إلى الساعة والمجد
12: 37- 40
جئت نوراً إلى العالم لكي لا يمكث في الظلام أي مؤمن بي.
نحن هنا في امتداد كل ما قيل عن يسوع منذ ف 11. فساعة تمجيد الإبن الذي أعلن عنها في 11: 4 هي في طريقها إلى أن تتمّ. في 11: 51- 52، أعلن يوحنا أن موت يسوع يتبعه انفتاح تعليمه على جميع البشر، سواء كانوا يهوداً أم يونانيين.
ونذكر هنا لفظة "الساعة" التي ترد 26 مرّة في إنجيل يوحنا. وهي تدلّ في أغلب المرّات، على زمن مؤاتٍ جداً، على زمن يتمّ فيه الخلاص. في القسم الأول من الإنجيل (ف 1- 12)، لم تأتِ بعد هذه الساعة. فأُمّ يسوع التي أرادت أن تجعل ابنها يتدخل، سمعته يقول لها: "لم تأتِ ساعتي بعد" (2: 4). وتوقيف يسوع ليس بعد ممكنًا للسبب نفسه (7: 30؛ 8: 20). ولقد أنبأ يسوع مراراً بساعته القريبة، التي على ضوئها يصبح كل شيء واضحًا (16: 25). حينئذ تصبح العبادةُ روحية (4: 21- 23) وتنتصر الحياة على الموت (5: 25).
كنا بانتظار ولا نعرف ما سوف يحدث. وها هو الحجاب يرتفع حين يعلن يسوع للوثنيين الذين يريدون أن يروه أن ساعته جاءت أخيراً (12: 23). ولما دخل يسوع في، لامه، أعلن أن ساعة تمجيده قد جاءت أخيراً (13: 1؛ 17: 1). هذه العبارة نجدها في الأناجيل الإزائية (مر 14: 35، 41: صلّى لكي تعبر الساعة... جاءت الساعة). غير أن يوحنا تميّز حين زرع في كل إنجيله إشارات إلى حدث تاريخي هو صلب يسوع. وهذا الزمن لا يرتبط بتسلسل الزمن (كرونولوجيا)، بل يمكث دوماً في الزمن الحاضر ويمدّ ثماره إلى الذين يتعلّقون بكلمته.
ويتحدّث النص عن اليونانيين (12: 20- 22). فاليونانيون ليسوا يهوداً يعيشون في اليونان أو يتحدّثون باليونانية. إنهم وثنيّون تعاطفوا مع العالم اليهودي ولكنهم لم يأخذوا بالختان. وهذا الإقتراب الأول لغير اليهود من يسوع، قد جعله يوحنا علامة تعلن أن الساعة أتت. هؤلاء الناس الآتون من العالم الوثني قاموا بخيار أول حين تعلّقوا بإله إسرائيل. وها هم يستعدّون لانتقال يراه الإنجيلي طبيعياً: إنتقال من العالم اليهودي إلى يسوع الذي يكمّله. أرادوا أن "يروا" يسوع. لا بعين الجسد وحسب. فهم يرونه كما سائر الناس. أرادوا أن "يؤمنوا" بيسوع (12: 45؛ 14: 9).
وفيلبس الذي يرد اسمه 12 مرّة في إنجيل يوحنا، هو الوسيط بين يسوع والناس. لقي فيلبس نتنائيل فجاء به إلى يسوع (1: 45). وكان الواسطة بين يسوع والجموع الجائعة (6: 5). وهنا، هو الذي يحدّث يسوع عن اليونانيين مع اندراوس (12: 22. نجد اندراوس أيضاً في تكثير الخبز، 6: 8).
إسم فيلبس إسمٌ يوناني. وكذا نقول عن إسم اندراوس. عاشا في منطقة يسيطر عليها العالم اليوناني. وقد استطاعا أن يتكّلما اليونانية. كلاهما ذهبا إلى يسوع. فالشهادة تحتاج إلى شخصين. وبعد هذا، يركّز الإنجيلي خبره على يسوع.
تأخّرت الساعة حتى الآن، وها هي قد جاءت أخيراً (12: 23- 26). فعودة لعازر إلى الحياة أشارت إليها مسبقاً. ومجيء اليونانيين إلى يسوع دلّ على تحقيقها. لم يتسلّم اليونانيون جواباً مباشراً من يسوع. فيسوع تحدّث إلى التلاميذ، وما قاله يعني أولاً التلاميذ الذين سيُدعون فيما بعد لكي يُفهموا الوثنيّين أن في موت يسوع قد انفتح باب الخلاص لجميع البشر.
الساعة هي في الوقت عينه الموت والتمجيد. وإذ أراد يسوع أن يعبرّ عن خصب موته الذي سيقوده إلى التمجيد، إنطلق من مثل صغير يعرفه الفلاّحون، حول الحبّة التي تموت لتحمل ثمراً. فالتعارض الذي أشار إليه يسوع، ليس بين الحياة والموت، بل الموت وحمل الثمار. فيسوع يجب أن يُوضع في الأرض، شأنه شأن الحبّة، أن يموت ليحمل هكذا ثمراً للعالم.
وموت يسوع ليس فقط مروراً إجبارياً لكي يدخل في المجد، بل هو وضع الكنيسة لكي تولد وتنمو وتتكاثر. موت يسوع هو حقاً اللحظة التأسيسية في الكائن المسيحي: "حيث أكون أنا، يكون هناك خادمي" (12: 26). إن آ 25- 26 تضمّان جماعة المؤمنين إلى مصير يسوع. فالذين يحبّون (يفضّلون) حياتهم، هم الذين يفضّلون الظلمة (حسب يوحنا)، يفضّلون هذا العالم، يفضّلون مجدهم الخاص.
نحن هنا أمام موضوع الإيمان، كان لم يكن واضحاً كما في الإزائيين الذين يشدّدون على العلاقة مع يسوع: "من خسر حياته من أجلي ومن أجل الإنجيل، خلّصها" (مر 8: 35). أما في يوحنا، فالعلاقة مع يسوع تبدأ في 12: 26: "إذا أراد أحد أن يخدمني فليتبعني". يجب على التلميذ أن يذهب إلى حيث ذهب يسوع. يعني: أن يدخل في الموت لكي يشارك في المجد. في هذه الحالة "يكرّمه أبي". هذا هو الشرط الذي وضعه يسوع.
ونتوقّف عند اضطراب يسوع، والصوت السماوي، وكلمة الوحي (12: 27- 36).
إن الساعة التي جاءت مع "الإنطمار" في الموت، تفترض عبوراً مؤلماً فيه يحتفظ الإضطراب والضيق بمكانتهما. حين سيروي يوحنا آلام يسوع، سيلغي كل ما يدلّ على بشريّته، لن يتحدّث عن النزاع. ولكنه احتفظ ببعض العناصر ووزّعها هنا وهناك في إنجيله. فيورد في هذا المقطع ألفاظاً وعبارات تشير إلى قلق يسوع، إلى الساعة. قال: "نجّني من هذه الساعة". هنا نتذكر مر 14: 33- 36: بدأ يسوع يشعر بالرهبة والكآبة... هناك تشديد على طاعة يسوع لأبيه. وصلاته "يا أبتاه مجّد اسمك" تبدو كملخّص للصلاة الربيّة. بدأ يسوع فخرج من ذاته ليكون كله إصغاء للآب.
"وجاء صوت من السماء". في الإزائيين نسمع مرتين صوتاً من السماء: في المعمودية، وفي التجلّي. وفي يوحنا مرة واحدة، وهي هنا، يتوجّه فيها الآب إلى يسوع. والحدث الذي يورده يوحنا يرتبط بالتجلّي حيث ظهور يسوع المجيد يرافقه حوار عن "خروج" يسوع أي موته. والمقابلة مع النزاع كما في إنجيل لوقا واضح حين نعرف "أن ملاكاً ظهر له من السماء يشجّعه" (لو 22: 43).
إنّ تدخّل الآب هذا يتميّز بطابع فريد ويقع في نهاية القسم الأول من الإنجيل. وهو يبدو تصديقاً احتفالياً ليسوع كالابن والمرسل. هو "حكم" ممجّد يُعطى بعضه الآن والبعض الآخر فيما بعد. فآلام يسوع هي له محنة يغمرها المجد.
"قد مجّدت". نحن أمام حدث من الماضي. لقد مجّد يسوع الآب بتجسّده. كما مجّده بآياته، ولا سيما بآية الآيات التي هي موته وتمجيده. والتمجيد الثاني سيكون ساعة تجتمع الشعوب كلها حول الآب بواسطة الابن.
ما يدهشنا هو أنّ كلام الله الذي ابتغى أن يجعل السامعين يعترفون بيسوع (آ 30)، قد سمعه الناس ولكنهم لم يفهموه (صوت رعد أو ملاك). أما القرّاء الذين يكتب اليهم يوحنا، فينعمون، شأنهم شأن يسوع، بوحي واضح.
يسوع هو الذي يفسرّ صوت الآب. فالساعة التي ستمجّد يسوع تدلّ على زمن الدينونة: غياب الإيمان بيسوع يجرّ وراءه كنتيجة آلية الحكم والشجب. ففي ارتفاع يسوع يبرز مصير جميع البشر كما تبرز بصورة جذرية هزيمة "سلطان هذا العالم". فيسوع المرتفع يجرّ وراءه طرد هذا الواقع المتشعّب الذي يُسمّى في مكان آخر: إبليس. هنا يشخصن (يحسب شخصاً حيّاً) عدوّ الله والمسيح في ثنائية يحاول القارىء المعاصر أن يخفّف من حدّتها. فهذا العالم، عالم الشرّ والظلمة والكفر، هو واقع يدخل في كل إنسان وفي كل مؤمن. وانتصار يسوع على الشّر هو انتصار حقيقي. ولكن يبقى على المؤمنين أن يجعلوا هذا الإنتصار "منظوراً" فيهم وحولهم. لهذا، هم يحتاجون إلى الوقت والى الصبر. قالت 1 يو 5: 19: "نحن نعلم أن العالم كله يخضع لسلطان الشّرير". ويحدّد يوحنا معنى هذا الكلام: يتحقّق الإرتفاع على الصليب. هناك دار يسوع ملكاً.
إن الشعب الذي ارتبط بمسيحانية وطنية برزت في استقبال يسوع في أورشليم (12: 13)، قد قبلت بمسيح "أزلي". ولكنها رفضت المسيح الذي يجسّده يسوع والذي يسمّر عبر الموت. وهذا العثار (والشكّ) ليس عثارها وحدها. لقد عثر بطرس وسائر التلاميذ لأن أفكارهم هي أفكار البشر لا أفكار الله (مر 8: 33).
لا يقدّم يسوع جواباً مباشراً على السؤال المطروح حول هوية ابن الإنسان وموته (آ 34). ولكنه يفعل هنا كما فعل مراراً، فيدعو سامعيه إلى التوبة. وهو يشدّد في تعارض ثنائي بين النور والظلمة، على أن الزمن يلحّ علينا بأن لا نتأخّر. إنه النور، وهذا النور سيمضي. ويجب منذ الآن أن نختار. نسير في النور، أي نؤمن بالذي هو نور العالم. أي نتصرّف كأبناء النور، فنتعلّق تعلّقاً ملموساً بالمسيح وبوحيه، وبالتالي ننتمي إلى جماعة المخلّصين (ق 1 تس 5: 5؛ أف 5: 8- 14).
وها نحن نصل إلى خاتمة القسم الأول (12: 37- 50). بدأ يوحنا فقام بتقييم نهائي (آ 37- 43) لهذه الحقبة التي عاش فيها يسوع وعمل وعلّم. ثم قدّم خطبة أخيرة (آ 44- 50) تفوّه بها يسوع فقال: "من يؤمن بي لا يؤمن بي، بل يؤمن بالذي أرسلني، (آ 44).
إن فشل يسوع النسبي طرح على الإنجيلي سؤالاً صعباً حول عدم فاعلية ظاهرة لدى "النبي" يسوع. عاد في نهاية كتاب الآيات إلى إثبات وضعه في بداية إنجيله: "جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله" (1: 11). فحاول أن يفهم هذا الوضع عائداً إلى خبرة إسرائيل السابقة. فالكلمات المستعملة في آ 37 تشير إلى اعتبارات نسبها سفر التثنية إلى موسى في نهاية خطبته الوداعية. حاول موسى أن يفهم فشل شعب الله، فقال: "رأيتم كل ما فعله الربّ أمام عيونكم بأرض مصر، بفرعون وبكل عبيده. رأت عيونكم المحن الشديدة وتلك الآيات والمعجزات العظيمة. ولكن لم يعطكم الرب إلى الآن، قلوباً لتفهموا، وعيوناً لتبصروا، وآذانّاً لتسمعوا" (تث 29: 1- 3).
إن رفض الناس ليسوع يتجاوب ومنطق تاريخ الخلاص. كما يستعيد رفض الناس لعبد الله المتألّم (أش 53). أورد يوحنا بداية النشيد (أش 53: 1) فأوضح ما في الفشل من معنى وقيمة خلافية. أما الإيراد الأشعيائي الثاني فمأخوذ من دعوة أشعيا النبي (أش 6: 9- 10). لقد أعاد الإنجيلي استعمال البرهان الذي أخذ به تلاميذ أشعيا بعد أن واجهوا فشل معلّمهم. قالوا: هذا ما أراده الله.
نجد هذا الإستشهاد أيضاً في أع 28: 26- 27 بلسان بولس: "إذهب وقل لهذا الشعب: مهما سمعتم لا تفهمون. ومهما نظرتم لا تبصرون. تحجَّر قلب هذا الشعب، فسدّوا آذانهم وأغمضوا عيونهم لئلاّ يسمعوا بآذانهم، وينظروا بعيونهم، ويفهموا بقلوبهم، ويتوبوا فأشفيهم". أمّا في مت 13: 13- 15 فيرد هذا الإستشهاد في فم يسوع، ويوحنا يرى فيه تفسيراً لاحقاً عن الكنيسة.
في آ 41، قرأ يوحنا من جديد أش 6، فنسب إلى النبي رؤية مجد الله، أي يسوع. يبدو أنه استعمل تراجيم أشعيا التي تفسّر رؤية أشعيا على أنها "رؤية الكلمة" والكلمة هو يسوع المسيح. وهكذا يتثبّت التفسير الكرستولوجي: لقد رأى أشعيا يسوع الذي هو تجلّي مجد الله وسط البشر.
والرصيد السلبي (حساب الربح والخسارة) يعني أيضاً الرؤساء (آ 42- 43). إختلفوا عن الأعمى منذ مولده (يو 9)، فما تجرّأوا على الاعتراف بيسوع خوفاً من أن يُطردوا من المجمع. إذا عدنا إلى حياة يسوع، وجدنا أن هذه الأفكار تنطبق على نيقوديمس (3: 1؛ 7: 50)، على يوسف الرامي (19: 38)، على ذلك المجهول الذي جاء يسأل يسوع حول ميراث الحياة الأبدية (لو 18: 18). ولكننا نستطيع أن نتصوّر بصورة خاصة الوضع الذي عاشه الإنجيلي حيث خافت سلطات يهودية قريبة من التيّار المسيحي، فلم يتجرّأوا أن يقوموا بالخطوة الحاسمة.
وإذ نقرأ هذه الخطبة (آ 44- 50) التي تنهي كتاب الآيات نتساءل: كيف استطاع يسوع وهو الذي "توارى" وتستّر، أن يصيح بصوت عالٍ: "من يؤمن بي..."؟ لهذا أراد بعضا الشرّاح أن يجعلوا هذا المقطع بعد 12: 36 أ: "آمنوا بالنور، ما دام لكم النور، لتصيروا أبناء النور". ولكننا لا نجادل في موضع هذا المقطع ولا نحاول أن نبلبل ترتيب الإنجيل الحالي، كما لا نناقش وجود مواضيع توسّع فيها يوحنا في موضع آخر (3: 16- 19). المطلوب هو أن نقرأ الإنجيل كما هو في وضعه النهائي ونحاول أن نكتشف معناه.
إلى من وجّه يسوع كلامه؟ هذا ما لا يقوله الإنجيلي. ولكنه يبيّن كيف ان يسوع يبرز في نهاية القسم الأول من الإنجيل نقطتين مركزيّتين في كرازته.
النقطة الأولى تشير إلى هويته وإلى علاقته بالآب. فالعلاقة بين الآب ويسوع هي عميقة جداً، بحيث إن الإيمان بيسوع يعني الإيمان بالآب الذي أرسله. فما يقوله يسوع فهو يقوله كما سمعه من الآب. وفي النهاية، من رأى يسوع رأى الآب. حينذاك نفهم جذرية الدينونة: من رذل يسوع رذل الله نفسه.
النقطة الثانية تنبع من الأولى وترتبط بالدينونة. لم يأتِ يسوع ليدين، بل ليخلّص: ولكن كلمة يسوع تحكم على الذي لم يحفظها ولم يعمل بها. فالإصغاء أو اللاإصغاء يتحدّد منذ الآن. إذن، منذ الآن تبدأ الدينونة، وإن شدّدت خاتمة هذا القسم الأول على أنّ الدينونة ستتمّ في نهاية الأزمنة.
في هذه الخاتمة، ظهر يسوع كالنبي الذي "تحدّث" عنه موسى، والذي تلبث كلمتُه حاضرة بعد ذهابه. كان يسوع قد حدّد في 5: 45 أن متّهمَ اليهود هو موسى نفسه. وفي تث 18: 18- 19، قال الرب: "أقيم لهم نبياً من بين إخوتهم مثلك، وألقي كلامي في فمه، فيخاطبهم بجميع ما أمره به. وأي إنسان لا يطيع كلامي الذي يتكلّم به باسمي، فإني أحاسبه عليه".
هذه هي الصبغة التي تلوّن "صيحة" يسوع. لقد قدّم نفسه بوضوح على أنه نبي آخر الأزمنة، النبي الذي "تحدّث" عنه موسى، والذي يجب أن نسمعه لئلاّ نقف في الدينونة منذ الآن وحتى اليوم الأخير.