الفصل السادس:تنظيم الدولة

الفصل السادس
تنظيم الدولة
16: 18 – 20: 20

أ- المقدمة
نحن في نظام تيوقراطيّ، في حكم يُشرف عليه رجال الدين، وشريعة الله تدخل في كلّ تفاصيل حياة الشعب: في الأمور الطقسية والاجتماعية والسياسية. وسوف يبيّن لنا المشترع كيف يكون القضاة والكهنة والأنبياء، كيف يتصرّف الملك ليُحِلَّ العدل في شعبه ويَحفظَ العبادةَ نقيّة من كلّ شائبة.

ب- تفسير الآيات الكتابية
1- السلطة السياسية وشرائع العبادة: 18:16- 17: 20
18:16- 20: العدل في القضاء
كان الشيوخُ، أي رؤساء العشائر، قضاةً يجتمعون عند باب المدينة ويقضون في الشعب. وكان لكلّ جماعة محليّة كلمتها في الحكم الذي يصدر. وفيما بعد، أي زمن إصلاح يوشافاط (2 أخ 19: 5 ي)، تعيّن قضاة في كل مدينة محصّنة، وكان القوّاد ينفّذون أحكامهم (1: 9 ي).
بالإضافة إلى قضاء الشيوخ، كان قضاء اللاويين الذين يردّدون الشرائع ويفسّرونها ويفتون في أمور عديدة، منها دينية ومنها مدنية.
قضاة وحكّام (آ 18). لم يعد القضاء بيد الجماعة المحليّة، بل انتقل إلى موظفين عيَّنهم الملك، ولكن ظلّ الشيوخُ يقضون في الناس (12:19 ؛ 2:21- 9؛ 15:22- 21) وسيأتي يوم يصبح هؤلاء الشيوخ مجرّد مستشارين ويصبح القاضي هو الحاكم (16:1؛ رج هو 10:13؛ عا 3:2؛ قض 10:3؛ مز 10:2).
لا تجوروا في الحكم (آ 19). هذه شريعة القضاة وواجباتهم. نقرأ مثلها في سفر الخروج (23: 1- 9): لا تسكتْ عن إنصاف المسكين في دعواه، ابتعد عن الحكم في الدعاوى الكاذبة، لا تأخذ رشوة.
العدالة، العدالة وحدها أتَبعوا. فامتلاك بني إسرائيل لأرض الميعاد يرتبط بطاعتهم لشريعة الرب التي تتضمّن ألاّ يمسّ أحد حقوق غيره. والمحافظة على العدالة تكفل علاقات صحيحة بين الإنسان والله، بين الإنسان وقريبه.

آ 21- 22: طهارة المعبد
ترتبط هذه الشريعة بما نقرأ في 13:12: يجب أن تزول العبادات الوثنية كلّ أثر لهذه المعابد.

17: 1: الحيوانات للذبائح
لا تقدّموا للرب ذبائح فيها عيب (رج لا 17:22- 25). وإلاّ كنتم كمن يستهين بالرب. ولقد قال النبي ملاخي (8:1) في ذلك: "إذا قرّبتم حيوانا أعمى ذبيحة لي، أفليس ذلك شرًّا؟ وإذا قرّبتم الحيوان الأعرج والسقيم ذبيحة لي، أفليس ذلك شرًّا؟ فإذا قرّبته إلى حاكمك أفيرضى عنك وهل يقبل تقدمتك"؟

آ 2- 7: الجاحد الكافر
في هذه الحالة نرى كيف يتصرّف القاضي ليحكم على إنسان جحد إيمانه.
رجل أو امرأة (آ 2). هنا تبدو المرأة مساوية للرجل. رج 5: 21.
يجب أن يكون شاهدان أو ثلاثة لكي يتحقّق القاضي من خطيئة ذلك الرجل أو تلك المرأة. وإن كان هناك من خطأ يبدأ الشاهدان برمي المذنب بـ أوّل حجر. وهذا يدلّ على أنّهما مسؤولان على شهادتهما: إن كانت زورًا دفعا ثمن كذبهما. ثمّ إنّ الشاهد هو مسؤول عن كل تصدّع في وحدة الجماعة، من أجل ذلك يفرض عليه واجب الشهادة وإلاّ اعتُبر مذنباً لأنه أخفى خطأً يمسّ قداسة حضور الله القدوس وسط شعبه.

آ 8- 13: القضاء الأعلى
إنّ الحالات التي لا تجد لها حلاًّ في القضاء المحلّي تُرفع إلى القضاء المركزي (في أورشليم) الذي يرئسه كهنة وأفراد الشعب. وهكذا تكون المراقبة مؤمّنة على القضاء المحلّي، وتكون الدولة منظّمة وقويّة إذ ترتبط السلطات المحلّية بالسلطة المركزية في العاصمة.

آ 14-20: الملك
لا تعيش دولة من دون ملك على رأسها. ولهذا يقبل القانون الاشتراعي بالنظام الملكي، وإن على مضض، لأنّ غريزة القبائل الديموقراطية تستيقظ دومًا في الشعب، ولأنّ الملكية جاءت إلى بني إسرائيل من الخارج (1 صم 8: 5- 20) ولم تدخل في حياة الشعب إلا بعد أخذ وردّ.
في هذا الإطار يجب على الملك أن يخضع لشرطين أوّلين ويتقيّد بثلاثة أمور: الشرط الأوّل الذي يخضع له هو تعيينه من قبل الله (شاول، داود): الله وحده هو من يختار ملكه كما يختار كهنته ومعبده (12: 4). وهذا يعني أنّ الملكية لا يمكن أن تكون وراثية. والشرط الثاني الذي يخضع له يتعلّق بطريقة ممارسته للملك فلا تكون سياسته سياسة أحلاف ونفوذ (مثل سليمان الذي كان ذكره ممقوتًا في مملكة الشمال، رج 1 مل 6:5؛ 11: 1- 7)، بل سياسة اتّكال على الرب الذي يرسل إلى ملكه القوّة والمجد.
أمّا الأمر الأوّل الذي يتقيّد به: عدد الخيل والجيش المحترف. كان العبرانيون يعتبرون أنّ الحرب هي عمل الشعب كلّه، لا عمل نخبة تتكل على تقنية تستغني عن الرب (هؤلاء بالعجلات وهؤلاء بالخيل، أمّا نحن فنتّكل على الرب). والأمر الثاني الذي يتقيَّد به: عدد نسائه، فلا تكن كثيرات، والغريبات منهن تحملن أصنامهنّ معهنّ فتجعل إيمان الملك في خطر (هذا ما فعلته إيزابيل). والأمر الثالث الذي يتقيّد به الملك: المبالغة في الإكثار من الذهب والفضّة، لأنّه مهما كثر ماله كثرت حاشيته وضاعت مثالية شعب يعيش في المساواة بلا طبقات.
وخلاصة القول، يكون الملك "أخا" الشعب. فهولا يتميّز عنهم بطريقة عيشه ولا بسلوكه أو طاعته للشريعة: يقرأ الشريعة كل يوم فيتعلّم كيف يخاف الرب إِلهه.

2- الوظائف الدينية: 18: 1- 22
18: 1- 8: اللاويون
لم يكن للاّويين، وهم الكهنة الشرعيون الوحيدون، أيّة حصّة في أرض الرب، فكان لهم بدلَ ذلك مشاركة في ما يصل إلى الرب من تقدمات. ولمّا تركّزت العبادة في هيكل أورشليم، رفض كهنة العاصمة أن يشاركهم كهنة المعابد "المهدومة" في مداخيلهم (2 مل 23: 9)، فنتج عن ذلك أنّ كهنة المناطق عرفوا العوز واتّكلوا على الصدقة والإحسان ليقوموا بأَوَدِ حياتهم (8:10؛ 12:26 ي).

آ 9- 22: الأنبياء
نحن هنا أمام نصّ يمنع أوّلاً كلّ طقوس العِرافة المعمول بها عند الوثنيين، ويحدّد ثانيًا رسالة الأنبياء وطريقة تقبّل كلامهم من عند الرب.
تُمنع العرافة على أشكالها (آ 9- 13)، لأنّ شعب الرب هو شعب مميّز عن سائر الشعوب، فلا يمكنه أن يتبع عاداتهم الوثنية. وبدلاً من أن يلجأ المؤمن إلى العرّافين (وهم بأكثريّتهم غرباء)، فليلجأ إلى الأنبياء، والرب يدلّهم على إرادته (عد 23:23).
إنّ النبي هو حامل كلمة الله وهو يشبه موسى، وكما كان موسى وسيط الشريعة كذلك يكون النبي الوسيط بين الله وشعبه على مرّ التاريخ. والنبيّ لا يرسل إلى الملك وحسب (كما أرسل ناتان إلى داود)، بل إلى الشعب كلّه. ولا يتوقّف الكاتب في كلامه هذا على شخص فرد، بل على كلّ الأنبياء الذين تعاقبوا في شعب الله فساروا في خط موسى دون أن يتجاوزوه (34: 10). ولكن عندما تزول سلالة الأنبياء ستدلّ كلمة نبي على شخص يرمز إلى المسيح المنتظر. هذا النبي (رج يو 1: 21)، قد انتظر مجيئه الناس وتساءلوا عن الذي ذكره موسى في نبوءته (آ 18)، في الشريعة (رج يو 1: 45)، فرأوه في يسوع "النبي الآتي إلى العالم" (يو 6: 14؛ 7: 40).

3- الجرائم والملاحقات القضائية: 19: 1- 21
19: 1- 13: مدن الملجأ
شريعة مدن الملجأ تحفظ حق القاتل غير المتعمد في أن يلجأ إلى المعبد (خر 13:21). وهذا يدلّ على أنّ الإقتصاص من القاتل كان أمرًا فردًا يقوم به وليّ الدم (الذي ينتقم لدم قريبه)، إلا إذا التجأ القاتل إلى المعبد (عد 35: 9- 34).
يحدّد سفر التثنية في غربيّ الأردنّ ثلاث مدن تقابل الثلاث التي حددها في شرقيّ الأردن (4: 31- 34).
يذكر قانون العهد (خر 21: 14) مذبحًا يمسك القاتل بقرونه (1 مل 1: 50- 53، 28:2- 32)، وهذا المذبح موجود في المعبد الملكي. أمّا مدن الملجأ فلم يكن فيها، على ما يبدو، معبد هام. وهكذا لم تعد الشريعة تشدّد على الوجهة الدينية (راجع السلطات القضائية في 18:16 ي)، بل على الجماعة التي يمكنها أن تسمح بقتل بريء أو تحامي عن مجرم. على شيوخ المدينة أن يعطوا حقّ اللجوء لقاتل أو يرفضوه. بهذه الطريقة لم تعد مقابلة القاتل أمرًا متعلّقًا بالعائلات المتناحرة، بل جزء من النظام العام. وهكذا يوضع حدّ للانتقامات التي كانت تمتد فتفني عائلات وقبائل كاملة.

آ 14: حدود الحقل
لا تضمّ حدود بني قومك... هكذا كان يفعل الأغنياء بالفقراء. يقرضونهم المال أو البذار، وإذ ليس لهم ما يفون به دينهم يأخذون لهم أرضهم (رج أش 8:5- 9 ؛ مي 2: 2).

آ 15- 20: إثبات الشهادة
لا تثبت شهادة شاهد واحد (رج 17: 6 ي ؛ عد 35: 30). هذه الشريعة تقف بوجه البغض والحسد أو المصلحة الشخصية.
إن شهد أحد شهادة زور وافتضح أمره يعاقَب بحسب شريعة المثل: عاملوه بمثل ما نوى أن يعامل قريبه.

آ 21: شريعة المثل: العين بالعين
هذا المبدأ القانوني يدخلنا في جو المجتمع القبلي: توازن بين قيمة المذنب وقيمة الضحيّة نتيجة توازن بين العائلات: لا زيادة ولا نقصان، سنّ بسن وعين بعين. هذه الشريعة تتعدّى الطريقة التعسفية في أخذ ثارات ما كانت لتعرف حدودًا (تك 4: 15- 24)، وترفع أنظارنا إلى عدالة سوف يتعدّاها يسوع ليصل بنا إلى شريعة ترفض مقاومة الشر وتدفعنا إلى الصلاة عمن يضطهدنا (مت 38:5 ي).
وإذا كانت التوراة قد قبلت بشريعةِ المِثْل، فلأنّها الطريقة الفضلى لتحقيق مجتمع مثالي فيه يتغلّب النظام والسلام على مصلحة الأفراد. وهذا النظام الاجتماعي على نقصه وضعفه يكفل له الرب قيمتَه الدينية، وقد استوحى منه الكاتب الاشتراعي ليشرع في أمور عديدة.

4- الحرب المقدّسة: 25: 1- 25
يجد مثالُ الحرب المقدّسة كما يصوّره سفر التثنية تعبيرًا له في القانون الاشتراعي الذي يعارض فكرة الجيش المحترف، ويسعى إلى تسليم مهمة الدفاع عن البلاد إلى يد الشعب. والشرائي التي تنبع من هذا القانون ليست بجديدة، بل هي قديمة لأنّها إعادة لشرائع سابقة. أمّا الجديد في هذه الشرائع فالروح الخاصة بلاهوت سفر التثنية.

20: 1- 4: إرشاد أوّلي
كان للمركبات الحربية تأثير كبير في المقاتلين، وبالأخصّ إذا كان المقاتلون من البدو الرّحل. ولقد ظلّ بنو إسرائيل يخافون الخيل والمركبات رغم انتصاراتهم هنا وهناك (خر 14: 26- 28؛ قض 13:4- 16؛ 2 صم 8: 4 ؛ 10: 18).
الكاهن الذي يخاطب الشعب هو أحد القوّاد. وهو يقول كلمة الرب التي توجّه سير المعركة وهو يقوم بممارسة الطقوس التي تكفل للشعب تدخل الله إلى جانبه في المعارك.

آ 5- 9: تنظيم الجيش
كان الكتبة ينظّمون التعبئة العامّة، فيحدّدون العدد اللازم، ويبعدون غير المؤهّلين، ويعفون من الخدمة من يجب إعفاؤه. من بنى بيتًا ولم يدشنّه، من غرس كرمًا ولم يقطف ثمره، من خطب امرأة ولم يتزوّجها (أي كان عريسًا جديدًا). نحن هنا أمام طريقة إنسانية تأخذ بعين الاعتبار الحالات الخاصة.
ويسرّح القادة الرجال الخائفين، ليس بسبب الحرب فقط، بل وكذلك لسبب ديني: فالخوف ينبع من قلّة الإيمان، وقلّة إيمان البعض يصدّع إيمان الآخرين. في هذه الحالة، من يتجاسر بعد على إظهار خوفه!

آ 10- 18: مصير المهزومين
لا يجب على بني إسرائيل أن يلزموا نفوسهم بسفك دم لا ضرورة فيه.
إذا استسلمت مدينة بلا قتال، تُحفظ حياة أهلها.

آ 19- 20: الحفاظ على الشجر المثمر
كان المحاربون المهاجمون يقطعون الأشجار ويردمون الآبار (رج 2 مل 3: 19- 25)، متناسين أنّ الحياة ستعود إلى المدينة بعد الحصار، وأنّ السكّان سيحتاجون إلى طعام وشراب. من هنا كانت الشريعة: لا تتلفوا شجرها بالفؤوس لأنّكم منها ستأكلون

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM