الفصل الأوّل
استعادة الأحداث التاريخيّة
1: 1 – 3 : 29
أ- المقدّمة
نقسم هذا القسم الأوّل إلى أربعة فصول: الفصل الأوّل: استعادة الأحداث التاريخية (1: 1- 3: 29)، الفصل الثاني: العهد والشريعة (4: 1- 7: 26)، الفصل الثالث: اعتبار إسرائيل وتأمّله في تاريخه (8: 1- 15: 11)، الفصل الرابع: نصائح وإرشادات (10: 12- 11: 32).
أمّا هذا الفصل الأوّل فيبدأ إعلان الشريعة باستعادة للأحداث التاريخية كما في كلّ نصوص العهد: يعطينا رسمًا إجماليًا للوقائع فيجعل من تاريخ "كلّ بني إسرائيل " تاريخًا واحدًا موحّدا، ويشدد على دور كلام الله (الأوامر والوعود) الذي يوجّه الأحداث ويجعلها تتحقّق. ثمّ يورد موضوع الحرب المقدّسة ويذكر دور موسى كقائد بشري ويعلل الهزيمة بالتمرد على أوامر الله. كلّ هذا الكلام يجعلنا قريبين من سفر يشوع بن نون (ق يش 6: 2؛ تث 24:2 ؛ ويش 2:8، تث 1:3).
وينتهي هذا الرسم الإجمالي بذكر دخول شرقي الأردن، وهذا أمر لا يعود إليه سفر التثنية الذي لا يملك معلومات تاريخية جديدة، ولكنّه يلتقي هنا وهناك باستعادة نصوص سفر العدد. فيمكننا مثلاً أن نقابل بين تث 1 :57 وعد 25:14، بين تث 1 :9 وعد 14:11 ؛ وبين تث 1 :3 ؛ وعد 2:13 فنفهم كيف يلفت موسى انتباه سامعيه إلى ما عاشوه في مسيرة البرية، ونقرأ من خلال كلمات موسى تلميحات إلى أخبار حاضرة في ذهن المؤمنين.
يسيّر الكاتب الأخبار بحسب مخطط دقيق يوحّد بين المواد المتباينة فيوزعها في مشاهد قصيرة، كلّ مشهد يتمحور حول خطبة، وفي كلّ مشهد نتعرف إلى شخص من الأشخاص. الشخصان الرئيسيان هما الله والشعب. أمّا موسى فشخصيته ثانوية بالنسبة إلى الشخصين الرئيسيين وهو يلعب دور الراوي الذي يربط بين المشاهد المتعددة، ويجمع كلّ الوقائع في إطار مسيرة الشعب إلى أرض الميعاد، ويعطي حكمه على الأحداث والمواقف.
ب- تفسير الآيات الكتابية
1- محاولة دخول أرض الميعاد: 1: 1- 45
1: 1- 5: مقدّمة عامّة: كلمات موسى
هذه الآيات التي صاغها "الناشر" الأخير تبيّن لنا الزمان (والمكان) الذي فيه أعطى موسى الشريعة الجديدة لبني إسرائيل ليلة دخولهم أرض الميعاد.
"كلّ إسرائيل "، تتوجّه كلمات موسى إلى كل فرد من الجماعة، وهذه الجماعة تُعتبر وحدة موحّدة رغم انقسام مملكة داود وسليمان إلى مملكة الشمال (وعاصمتها السامرة) ومملكة الجنوب (وعاصمتها أورشليم).
"برّية العربة" (أو وادي العربة) هي بقعة تمتد جنوبي البحر الميت.
"سوف " تقع في موآب، وهي سوفة المذكورة في عد 21: 41، أو سوفيم الواردة في نصوص أوغاريت. وهي غير "يم سوف " أي بحر القُلْزُم أو البحر الأحمر.
"توفل " هي التفيلة الواقعة بين الكرك والبتراء، أو منطقة الدبلاتائيم الواقعة شمالي موآب.
"لابان وحصيروت " واحتان مرّ فيهما بنو إسرائيل قبل أن يصلا إلى موآب (عد 33: 17- 20) وقد يكون موقعهما في برّية فاران (عد 10: 12).
"ذي ذهب " هي محلة الذهبية الواقعة في موآب، أو مكان الذهب (ربما الحويلة تك 2: 11). على كل حال، نحن هنا في سهل موآب إلى الشرق من الأردن.
"جبل حوريب " هو جبل سيناء وقد تحاشى سفر التثنية اسم سيناء لأنّه يذكّر المؤمن العائش في الشمال بالإله سين، الإله القمر.
"أرض سعير" تقع إلى الجانب الشرقي من برّية العربة.
"قادش برنيع " هي مجموعة من الينابيع تقع جنوبي كنعان، وفيها أقام العبرانيون زمنًا طويلاً بعد خروجهم من مصر اسمها الحالي: عين قديس.
"في السنة الأربعين ". هذا هو التاريخ الوحيد الذي يرد في سفر التثنية (الذي لا يقول لنا متى مات موسى) فيربط سفر التثنية بأسفار موسى الأربعة الباقية.
"الآموريّون " هم سكّان الأرض المقيمون غربي نهر الأردن وشرقيّه.
في هذه الآيات يلخّص لنا "الناشر" الطريق التي سلكها العبرانيون من جبل حوريب إلى شرقي الأردن، ثمّ يبدأ بعرض شريعة موآب.
آ 6- 8: أمرُ الرب لشعبه بالإرتحال
رفض بنو إسرائيل أن يجتاحوا أرض كنعان بعد أن حمل إليهم الجواسيس أخبارًا عن قوّة السكّان المقيمين حول حبرون (عد 13- 14). وبسبب ضعف إيمان الشعب لن يدخل منهم أحد إلى أرض الميعاد سوى كالب ويشوع. أمّا الباقون فليسوا أهلاً لأن يتمتّعوا بعطيّة الرب. ولمّا حاولوا اجتياح كنعان هُزموا شرّ هزيمة بسبب عصيانهم لربّهم، وعادوا أدراجهم إلى قادش.
أوّل مرحلة من مراحل الاحتلال انتهت بهزيمة منكرة. لم يؤمن بنو إسرائيل بكلمة الله ولم يعملوا بشريعة الحرب المقدّسة، فارتدّوا إلى الوراء وغاصوا في رمال الصحراء يراوحون مكانهم إلى أن يفنى الجيل الخاطئ. نستعرض هنا أشخاصاً عديدين: يهوه الرب (آ 6- 8)، موسى (آ 20- 21)، الشعب (آ 22)، الجواسيس (آ 25)، الشعب (آ 27- 28)، موسى (آ 29- 31)، يهوه الرب (آ 35- 36).
في حوريب صار بنو إسرائيل شعبًا، ومن حوريب انطلقوا لاحتلال أرض ستكون لهم وطنًا بقيادة الله. الله هو من يتّخذ المبادرة وهو يدعو الشعب إلى الارتحال ويحدّد لهم الهدف: الأموريين.
إنّ ذكر أرض الأموريين أمر خاص بسفر التثنية وهو مكان يضمّ جبال اليهودية والسامرة. أمّا الكنعانيون فلهم الأرض السفلى (راجع كلمة "شفله " في العبرانية. كنعان تعني الأرض الواطئة) أي الأرض الواقعة بين تلال يهوذا والسبل الساحلي.
إنّ حلم احتلال المنطقة التي تصل إلى النهر الكبير أي الفرات، تكوّن في قلب سكّان مملكة الشمال بسبب معاركهم الدائمة مع ممالك أرام (رج تك 18:15). الحدود التي ترسمها آ 7 لم يصل إليها داود نفسه.
"النقب " هي المنطقة الواقعة جنوبي كنعان.
إنّ العهد مع إبراهيم (وقد امتدّ إلى نسله في شخص إسحق ويعقوب) القائل إن نسله سيكون أمّةً وسيمتلك أرض كنعان، قد تمّ في حوريب بحسب سفر التثنية. الوعد وتحقيقه يرتبطان بالعهد في اللاهوت الاشتراعي، والعهد مع إبراهيم وعد مشروط سيتحقّق إن أطاع الشعبُ شريعةَ العهد.
وعد الرب فكان وعده أوّل تدخل له في التاريخ. بدأ يتدخّل مع الآباء وتابع تدخّله في ملحمة الخروج، ولن يوقف تدخّله قبل أن يمتلك شعبه الأرض.
آ 9-18: تنظيم القضاء في الشعب
يرجع المؤرّخ الاشتراعي إلى عناصر الوهيمية ويهوهية فيروي تنظيم القضاء (عد 11: 14 ي) قبل أن يتحدّث عن إعطاء الشريعة. في القديم كان الشيوخ أي رؤساء القبائل، يحلّون القضايا العالقة كلّ في مدينته. ولكنّ الملك يوشافاط سيعيّن في كلّ المدن الحصينة قضاة محترفين (2 أخ 9: 5- 11 ). إنّ سفر الخروج (18: 13- 26) أورد هذا التنظيم ودلّ على أنّ السلطة العسكرية والقضائية كانت بيد هؤلاء القضاة. مقابل ذلك، يبدو سفر التثنية وكأنّه يميّز بين رؤساء الحرب ورؤساء القضاة.
"الرؤساء" (الكلمة العبرانية "ثري " خر: 18: 21، 25. راجع في العربية السري أي السيّد الشريف) هم الحاكمون الذين ينفّذون أوامر الملك (أش 1: 21 ي يتحّدث عن الحكّام الفاسدين).
"الرقباء" (الكلمة العبرانية شطريم. راجع شطر في العربية) هم حاشية الملك الذين يهتمّون بالإدارة المركزية ومنها القضاء.
"النزيل " (في العبرانية "جر"، وفي العربية جاور أي أقام قرب مسكنه وساكنه) هو الغريب الذي يقيم بين الشعب بطريقة مستديمة. قانونيًّا، النزيل الذي يقيم بينهم هو إنسان حرّ، ولكن لا يتمتعّ بكامل حقوق بني إسرائيل الحقيقيين إلا يحقّ له مثلاً امتلاك الأرض). هؤلاء النزلاء هم الكنعانيون الذين بقوا في أرضهم بعد أن احتلّ بنو إسرائيل بلاد كنعان. بحسب سفر التثنية، لا يحقّ للنزيل حقّ الحماية، لذا فهو كاليتيم والأرملة وهو يتّكل على الرأفة والإحسان (خر 22: 21 ي؛ 23: 9). وسننتظر إصلاح يوشيا لتتساوى حقوق النزيل بحقوق الإسرائيلي، ومنها الحقّ بالرجوع إلى القضاء، وتتساوى واجباته بواجبات الإسرائيلي، ومنها أنّه يُقتل إن خالف أحكام الشريعة (14: 21؛ لا 20: 2؛ 24: 10- 23). إنّ التوراة تنبّه المؤمن إلى احترام حقوق هؤلاء النزلاء الغرباء (10: 19؛ 19:24- 21 ؛ لا 19: 10؛ 32:23، إر 6:7 ؛ حز 7:22؛ زك 7: 10).
"أي أمر صعب " (آ 17)... نجد هنا تلميحًا إلى حقّ الرجوع إلى المحكمة المركزية في أورشليم (8:17- 13 ؛ 2 صم 15: 1- 6).
هذا المقطع يلقي ضوءًا على شخصية موسى، ذلك القائد المؤمن إيمانًا عميقًا بربّه، العامل وحده دون عون الآخرين، المتحمّل وحده أثقال الشعب وأعباءهم وخصوماتهم (آ 9- 12). ولكنّ موسى ليس مسؤولاً عن خطايا شعبه وبالتالي عن المصائب التي حلت به. صار الشعب كثير العدد، ولهذا سينظّمه (هو، لا يترو حموه) ويعطيه التعليمات اللازمة. لذلك لا يتحمّل هزيمة سعير بعد أن أعدّ العدّة لكلّ شيء وقبلَ الشعب بمبادرته. غير أنّ الشعب لم يجارِ موسى في إيمانه فتحمّل وحده عاقبة خطيئته. نرى هنا كيف يدافع الكاتب عن موسى (رج يش 4:3 ؛ با 27:6) ليحمّل الشعب وحده مسؤولية أعماله.
آ 19- 21: الأمر بالهجوم
يذكّر الراوي الشعب بمسيرة البرّية القاحلة، فيعيد إلى أذهانهم ذكرياتٍ مُرّة. ولكن ها إنّ الرب يأمر الشعب فينفذ أوامر ربه ويسير ليأخذ الأرض الموعود بها "الأرض التي جعلها الرب بين أيديكم ".
آ 22- 25: إرسال الجواسيس
إرسال الجواسيس أمر متعارف عليه عند الناس (يش 2: 1، 7: 2)، ولكنّ الخطأ يبدأ عندما يأمر الله شعبه بالارتحال، فيتقاعس الشعب ويتردّد ويدلّ على قلّة إيمانه. والمسؤول عن ذلك ليس موسى الذي وافق (عد 17:13)، بل الشعب الذي طالب.
سار الجواسيس (رج عد 13: 22- 26) من صحراء النقب إلى جنوبي جبل يهوذا، إلى وادي اشكول (المشهورة بأثمارها) شمالي حبرون. ساروا يكتشفون غنى البلاد فاكتشفوا أيضاً قامة بني عناق وحصونهم المنيعة.
إنّ التقرير الذي رفعه الجواسيس هو نداء إلى الشعب ليشدّد إيمانه بربّه: فالمولود الموعود به عجيب، والرب لم يغشَّ شعبه. يبقى على بني إسرائيل أن يثقوا بالرب ويتابعوا المغامرة معه. أمّا التفاوت في القوى بين بني إسرائيل وأعدائهم فيجب أن يكون باعثًا يستحثّ فيهم إيمانًا أعمق (38:4؛ 7: 1 ؛ 9: 1؛ 11: 23).
يردّد سفر التثنية، ولا يني، أنّ الأرض التي يعطيها الرب لشعبه أرض صالحة وطيبة (25:1، 35؛ 25:3؛ 4: 21- 22؛ 18:6)، فيدلّ بذلك على جمال المنطقة وخصب أراضيها (إذا قابلناها بالصحراء) وعلى السعادة التي سيتمتعّ بها الشعب في تلك الأرض (4: 40). فعلى بني إسرائيل أن تملأ هذه الهدية قلوبهم إعجابًا بنعمة الله، ويدفعهم عرفان الجميل إلى الطاعة والخضوع للرب: لا تطول أيّامكم عليها إن فعلتم الشر (4: 25-26 ).
آ 26- 40: ضرّبُ بني إسرائيل وتخاذلهم
لم يجد موسى أمامه هجمةَ البطولة، بل تقاعسَ الجبانة والفرار، فانقلبت مسيرة الحرب المقدّسة إلى بدايةِ هزيمة. لقد تخلّى الشعب عن إيمانه وتراجع أمام الخطر وعاد كلّ إنسان إلى خيمته: أُعطي الأمر بتسريح الجيش.
بنو عناق هم قبيلة تذكرها اللعنات المصرية في القرن التاسع عشر ق. م. وفي القرن الثالث عشر تتحدث الرسائل المصرية عن بَدْوٍ طوال القامات (طولهم متران ونيف). كان بنو عاناق يقيمون بجوار حبرون.
في آ 27- 28 نقرأ عبارات معكوسة بسبب تصرف الشعب. قلبُ بني إسرائيل يذوب خوفًا، لا قلب الأعداء (يش 2: 11؛ تث 2: 25). الرب يزيل شعب إسرائيل لا الأعداء (23:7؛ 12: 30؛ 3:31- 4؛ يش 11: 20؛ 8:24). الرب يقود شعبه إلى الهزيمة، لا إلى النصر (33: 29). ويجدّف الشعب فيقول: إنّ أحداث الخروج ليست برهانًا على حب الله لشعبه (37:4؛ 7: 8) بل دلالة على بغضه لهذا الشعب الذي اقتاده إلى البرّية ليدفنه في رمالها.
تدخّل موسى داعيًا الشعب إلى الثقة بالله: لا تخافوا، لا تضطربوا (3: 2، 22؛ 18:7)، الرب يحارب عنكم (20: 4). في خر 14: 31 خاف الشعب الرب، وآمنوا به وبموسى عبده، أمّا في سفر التثنية فما زال الشعب مقيمًا في رفضه وعناده.
أمام هذا التخاذل اشتدّ غضب الرب (آ 34). بهذه العبارة نفهم أنّ خطيئة بني إسرائيل تصيب الله في صميم علاقة الحب الشخصية التي تربط بينه وبين شعبه. في عد 14: 2، لام الشعب موسى وهارون، أمّا هنا فلاموا الرب بالذات: أنكروا حبّه ورفضوا عهده وصداقته.
حينئذ أعلن الرب القصاصَ وتصرّف بعدالة. نقض بنو إسرائيل العهد، فاعتبر الرب عطيّةَ الأرض لاغية، وأنّ على الشعب أن يعود في الطريق التي جاء فيها. غير أنّ الرب لا يتخلّى عن مخطّطه: وعدَ الآباء وسيني بوعده، إلا أنّه سيحقق وعده لا مع هذا الجيل الخاطئ، بل مع الجيل الآتي الذي لا يعرف اليوم خيرًا ولا شرًّا (آ 39).
"كالب بن يفنة" لم يشارك الشعب في تخاذله، فيكون له أن يدخل أرض الميعاد.
إنّ قبيلة كالب انطلقت من قادش واحتلت حبرون، ثمّ لحقت بها قبائل أُخرى أقامت في النقب (آ 44) ثمّ امتدت إلى جبل يهوذا. هذا المقطع يفسّر وجود بني كالب في هذه المنطقة الجنوبية.
وما هي خطيئة موسى؟ لم يعطِ أمرًا حازمًا بالهجوم. تراجع أمام تذمّر أبناء قبيلته فحوّل خط المسيرة عن هدفه. ولكنّ سفر التثنية سيخفّف من خطيئة موسى الذي فعل ما فعلِ تضامنًا مع شعبه (بسببكم 30: 25- 26). وسيزيد التعليق اللاحق فيعتبر موسى ضحيةَ تُكفّر عن خطايا شعبه كما كان عبد يهوه (أش 53: 1ي) بالنسبة إلى الخطأة.
آ 41-45: هزيمة بني إسرائيل
فقد بنو إسرائيل الثقةَ بالله فهُزموا، تهوّسوا وتهوّروا فهزموا أيضاً. قال الرب: لا تصعدوا، فتجبّر الشعب وصعدوا. انهزموا فرجعوا إلى قادش وعادوا في طريق البرّية.
سعير هو الجبل الواقع جنوبي شرقي حرمة.
ما كان سبب الهزيمة؟ لم يكن الرب مع شعبه، وسط شعبه. حضور الرب في الحرب يرتبط بتابوت العهد الذي ظلّ مع موسى (عد 14: 44) في المخيّم.
هذه الهزيمة لم تمنع بني كالب وسائر القبائل المتحالفة معهم من البقاء في النقب.
2- إحتلال شرقي الاردن: 2: 1- 29
بعد هزيمة منعتهم من الدخول إلى كنعان من الجنوب، توجّه بنو إسرائيل إلى شرقيّ الأردنّ عبر أدوم وموآب وعمون. لقد أمر الرب شعبه أن لا يهاجموا هذه الشعب، ففعلوا ومرّوا بعيدًا عنهم.
في هذه الحلقة الثانية من المسيرة، سينتقل الشعب من نصر إلى نصر حتّى يصل إلى أبواب كنعان. الله يأمر والشعب ينفّذ. قال الرب: كُفّوا عن الدوران... فمررنا بعيدًا (آ 3-8). الله يحدّد بدقّة الأرض التي ستكون لشعبه فلا يتوسّعون أكثر من حاجتهم.
2: 1- 24: الاقتراب من أرض كنعان
المقيمون في أرض سعير (آ 4) هم الأدوميون. تختلف هذه الرواية عن عد 20: 14- 21، حيث يطلب بنو إسرائيل إذنًا بالمرور فيُرفَض طلبهم. والاختلاف غائب لأن لا عداوة بين أدوم ومملكة إسرائيل في الشمال (8:23).
لن أعطيكم من أرضهم شيئًا (آ 5). كانت هناك فكرة لاهوتية أخذ بها بنو إسرائيل عن الكنعانيين وهي تقول إنّ الله قسّم الأرض على القبائل، وأعطى لكل قبيلة حصّتها. هكذا كان يفعل ملوك مصر وأشور فيطلبون من عمّالهم ألاّ يتعدّوا الحدود التي رسموها لهم.
"الايميون " (آ 10) هم جبابرة مثل بني عناق (تك 14: 5)، وقد سمّاهم بنو يهوذا كذلك لطول أعناقهم.
الرافائيين أي الجبابرة (آ 11) هم أوّل سكّان كنعان.
الحوريون جاؤوا من مناطق أرمينية في النصف الأوّل من الألف الثاني واجتاحوا سورية وبلاد الرافدين.
بنو زارد قبيلة أقامت جنوبي البحر الميت.
الزمزميون (آ 20) هم فئة أخرى من هؤلاء الجبابرة.
الكفتوريون (آ 23) هم الفلسطيون الذين جاؤوا من كفتور (أي جزيرة كريت) وأقاموا في السهل الساحلي (عا 7:9) بعد أن طردوا العويين، أوّل الساكنين في السهل الجنوبي الغربي لأرض كنعان.
نلاحظ أوّلاً أنّ هذا الكلام يتوجّه إلى أهل يهوذا الطامعين بأرض موآب وأدوم، على مثال داود الملك. ونلاحظ ثانيًا شهادة إيمان بالله الواحد الذي يعطي بنفسه أرضاً لهذه القبائل المرتبطة به عبر شخص إبراهيم (عندما بارك الله إبراهيم بارك شعبه فيه ومعه). في عهد القضاة (11: 24) كانوا يعتبرون أنّ لكلّ إله أرضاً يعطيها لمن يشاء. ونلاحظ ثالثًا أنّ المتخاذلين ماتوا، وانتظر موسى جيلاً كاملاً (أي 38 سنة) قبل أن يقترب من أرض الرب.
2: 24- 3: 11: الحرب لشرقيّ الأردنّ وهزيمة سيحون وعوج
طلب بنو إسرائيل من سيحون إذنًا بالمرور فرفض، وكذلك فعل عوج، فكانت الهزيمة من نصيبهما والقتل حصّة جيشيهما. وهكذا أقام بنو إسرائيل بين نهر أرنون وجبل حرمون.
قديموت هي مدينة قريبة من أرنون.
حشبون هي عاصمة سيحون، وتقع إلى الشرق من الأردن. لقد تنظّمت كل من مملكة حشبون وباشان في الألف الثالث ق. م. (عد 21: 21- 31).
ياهص (32:2) هي مدينة تقع شمالي أرنون. يذكرها نصب ميشع، ملك موآب (هذا النصب موجود في اللوفر بفرنسا وهو يورد انتصارات بني موآب واستقلالهم عن بني إسرائيل. رج 2 مل 3: 5 ي).
يذكر نصب ميشع أيضاً مدينة عروعير. أمّا "باشان " فتعني الأرض الخصبة وقد اشتهرت بمراعيها ومواشيها وشجر سنديانها الذي تُصنع منه المجاذيف (حز 27: 6).
نقرأ في 2: 34: حلّلنا قتلَ جميع الرجال والنساء والأطفال. هذه هي شريعة "الحرام" في الحرب المقدّسة، وكانت تتنوّع بتنوعّ الظروف. منها: قتل الناس وتدمير الممتلكات (يش 16:20- 18، 1 صم 3:15). ومنها: قتل الناس والإبقاء على الممتلكات (2: 34 ي؛ 3: 6 ي). ومنها: قتل الذكور فقط (20: 10- 15). كان المحاربون يعتبرون هذا العمل بمثابة ذبيحة تقدم لإِلههم. ينذرون له العدو، كلّ من يخالف هذا النذر يعاقب أشدّ العقوبات. هذا ما حدث لعاكان وأهل بيته (يش 7: 1ي) لأنّه احتفظ ببعض الغنيمة بعد الحرب. بالإضافة إلى ذلك، أراد المشترع ألاّ يبقى كنعانيٌّ على قيد الحياة، فيقود الشعب إلى الكفر بإلهه وعبادة آلهة أخر. فانقراض الكنعانيين سيتبعه انقراض ديانتهم وشعائر عبادتهم. نلفت النظر إلى أنّ هذا التحريم ظلّ أمرًا نظريًّا، وهو يعكس النظرة الاشتراعية التي تقول: ماذا كان حدث لو أنّ بني إسرائيل عملوا بهذه الشريعة؟ أمّا أن يكون هذا التحريم قد حدث مرّات قليلة في الأزمنة القديمة، فأمر واضح نقرأه على نصب ميشع الذي أفنى سكان مدينة نبو إكرامًا للإِله عشتار- شمش.
الرب قسّى روح سيحون (آ 30). نفهم من خلال هذا التفسير الشعبي نظرة الناس إلى التاريخ: إنّ سير الأحداث لا يفسّر كاملاً دون الرجوع إلى الله، لأن عالَم السماء يتدخّل في عالم الأرض. وإذا أراد الإنسان أن يقف بوجه مخطّط الله فسيكون وقوفه هذا وبَالاً عليه. غير أنّ الله يستفيد حتّى من الارادة المتمرّدة ليتابع تحقيق مخططه الخلاصي.
هذه الحقيقة يطرحها القدّيس بولس (روم 9: 14- 24) فيقول إنّ الرب يرحم من يشاء ويقسّي قلب من يشاء. وإذا اعترض معرض يجيب الرسول: من أنت أيّها الإنسان حتّى تعترض على الله؟ أيقول المصنوع لصانعه: لماذا صنعتني هكذا؟ هذا هو سرّ عمل الله في التاريخ، ولن نفهمه إلا عندما يصل التاريخ إلى كماله.
3: 12- 17: اقتسام الأرض المحتلّة
قسم موسى شرقيّ الأردنّ بين الأسباط، فكان الجنوب لرأوبين وجاد والشمال لنصف قبيلة منسّى.
"يائير بن منسى" (عد 32: 41) كان أحد القضاة الصغار (قض 10: 1- 5؛ 12: 7- 15) الذين كانوا مسؤولين عن شريعة العهد قبل إقامة الملكية في شعب إسرائيل.
"الحشوريون والمعكيون " (آ 14): قبيلتان أراميّتان أقامتا إلى الغرب من باشان.
بحر العربة هو البحر الميت.
نجد هنا صورة عن وضع القبائل في أزمنة متعدّدة، وأقدمها يومَ كان ماكير يسيطر على جلعاد (آ 15- 16).
ينسب سفر التثنية تقسيم الأرض إلى موسى. وهذا يفترض وجود دولة منظّمة. كلّ ما فعله موسى هو أنّه فضّ النزاع بين القبائل المتصارعة وحدّد لكلّ منها مناطق نفوذها.
آ 18- 22: الإستعدادات لاجتياح كنعان
طلب موسى من قبائل شرقيّ الأردنّ أن يساعدوا إخوتهم على احتلال غربي الأردن.
استعطف موسى الرب أن يعبر الأردن، ولكن لم يعط له إلا أن يرى أرض الموعد من بعيد قبيل موته. صعد موسى إلى الجبل لينظر إلى الأرض الموعود بها قبل أن تنتقل ملكيّتها إلى شعبه. هكذا فعل إبراهيم عندما قال له الرب: "لك ولنسلك أُعطي هذه الأرض " (تك 13: 14- 15)، وهكذا تنتقل ملكية أرض كنعان (34: 1 ي) إلى بني إسرائيل قبل أن تبدأ عملية الاحتلال.
آ 23- 29: صلاة موسى
نقرأ هنا حوارًا مؤثّرًا حارًا بين موسى والرب.
"يا سيّدي يهوه " (رج ار 1:6) هي عبارة الحبيب مع حبيبه.
عبر توسّل موسى المتواضع ولهجة الرب القاسية نكتشف أيّة صداقة حميمة تربط الرب بكليمه. إنّ موسى يريد أن يرى ويفهم، ولكنّ الرب يطلب منه إيمانًا لا تشوبه شائبة. وهو عندما يرفض له طلبه (رج ار 1 :37) يسعى إلى تنقية نظرته إلى أرض الميعاد ويدعوه إلى أن يتعدّى أفقها الضيّق. فامتلاك الأرض الطيّبة مرحلة من مراحل عطايا الله، أمّا الهدف فهو الله بالذات، وعلى موسى أن يموت ليجد قرب الرب هذه الأرض الموعود بها والتي هي أسمى بكثير من أرض لها حدود ولو وصلت هذه الحدود إلى لبنان!
ج- المعاني الكتابيّة
1- الحرب المقدّسة
الحرب المقدّسة تفترض إيمانًا عميقًا وعقيدة لا يزعزعها شيء، بأنّ الرب يخطط للمعركة ويتدخّل في القتال بقدرته التي تفوق قوى الطبيعة البشرية. قال موسى للشعب: الرب يسير أمامكم في الطريق (33:1) وهو يحارب عنكم (3: 22)، يحارب أعداءكم عنكم ويخلصكم (20: 4). يأمر الرب فينطلق شعبه إلى الحرب مهما كانت القوى المهاجمة كثيرة، وهو متأكّد من النصر "فلا تقل في نفسك إنّ هؤلاء القوم أكثر منّي، لا تخفهم، بل تذكرْ ما فعل الرب... " (7: 17- 18). يتيقّن بنو إسرائيل من هذا الأمر فيخاطرون بحياتهم حتّى البطولة، لأنّ الإيمان بالرب لا تردّد فيه ولا مساومة (3:20- 8)، والبحث عن العون لدى الآلهة والبشر يعود إلى الشعب بالهزيمة المؤكّدة. هذا الإيمان يعني الأفراد فردًا فردًا، ولكنّه يعني الجماعة أيضاً فيفرض الله عليها تماسكًا ووحدة لا يقوى شيء عليها.
يُدخل سفر التثنية الديانة الحربية في تفكيره، لا ليكون أمينًا لتقليد مهم فحسب، بل لأنّها تلعب دورًا مهمًّا في تعليمه. فهذه الديانة التي يعلن عنها تعطي الحرب ضد الوثنية الكنعانية طابع النضال وعدم المساومة، وتنفح ديانة أكلتها الرتابة والروتين زخمًا يستميل القلوب وتفاؤلاً ينضحها بالأمل.
ولكنّنا نتساءل: هل لهذا الرجوع إلى المثال الحربي هدف لاهوتي فقط؟ لا. بل هناك هدف عملي ملموس. ففي نظام جيش الملك كانت الحرب المقدّسة قد زالت بعد أن أخذ الجيش المحترف على عاتقه مهمّة الدفاع عن الأرض. غير أنّ الجيش الشعبي لم يلغَ نهائيًّا وقد لعب دورًا مهمًّا يوم اعتلى يوشيا عرش يهوذا. بقي الجيش الشعبي ولكنّ نظامه تبدّل. فالملك هو سيّده وهو يعبّئه عند الحاجة (2 صم 7:10) مستعينًا بالكتبة الذين ينظّمون عملية التجنيد. تردّد داود في تنظيم التجنيد (2 صم 24: 1- 15)، ولكنّ خلفاءه سيقومون بتنظيم الجندية بحيث يعتبر سفر أخبار الأيّام الثاني (14: 7؛ 17: 14- 18) أنّ الحالة كانت كذلك طول الفترة الملكية كلّها. ومهما يكن من أمر، فسفر التثنية يحدّثنا عن هذا التنظيم ويعتبر أنّ الحرب لن تكون حرب دفاع فقط، بل حرب هجوم (20: 10 ي)، ولن تكون غايتها القتل والسلب، بل ستأخذ وجهًا إنسانيًا.
2- أرض الموعد عطيّة الرب
إنّ وعد الله المتجدّد لشعبه (تك 3:26 ؛ حز 6: 4) ثبَّت في قلب الشعب الأمل بامتلاك أرض الموعد. أخرجهم الرب من مصر، أرض الغربة (تك 46: 3) ليُدخلهم أرض كنعان، ولكن عليهم قبل ذلك أن يتجرّدوا من كلّ تعلقٍ بمصر، وأن يمرّوا عبر برّية خالية خربة (32: 10)، فلا يكون لهم ملك بين أُمم الأرض إلا الله. وبعد أن يتنقّى بنو إسرائيل يمكنهم أن يحتلّوا أرض كنعان، حيث لا يحتاجون إلى شيء مما على الأرض (قض 18: 10). وقد تدخّل الله في عملية الاحتلال هذه، فأعطى الأرض لشعبه، أعطاهم إيّاها ميراثًا (مز 135: 12). حصل الشعب على الأرض من دون تعب فاعتبروها هبة مجانية وإنعامًا من الرب كالعهد الذي ترتبط به (تك 17: 8). وتحمّس شعب إسرائيل من أجل ربّه الذي لم يخيب أمله في انتظاره، بل أعطاه أرضاً صالحة وصالحة جدًّا (قض 18: 9)، "أرضاً جيّدة جدًّا جدًّا" (عد 7:14)، أعطاه فردوساً أرضيًّا جديدًا على النقيض من البرّية القاحلة الجرداء.
فتعلّق الشعب سريعًا بهذه الأرض السعيدة التي لها أنهار وينابيع وعيون تتفجّر. إنّها أرض حنطة وشعير وكرْم وتين ورمّان، أرض زيت وعسل، أرض لا تفتقر فيها إلى خبز تأكله ولا يعوزك فيها شيء (7:8- 9). وهذه الأرض قد اقتبلها الشعب مُلْكًا يرثونه (15: 4) من الرب الذي لا يريدون أن يعبدوا سواه (يش 24: 16 ي). وستذكّرهم هذه الأرض وخيراتها بحبّ الله الدائم وأمانته لعهده معهم.
ولكنّ هذه الأرض وخيراتها جعلت الشعب ينسى ربّه. كان موسى قد قال لهم: إيّاكم أن تنسوا الرب الذي أخرجكم من أرض مصر (6: 12)، احذروا أن تنسوا الرب وأن لا تعملوا بوصاياه (8: 11؛ رج 11: 16). تعلّقوا بالأرض وتركوا الربّ، أخذوا العطيّة وأهملوا مُعطيها، فهدّدهم الرب بالعقاب: "ستزولون عن الأرض التي أنتم داخلون إليها لترثوها" (63:28). وسيتمّ هذا العقاب يوم الحرب والذهاب إلى المنفى فيرون يدَ الله في ما حصل لهم.
ولكنّ عقاب الله لم يكن يومًا عقابًا نهائيًا. إنّه محنة وتجربة تحمل وراءَها الرجاء والأمل. فالشعب الجديد سيعود إلى الأرض، الأرض المقدّسة (زك 2: 16) التي لا تقتصر على أرض كنعان بل تمتدّ إلى كلّ بلاد العالم فيأتي أهلها ليعيشوا في أرض جديدة وسماء جديدة مع بني إسرائيل في وحدة عرفتها البشرية في بداية عهدها