومة
بعد الكلام عن حياة بولس من أجل سياق الرسالة، هو كلام عن مراسلي بولس. يرى بعضهم أن تاريخ المسيحيّة في رومة خلفيّةٌ لا فائدة منها: فبولس لم يكن مؤسّس الجماعة المسيحيّة في رومة، ساعة كان بالنسبة إلى الكورنثيين الأب (1 كور 4: 15)، فاستطاع أن يُصلحهم بشدّة. أما مع الرومانيّين فكان دقيقاً جداً، بل اعتذر لأنه كتب إليهم بجرأة (15: 15). وافترض هؤلاء الشرّاحُ أن الرسول لم يكن يعرف الكثير عن رومة. أنه يعطي في رسالته موجزاً تعليمياً رائعاً عن لاهوته، وعن فكره العام المؤسَّس على خبرات سابقة، ولكنه لا يعالج معالجة العارف، مسائلَ تهمّ بشكل مباشر مسيحيّي رومة. هذه النظرة ترتبط مراراً بقول يعلن أن ف 16 الذي يتضمّن تحيّات بولس إلى 26 شخصاً، لا ينتمي إلى الرسالة، وبالتالي لا يتوجّه إلى مسيحيّين عرفهم بولس في رومة. في الواقع، إذا كان ف 16 يخصّ روم (وهذا رأي أكثريّة الشرّاح)، وإن كان بولس عرف مثل هذا العدد من الناس في رومة، فهذا يعني أنه عرف بعض الشيء عن الكنيسة الرومانيّة.
لهذا، كانت المقاربة إلى الأصول المسيحيّة في رومة، عاصمة الامبراطوريّة، وإلى طبيعة الكنيسة الرومانيّة، خلفيّةً هامّة جداً. كان في رومة قرابة أربعين أو خمسين ألفاً من اليهود في القرن الأول المسيحيّ. وانطلاقاً من إشارات تعود إلى القرن الثاني، جاء العدد الكبير منهم من فلسطين ولبنان وسورية كتجّار أو مهاجرين أو أسرى. وكانت علاقات سياسيّة وثيقة مدّة قرنين من الزمن، لأن رومة كانت تراقب عن كثب الممالك الخاضعة لها في فلسطين، ولأن الأمراء الهيروديين كانوا يرسَلون إليها لكي يتربّوا تربية تهيّئهم لتسلّم الحكم. بعد سقوط أورشليم، سنة 70، قضى المؤرّخ اليهودي يوسيفوس حياته في رومة، في حمى الأباطرة الفلافيين. وفي السبعينات، جاء تيطس، الامبراطور العتيد، إلى رومة، بالملك اليهوديّ أغريبا الثاني، وتعلّق قلبه بأخته برنيقة.
هذا الخبر عن الحضور اليهوديّ، يُفهمنا أن اليهود لم يتأخّروا في الإيمان بيسوع وفي حمل الرسالة في مدن الامبراطوريّة مثل دمشق وأنطاكية، ففتحوا طريقاً رساليّة واسعة وصلت بهم إلى رومة. ولكن متى وصلت إلى رومة الكلمة الأولى عن المسيح؟ نعود إلى الوراء لكي نقدّم الجواب. نقرأ في خبر تاقيتس (الحوليات 15: 44) عن اضطهاد نيرون بعد حريق سنة 64، أنه كان بالامكان التمييز، في رومة، بين المسيحيين واليهود. فالمسيحيّون كانوا عديدين. وهذه الخرافة البغيضة (= المسيحيّة) وُلدت في اليهوديّة. هذا ما يفترض أن المسيحيّة وصلت إلى رومة، آتية من اليهوديّة. ورسالة بولس، سنة 57- 58، تفترض أن الجماعة المسيحيّة وُجدت منذ زمن بعيد، حيث قال إنه تمنّى أن يزورها «منذ سنوات» (15: 23). ثم هو قال للرومان: «إيمانكم يُشادُ به في العالم كله» (1: 8). مثلُ هذا المديح لا معنى له إن كان بولس يكتب إلى جماعة صغيرة تأسّست منذ زمن قريب.
إذن، يبدو أن الجماعة المسيحيّة في رومة وُجدت في بداية الخمسينات. ويورد أع 18: 1- 3 أن بولس، حين جاء إلى كورنتوس (حوالي سنة 50)، أقام عند أكيلا وبرسكلة اللذين جاءا حديثاً من إيطالية «لأن كلوديوس كان قد أمر جميع اليهود بالخروج من رومة». وبما أنه لم يُذكر مرّة واحدة أن بولس هو الذي هداهما، فقد وصل هذان الزوجان من رومة، وهما يؤمنان بيسوع. وأعلن سواتانيوس (كلوديوس 25: 4) أن كلوديوس «طرد اليهود من رومة بسبب قلاقل متواصلة حرّكهما ''خرستوس'' (أي المسيح)». هذا الطرد يعني أنه، حوالي سنة 49، كانت الرسالة المسيحيّة حاضرة في رومة منذ زمان بعيد، لكي تخلق احتكاكات وصدامات في المجامع اليهوديّة. قبل ذلك الوقت، لا نجد إشارات متينة (إن أع 2: 10 يذكر يهود رومة بين الذين سمعوا كلاماً عن يسوع في العنصرة الأولى)، حول انتشار الانجيل. ولكن يبدو أن المسيحيّة بلغت إلى رومة منذ بداية الأربعينات.
من أين جاء هؤلاء الوعّاظ المسيحيّون؟ سنة 375، أقام امبروسياستر (فسَّر رسائل القديس بولس تفسيراً نُسب إلى امبروسيوس) في رومة، وكتب تفسير روم فقال: إن الرومان «تقبّلوا الإيمان حسب طقس يهوديّ». لم يكن بولس مضى إلى رومة. ولا كان كلام في سفر الأعمال عن رسالة بعثت بها أنطاكية إلى رومة. في الحقيقة، ينبوعُ الرسالة إلى رومة كان أورشليم. ويروي أع 28: 21 أن يهود رومة عرفوا المعلومات اليهوديّة عبر قنوات انطلقت من أورشليم. وهذا ما تؤكده وثائق يهوديّة تتحدّث عن أشخاص عاشوا في نهاية القرن الأول المسيحيّ.
لماذا يبدو كلّ هذا مهماً من أجل فهم روم؟ هناك أهميتان اثنتان، لا أهمّية واحدة، ان اعتبرنا ف 16 جزءاً لا يتجزّأ من الرسالة. الأهميّة الأولى: عرف بولس عدداً كبيراً جداً من مسيحيّي رومة، فدوّن رسالتَه متوجّهاً إلى هذه الجماعة بالكلام الرعائيّ. إن أع وغل يشيران إلى أن المسيحيّة التي خرجت من رومة كانت محافظة بالنسبة إلى الإرث اليهوديّ والشريعة، أكثر من الأمم الذين هداهم بولس. هنا يعتبر عددٌ من الشرّاح أنه حين طرد الامبراطورُ كلوديوس اليهومسيحيّين من رومة، صارت الأكثريّة في الجماعة الرومانيّة من «الأمم». ولكن هؤلاء الأمم عكسوا مسيحيّة حملها إليهم اليهود. ثم إن بعض اليهومسيحيين عادوا إلى رومة بعد موت كلوديوس سنة 54. هذا ا يشرح المناخ اليهوديّ الذي دُوّنت فيه روم.
نشير هنا إلى أن روم متنبّهة إلى الارث اليهوديّ أكثر من غل. وهذا لا نكتشفه فقط بسبب وجود ف 9- 11، بل حين نقابل مقطعاً من روم مع مقطع من غل. وهذا ما حدا ببعض الشرّاح إلى أن يعتبر روم أول تفسير لما في غل. وإن كانت غل الشرعة الكبرى المسيحيّة الشاملة، فإن روم دستورها. هذا يعني أن أصداء غل وصلت إلى أورشليم، فأثّرت على أمل بولس بأن يُستقبل هناك استقبالاً طيّباً. مثلاً، كتب بولس في غل 5: 2: «إن اختُتنتم لا ينفعكم المسيحُ شيئاً». أما روم 3: 1- 2، فتساءلت: «ما نفعُ الختان»؟ وأجابت: « إنه جزيل على كل وجه». هذا لا يعني أن فكر بولس غير متماسك. فالوضع في غل 3 يختلف عمّا في رومة، حيث الخصوم يدعون إلى انجيل يقاوم الانجيل، انجيل يفرض الختان على الأمم (في روم 16: 17 نقرأ: «أوصيكم بأن تحترسوا من الذين يحدثون الشقاقات والمعاثر خلافاً للتعليم الذي تعلّمتموه». هل هذا يعني أنهم حاضرون؟!).
وتبدو روم رسالة «ليتورجيّة» فتختلف مثلاً عن 1 كور، 2 كور، غل، إذ هي تستعمل لغة العبادة في العالم اليهوديّ. مثلاً المسيح هو أداة تكفير (3: 25). ونقرأ في 12: 1 أن على المسيحيّ أن يقدّم نفسه ذبيحة حيّة. أما رسالة بولس فهي بأن يكون خادماً (كما في المعبد) للمسيح، وأن يقوم بخدمة انجيل الله (15: 16). ربّما تكون هذه التعابير قد استُعملت من أجل قرّاء يراعون ليتورجيّة الهيكل في أورشليم.
والأهميّة الثانية: خطّط بولس للذهاب إلى أورشليم. فإن كانت مسيحيّة رومة متأصّلة في أورشليم، فرسالةٌ تُقنع جماعة رومة قد تسبّق على ما يمكن أن يقوله في أورشليم، وتُقنع الرومان بأن يتدخّلوا من أجله لدى سلطات المدينة المقدّسة.
واعتبر بعضهم روم وكأنها وصيّة بولس الأخيرة. قد يعني هذا أنها آخر رسالة لا جدال فيها من الرسائل التي دوّنها بولس. هي «الأخيرة» بالصدفة. ولكن قد يعني هذا بالأحرى أنها ستكون البلاغ الأخير، لا سيّما وأن بولس يتطلّع للذهاب إلى رومة. لقد كان قلقاً بسبب التبرّعات التي جمعها لدى «الأمم» وأراد أن يحملها إلى رومة. فإن رُفضت التبرعات، انقطعت الشركة بين الجماعات البولسيّة وأورشليم. وهذا يعني أن بولس يصبح شخصاً غير مرغوب فيه في أماكن عديدة بما فيها رومة. وقد يكون كتب روم، لكي يعرف مسيحيّو هذه الكنيسة، صاحبةِ التأثير الكبير، الحقيقة بالنسبة إلى انجيل استعدّ الرسول أن يعطي حياته لأجله. هي وصيّته التي تحمل نظرته البعيدة إلى الرسالة، وإلى العلاقة بين أورشليم، وسائر الكنائس، وبين العنصر اليهوديّ والعنصر الأمميّ. هذا ما استخلصه بعضهم من 15: 22- 32.
أيكون بولس قد أحسّ بشيء فتوجّس شراً من ذهابه إلى أورشليم؟ مهما يكن من أمر، فإن بولس تطلع إلى سفره القريب إلى أورشليم مع مال التبرّعات، على أنه محطّة جوهريّة في مهمّته الرسوليّة. وقد قرّر أن يرسل إلى الجماعات الكنسيّة في رومة عرضاً تاماً عن إنجيله. وقد يكون أملَ أن هذا الانجيل، مع ما ينتج عنه لليهود وللأمم، سيشفي الاحتكاكات في جماعة رومة حيث امتزجت الفئتان.
في النهاية، هناك عناصر فكر عديدة في روم، تتجاوز العشرة. هذه الرسالة هي، في شكل من الأشكال، موجز لفكر بولس الذي أراد أن يجمع أفكاره قبل أن يمضي إلى أورشليم ويدافع عن هذه الأفكار. ولكن لماذا أرسل هذا الموجز إلى رومة؟ لأسباب عديدة. في ذلك الوقت من حياته، أنهى بولس مهمّته في شرقيّ البحر المتوسط، وترجّى أن يُطلق رسالة كبيرة في الغرب، في اسبانية. وستكون رومة نقطة انطلاق هامة من أجل هذه المهمّة، كما كانت أنطاكية بالنسبة إلى آسية، وفيلبي بالنسبة إلى أوروبا. في 16: 1- 2، طلب بولس مساعدة رومة لفيبة، حاملة الرسالة. فهي ستُعدّ الرسالة مع أكيلا وبرسكلة، والثلاثة رافقوا بولس في نشاطه الرسوليّ شرقيّ المتوسط.
من أجل هذا كتب بولس ليجعل الرومانيين يفهمون خدمته الرسوليّة خدمة صحيحة، بحيث تكون روم رسالة توصية لبولس، كما تكون من أجل إنجيله. وإذا توقّفنا عند المستوى الرعائيّ، فشرحٌ معمّق لأفكار بولس سوف يحسّن العلاقات بين مسيحيّين مختلفين، بين أقوياء وضعفاء، وذلك بحسب مسؤوليّة بولس الرسوليّة لدى الأمم. ثم، إذا كان مسيحيّو رومة قد اقتنعوا بأن بولس ليس ضدّ العالم اليهوديّ، فقد يكونون وسطاء مع يهود أورشليم بحيث يهيّئون الوضع هناك فتتقبّله السلطات استقبالاً حسناً. إذن، وجب على روم أن تقنع على أكثر من جبهة، وهذا ما يُفهمنا لماذا استعمل بولس أسلوب الجدال، على طريقة الفلاسفة اليونان الذين اعتادوا أن يقدّموا طرحهم ويردوا على اعتراضات سمعوها أو عبّروا عنها وكأن شخصاً يقف أمامهم.

2- أقسام الرسالة إلى رومة
بين مقدّمة (1: 1- 17) وخاتمة (15: 14- 16: 27)، نتعر ف إلى جسم الرسالة الذي يتألّف من قسم عقائديّ وقسم إرشاديّ.
أ- المقدّمة (1: 1- 17)
نقرأ أولاً عبارة تفتح الرسالة (1: 1- 7) يتبعها فعلُ الشكر (1: 8- 10) والمدخل إلى الرسالة مع الموضوع الرئيسيّ (1: 11- 17). أجزاء ثلاثة نعالجها معاً، لأن وجهاتها تتداخل، كما أن المدخل يفتح الطريق أمام جسم الرسالة. ما استعمل بولس عبارة «كنيسة الله التي في رومة» ولا «كنائس رومة» (رج 1 كور 1: 2؛ 2 كور 1: 1؛ غل 1: 2؛ 1 تس 1: 1)، ففُسّر عدمُ الاستعمال هذا بشكل سلبيّ. فمع أن بولس رغب أن يُحيّي كنيسة تجتمع في البيت، في رومة (16: 5)، افترض البعض، بسبب لاهوته، أنه لم يعتبر جماعةَ رومة كنيسةً حقيقيّة لأنه لم يؤسّسها. مثل هذا الكلام لا يصحّ: فبولس لا يقدر أن يكون قليل التنبّه إلى هذا الحدّ في رسالة تتوخّى خطب ودّ الرومانيّين. ثم كيف يستعمل الرسول عبارة «جميع أحبّاء الله الذين في رومة» (1: 7) حين يكون أمام مجموعة لا يعتبرها كنيسة. ونتذكّر أن الرسول حين كتب إلى فيلبي، إلى كنيسة أسّسها وأحبّها، لم يستعمل لفظ «كنيسة». وهكذا نفهم أن عدم وجود لفظ «كنيسة» في بداية روم، لا يمكن أن يفسَّر كما فسّره بعضُ الشرّاح.
في آ 8، شكر بولس الله على إيمان مسيحيّي رومة، الذي عُرف في العالم كلّه. نلاحظ هذا المديح الكبير مع العلم أن بولس لم يرهم أبداً (آ 11- 51)، وإن هو تمنّى منذ زمان بعيد أن يزورهم. في هذا السياق، تبدو هذه التحيّة الأوسع في رسائل بولس، لافتةً بالطريقة التي بها يقدّم بولس نفسه إلى الرومانيّين. كما أنه يورد عدداً من الألفاظ اللاهوتيّة التي صاغها المسيحيّون الأوّلون: المسيح، رسول، انجيل، ابن الله، الكتب المقدّسة، روح القداسة. أورد بولس اسمه فقط، وما ذكر أحداً معه. وأعلن أنه دُعي ليكون رسولاً، فُرز لإعلان انجيل الله (1: 1). وأوضح أن هذا الانجيل يعني الابنَ الذي وُلد من نسل داود بحسب الجسد، وأقيم ابن الله بالقدرة، حسب روح القداسة، بالقيامة من بين الأموات (1: 3- 4). يرى النقّاد هنا أن بولس لا يستعمل لغة من عنده، بل عبارة يهومسيحيّة ترتبط بالانجيل (استعمل بولس هنا «روح القداسة» وهو الذي اعتاد أن يذكر «الروح القدس». ثم لم يذكر بولس الصلب ولا الموت. رج 4: 25. وقال امبروسياستر: قبلَ بولس لم يُعرض سرّ الصليب على الرومانيّين). عرفها مسيحيّو رومة وردّدوها. قد يكون بعضهم نقل انجيل بولس، حسب رغبته، وشوّهه، لهذا دافع الرسول عن نفسه منذ البداية وبيّن أن ما يكرز به يقابل كرازة الذين بشّروا الرومان بالانجيل. وهكذا يستطيع هو والرومان أن يتبادلوا التشجيع منطلقين من الإيمان الواحد (1: 12). وبالتالي أراد بولس أن يزور رومة ليحمل الانجيل الذي يكرز به.
هذا الانجيل هو قدرة الله لخلاص كل مؤمن (آ 16- 17): اليهوديّ أوّلاً ثم الأمميّ. نشير أولاً إلى أن الخلاص، في الرسائل البولسيّة، هو وجهة مقبلة، اسكاتولوجيّة، لعمل الله الذي فيه يلعب دوراً كبيراً المسيحُ الذي يشفع في السماوات. رأى اليهود في هذه النظرة معارَضةً لإطار العهد القديم، حيث الله يخلِّص، ينجّي شعب اسرائيل. والأمم سمعوا فيها صدى لملك (أو امبراطور) «مخلّص»، بمعنى أنه يحمي من الشرّ أمّة أو مدينة. اعتاد بولس أن يميّز بين الخلاص والتبرير الذي هو واقع حاضر. أما هنا وفي أف فقد ضمّ الخلاص إلى التبرير. كما نشير ثانياً إلى كلامٍ سيفرض الصمت على كل من ظنّ أن بولس قلّل من أهميّة المؤمنين اليهود. أما الموضوع الرئيسيّ فهو: بر الله قد كُشف الآن. فالله في حكمه يبرّر جميع البشر من خطاياهم، بفضل إيمانهم بيسوع المسيح حسب كلام حبقوق النبي (2: 4): «البار بالإيمان يحيا».
ب- جسم الرسالة (1: 18- 15: 13)
أولاً: القسم العقائدي (1: 18- 11: 36)
* الجزء الأول: برّ الله يكشفه الانجيل (1: 16- 4: 25)
بدأ الرسولُ وطرح السؤال: ما علاقة البشر مع الله قبل مجيء إنجيل المسيح؟ توجّه بولس أولاً إلى «الأمم» في هذه الرسالة المرسلة إلى المسيحيّين في عاصمة العالم الرومانيّ (1: 18- 23)، فشرح لهم أن البشرية كان باستطاعتها أن تعرف الاله العادل منذ خلق العالم. وانطلق الشرّاح من هذا المقطع فتساءلوا: هل أخذ بولس باللاهوت الطبيعيّ (الذي لا يرتبط بالوحي في الكتب المقدّسة) كما توسّع فيه آباء الكنيسة واللاهوتيّون فيما بعد؟ أما البيبليّون المعاصرون، فتوقّفوا عند اللاهوت الاسكاتولوجيّ البولسيّ، حيث يصعب التشديد على العقل البشريّ وما يتبعه من «براهين فلسفيّة». في الواقع جاء كلام بولس صدى لفكر يهوديّ هلنستيّ (مطبوع بالطابع اليونانيّ) حول الأمم، في خط حك 13: 8- 9: «مع ذلك فلا عذر لهم (لا مغفرة لهم)، لأنهم إن كانوا من العلم على قدر كافٍ لمعرفة طبيعة (أو: وحدة) الكون، فكيف قصّروا عن معرفة رب الكون»! إن بولس لا يتحدّث عن وحي طبيعي يشبه الوحي في يسوع المسيح. بل يتكلّم عمّا كشفه الله من قدرته الأزليّة في الخليقة الماديّة، فجهله الوثنيّون.
كان بالامكان أن تكون الصورةُ واضحة، ولكن خطيئة البشر وبلادتهم بلبلتا صورة الله في العالم الوثني. لهذا حلّ غضبُ الله. وجاء وصفٌ قاسٍ لعبادات الوثنيين ولفجورهم وللسلوك المنحط الذي وصل بهم إلى هذا الدرك (1: 24- 32)، فعكس سلم القيم اليهوديّة عند بولس. لا نستطيع بعدُ أن نعود إلى حك 14: 17- 31 مع الحكم على زنى الذكر مع الذكر. هذه الخطيئة هي شر الخطايا، وتدلّ كيف أنها تبلبل النظام الذي وضعه الله (يهو 7). وإذ وصف الرسول هؤلاء «الأمم» في بداية روم، فقد يكون استقى الفكرة من التمثّل اليهوديّ للعالم الهلنستيّ حيث تربّى تربيَته في طرسوس. غير أنه في 2: 1 وفي أسلوب يشبه الجدل الرواقيّ، تحدّث إلى سامع يهوديّ تخيّله أمامه ورآه يدين الآخرين، وفي الوقت عينه يتصرّف مثلهم. الله لا يحابي أحداً ولا يفضّل اليهوديّ على الأمميّ: فالحياة الأبديّة تُعطى أو العقاب، بحسب ما يكون الناس قد فعلوا. اليهود، أولاً، يدانون بحسب الشريعة. ثم الأمم الذين يدانون حسب الفطرة وما كُتب في قلوبهم وفي ضمائرهم (2: 5- 16).
في مقطع لافت (2: 17- 24)، يهزأ بولس من اعتداد اليهوديّ الذي يقيم نفسه متفوِّقاً. هو لا ينكر أن يكون للختان بعض قيمة (في موضع آخر رفض بولس أن يُختَتن الأمم. أما هنا فهو يتكلّم عن اليهود) شرط أن تمارَس الشريعة. في الحقيقة، اللامختون الذي يُتمّ متطلّبات الشريعة، يحكم على المختون الذي يتجاوزها (2: 25- 29). فجميع البشر مذنبون أمام الله. فما هو فضل اليهوديّ المختون، إن كان هو أيضاً عرضة لعقاب الله (3: 1- 9)، وإن لم يكن هناك بار ولا واحد (هنا ترد نصوص الأسفار المقدّسة بشكل استشهادات)؟ وفي 3: 1- 2: 6، قدّم بولس الجواب: الله أعطى اليهود كلمات الوعد، وهو أمين. ثم صوّر الرسول ما وُعد به في الشريعة والأنبياء وصُوّر مسبقاً، أي برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح، الذي يبرّر ولا يميّز اليهوديّ عن اليونانيّ. وهكذا تبرّر الله تبريراً: ليس الله بجائر، لأن دم المسيح كفَّر عن خطايا الجميع. فلا يحقّ لأحد أن يفتخر، لأن الله برّر مجاناً المختون واللامختون، بالطريقة عينها، أي بالإيمان دون ممارسة أعمال تفرضها الشريعة الموسويّة (3: 27- 31).
أورد بولسُ هنا الشريعة والأنبياء، وفي ف 4، عاد إلى أول سفر من أسفار الشريعة، فتحدّث عن ابراهيم لكي يدلّ على أن الله يتصرّف بشكل متماسك. لأن برّ ابراهيم جاء بالإيمان لا بالشريعة، كانوا يستشهدون بابراهيم (كما في غل) للتشديد على ضرورة الختان من أجل الخلاص. أما هنا، فصار مثَلُ ابراهيم عنصراً يساعد على فهم مخطّط الله. فقد اعتبر اليهود، في زمن بولس، أن ابراهيم هو أبوهم. ولكن بالنسبة إلى بولس، هو أبونا جميعاً، نحن الذين نقاسمه إيمانه (4: 16، قال بولس في 4: 15: الشريعة تسبّب الغضب، وحيث لا شريعة لا معصية). ونصل إلى نهاية هذا الجزء الأول مع عرض موجز لطرح بولس: خبرُ البرّ الذي نُسب إلى ابراهيم، قد كُتب لنا نحن الذين نؤمن بالربّ يسوع «الذي أُسلم عن زلاّتنا وأقيم من أجل تبريرنا» (4: 25). إذا كان هذا العمل الخلاصي يترك أثره في الأفراد، إلاّ أن بولس يتطلّع إلى المؤمنين الذين ارتبطوا بعضهم ببعض في مجموعة، في جماعة دينيّة، في كنيسة، على مثال بني اسرائيل الذين كانوا شعباً.
* الجزء الثاني: مصالحة مع الله في المسيح (5: 1- 8 : 39)
بما أننا تبرّرنا بالمسيح، فقد صرنا الآن مصالَحين مع الله. وهذا يتضمّن أكثر من إفادة: السلام مع الله. رجاء المشاركة في مجد الله. فيض روح الله (5: 1- 5). ووصفُ الطريقة التي بها يُتمّ موتُ المسيح التبريرَ والخلاص والمصالحة (5: 6- 11)، يتضمّن أحد الشروح الكبرى في العهد الجديد لما يشمله حبّ الله: استعداد لأن يموت عن خطيئة الذين لا يستحقّون مثل هذه الرحمة. فبعد أن استعمل بولسُ خبر ابراهيم كمثل عن التبرير بالإيمان، في تاريخ اسرائيل، قابل الآن ما تمّ بالمسيح مع حالة البشر الذين خرجوا من آدم: نعمة وحياة مقابل الخطيئة والموت. وفي نظر بولس، ليس الموت وقْفَ الحياة، بل هو نفيُ الحياة لأنه يرتبط بالخطيئة. وكما أن موت آدم قاد الجميع إلى الدينونة والحكم، ففعلُ طاعة المسيح البار قاد الجميع إلى التبرير والحياة. هذا المقطع (5: 12- 21) ولّد لاهوت الخطيئة الأصليّة.
في 6: 1- 11، شرح بولس أن ما حصل هنا هو نتيجة المعموديّة: هو أوسع عرض عن هذا الموضوع في رسائله، وإن لم يحلّل العلاقة الدقيقة بين العماد والإيمان في عمل الله. فالانسانُ القديم فينا، قد صُلب مع المسيح. تعمّدنا في موته، ودُفنّا معه، بحيث نستطيع أن نسلك في حياة جديدة، كما هو قام من بين الأموات. غير أن الخطيئة التي صارت شخصاً حياً عند بولس، تبقى قوّة ناشطة، وإن كنا منذ الآن تحت حكم النعمة لا تحت حكم الشريعة. وحذّرنا 6: 12- 23 من عبوديّة الخطيئة. ظنَّ بعضُهم أن بولس يستعمل هنا كرازته العماديّة السابقة لكي يحمي نفسه من كل اتّهام بأن يترك العنان للفلتان، بسبب انجيله حول البرّ الذي تحرّرَ من الشريعة. فسَّر بعضُهم لاهوت العماد في إطار حفلات التنشئة في الديانات السرانيّة. ولكن هذا اللاهوت يجب بالأحرى أن يرتبط بالطريقة التي بها شبّه يسوع موته بمعموديّة سيعتمد بها (مر 10: 38- 39). وتحدّث غل 2: 19- 30 عن موت وحياة في المسيح دون عودة إلى العماد.
في ف 7، عاد بولس إلى موضوع الشريعة الموسويّة. أما المبدأ الأساسيّ فهو أن موت المسيح ألغى سلطة الشريعة وما فيها من إكراه. لا شكّ في أن الشريعة ليست خطيئة، ولكن هذه الشريعة تحرّك الرغبات الخاطئة: «ما عرفت الخطيئة إلاّ بالشريعة» (7: 5، 7). والحوار الشخصيّ مع صيغة المتكلّم المفرد (أنا) الذي نقرأه في 7: 7- 25 هو من المقاطع البلاغيّة المؤثّرة في روم: «لا أفهم ما أصنع: فلا أصنع ما أريد، بل أصنع ما أكره... أُسَرّ في شريعة الله من جهة الانسان الباطني. ولكني أرى في أعضائي شريعة أخرى تحارب شريعة عقلي». هنا يفكّر بولس في صراعه لممارسة الشريعة قبل أن يهتدي إلى المسيحيّة. أنا أنتمي لبشريّة خاطئة. ولكن الخلاص لا يأتي بالشريعة، بل بالإيمان بيسوع المسيح، بإله رحيم.
إن كان المسيح يخلّصنا من الموت والخطيئة ويحمل إلينا الحياة، فكيف يجب أن نحيا هذه الحياة، ولا سيّما إن اعتبرنا أننا ما زلنا لحميّين، وأن اللحم (والدم) لا يخضع لشريعة الله؟ في ف 8، قدّم بولس الجواب: علينا أن نحيا، لا حسب البدن (الجسد، اللحم والدم)، بل حسب روح الله الذي أقام المسيح: «إن عشتم حسب الجسد سوف تموتون. ولكن إن أمتّم بالروح أعمال الجسد سوف تحيون» (8: 13). وهكذا نُصبحُ أبناء الله، ونستطيع أن نصرخ «أبّا، أيها الآب» على مثال يسوع. نصبح وارثي الله ووارثين مع المسيح، مع وعْدٍ بأننا إن تألّمنا اليوم معه سوف نُمجّد أيضاً معه (8: 14- 17). كان شعب اسرائيل قد فهم أنه بكر الله، ابن الله (خر 4: 42؛ أش 1: 2). ولكن تعمّقت العلاقة الآن بروح ذاك الذي هو الابن الوحيد. في خبر الخلق (كما في العهد القديم) لُعنت الأرضُ بسبب خطيئة آدم (تك 3: 17؛ 66: 22). إذن، في شكل منطقي، وفي إطار المعارضة بين آدم والمسيح (8: 18- 23)، تحدّث بولس أيضاً عن شفاء الخليقة الماديّة (بما فيها الانسان) بواسطة المسيح. ستنجو من عبوديّة الفساد، وتُقادُ إلى الحريّة. هذا ما لا نراه الآن. ولكنّنا نرجوه وننتظره بصبر. ويتشفّع الروح لأجلنا بأنّات لا توصَف لكي يُعين ضعفنا (8: 24- 27).
لا شيء من هذا المستقبل يكون متروكاً للصدف: فالتبرير والتمجيد جزء لا يتجزّأ من مخطّط خلاصٍ أعدّه الله منذ البدء (8: 28- 30). فالله الذي ما وفّر ابنه الوحيد، بل أسلمه عنا جميعاً، هو بجانبنا، لا ضدّنا. هو ينبوع ثقة عظيمة فينا. في 8: 31- 39، يختتم بولس هذا الجزء الثاني في القسم العقائديّ بأهم العبارات في كلّ الأدب الروحيّ المسيحيّ: «إن كان الله معنا، فمَن يكون علينا؟... أنا واثق أنه لا موت ولا حياة، لا ملائكة ولا رئاسات، لا حاضر ولا مستقبل... تستطيع أن تفصلنا عن محبة الله التي تجلّت في المسيح يسوع ربّنا».
* الجزء الثالث: برّ الله ومواعيده لشعبه (9: 1- 11: 36)
إن كان هناك منذ البدء مخطّط يقود إلى المسيح، فما الذي حصل لبني اسرائيل (اليهود) الذين نالوا المواعيد بالشريعة والأنبياء، لكي يرذلوا المسيح؟ إن الحاجة المنطقيّة للجواب على هذا السؤال ينبع ممّا كتبه بولس بشكل مدهش، بحيث إن بعض البيبليين، منذ مرقيون (في القرن 2)، استبعدوا هذه الفصول على أنها غريبة عن الرسالة ومناقضة لها. فكيف استطاع المرسل الذي قضى السنوات العديدة في إعلان الانجيل للأمم، أن يتمنّى أن يُفصَل عن المسيح ويُحرم من الخلاص من أجل إخوته في الجسد؟ لقد كذّب بولس جميع الذين اتّهموه بأنّه يستخفّ بالعالم اليهوديّ، فعدّد بافتخار امتيازات بني اسرائيل العجيبة (9: 4- 5).
وحين أكّد أن كلمة الله ما فشلت، أورد الكتابَ المقدّس لكي يبيّن أن كلّ نسل ابراهيم لم يُحسَب نسله: فالله اختار اسحق لا اسماعيل. واختار يعقوب لا عيسو (9: 6- 13). والله ليس جائراً في هذا، بل هو يتصرّف مثل الفخاريّ الذي يصنع من الطينة الواحدة، إناء للكرامة وإناء عادياً (9: 14- 23). ولا نقدر أن نطلب حساباً من الله لأنه اختار من اختار. وعاد بولس إلى سلسلة من الاستشهادات (9: 24)، فبيّن أن الله رأى مسبقاً لاأمانة اسرائيل ودعوة الأمم. فشلَ اسرائيلُ لأنه طلب البرّ بالأعمال، لا بالإيمان. ومع غيرته، زاد ضلاله ضلالاً لأنه لم يُقرّ أن الله برّر الذين يؤمنون بالمسيح، وأن المسيح هو نهاية الشريعة (9: 30- 10: 4). وواصل الرسول كلامه فبيّن تفاهة الانسان الذي يريد أن يتبرّر أمام الله على أساس أعماله. ولكن «إن اعترفتْ شفتاك أن يسوع ربّ وآمن قلبُك أن الله أقامه من بين الأموات تخلص» (10: 9). في هذا «الأنت»، لا تمييز بين يهوديّ ويونانيّ (10: 2). وكل هذا يُتمّ كلام يوء 3: 5: «كل من يدعو باسم الرب يخلص».
في 10: 14- 21 أعلن بولس أن لا عذر لاسرائيل: فالأنبياء كرزوا بالانجيل، ولكن بني اسرائيل لم يؤمنوا. بل ما حاولوا أن يفهموا، لأنهم شعب عاصٍ متمرّد. أما الأمم الذين اعتبرهم اليهودُ بغير فهم، فقد تجاوبوا. وسأل الرسول: «أترى الله رذل شعبه» (11: 1)؟ في جواب نافٍ وحزين على هذا السؤال الذي طرحه طرحاً بلاغياً، تكلّم بولس كشخص من بني اسرائيل، من نسل ابراهيم، من قبيلة بنيامين، كشخص اختارته النعمة. وأورد أمثلة من تاريخ اسرائيل حيث الأكثرية فشلت، فاحتفظ الله لنفسه ببقيّة (11: 2- 10). في الواقع، استشفّ بولس مخرجاً إيجابياً (11: 11- 32). زلّةُ اسرائيل وقساوة قلبه الجزئيّة، هما من عمل العناية الالهيّة التي منحت الخلاص للأمم. سوف يغار بنو اسرائيل، وعندئذ يخلص كلّ اسرائيل. ولكن يجب على «الأمم» الذين آمنوا أن لا يتكبّروا. فهم غصن زيتونة برّية طُعِّم في زيتونة «جويّة»، في موضع أغصان قُطعت. وسيكون سهلاً تطعيمُ الأغصان الطبيعيّة من جديد (هم اليهود). نتشكّك حين نرى رسول الأمم يعتبر اهتداء الأمم لا كغاية في حدّ ذاتها، بل محطّة نحو اهتداء اسرائيل. في الماضي عصى الأمم. واليوم عصى بنو اسرائيل، والله رحم الجميع. وأكمل بولس هذه اللوحة بنشيد يمتدح أعماق غنى الله وحكمته: «له المجد إلى الأبد. آمين» (11: 33- 36).
ثانياً: القسم الارشاديّ (12: 1- 15- 13)
* الجزء الأول: نصائح من أجل الحياة المسيحيّة (12: 1- 13: 14)
وها هو بولس يقدّم الآن نصائح للمسيحيين الرومانيّين حول الطريقة التي بها يعيشون ليتجاوبوا مع رحمة الله. من جهة، هذا لا يدهشنا، لأن بولس سبق وأعلن منذ البداية (1: 5) أن نعمة رسالته هي أن يكرز طاعة الإيمان. ومن جهة أخرى، هي محاولة جريئة لأن لا علاقات شخصيّة بين بولس ومعظم المسيحيّين في رومة. إذن، بدأ في 12: 3، فذكر أفكاراً عبّر عنها أيضاً في 1 كور، التي كُتبت قبل روم بسنة: جسد واحد وأعضاء كثيرون. مواهب مختلفة ومنها النبوءة والتعليم، وتشديد على المحبّة. وقدّم الرسول في 12: 9- 21، شأنه شأن كاتب حكميّ في العهد القديم، سلسلة من النصائح مع تشديد خاص على التناغم والحنان والغفران. وهي صفات مؤمن يرفض أن يتشبّه بالدهر الحاضر (12: 2)، ويطلب أن يتجدّد في حقبة جديدة دشّنها المسيح.
والنداء للخضوع للسلطات المحليّة (13: 1- 7) يأتي في محلّه، في رسالة تتوجّه إلى العاصمة (دوّنت 1 بط 2: 13- 15 من العاصمة، فقدّمت النصيحة عينها). في هذا الزمان كان قد مات كلوديوس الذي طرد اليهود من رومة، وحلّ محلّه نيرون الذي لم يكن بعد أظهر العداء للمسيحيّين. إذن، يستطيع بولس أن يتحدّث عن سلطة رومانيّة هي أداة في يد الله. فحين يدفع المؤمنون الضرائب، ويُكرمون السلطات، يكونون مثالَ المواطنين الصالحين. وموقفُ الطاعة الذي يقفه بولس، قد ينبع من خبرته الشخصيّة والايجابيّة التي اختبرها مع السلطة الرومانيّة (مثلاً، غاليون في كورنتوس، أع 18: 12- 17). أو قد تكون تعليماتُه استراتيجيّة دفاعيّة ضدّ من يتّهمه بتمرُّد في المدينة يحمل الخطر إلى الجماعة، وذلك بلاهوته عن الحريّة والتجرّد من هذا العالم. أيكون المسيحيّون الذين يهدّدون «الأمم» أكثر إزعاجاً من اليهود الذين يفعلون الشيء عينه؟
نحن لا نحسب نصيحة بولس هذه وكأنها المطلق. وكأنها تطبّق على جميع الحكّام في كل الأزمان. ففي سفر الرؤيا مثلاً، كان موقفٌ مسيحيّ آخر تجاه الامبراطور بسبب اضطهاد المسيحيين وملاحقتهم. إذن، نحن لا نحسب موقف روم وكأنه الموقف الوحيد في العهد الجديد. ونقرأ في 13: 8- 10: «من أحبّ القريب أتمّ الشريعة». مثلُ هذا القول يرافقه يقينٌ بأن الوصايا تتلخّص في «أحبب قريبك كنفسك». وهكذا بدا بولس قريباً من تقليد يسوع في مت 22: 38- 40. ويختتم 13: 11- 14 الجزء الأول من القسم الإرشاديّ فيشدّد على الوجهة الصعبة في الزمن الاسكاتولوجيّ، في الوقت المؤاتي الذي دشّنه المسيح. نقرأ في آ 12 صُوَرَ النور والنهار، وأعمال الظلمة، وأسلحة النور. وكل هذا يعكس نشيداً عمادياً عرفته كنيسة رومة. لقد اقترب الوقت، وهو يلحّ على بولس بأن يقول لهم بأن يتسلّحوا لكي يحاربوا رغبات الجسد: «إلبسوا الربّ يسوع المسيح» (13: 14).
* الجزء الثاني: الأقوياء والضعفاء (14: 1- 15: 13)
لا نعرف إن كان بولس هو الذي صاغ هذين اللفظين: الأقوياء والضعفاء. أو هو وجدهما في العالم الرومانيّ. نحن هنا أمام اعتبار للمتطلّبات المسيحيّة، لا أمام نظرة إلى انقسامات وفئات، كما كان الأمر في كورنتوس حيث التحقت كلّ فئة بشخص من الأشخاص. فالأقوياء يعتقدون أنهم يستطيعون أن يأكلوا من كل شيء دون الاهتمام بأيام القطاعة. والضعفاء يُعملون الفطنةَ في طعامهم، فلا يأكلون سوى البقول ويهتمّون اهتماماً خاصاً ببعض الأيام. حاول بعض الشرّاح أن يعودوا إلى ممارسات غنوصيّة أو إلى الديانات السرانيّة. في الواقع، تكمن جذورُ المسألة في متطلّبات الطهارة والقواعد العباديّة في الشريعة الموسويّة. فالأقوياء يعتبرون هذه المتطّلبات بدون أهميّة. والضعفاء (الذين هم ضعفاء في الإيمان، 14: 1) يعتبرونها مفروضة عليهم. وهناك عدد كبير من الأخصّائيّين يرون في الأقوياء الأكثريّة المسيحيّة في رومة والآتية من الأمم. أما الضعفاء فهم الأقليّة، هم اليهومسيحيون. لا شكّ في أن الأمم كانوا الأكثريّة، لهذا حذّرهم بولس من الافتخار على اليهود الذين رذلوا المسيح (11: 17- 18). ولكن قد يكون بعضهم أخذ بالممارسات اليهوديّة، كما فعل الغلاطيّون الآتون من الأمم بعد أن مرّ عليهم مرسلون مناوئون لبولس (أخذوا بالختان ومتطلّبات الشريعة). إذا كان أول من بشّر رومة مرسلين من أورشليم، فهذا يعني أن المهتدين الجدد يمكن أن يكونوا مارسوا الشريعة. وهكذا يكون الضعفاء مزيجاً من الأمم المتعلّقين بالشرائع اليهوديّة ومن اليهومسيحيّين الذين عادوا إلى رومة بعد موت الامبراطور كلوديوس. هذا من جهة. ومن جهة ثانية قد يكون بعض اليهومسيحيين (أصدقاء بولس الذين يذكرهم في ف 16) من هؤلاء الأقوياء. إذن، نكون متحفّظين حين نماهي بين الأمم والأقوياء، بين اليهود والضعفاء.
اهتمّ بولس بأن لا تدين الفئةُ الفئةَ الأخرى، أو تحتقر الجماعةُ الجماعةَ (14: 3- 4، 10، 13). سواء أكلوا أو امتنعوا، فليفعلوا من أجل الربّ. «إن حيينا فللربّ نحيا، وإن متنا فللربّ نموت» (14: 6- 8). فإن كان مسيحيو رومة، الأقوياء منهم والضعفاء، قد سمعوا أن بولس لم يفرض على المهتدين من الأمم أن يمارسوا الشريعة الموسويّة، فليعرفوا، شأنهم شأن الكورنثيين قبلهم (1 كور 8: 7- 13؛ 10: 23- 33) أنه لا يقبل أبداً أن تُستعمَل هذه الحريّةُ لكي تَقسم الجماعة. وقد نبّه الأقوياء بشكل خاص أنه من الأفضل أن يمتنعوا عن اللحم والخمر من أن يكونوا لاخوتهم عثرة فيضعفوا ويسقطوا (14: 21). وتماهى بولس معهم فأعلن: «يجب علينا، نحن الأقوياء، أن نحتمل ضعف الضعفاء، ولا نرضي أنفسنا» (15: 1). فالمسيح ما طلب ما يرضيه (15: 3). وبولسُ صار خادم المختونين ليدلّ على أمانته لله، فيُثبت الوعد المعطى للآباء بحيث يقدر الأمم أن يمجّدوا الله لرحمته (15: 8- 9 أ). ويختتم بولس هذا الجزء بلائحة أخرى من الاستشهادات (15: 9 ب- 12)، أُخِذت من الأنبياء وأسفار الشريعة وسائر الكتب (وذاك هو تقسيم العهد القديم في العالم اليهوديّ)، فأشارت إلى مخطط الله بالنسبة إلى الأمم.
ج- خاتمة الرسالة إلى رومة (15: 14- 16: 27)
* الجزء الأول: مشاريع بولس (15: 14- 33)
وجاءت خاتمة الرسالة في جزئين مرتبطين الواحد بالآخر. شرحَ الجزء الأولُ علاقات الرسول بالرومانيّين. هو يعرف أنها علاقات جيّدة، ولكنه يكتب إليهم لأنه تلقّى من عند الله نعمة الرسالة لدى الأمم. فكما أن الكاهن اليهوديّ يتكرّس لخدمة الله في الهيكل، كذلك صارت الكرازةُ بالانجيل خدمةً ليتورجيّة لكي يكون «الأمم» تقدمة يرضى عنها الله (15: 16). وإذ أراد بولس أن يقوم بهذه الخدمة، مضى من أورشليم إلى الليريكون (غربي اليونان، وهي منطقة محاذية لمكدونية حتى دلماطية). وهو الآن يتطلّع نحو الغرب لكي يمدّ الرسالة، ماراً في رومة، حيث أمل منذ سنوات أن يزور المسيحيّين، لكي يكرز بالانجيل في اسبانية، حيث لم يُعلن بعدُ اسمُ المسيح (15: 4- 24). ولكن قبل ذلك، عليه أن يحمل إلى فقراء أورشليم المال الذي جمعه في مكدونية وأخائية. وهذا السفَر يُقلقه كثيراً. هل ينجو من عداء اللامؤمنين في اليهوديّة الذين يعتبرونه خائناً انتقل إلى الكنيسة التي كان يضطهدها؟ وهل يقبل مسيحيّو أورشليم العون الذي يحمله لهم، وقد غاظهم انتقاده لعمُد الكنيسة في أورشليم (غل 2: 6- 9 )؟ لهذا طلب بولس من الرومانيّين أن يساعدوه خلال سفره ويصلّوا من أجله (15: 25- 33). وربّما استطاعوا أن يتدخّلوا من أجله لدى أصدقائهم في أورشليم.
* الجزء الثاني: تحيّات إلى الأصدقاء في رومة (16: 1- 27)
ولكن حين يعود بولس من أورشليم ماضياً إلى اسبانية، فسوف يمرّ بعض الوقت في رومة، وهو يحتاج إلى من يهيّئ الأمور هناك من أجله. فإن فيبة، شماسة كنيسة كنخرية، ستمضي إلى رومة وتحمل الرسالة، على ما يبدو. فعليهم أن يستقبلوها بحفاوة. فإن كان في رومة مسيحيون يتردّدون بالنسبة إلى بولس، فستلعب هي دور الوسيط، وتؤدّي خدمة مع أشخاص آخرين يعرفونه. وهو يحيّي ستة وعشرين شخصاً (16: 3- 16). نعرف بعضاً منهم في أع أو في رسائل بولسيّة أخرى. تُذكر كنيسة تجتمع في البيت في 16: 5، ويُذكر بيتان في 16: 10، 11، كما تُذكر مجموعات في 16: 14، 15. هذا يدلّ على أن كنيسة رومة تألّفت من عدّة جماعات تلتئم في البيوت، وسوف نرى هذا الواقع على مدّ القرن الثاني المسيحيّ. ما نلاحظ هو أن اندرونيكوس ويونيا «رسولان مشهوران» (16: 7). زوجها رسول وهي رسولة. والرسول هو من رأى المسيح القائم من الموت وصار كارزاً بالانجيل.
وتنتهي الرسالة (16: 21- 23) بتحيّات ينقلها بولس من قبل مسيحيّين آخرين من كورنتوس. فإن الكاتب ترتيوس قدّم نفسه (هي المرة الوحيدة في الرسائل) على أنه شارك في صياغة الرسالة. وفي الختام كانت المجدلة: «المجد لله الحكيم وحده، بيسوع المسيح إلى الأبد. آمين» (16: 27).

خاتمة
تلك هي نظرة سريعة إلى روم. كان بالامكان أن نطرح المواضيع اللاهوتيّة معها، مثل البر والإيمان، وممارسة الشريعة، وموضوع الخطيئة الأصليّة... ولكننا عالجنا بعض هذا في «الانجيل قدرة الله». كما كانت، في موضع آخر، مقالةٌ خاصة عن الخطيئة الأصليّة. وقد نقدّم في المستقبل دراسة لاهوتيّة موسّعة عن المواضيع الذي نكتشفها في روم. وتبقى المسائل العديدة التي تُفتح ولا تجد مفتاحاً يقفلها، التي تطرح أسئلة ولا تجد حلاً لها. من أجل هذا نعتبر عملنا محطّة في الشرح الكتابي، وهو ينتظر من يتابع الطريق.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM