القسم الثاني: القانون الاشتراعي

القسم الثاني
القانون الاشتراعي
12: 1 – 26: 19

1- تتضمّن ف 12- 26 القانون الاشتراعي أو الشرائع الاشتراعية بالمعنى الحصري، بعد أن بدت ف 1- 11 بشكل مقدّمة لاهوتية لهذا القانون. هناك علماء يظنّون أنّ هذه الشرائع دُوّنت في زمن إصلاح يوشيا، ولكنّ هناك علماء أكثر يقولون إنّها كانت موجودة في الكتاب الذي وُجد في الهيكل، والذي كان وجوده سببًا من أسباب التعجيل في الإصلاح المعروف بإصلاح يوشيا (2 مل 22- 23). فكأنّي بهذا القانون إقرار مملكة الشمال بخطيئتها، وتحذير لمملكة الجنوب من الوقوع في النكبة التي حلّت بالسامرة. وكأنّي بهذه الشريعة نداء إلى فحص ضمير ورجوع إلى الذات على ضوء كلام الله كما وصل إلى شعبه على جبل حوريب، وتناقلته التقاليد وكيّفته حسب الزمان والمكان دون أن يخسر شيئًا من قوّته ومصداقيته: اليوم إن أنتم سمعتم صوته...
2- وإن يكن القانون الاشتراعي يشمل مواضيع عديدة ومتنوّعة، إلا أنّه ليس قانونًا كاملاً يتطرّق إلى كلّ وجهات الحياة في عهد يوشيا. نذكر على سبيل المثال ما يتعلّق بالأضرار الاجتماعية وما يتوجّب على المخطئ من تعويض، وهو ما نقرأه في كتاب العهد (خر 21: 18- 22: 17) لا في سفر التثنية. إنّ الهدف الإجماليّ لهذا القانون هو تحقيق ولاء بني إسرائيل المطلق لإلههم وبالتالي الحفاظ على العهد. وكما زاد الكاتب العهد عددًا من الشرائع الإنسانية التي تختصّ بالغرباء والمساكين والضعفاء... هكذا فعل الكاتب بالنسبة إلى القانون الاشتراعي. فكما أنّ شعب إسرائيل الضعيف يحميه الرب من ظلم الممالك العظمى، فكذلك ستكون حماية الضعفاء فضيلة يُعمل بها داخل جماعة شعب الله (15:5 ؛19:10).
3- أمّا تصميم هذا القسم فيبدو كالتالي: الفصل الخامس (12: 1- 16: 17): شعائر العبادة. الفصل السادس (16: 18- 20: 20) تنظيم الدولة. الفصل السابع (21: 1- 22: 29): القانون العائلي وشرائع أخرى. الفصل الثامن (23: 1- 25: 19): شرائع الطهارة، شرائع اجتماعية وغيرها. الفصل التاسع (26: 1- 15): ملحق عن رتبتين طقسيتين.
مع وحدة الكتاب وتقسيم الفصول نجد تنوّعًا وتعدّدًا حتّى داخل كلّ فصل من الفصول. فالوحدة ظاهرة في الأسلوب (لغة الخاطبة، نداء من القلب إلى القلب، النصح والإرشاد)، وفي المواضيع اللاهوتية التي تستند إليها هذه الشرائع وهي: عطية كنعان، الأرض الموعود بها، التحرّر من مصر هذه المواضيع هي مواضيع تقاليد العهد، وسيزيد عليها سفر التثنية عبارات خاصة به: "هكذا تزيلون السوء من بينكم " (21: 21). "تفرح أمام الرب " (12: 12). "أُذكرْ أنّك كنت عبدًا في مصر" (15: 15).
4- شرائع غنية بمضمونها اللاهوتي، وإن كانت غير دقيقة من الوجهة القانونية البحتة. فهي تتوجّه لا إلى اختصاصيين، بل إلى الشعب كلّه، ولهذا نراها تهمل التفاصيل العديدة، ولا تذكر العقوبات إلا قليلاً، وتحيلنا مرارًا إلى شرائع موجودة في كتب أخرى (رج 8:24: اذكرْ ما فعله الرب بمريم؛ عد 12: 9- 15): ومن هنا طبيعة هذا القانون الاشتراعي: همّه تنظيم الجماعة وتدريبها على سماع كلام الله، همّه أن ينقل إلى حياة الشعب معتقدات ومواقف دينية تصل به إلى الممارسة العملية.
5- أمّا أصل هذا الدستور فيرجع إلى نصوص العهد المتعددة. فهناك شرائع هي إعادة لبنود عهود قديمة، وغيرها ترجع إلى تقاليد خاصة بتقاليد قبائل الشمال. ومضمون هذه الشرائع ليس مضمونًا طقسيًّا وأخلاقيًّا وحسب، بل هو أيضاً مضمون سياسي واجتماعي، لأنّه في المجتمع التيوقراطي كلّ شيء يتعلّق بكلمة الله، حتّى تنظيم الدولة. نستطيع إذًا، بصورة عامّة، أن نربط لشرائع الحرب (ف 20) بعهد موآب، وشرائع الزراعة (بعد ترك حياة البداوة) بعهد شكيم الذي قطعه الشعب مع الرب في عهد يشوع (يش 24: 1ي).
نجد في بني إسرائيل نَمَطين من الشرائع: الشرائع الآمْرِيّة والشرائع الشَّرطِيّة. فالأولى تبدو كما يلي: لا تذبح للرب إلهك ثورًا أو شاة يكون فيها عيب (17: 1) والثانية: إذا صعب عليكم أمر في القضاء بين جريمة قتل وجريمة قتل... (8:17 ي). أمّا النمط الأوّل فيصعب علينا مقابلته بما سبقه من نصوص لأنّه لم يبق لنا أي نص قديم العهد، بل بعض الصيغ الليتورجية كالوصايا الأخلاقية العشر (5: 6- 20) والوصايا الطقسية العشر (خر 34: 11- 26؛ لا 19: 1- 18، تث 15:27- 25، رج أيضاً خر 17:22- 27؛ 23: 1- 9؛ لا 18: 7- 18). كان الكاتب الاشتراعي على إلمام بهذه النصوص وقد اورد بعضاً منها دون أن يغيّر فيها شيئًا.
هذا هو أصل الشرائع المنثورة في مواضع مختلفة من هذا القانون.
6- تبدو الشرائع الشرطية أكز تواترًا من الوصايا الأمرية، وهي لا تورد قاعدة عامّة، بل تحدد السلوك الواجب في الحالات الخاصّة. أمّا أصل هذه الشرائع فنطلبه في نشاط اللاويين التشريعي: وجب عليهم أن يحافظوا على الشريعة، فاهتموا أيضاً بتحديد ظروف تطبيقها. عندما أجابوا إلى استشارات قانونية أعطوا حكمهم في النزاعات والخلافات (17: 8- 13 ؛ 21: 5) أو أوصلوا قول الله (33: 10) أو ألقوا القرعة (9:33). من هذا النشاط المعقّد تولّدت مجموعات ذات طابع عملي تمتزج فيها بنود العهد بمبادئ قانونية وبحلول للمشاكل التي تفرض على المؤمنين. وهكذا كان لكلّ معبد شريعته التي ترتبط بنص عهد خاص بهذا المعبد. في الواقع لم يبق لنا نص أصلي واحد، ولكنّنا نستطيع أن نتبيّن من خلال النصوص التي بين أيدينا ما كانت عليه بعض الفرائض والسُنَن (راجع مثلا خر 21: 15- 17؛ 18:22- 19).
7- نجد في هذه المجموعات تأثيرات عديدة جاءت إلى العبرانيين من الشعوب المجاورة. ولقد استوحى اللاويون عادات البدْو لكتابة تشريعهم، واستوحوا التشريع الكنعاني والمصري، والتقاليد الأخلاقية والقانونية في الشرق. من هذا التقاليد وصلت إلينا: الشرائع الحثية، القوانين السومريّة (اور نامو. من القرن 21 ق. م. اكتشفت في أور. ليفيت عشتار من القرن 19 ق. م. اكتشفت في يسين) والأكادية (بِلا لاما. القرن 20. اكتشفت في اشنونه، قانون حمورابي القرن 018 اكتشف في بابل) والاشورية (قوانين تجلت فلاسر القرن 12). أمّا ممارسة التشريع فقد اكتشفت وثائق عديدة في نينوى وماري وبابل ونوزي... هذا فضلاً عن النصوص الدينية والحكمية التي هي مرآة لعلم الأخلاق في مصر وبلاد الرافدين.
8- وهكذا يكون الكاتب الاشتراعي قد انطلق من نصوص العهد، ومن شرائع المعبد، فأعلن القليل من الشرائع الجديدة واكتفى بتنظيم ممارسات قديمة وقوانين ظهرت قبل تأسيس الملكية في بني إسرائيل (12: 1- 26؛ 18:16- 18: 22). وإذا تأمّلنا الشرائع بمجملها وجدناها قديمة العهد، أمّا إذا تأمّلنا تفاصيلها وجدناها معدَّلة، إمّا بطريقة جذرية، كالفرائض الليتورجية التي الغيت أوّلاً ثم صارت تعبيرًا عن الديانة الاشتراعية (14: 22- 29؛ 15: 1- 3؛ 24: 19- 22)، وإمّا بطريقة بسيطة، فجُعلت بصيغة الخاطب وزيد عليها عناصر تعليمية (14: 24- 26).
ونتساءل: هل عرف الكاتب الاشتراعي القوانين التوراتية السابقة؟ الجواب نعم بالنسبة إلى قانون العهد (خر 20 ي) الذي هو قديم جدًا. وغير مؤكّد بالنسبة إلى عهد موآب الآتي من قبائل شهر الأردن. أمّا الشرائع الكهنوتية وقانون القداسة (لا 17- 26) فليست أقدم من القانون الاشتراعي، وهي مستقلّة عنه، وإن كان لبعض الشرائع هنا وهناك أصل مشترك.
9- لأوّل وهلة يبدو سفر التثنية وكأنّه يوجّه كلامًا مجرّدًا لزمن غير محدّد. ولكن إذا أنعمنا النظر فيه لوجدناه يأخذ بعين الاعتبار ظروفًا واقعية من حياة شعب الله وتاريخه. نقرأ فنستشفّ من خلاله وجود دولة ذات طابع قومي ككل الدول التي ظهرت في سورية ولبنان وفلسطين في نهاية الألف الثاني ق. م. مثل: أدوم، موآب، عمّون، فينيقية، أرام. وما تتميّز به هذه الدول، هو شعور قومي عميق وتنظيم ديموقراطي صادق: الملك يُنتخب، لا جيشٌ محترفًا بل جيش شعبي، دور كبير لشيوخ القبائل والمدن. أمّا الدولة فلكية، وفي عاصمتها تتركز الحياة الدينية والمدنية. وظلّت نظمه تتطوّر إن من جهة مراسم العبادة (8:12- 12 ؛ 18: 1- 8) وإن من جهة ممارسة القضاء (8:17- 13؛ 19: 11 – 13 ؛21: 1-9).
السكّان مزارعون توطنوا الأرض ونظّموا اقتصادهم على نمط عائلي. أمّا المجتمع فبسيط جدًّا، وهو يتكوّن من الأغنياء والفقراء، مع العلم أنّ كثيرًا من الفقراء هم عبيد للأغنياء (بسبب الديون باعوا نفوسهم وعيالهم). من هذا القبيل تبدو مملكة بني إسرائيل متأخّرة بالنسبة إلى مصر وبلاد الرافدين وغيرها من الممالك التي وصلت منذ الألف الثالث ق. م. إلى درجة من التقدّم رفيعة جدًّا (حقوق المرأة الإسرائيلية ليست بشيء إذا قابلناها بحقوق المرأة البابلية مثلاً). فلقد ظلّت التقاليد البدوية هي المسيطرة على شعب إسرائيل رغم انتقالهم إلى دنيا الحضارة.
10- وهكذا ينطلق الكاتب الاشتراعي من هذه الظروف السياسية والدينية والاجتماعية لكي يعرض مثال حياة جديدة لا نقرأه بشكل مبادئ ومسلّمات، بل نكتشفه عبر النص في اختيار الشرائع المأخوذة من هنا وهناك، ونتعرف إليه من خلال عناصر الكرازة المُزادة على هذه الشرائع، ومن خلال القوانين النظرية الصعبة التحقيق والتي يعرضها الكاتب ليرسّخها في قلوب السامعين فتصبح لديهم يقينًا. من هذه القوانين ما نقرأه في ف 13 حيث تبرز فكرتان أساسيتان هما: الأمانة للعهد، والوحدة في حياة الشعب.
11- كيف سيجعل الكاتب الاشتراعي هذا المثال بمتناول الشعب؟ سيعمل على ردم الهوّة بين إسرائيل السياسي وإسرائيل الديني، وعلى إعادة الروابط بين القبائل بعد أن تباعدت بعضها عن بعض وزالت بينها النقاط المشتركة، وعلى إعادة اللحمة بين دولة الشمال (عاصمتها السامرة) ودولة اليهودية (وعاصمتها أورشليم) اللتين كانتا تعدَّان الكثير من المواطنين الكنعانيين، واللتين كانت تسودهما نظم آتية من الأمم الغريبة.
كان القانون الكهنوتي قد شدّد على الوجهة الدينية (وشعائر العبادة) دون الأخرى أمّا القانون الاشتراعي فسعى إلى التوحيد بين إسرائيل الديني وإسرائيل السياسي. ولهذا أعطى مكانة مهمّة لتنظيم المدنية ليجعلها في خدمة المثال الذي يعرض. أمّا الهدف من هذه النظم فهو رصّ الصفوف وجعل الشعب الطالع من البرّية دولةً قوية. ويوافق القانون الاشتراعي على النظم الجديدة التي تقوّي سلطة الدولة (16: 18؛ 17: 8- 20)، ويعارض الفوضى التي عرفها الشعب في السابق (8:12). لذا ستكون المراقبة قاسية على شعائر العبادة التي ستقام في مركز واحد (12: 1ي) وتنقى من كل شائبة علقت بها من عالم الكنعانيين (12: 310؛ 13: 28). ثمّ يُبرز سفرُ التثنية أهميةَ الخير المشترك والنظام العام، وسوف يتدخّل المجتمع لتأمينهما فلا يُترَكان عرضة للمبادرة الفردية.
12- كُتب سفر التثنية في مملكة الشمال، وككلّ ما دُوّن في مملكة الشمال ظلّ متعلّقًا بالتقاليد الديموقراطية. لذلك نراه يفرض حدودًا دقيقة على سلطة الملك (17: 14- 20)، وإذا تحدّث عن مركزية سياسية، فهذه المركزية لا تحرم الشعب من مسؤولية في حياة الأمّة. فالشعب هو من يدافع عن البلاد، ولن يتخلّى عن هذا الواجب تاركًا الأمر لجيش محترف (20: 1ي)، الشعب هو من يرعى النظام في المدينة فيعاقب المذنبين بنفسه (21: 21). الشعب هو من يختار رؤساءه وقوّاده وقضاته (18:16 ؛ 15:17).
13- غير أنّ وحدة الشعب لها جذور عميقة، والقانون يريد مجتمعًا من دون طبقات حيث الجميع إخوة (تعود كلمة "أح " العبرانية 25 مرة في سفر التثنية راجع اخ في العربية)
بما فيهم الملك. كلّهم لهم حق مماثل في الحصول على البركة الموعود بها للشعب كلّه. أمّا الفروقات التي تهدّد الوحدة فيجب أن تُخفف بواسطة العدالة الاجتماعية (18:16 ؛ 24: 15) والتعاون والمساعدات المتبادلة (14: 28؛ 24: 9). ويدافع سفر التثنية عن المساكين والفقراء (24: 14)، عن العبيد (15: 12- 15) والغرباء المقيمين في أرض إسرائيل. ولكنّ هذا الحسّ الاجتماعي قوميّ حَصْرًا، بمعنى أنّ المؤمن يتطلعّ فقط إلى المواطنين ويعتبر أنّ الأجنبي لا حقوق له (23: 21: أقرِض الأجنبي بالربى). كانت قوانين توراتية قد شرّعت على احترام الشخص البشري وكرامته (تك 9: 6؛ خر 23: 4- 5؛ لا 19: 18)، أمّا القوانين الاشتراعية التي لا تجهل ما للإنسان من كرامة (15: 12؛ 22: 19؛ 24: 5 ؛ 25: 2- 3)، فهي تحصر واجب هذا الاحترام داخل إطار قومي ضيّق.
14- هذا التمييز بين القوم (الأقارب) والأجانب يبدو ظاهرًا في سفر التثنية. بالنسبة إلى بني إسرائيل، شعب الله، فالانفصال عن العالم المجاور (وخاصة الكنعانيين) ضرورة حيوية ومن أولى متطلبات العهد (7: 1). ولهذا فمن الطبيعي أن يكرّس القانون الاشتراعي قسمًا كبيرًا من شرائعه للدفاع عن أصالة بني إسرائيل، ليس فقط في المجال الديني، بل في مجال الأكل (14: 1ي) واللباس (22: 21).
في مثل هذه التعابير القومية يبدو القانون الاشتراعي مرتبطاً بزمن من الأزمان، وقد عفا الزمن عن الكثير من شرائعه. ولكنّ المثال الذي يعرضه يبقى على قيمته، وسنجد بعضاً من عناصر هذا المثال في نظرة القدّيس بولس إلى الجماعة المسيحية. إنّ ما يعطي القانون الاشتراعي فائدته الجوهرية وقيمته الدائمة هو لاهوته المبني على تكريس الإنسان والجماعة للرب تكريسًا يبرز عملاً وممارسة في تفاصيل الحياة اليومية

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM