الفصل الثاني عشر: بعض الأفكار اللاهوتية

الفصل الثاني عشر
بعض الأفكار اللاهوتية
29: 1 – 30: 20

أ- المقدّمة
هذه المجموعة من النصوص التي قرأناها (28: 1ي) يمكنها أن تشكّل خاتمة الكتاب. لقد حلّت اللعنات بالشعب بسبب عصيانه لوصايا ربّه. أرضه صارت خربة، ونخبة مواطنيه ذهبت إلى المنفى. إنّ الكاتب الاشتراعي جعل هذه النصوص في هذا الموقع من الكتاب ليقول لبني إسرائيل المشتّتين إنّهم يستطيعون أن يتنعّموا من جديد برحمة الله وبركته إن هم تابوا إليه. إن خضعوا من جديد لشرائعه، يكونون له من جديد شعبه الخاص ويعرفون مستقبلاً جديداً لم يحلموا به يوماً.

ب- تفسير الآيات الكتابية
1- كِرازة العهد: 29: 1- 2
هذا المقطع والذي بعده يتبعان مخطط كرازة العهد. غير أنّ الكرازة تقتصر على بضعة أفكار تصلح لأن تكون منطلقاً لشروحات لاهوتية موسّعة.

29: 1- 8: إستعراض لأحداث الماضي
تستعيد هذه الآياتِ عبارات مأخوذة من الفصول الأولى من سفر التثنية، ولكنّها تشدّد على فكرة مهمة جدَّا وهي: من دون عمل نعمة الله ورحمته، فاختبار الشعب الديني لأعمال الله العظيمة لا يقوده إلى الخلاص. هذا الكلام النادر في العهد القديم سيتوسّع فيه العهد الجديد فيقول القدّيس يوحنّا (6: 37) بلسان يسوع: "من وهبه الآب لي يجيء إليّ، ومن جاء إليّ لا أبعده عنّي " (رج مت 16: 17؛ لو 24: 25 ي؛ يو 12: 37- 38).

آ 9- 14: نداء الرب إلى شعبه للدخول في العهد
يرسم هذا النص إطار التجمّع الليتورجي الذي تتم فيه أعيادُ العهد. لقد اجتمع الشعب كلّه (يش 24: 1) من الرؤساء إلى محتطب الحطب ومستقي الماء (يش 9: 27). وتميّز هذه الآيات من يقف معنا "اليوم " وبين "من لا يقف معنا اليوم ". فالغائبون ليسوا هؤلاء الذين منعتهم الظروف من المشاركة في العيد، بل الأجيال المقبلة التي لم يُتَح لها أن تعيش أحداث الخروج (رج آ 15). فالعهد واحد بالنسبة إلى كلّ الأجيال، ولهذا تتردّد كلمة "اليوم " (آ 9، 11، 12، 14) لتدلّ على أنّ عهد الله هو هو، أمس واليوم والى الأبد، وعلى كلّ مؤمن أن يدخل فيه كما لو كان حاضراً على جبل حوريب يوم قطعه الله مع من قطعه عبر شخص موسى.

آ 15- 25: تحذير وتنبيه
أمّا بنود العهد فتقتصر على الوصيّة الأولى: ما رآه بنو إسرائيل من ضعف آلهة الوثنيين يكفي ليدلهم على باطل عبادة الآلهة الوثنية فيبتعدون عها.
رأيتم أرجاسهم وأصنامهم (آ 16). لقد بدا لجيل الجلاء أنّ إله بني إسرائيل قد انهزم أمام آلهة البابليين القوية، فكانت تجربة الإيمان بالنسبة إلى الشعب: أيّ إله سنتبع، يهوه الضعيف أم إله بابل! لهذا اكتفى الكاتب الاشتراعي بالحديث على الوصيّة الأولى: الولاء المطلق للرب وحده، والأمانة لعهده، والطاعة لوصاياه.
حتّى لا يميل فيكم رجل أو امرأة (آ 17 ي). الإنسان (أو العائلة أو العشيرة) الذي يجحد ربّه سراً ويعلن إيمانه جهراً، فالرب سيفرزه ويعاقبه. وحتّى وإن لم يكتشف الشعب هذا الرجل، فالرب سيفشي أمره فتحلّ به جميع اللعنات المكتوبة في هذا الكتاب.

آ 21- 28: لماذا حلّت النكبة بشعب الله
تتحدّث آ 27 عن المنفى كأمر واقع، وهذا ما يدلّ على أنّ النصّ كُتب بعد الجلاء. وسيأتي الوثنيون فيشهدون العقاب الذي أحلّه الله بشعبه. رأت الأمم البعيدة وخافت، ودنا الذين في أقاصي الأرض فارتعدوا (أش 41: 5). وعندما يمرّون بهذه المدينة (أورشليم) سيقول كلّ واحد لصاحبه: لماذا صنع الرب هذا الخراب بهذه المدينة العظيمة؟ والجواب: لأنّهم تركوا عهد الربّ إلههم وسجدوا لآلهة أخرى وعبدوها (إر 22: 8-9).
إذاً هدفُ هذا المقطع أن يفسّر النكبة التي حلّت ببني إسرائيل فضربت مدنهم فصارت مثل سدوم وعمورة وأدمة وصبوئيم (رج عا 4: 11؛ أش 1: 9).
في آ 28 نقرأ: الخفايا للرب إلهنا. لم يكشف الرب المستقبل لشعبه، فلا حاجة إلى البحث والتنقيب، ولكنّه كشف لهم شريعته، فليحفظوها وليتركوا الباقي للرب. هذه الحكمة سنقرأها موسعة في أسفار الأمثال والجامعة ويشوع بن سيراخ. فسفر الجامعة مثلاً (12: 12- 13) يقول: "إنّ كثرة الدرس تنهك الجسد. وخلاصة ما سمعناه: إتقِ الله واحفظ وصاياه، فهذا فرض على كلّ إنسان ".

2- إعادة بناء الشعب بعد توبته: 30: 1- 20
30: 1- 10: نظرة إلى المستقبل
إنّ الخطبة التي نقرأها هنا لا تتوجّه إلى شهودِ ملحمةِ الخروج، بل إلى أبنائهم الأبعدين (رج 4: 29- 31): "ليطهّر الرب قلوبكم وقلوب نسلكم لتحبّوا الرب إلهكم بكلّ قلوبكم وكلّ نفوسكم حتّى تحيوا". مثل هذا الكلام نقرأه في سفر حزقيال (36: 24-36؛ 37: 23- 28) حيث نجد المواضيع نفسها: توبة، تجمّع، رجوع، معاقبة الأعداء، تبديل القلوب، فيض البركات. ونقرأه أيضاً في سفر إرميا (23: 3- 4): "أجمع بقية غنمي من جميع الأراضي التي طردتها إليها، وأردّها إلى مراتعها فتثمر وتكثر، وأقيم عليها رعاة يرعونها، فلا تخاف من بعد ولا تفزع، ولا يكون منها مفقودٌ" (رج إر 29: 14؛ 32: 14).
ويذكّرنا هذا المقطع بالبركات واللعنات التي قرأناها سابقاً (ف 28). آ 8 تذكّرنا بالآية 28: 1، وآ 9 بالآية 28: 4-9، وآ 3 بالآية 28: 64، وآ 5 بالآية 28: 62- 63، وآ 7 بالآية 28: 60، وآ 9 بالآية 28: 63، وآ 10 بالآية 28: 58.
فاللعنات التي أنبأت بدمار شعب إسرائيل قد تبدّل معناها، بعد أن بدأ الله مع شعبه خلقًا جديداً وخروجاً جديداً، وهذا موضوع سيتوسع في الحديث عنه أشعيا الثاني فيقول:
"لا تتذكّروا الأحداث الأولى، ولا تتأمّلوا بما فعل الله في القديم. ها آنذا آت بالجديد وقد ظهر وسوف تعرفونه: أجعل في الصحراء طريقاً، وفي البريّة القفر أُجري أنهاراً. يمجّدني وحش الصحراء... لأنّي أجعل مياهاً في البريّة وأنهاراً في القفر لأسقي شعبي المختار" (أش 43: 18-20). ويقول أيضاً: "أُخرجوا من بابل، اهربوا من الكلدانيين وأنتم تهتفون هتاف الفرح. أنشروا هذا الخبر ونادوا به وأذيعوه إلى أقاصي الأرض. قولوا: لقد افتدى (لقد أخذ الرب بيد) عبيده بني يعقوب. حين سيّرهم في القفار لم يعطشوا لأنّه فجّر لهم المياه من الصخر. شقّ الصخر ففاضت المياه، غير أنّ هذه البركات ليست للمنافقين " (أش 48: 20- 22 ؛ رج 50: 2- 3؛ 51: 10- 11).
في آ 6 نقرأ: ويطهِّر الرب قلوبكم (حرفيا: يختن الرب قلوبكم). قرأنا في 15: 16 قول الكاتب: طهِّروا قلوبكم. أمّا في هذه الآية فالرب هو من يتمّ عمليّة التنقية والتطهير، هو الرب من يعطي شعبه قلباً جديداً ويجعل في أحشائهم روحاً جديداً، ينزع من لحمهم قلب الحجر ويعطيهم قلباً من لحم (حز 36: 26). هو الربّ يؤتي شعبه قلباً واحداً وطريقاً واحداً ليتقوه جميع هذه الأيّام من أجل سعادتهم وسعادة بنيهم من بعدهم (إر 32: 39).

آ 11- 14: ليست الوصية صعبة
لا عذر لبني إسرائيل إن هم تخلّفوا عن حفظ الوصايا. فالله قد كشف لهم عنها بطريقة واضحة، وهم يسمعونها في عيد تجديد العهد ويعلنون قبولهم لها. فهم إذاً قد ارتبطوا بها، وارتبطوا بعهد مع الرب.
قال الحكماء: إنّ الحكة صعبة المنال. وقال سفر أيّوب (28: 12- 13): "أمّا الحكمة فأين توجد، والفطنة أين مقرّها؟ لا يعرف الإنسان قيمتها، ولا وجود لها في أرض الأحياء". وقال سفر باروك (3: 29- 31): "من صعد إلى السماء وتناول الحكمة ونزل بها إلى الغيوم؟ من اجتاز الى عبر البحر ووجدها؟ ليس أحد يعرف طريقها". ولكنّ سفر التثنية يقول: "إنّ الشريعة قريبة من الإنسان. هي في فمه وفي قلبه ليعمل بها" (آ 14). ويردف سفر المزامير (19: 8): "شريعة الرب كاملة تنعش النفس، وفرائضه صادقة تجعل الغبيّ حكيما". هذه الشريعة يردّدها المؤمن في فمه فتنطبع في قلبه وتظهر في أعماله فيكتشف من خلالها محبة الله لشعبه (رج 4: 6- 8) ويعبّر بواسطتها عن حبّه لإلهه.

آ 15- 20: خاتمة الكلام
نجد في هذا المقطع تكملة لما جاء في 29: 1- 20: البركات واللعنات ونداء إلى السماء والأرض لتكونا شاهدتين على عهد الله مع شعبه.
على الشعب أن يختار بين الحياة والموت، بين السعادة والشقاء (إر 8: 3؛ 21: 8). وهذا الاِختيار سيطبّقه سفر الأمثال فيقول (8: 35- 36): "من وجدني وجد الحياة ونال رضى من الرب ومن أخطأني أضرّ بنفسه، ومن أبغضني أحبّ الموت " (راجع أيضاً أم 12: 28؛ 13: 14؛ سي 15: 16-17).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM