الفصل الخامس: شعائر العبادة

الفصل الخامس
شعائر العبادة
12: 1- 16: 17

أ- المقدمة
نجد هنا أطول فصول القانون الاشتراعي، وهو يتميّز بطابعه الخاص وكمال تأليفه. استقى الكاتب الكثير من الشرائع القديمة وأعاد صياغتها بأسلوبه الخاص وعلى ضوء اللاهوت الذي يوجّه أفكاره.
ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- موضعٌ واحد للعبادة: 12: 1- 31
كان تركيز العبادة في أورشليم وهدم سائر المعابد أهمّ عنصر في الإصلاح الاشتراعي، وهذا ما يميّزه عن كتاب العهد (20: 24- 26). فبينما يأخذ كتاب العهد بعين الاعتبار قضية المعابد المختلفة، فالقانون الاشتراعي يعتبر أنّ المكان الذي اختاره الله لعبادته واحد ولا معبد سواه. بهذه الطريقة (وحدة المعبد) تتأمّن نقاوة ديانة بني إسرائيل وولاؤهم لربّه. ولقد اختار الكاتب الاشتراعي معبد أورشليم الذي تفوّق على سائر المعابد بسبب ارتباطه بعرش داود وعهده (2 مل 7: 1 ي): إنّ الرب اختار أورشليم مكانًا لهيكله.
وعندما اكتشف يوشيا الكتاب وعرف ما يهدّده ويهدّد مملكته، قبل بضرورة وجود معبد واحد، وجعل كلّ عبادة في بني إسرائيل تحت رقابته الشخصية.
وبما أنّ سفر التثنية هو، كما يعتقدون، وصيّة موسى المتحدث إلى شعبه في أرض موآب ليلة دخول بني إسرائيل إلى أرض كنعان، فلا يمكن والحالة هذه ان يعني المعبد المركزي أورشليم (وهيكلها بُني فيما بعد). وهذا ما حمل بعض العلماء على القول إنّ سفر التثنية هو إعادة لشريعة قديمة تتعلّق بمعبد مركزي أخذت به رابطة القبائل المتحالفة وجعلت فيه تابوت العهد، وكانت تجدّد العهدَ مع الرب بشكل دوريّ في هذا المعبد (9:31 ي). ولكنّ هذا الرأي ينسى أنّ سفر التثنية لا يهمّه أن يجعل من أورشليم معبدًا لبني إسرائيل المركزي وحسب، بل أن يعلنها المحلّ الوحيد الصالح لإقامة شعائر العبادة. ونحن نتساءل هل نحن أمام نسخة أولى ظهرت في عهد حزقيا ثمّ نسخة ثانية ظهرت في عهد يوشيا؟ الأمر معقول.

12: 1-7: معبدٌ واحد
بعد المقدّمة نجد عرضاً للشريعة يفترض أنّ الكنعانيين قد زالوا من الأرض (وهذا لم يتحقّق قبل نهاية الملكية) بينما ظلّت ديانتهم تجتذب بني إسرائيل بشدّة. ولقد أرادت هذه الشريعة أن تحارب إغراءات الديانة الكنعانية، فمنعت من استعمال معابد الكنعانيين، وأمرت بهدمها على مثال ما يأمر به قانون العهد (خر 23: 24؛ 13:24). والمعلوم أنّه عندما يُهدم معبد الإله، فالإله يخسر كلّ اتصال له بالبشر، ويزول اسمه من بين البشر. الله يختار موضع معبده، فلا يريد أن يقيم حيث أمام الآلهة الوثنية، ولا أن يُعبَد على بقايا معابد وثنية (خر 20: 22).
يذكر الكاتب في آ 6 لائحة بالأعمال الليتورجية التي تمارَس، ولكنّه يهمل ذكر ذبيحة الخطيئة وذبيحة الإثم اللتين تشغلان مركزًا هامًا في التشريع الكهنوتي. والسبب في ذلك هو أنّه يجعل الخطيئة في الإطار الأخلاقي، لا في الإطار الطقسي (نجس بحسب الشريعة) أو أنّه يعتبر نمط الذبيحة في ذبيحة السلامة، أي تلك الوليمة المقدّسة العائلية التي يشكرون فيها لله إنعامه ويعبرون بها أمامه عن فرحهم.

آ 8- 12: الشريعة الجديدة
كانت الفوضى في كلّ مكان قبل إقامة الشعب في أرض كنعان. أمّا بعد الدخول إليها فسيحلّ النظام والهدوء، ويعرف الشعب الراحة بعد التيهان في البرّية، ويعيش حياة كلّها انسجام مع الرب.
اللاويون الذين لا نصيب لهم في أرض بني إسرائيل قد حرموا وسائل العيش بعد هدم المعابد المحلية. إنّهم منذ الآن يحتاجون إلى صدقات المؤمنين ليقوموا بأودهم.

آ 13- 19: ذبح الحيوانات الداجنة وأكلها
قبل الإصلاح الاشتراعي كان ذبح الحيوانات الداجنة لأكلها ذبيحةً ذات طابع مقدّس. ولهذا كان يحمل الحيوان إلى المعبد وكانوا يقدّمون الدم للرب. ولكن بعد ازالة المعابد المحلية، لم يعد من الممكن نحر هذه الحيوانات في أورشليم، فصارت تُذبح في أماكن مقدّسة، على أن يبقى ممنوعًا أكلُ الدم، بل يُراق على الأرض قبل بداية الوليمة. هنا يفترق القانون الاشتراعي عن قانون القداسة )لا 17- 21) الذي يريد أن يُنحر كلّ حيوان في المعبد المركزي، في أورشليم )لا 17: 1ي).

آ 20- 28: وليمية مقدّسة ووليمية عادية
لم يعد شعب إسرائيل محصورًا في منطقة صغيرة تدور فيها الحياة حول المعبد، بل انتشر في أنحاء فلسطين وخارج فلسطين. لهذا، فالمؤمن يحتفل بالوليمة المقدّسة في المعبد، ويحتفل بسائر الولائم حيث يشاء من بلاد الله الواسعة.
وينبّه المشترع إلى أنّ الدم هو ملك الله وحده، هو النفس، هو الحياة.

آ 29- 31: التحذير من عبادة آلهة الأمم
لا يكفي أن يكون المعبد بحسب إرادة يهوه، بل يجب ان لا يخالط شعائرَ العبادة ايُّ عنصر غريب عن ديانة الرب (رج لا 24:18).
"أحرقوا بنيهم وبناتهم بالنار". هذه الذبيحة لمولك كانت تقام في وادي بني هنوم قرب أورشليم في السنوات الأخيرة للملكية في أورشليم (لا 20: 1- 5؛ إر 7: 31، 32: 35).

2- الكفر وعبادة الأوثان: 13: 1- 14: 2
هذه الشرائع هي تطبيق للوصية الأولى وهي تشكل عنصرًا جوهريًّا من القانون الاشتراعي، إذ توضح موقف الجماعة أمام أيّ إغراء يدعوها لتتخلّى عن الرب وتلتحق بآلهة أخرى. عبادة الأوثان أخطر خطيئة في الكتاب المقدّس.
وبعد أن ينبّه النص المؤمنين إلى خطر الكفر، يعطي ثلاثة أمثلة مأخوذة من الحياة اليومية: في الإطار الرسمي، داخل العائلة، وفي مدينة ترتد كلّها إلى الشرك. أمّا ردّة الفعل عند المؤمنين فهي التصرف من دون هوادة ولا رحمة: اقتله قتلاً.

13: 1-6: النبي الكاذب
إذا دعا نبيّ إلى عبادة آلهة أخرى، فهذا النبي يكون كاذبًا ويحلّ قتله. فلا رجوع عن العهد مع الرب: لا إله لبني إسرائيل إلا ذلك الذي أخرجهم من أرض مصر.
هنا نرى كيف أنّ سفر التثنية يحكم على من يعتبرون نفوسهم أنبياء على مثال الأنبياء الحقيقيين. كان الأنبياء الحقيقيون يتحفظون من الأنبياء المحترفين وممّا في ممارساتهم من غلوّ و إفراط (عا 7: 14، زك 13: 2- 6)، ويشكون "بالوحي" عبر الأحلام بانتظار أن يعتبروه نبوءة كاذبة (ار 26:23 ي ؛ زك 10: 22).
لا نجد في التوراة مثلاً عن أنبياء كذبة، بل عن أنبياء كانوا يراعون شعور الملك فلا يقولون الحقيقة ويجارونه في تصرّفاته الشريرة. ولكن حتّى هؤلاء الأنبياء فقد ظلّوا أقليّة بين أنبياء شعب الله.

آ 7- 12: إغواء الأقارب
يدعو أحدهم قريبه أو صديقه إلى الكفر بالله. الشريعة: الذي يغوي صاحبه يُفشى أمره ويُرجَم. ولكنّ هذه الشريعة ظلت نظريّة ولم تُطبّق يومًا في بني إسرائيل، إلا أنّ روحها بقيت حاضرة. لا شيء يبرّر الكفر حتّى العلاقات بين الأقارب والأصحاب. إنّ حبّ الله يسمو كلّ حبّ بشري.
في آ 8 يذكر الكتاب "القريبين والبعيدين " أي آلهة الكنعانيين وآلهة البابليين.
في آ 11 عقاب الرَّجْم. يرجمون الخاطئ (من بعيد) فيدلّون أنّه قُطع من الجماعة ومن مسّه صار نجسًا مثله. ثمّ إنّ الرجم يسمح للجماعة بأن تنفّذ حكم الإعدام بشخص من الأشخاص فتزيل الشرّ من وسطها وتشارك في المحافظة على النظام داخل شعب الله. وعندما يُرجم شخص يَبدأ أفراد عائلته برميه بأوّل حجر ليدلّوا على أنّهم لا يجارونه في كفره.

آ 13- 19: المدينة الكافرة
إذا أغوى بعض المواطنين مدينة بكاملها فعبدت آلهة أُخَر... بعد التحقيق يكون مصير المدينة كمصير الوثنيين، أعداء شعب الله: يقدَّمون كذبيحة محرقة لله، وهكذا تتخلّى الجماعة عن تضامنها مع هذه المدينة، وتطلب إلى الرب أن يسامحها عن الجريمة. هذه الشريعة طبّقت في زمن الحياة في البرّية (خر 26:32- 29 ؛ عد 25: 4- 9).
ثمّ طبّقها القانون الاشتراعي على المدينة التي حلّت محل القبيلة كإطار اجتماعي، ثمّ نبّه إلى أهمية المحافظة على الإيمان في الزمن الحاضر كما في الأزمنة القديمة.

14: 1- 2: المحرّم في الحِداد
أنتم أبناء الرب (رج 5:32، 19). الشعب هو ابن الله (هو 11: 1؛ خر 4: 22- 23) لانه مكرَّس لله، ولأن الله علة وجوده وهو يمنحه حبه كما يمنح الأب ابنه (1: 31؛ 8: 5؛ مز 3:103) ويعطيه ميراثًا، أرض كنعان. ولكن أن يكون الله أبًا لكل فرد من أفراد شعبه، فهذا أمر سيكتشفه بنو إسرائيل فيما بعد عندما يعرفون قيمة كلّ إنسان أمام الله (رج اش 1:2-4؛ 1:30).
تقول الشريعة: لا تخدشوا أجسادكم. كلّ هذه العادات التي نشاهدها عند الشعوب الوثنية لا يجب أن يمارسها شعب الله. غير أنّ هذه الشريعة لم تمارس لا في الحِداد الفردي (ار 16: 6) ولا في الحِداد الوطني (عا 8: 10؛ اش 22: 12 ؛ ار 41: 5؛ حز 18:7).
لقد عارضت ديانة بني إسرائيل كلّ طقوس خاصة بالموتى (18: 11؛ عد 19: 11- 18؛ 31: 19) لأن مصير الموتى متروك إلى يد الله.

3- شرائع خاصة بالأطعمة: 14: 3- 21
هذه الشريعة هي قريبة من التي قرأناها في لا 2:11- 32 وهي تعود إلى المرجع نفسه. هي تميّز بين ما يؤكل من الحيوان. ولكن ما هو المعيار للتمييز بينها؟ النفور الطبيعي، الخرافة، سبب مرض، رغبة في الابتعاد عن ممارسات الكنعانيين.
تحاشت الشريعة الكهنوتية عن أكل بعض الحيوانات للمحافظة على طهارة المؤمنين. أمّا الشريعة الاشتراعية فلتشديد على الطابع القومي الذي يفرّق بين بني إسرائيل وبين سائر الشعوب.

آ 3: القاعدة العامّة: لا تأكلوا رجسًا
وبعد القاعدة العامة تأتي الأمثلة عن البهائم ثمّ الأسماك، ثمّ الطيور، ثمّ الحشرات.

آ 21: لا تأكلوا حيوانًا فاطِسًا
من يدري كيف سال دمه على الأرض. لا تطبخوا جَدْيًا بلبَن أمه. يبدو أنّنا هنا أمام طقس عرفته أوغاريت، يقام في الربيع طلبًا للخصب. ولكن على بني إسرائيل أن يتميّزوا عن سائر الشعوب لأنّهم شعب مقدّس للرب.

4- طقوس زواعية وشرائع اجتماعية: 14: 22- 15: 23
14: 22- 29: العُشور
كان كلّ إسرائيلي يقدّم عُشْرَ غِلاله في المعبد المحلّي، ويشارك المؤمنين في وليمة تذكّرهم بأنّ الأرض للرب، وأنّه هو الذي يعطي شعبه الحنطة والخمر والزيت... ولكن لمّا تركّزت العبادة في هيكل أورشليم وأُلغيت المعابد المحلّية، لم يعد بمقدور اليهود القاطنين بعيدًا عن أورشليم أن يقوموا بهذا الواجب. فسُنّت شريعة جديدة تدعو إلى بيع العشر وحمل ثمنه إلى أورشليم حيث يتمّ الاشتراك في الوليمة المقدّسة. وسيكون فيما بعد تنظيم آخر خاص باللاويين العائشين في المناطق (لا في أورشليم) والذين يعيشون من صدقات المؤمنين.
هم لا يأكلون كلّ العشر في الوليمة المقدّسة، بل يتركون قسمًا كبيرًا منه من أجل الكهنة. كذلك هم لا يشترون بالمال كلّه طعامًا وخمرًا بل يدفعون القسم الأكبر من المال لخدمة المعبد. أمّا هذه الوليمة فهي مناسبة فرح عائلي للجماعة كلّها: افرحوا أنتم وأهل بيتكم (آ 26).
في آ 28 يطلب المشترع من المؤمن أن يكرّس عشر غلّته للاوي والغريب واليتيم والأرملة الذين لا ملك لهم يسستثمرونه (8:10؛ 12:12 ؛ 18: 1- 8).
قالوا: كان هناك تشريعان: تشريع في الجنوب يحمل العشر إلي الهيكل، وتشريع في الشمال يجعل العشر للاوي والمسكين... المهمّ أنّ القانون يسمح لنا بأن نفهم هذه الشريعة بطريقة جديدة، وهي تسمح للمؤمن بأن يعطي للمساكين ما يجب أن يقدّمه للرب. إنّ مصلحة المسكين مرتبطة بمصلحة الله (24: 15؛ أم 22: 23) الذي يحبّ التقدمات التي تُعطى له في شخص الفقراء والمعوزين (أش 1: 13- 15 ؛ هو 6:6؛ مت 25: 40).

آ 15: 1- 11: السنة السابعة أي سنة الإعفاء من الدَّيْن
يختلف الدين المتوجب إلى الإسرائيلي عن الدين إلى الغريب. فالدين إلى الإسرائيلي يُلغى كلّ سبع سنوات، في سنة الإعفاء. أمّا نوع القرض فيتضمّن أن يَرهُنَ الشخص نفسه إن لم يقدر أن يدفع دينه. أمّا نتيجة هذا القانون فليست فقط الإعفاء من الدَّيْن، بل تحرير كلّ من أخذ رَهْنًا بسبب دينه. وستأمر الشريعة الدائن فيما بعد أن يكون كريمًا سخيًّا: وإن كانت سنة الإعفاء قريبة، فلا يتورعّ من إقراض الفقير والمحتاج.
بعد انقضاء السنة السابعة (آ 1). تفترق شريعة الإعفاء عن شريعة إراحة الأرض. (خر 23: 1ي). فهدف إراحة الأرض هو تأمين العيش للبائس ولحيوان البَرّ، مع العلم أنّ إراحة الأرض كانت تتمّ بحسب نظام دَورَانيّ: في هذه السنة تستريح هذه الأرض، وفي تلك السنة تلك الأرض. لا يذكر سفر التثنية نظام إراحة الأرض، وهذا يعني أنّ الناس لم يعملوا به. لهذا جعل المشترع شريعة أخرى يطلب فيها من الحاصد أن يترك بعض سنبله، والفلاح بعض ثماره، فتكون للغريب واليتيم والأرملة (14: 28 ي؛ 24: 19 ي).
في آ 3 يميّز الكاتب الإنسان الأجنبي عن الإسرائيلي. أمّا الغريب الأجنبي فطالبه وافرضْ عليه أن يدخ المال مع الرِّبى.
ستكون البركة شاملة للجميع، فلا يكون محتاج في شعب الرب، هذا إذا أطاعوه. أمّا إذا عصوا أوامره فسيكون الفقر رفيقهم. وبما أن الأرض لن تخلو من محتاج (آ 11)، فافتحوا أيديكم لإخوتكم. أقرضِوهم قدْرَ ما يحتاجون. يقول مز 38: 21: يستقرض المنافق ولا يفي، أمّا الصدّيق فيرأف ويعطي.

آ 12- 18: تحرير العبد العبراني
كلّ عبد عبرانيّ يُحرّر بعد ست سنوات من الخدمة. يُطلق ويعطي له زاد من نتاج الغنم والبيدر والمعصرة، أمّا إذا أراد أن يبقى عندك... وهنا يكمل القانون الاشتراعي ما قاله قانون العهد (خر 2:21- 11).
يميّز النص بين العبد العبراني الذي يُطلق، والعبد الأجنبي (أسير حرب أو غيره) الذي لا حقّ له في الحرية. ويميّز أيضاً بين العبد العبراني والجارية العبرانية. فالجارية لا تعود مرتبطة بسيّدها كلّ سنين حياتها، بل يمكنها أن تُطلق حرّة كالعبد.
وأمّا المعنى الديني لهذه الشريعة فهو: كان بنو إسرائيل عبيدًا في مصر فحرّرهم الله. ولهذا فهم عندما يحرِّرون عبيدهم إنّما يعبّرون عن شكرهم لربّهم الذي حررهم من العبودية. لهذا السبب عينه يريح بنو إسرائيل عبيدهم من العمل يوم السبت ليحتفلوا معهم بالخلاص من مصر.
هذه الشريعة على تحرير العبد الآتية من مملكة الشمال، لم تعرفها مملكة الجنوب، ورفضت الأخذ بها بعد إعلان سفر التثنية وسماع كلامه. كان الملك حزقيا قد قام بمحاولة باءت بالفشل (إر 8:34 ي). وقدّم قانون القداسة بعد الجلاء تشريعًا آخر (لا 39:25-43) فقال فيه: "إذا رقّت حال أخيك معك فباع نفسه لك فلا تستخدمه خدمة العبيد، بل كأجير ونزيل يكون معك ".

آ 19- 23: أبكار البهائم
تعوّد المؤمنون أن يقدّموا أبكار بهائمهم لله معترفين أنّ كلّ حياة مُلْك له (خر 13: 2؛ 11- 16؛ 22: 29 ي ؛ 34: 19 ي). ولكن بسبب تركيز العبادة في أورشليم، كان لهذه الشريعة أن يعاد النظر فيها. لن يؤخذ البكر من البهائم إلى هيكل أورشليم، بل يذبح حيث يقيم المؤمنون ويكون ذبيحة سلامة. يقدّمه المؤمن للرب فيقدّم معه كل نتاج بيته.
لا تستعمله (آ 19) لأنّه مكرّس للرب، فلا يكون لخدمة البشر.
لا يُذبح البِكْر في اليوم الثامن (خر 22: 30) بل خلال أوّل سنة من عمره. ويذبح لا في أورشليم بل في المكان الذي وُلد فيه.

5- أعياد السنة: 16: 1- 17
عندما دخل العبرانيون أرض كنعان أخذوا بأعياد الكنعانيين الزراعية الثلاثة: عيد الفطير (ربطوا به عيد الفصح)، عيد الأسابيع أي عيد الحصاد، عيد المظالّ أو عيد القطاف. هذه الأعياد الثلاثة تحدّد مراحل حياة المزارع: منذ قطع أوّل سنبلة شعير، إلى إنهاء حصاد القمح، وإلى إكمال قطف سائر المحاصيل كلّها.
في أوّل تاريخ شعب الله في كنعان، كانوا يعيّدون هذه الأعياد في المعبد المحلّي، ولكن بعد إصلاح يوشيا أخذوا يعيّدونها في هيكل أورشليم دون سائر المعابد. ولهذا يُعِيد سفر التثنية النظر في هذه الشريعة (خر 23: 14- 17؛ 18:34- 24) في ضوء الظروف الجديدة.

16: 1-8: عيد الفصح
يرجع القانون هنا إلى عناصر قديمة (راجع خر 7:13؛ 25:34 وقابلها مع تث 16: 4) فيؤلّف بينها تأليفًا مبتكَرًا إن من الناحية اللاهوتية أومن الناحية الليتورجية، فيبرّر لنا (عكس سائر القوانين) كيف مارست القبائل هذا العيد في بداية العهد الملكي. نلاحظ أوّلاً أنّ سفر التثنية يتبع هنا شريعة الكهنة (خر 12: 1ي، حز 45: 21) فيجمع في عيد واحد عيدين تعودّت القوانين القديمة أن تميّز بينما تمييزًا تامًّا، عنيت جدا عيد الفصح وعيد الفطير إلاّ 15:23 ؛ 2 أخ 17:35).
عيد الفطير هو عادة أناس عائشين على أرضهم لا عادة بدْو رُحَّل لا يستقرّون في مكان. احتفل به الكنعانيون فكانوا يعجنون عجينًا جديدًا بلا خمير، ليعيّدوا أوّل سنابل الشعير. كانوا يأكلون خبز الفطير هذا أسبوعًا كاملاً، وينهون أيّام العيد بحجّ إلى معبد إلههم (راجع كلمة حج في العربية. خر 13: 6، لا 23: 6). متى كانوا يعيّدون؟ في شهر أبيب، شهر السنابل (15 آذار- 15 نيسان).
إنّ الخبز الفطير المعروف عند البدو (تك 3:19) هو بالنسبة إلى بني إسرائيل رمز لحياتهم في البرّية، وقد أعطاه سفر الخروج (12: 34) تفسيرًا فقال: بسبب السرعة في الخروج من مصر لم يكن لهم الوقت الكافي لكي "يطلع " عجينهم. أمّا المعنى الحقيقي فهو أنّ الفطير هو تذكار الخروج (خر 34: 18)، تذكار العبور من مصر وحياتها السهلة إلى البرّية وحياتها القشفة، العبور من عبادة الأوثان إلى الحياة مع الله.
عيد الفصح يحتفل به البدو، فيذبحون في الربيع بِكْرًا من أبكار ماشيتهم.
ما معنى كلمة فصح؟ هناك تقليد يرجع الكلمة إلى "فسح " العبرانية (راجع في العربية فَسَحَ أي باعد خَطْوه) ومعناها قفز ليدلّ على أنّ الرب قفز فوق بيوت العبرانيين فلم تصل اليهم الضربة. وهناك رجوع إلى أصل الكلمة المصرية (فاش) التي تعني التذكار والعيد (راجع عبارة "عيد فصح الرب ") أو تعني مأثرة وعملاً بطوليًّا فتدلّ على ما فعله الله عندما اخرج شعبه من مصر ولكن يبقى أنّه في هذه النصوص كما في غيرها، صارت كلمة الفصح تعني ذبح الخروف والضحيّة المذبوحة، وهذه الضحيّة تكون من البقر أو الغنم. تلك كانت العادة المعمول بها في شعب إسرائيل. أمّا الجديد في سفر التثنية فهو يفرض أنّه يحتفل المؤمنون بالفصح، لا في المنزل العائلي، بل في المعبد الوطني وفي وقت محدّد. في هذه المناسبة الفريدة كانت الجماعة تعي وحدتها كشعب خاص بالله والذين لم يُتَح لهم أن يعيشوا ملحمة الخروج سيتعلّمون أن يذكروا يوم خروجهم (في آبائهم) من مصر (آ 3). فشعب إسرائيل "كائن حيّ " وعليه أن يتذكّر كلّ يوم من تاريخه ما صنعه الرب له. وهذا الذكر هو جوهر الوعي الديني عند كلّ واحد من الجماعة على مدى الأجيال. والفصح يربّي في الشعب هذا الوعي، فيجعل كلّ فرد يعيش اختبار التحرّر الأوّل كما لو كان حاضرًا. وهذا ما يفرض على المؤمن (كما على آبائه) أن يُلزم نفسه بخدمة يهوه كعضو في شعب محرر. ذاك كان برنامج سفر التثنية.

آ 9- 12: عيد الأسابيع أو عيد الحصاد
عدّوا سبعة أسابيع... هذا هو عيد نهاية الحصاد. في البدء لم يكن للعيد وقت محدّد، بل كانوا يعيّدون عندما ينتهون من أعمال الحصاد. ولمّا تحدّد بعدد الأسابيع سمّي عيد الأسابيع السبعة (رج خر 16:23). إرتبط هذا العيد بالأرض قبل أن يُعطى معنى تاريخيّا، فيرتبط بعطية الوصايا العشر على جبل حوريب (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ ما يخرج، بل بكل وصيّة تخرج من فم الله. رج تث 3:8).
في هذا العيد كان المؤمنون يذهبون إلى الحج فيقضون قرب المعبد يومًا كاملاً (خر 22:34): يقدّمون غلالهم ويشاركون في وليمة عائلية مقدّسة.
نلاحظ هنا أنّ سفر التثنية يطلب إلى المؤمن أن يشرك في وقته الغريب واليتيم والأرملة. وسيقول يسوع في هذا الإطار: "إذا أقمتَ وليمة، فأدعُ الفقراء والمشوهين والعرج والعميان. وهنيئا لك إذا فعلت لأنّهم لا يقدرون أن يكافئوك، فُتكافَأ في قيامة الأبرار" (لو 13:14-14).

آ 13- 15: عيد المظالّ
كان الفلاّحون يقيمون في مظالّ أو خِيم خلال وقت قطاف العنب، ولهذا أخذوا يعيّدون عيد المظالّ. كان هذا العيد أكثر الأعياد بهجة وفرحًا (بسبب وجود الكرمة)، يدوم سبعة أيّام يأتون فيها إلى المعبد بعد الإنتهاء من العمل في الحقول.
كانوا يعيّدون في الخريفي بشكل نهاية السنة، وكان أوّل الأمطار يشكّل بداية السنة الجديدة.
سيأخذ هذا العيد فيما بعد في حياة بني إسرائيل معنى تاريخيًّا، فيرتبط بحياة الشعب في البرّية وإقامتهم في الخيام يوم لم يكن لهم بيوت يسكنونها.

آ 16-17: مُلخَّص
ثلاث مرّات في السنة يحضر جميع الذكور... فيعلنون إيمانهم بالرب المخلّص وسيّد هذه الأرض التي يقيمون بها.

ج- ملاحظات حول الفصل الخامس
1- موضع واحد للعبادة
لشريعة المعبد الواحد دور مهم، لا بل هي الشريعة الاساسية في عالم الليتورجيا، إن لم تكن الأولى في عالم اللاهوت الاشتراعي.
عندما يتحدّث سفر التثنية عن المعبد الشرعي يلفت نظرنا إلى عنصرين اثنين: الأوّل: اختيار الرب لمعبد خاص به، والثاني: وحدة المعبد من دون سواه من المعابد. فالعنصر الأوّل لا ينفي تعدّد أماكن العبادة بحسب قانون العهد (خر 20: 24)، والعنصر الثاني يبدو بالنسبة إليه مطلبًا جديدًا له أُسُسه اللاهوتية وهو نتيجة تنظيم دولة: إنّ وحدة المعبد تساعد وحدة الدولة، وسفر التثنية يهمّه وجود دولة موحّدة وقويّة.
جاءت شريعة المعبد الواحد بعد النظام الملكي. ولكنّ النصوص الكهنوتية تُرجع وحدة المعبد إلى عهد موسى. إنّما الواقع هو غير ذلك. فما يرجع إلى موسى أو إلى عهد موآب هو عبادة مشتركة لرابطة القبائل حول معبد تابوت العهد، ولكنّ هذه العبادة المشتركة لم تكن تستبعد أشكالا أخرى من العبادة أكثر تكيّفًا والحياة اليومية، تقام في معابد ريفية أو عائلية. وإنّنا لنجد أشخاصاً مثل صموئيل (1 صم 9: 12- 14) أو شاول (1 صم 14: 35) أو داود (2 صم 24: 25) أو ايليا (1 مل 18: 19) تصرّفوا وكأنّ وحدة المعبد لا تهمّهم. ولقد قال بعض الأنبياء إنّه قبل الدخول إلى أرض كنعان، لم تكن العبادة منظّمة (عا 5: 25)، ولم يكن هناك قاعدة واحدة لإقامة رُتَب العبادة (إر 22:7).
وهكذا تكون إزالة المعابد المحليّة أمرًا جديدًا في حياة بني إسرائيل، وإن لم تكن الفكرة جديدة. فمركزيّة العبادة بدأت في بعض المناطق (في الجليل مثلاً) وتكوّن تيّار فكري لتوحيد المعابد منذ القرن الثامن ق. م. عند أنبياء ندّدوا بالمعابد الموجودة في أيّامهم، فلم يميّزوا معبدًا عن آخر (عا 4: 4- 5 ؛ هو 13:4- 15). وقد كانت محاولة أولى في عهد حزقيا (2 مل 18: 4- 22 ؛ 2 أخ 31: 1) لجعل معبد أورشليم المعبد المركزي في مملكته. هذا التطور الذي عرفته جماعة بني إسرائيل سيثبته سفر التثنية بشكله النهائي كما سيثبت النُظم المدنية التي سنقرأها.

2- سَنَةُ الإعفاء
نقرأ في 15: 1: في كل سبع سنوات تجرون إعفاء من الدّيون. وقد زاد سفر التثنية: كلّ منكم يعني أخاه مِمّا أقرضه، فحصرَ الشريعة ببني إسرائيل دون الآخرين.
أمّا أساس هذه الشريعة (رج خر 23: 10- 11؛ لا 25: 1ي) فراجع إلى عادة زراعية: كانت الأرض ترتاح مرة كلّ سبع سنوات، وبالتالي كانت تتوقف إعادة الديون لأنّ كلّ الغنى محصور في الأرض. لأجل هذا كانت القروض تُدفَع عملاً إذ يشتغل المقترض في أرض من أقرضه المال (23: 20)، وهكذا يزول الدين.
في القرن الثامن ق. م. تبدّل وجه اقتصاد البلاد، فأخذ الواحد يقرض قريبه مالاً يردّه إليه مع فائدته. وجاء الكاتب الاشتراعي فطبّق الشريعة القديمة على الحالات الجديدة وجعلها شريعة اجتماعية تهدف إلى حماية البؤساء والمساكين.

3- العيد والفرح
العيد هو عنصر أساسي في كلّ الديانات، تحتفل به الجماعات في أوقات معيّنة، فتعبّر فيه عبر طقوسها عن فرحها بالرب وتشكر له إنعامه وتسأله أن يفيض عليها بركاته وخيراته.
عندما دخل العبرانيون أرض كنعان اكتشفوا أعيادها الزراعية، وخاصّة أعياد الحصاد والقطاف، وشاركوا شعبها في هذه الأعياد. إلا أنّهم سيربطون هذه الأعياد بتاريخهم المقدّس، فيصبح عيد الفطير عيد الخروج من مصر، وعيد الأسابيع عيد إعطاء الوصايا في حوريب، وعيد المظالّ تذكارًا لإقامة الشعب في البرّية برفقة الرب.
في العيد يتذكّر المؤمن ربّه خالقًا ومخلِّصاً، خالقًا أعطاه هذه الأرض الطيّبة التي تدرّ له لبنًا وعسلاً، ومخلّصاً حرّره من عبودية مصر وجعله يعيش عيش الأبناء في أرض منحها الله له. والعيد ينفح قلب الشعب بالرجاء والأمل، يذكّره بالماضي ويرفع عيونه إلى المستقبل: إنّ الله الذي خلّص شعبه سيخلّصه أيضاً، إنّ الرب الذي أعطى خيره لن يتوقّف عن عطائه.
والعيد هو خاصةً وقت الفرح: "هذا يوم عيد الرب، فلنبتهج ونفرح فيه " (مز 118: 24). إلى العيد يذهب الحجّاج وهمِ يهتفون: "فرحت بالقائلين لي: إلى بيت الرب نذهب " (مز 122: 1). وهم يرنِّمون: "حقًا صنع الرب معنا صنيعًا عظيمًا وصرنا فرحين " (مز 3:126). ويردّد سفر التثنية (16: 14- 15): "وَافرحْ في عيدك هذا، أنت وابنك وابنتك وعبدك وامرأتك واللاوي والغريب واليتيم والأرملة. الرب يباركك في جميع غلاّتك وفي كل أعمال يديك فلا تكون إلا فرحًا".
أمّا عاطفة المؤمن أمام أعمال الله العظيمة فعاطفة البهجة والسرور. يقول المرتِّل: "أُنشد للرب كلّ حياتي، وأُرتّل له ما دمتُ. عسى يروق له نشيدي فأفرح كلّ الفرح بالرب " (مز 104: 33- 34). وهو يدعو جميع المؤمنين لمشاركته "فرحة الرب بأعماله " (مز 104: 31)، فيقول لهم: "تعالوا نرنِّم للرب ونهتف لخالقنا ومخلصنا. نتقدّم أمامه بالحمد، ونهتف له الترانيم، لأنّ الرب إله عظيم وملك على جميع الآلهة" (مز 95: 1 - 3).
هذا الفرح يكتشفه المؤمنون عندما يشاركون الجماعة في احتفالها بأعيادها، فيحمدون الرب ويرتّلون له لأنّه دعاهم لأن يفرحوا أمامه (18:12) وأن يُسرّوا بالاجتماع معه كالأبناء حول أبيهم. "ما أطيب وما أنعم أن يُقيم الإخوة معًا" (مز 133: 1). وما الله أن يسير المؤمنون في طَوافٍ إلى بيت الله. "أستعيد ذكرياتي فتذوب نفسي، فلطالما عبرتُ مع الجموع أقودهم في موكب نحو بيت الله بصوت ترنيم وحمد وهتاف كأنّهم في عيد" (مز 52: 5)، "أقودهم أمام الرب فينشرحون ويغتبطون ويفرحون " (مز 62: 4)، "يعبدون الرب بالفرح ويقومون أمامه بالترنيم " (مز 100: 2) في اليوم الذي صنعه.
هذا الفرح يكتشفه المؤمنون عندما يكونون أُمناء للعهد سامعين لكلام الله وعاملين به. حينذاك يرضى الرب عن شعبه، فيمجد المساكينُ الله لتخليصه إيّاهم، ويغتبط الأتقياء ويرنّمون فرحًا ويعظمون الله ملء أفواههم (مز 148: 4- 6). ففرحة المؤمنين عظيمة بالله (مز 33: 21، 37: 41) وبكلامه وشريعته التي هي كنزهم ومبعث سرورهم ونعيمهم. يقول مز 119: 14، 141، 162: "السلوك في فرائضك يسرّني أكثر من كلّ ثروة... قبلتُ فرائضك إلى الأبد لأنّها سرور قلبي... وأنا أسرّ بوليمتك كمن وجد غنيمة وافرة". هؤلاء المؤمنون العاملون بوصايا الله يمكنهم أن يتهللوا ويفرحوا ويعظّموا الرب (مز 3:34)، لأنّ رحمته تحيط بهم وقد توكّلوا عليه (مز 32: 10). الرب هو خيرهم الوحيد وفيه وحده وجدوا سعادتهم (مز 2:16)، وهم يهتفون له مع المرتّل (مز 16: 9- 11): "يفرح قلبي وتبتهج روحي، ويبقى جسدي في أمان. لا تبعدْني إلى الجحيم، ولا تدع قدّوسك يرى الهاوية. عرّفني سبل الحياة، واملأني فرحًا أمام وجهك، فمن يمينك لي دوام النّعم ".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM