القسم الأوّل: مقدّمة لاهوتيّة

القسم الأوّل
مقدّمة لاهوتيّة
1: 1 – 11: 32

نبدأ هنا بشرح سفر التثنية (أو الاشتراع أو تثنية الاشتراع) المكوّن من خطبات ألقاها موسى في الشعب يوم وصلوا إلى أرض موآب، وبعد أن تاهوا أربعين سنة في البرّية. أحسّ موسى بدنوّ أجله فألقى كلامه على مسامع شعبه الحاضر أمامه، فأوصله بهذه الصورة إلى المؤمنين العائشين في أواخر عهد الملكية في أرض إسرائيل. ولكنّنا، نحن قرّاء اليوم، لا نخدع بهذه الحيلة الأدبية التي أخذ بها الكاتب الاشتراعي ليوصل إلى الشعب المعاصر له كلام الله نابعًا من حضور الرب في سيناء، ومتكيّفًا مع ظروف الحياة الجديدة التي يعيشها بنو إسرائيل في عهد الملوك. ولكنّنا سنتوسّل التحليل الأدبي وندخل في الإطار التاريخي لنفهم ما أراد الكاتب الملهم أن يقوله، فندخل بهذه الطريقة في ما يريد الله أن يقوله لنا نحن المؤمنين.
ونورد مرّة ثانية تصميم الكتاب كما ورد في المقدّمة. القسم الأوّل: مقدّمة لاهوتية، القسم الثاني: دستور اشتراعي، القسم الثالث: خطبة ختامية، القسم الرابع: وصيّة موسى قبل موته.
ونتوقّف عند القسم الأوّل الذي هو خطبة تدخلنا إلى الدستور الاشتراعي. يبدأ هذا القسم بخطبتين لموسى تهيّئان الأفكار والقلوب للعمل بالشرائع التي سيعرضها الدستور الاشتراعي، وتسبق كل خطبة مقدّمة تاريخية تدخلنا في إطار مخطّط الله الخلاصي. ماذا نجد في هذا القسم الأوّل؟
1- مقدّمة تاريخية (1: 1- 5) تربط سفر التثنية بالسياق التاريخي لسفر العدد. فبعد انتصارهم على سيحون وعوج (عد 22: 1- 35)، وجد بنو إسرائيل نفوسهم في عبر الأردنّ، في أرض موآب (عد 22: 1 ؛ 13:36). كان هارون قد مات أربعين سنة بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر، في اليوم الأوّل من الشهر الخامس (38:33). وفي اليوم الأوّل من الشهر الحادي عشر من السنة عينها "كلّم موسى بني إسرائيل بجميع ما أمره الرب به ". وفي هذا اليوم عينه (48:32) انتهى موسى من إعلان الشريعة (32: 45- 46)، فأمره الرب أن يصعد إلى جبل نبو ليموت هناك فيبكيه بنو إسرائيل ثلاثين يومًا.
2- خطبة موسى الأولى (1: 6- 4: 40) تحتوي استعادة للماضي (1: 6- 3: 29) وتحريضاً على الطاعة للشرائع التي أمر بها الرب (4: 1- 40). يشدّد التذكير التاريخي على تدخّل الله الدائم ليخلّص بني إسرائيل من أخطار البرية والشعوب المعادية، فيستفيد من أجل هدفه من أخبار وردت في سفري الخروج والعدد. في حوريب (1: 6- 8) أمر الرب الشعب بالارتحال إلى أرض الموعد، وبعد تعيين القضاة على يد موسى سار بنو إسرائيل من حوريب إلى قادش (1: 9- 19) عبر البرّية الكبيرة والمخيفة. لم تذكر خطبة موسى هذه من الأحداث التي حصلت في قادش، إلا جسَّ أرض كنعان وتذمّر الشعب (1: 20- 33) وغضبَ الرب على شعبه وعقابَه له (34:1- 46): كلّ الجيل الخاطئ سيموت في البرّية. وبعد أربعين سنة عاد شعب الرب يسير إلى أرض الموعد عبر أرض أدوم وموآب وعمون، متحاشيًا كلّ نزاع مع السكان (2: 1- 25). ولكن لمّا رفض الأموريون لهم حق العبور، حاربهم بنو إسرائيل بناء على أمر الله الذي وعدهم بالنصر: تغلّبوا على سيحون ملك حشبون، وعلى عوج ملك باشان فاحتلوا شرقي الأردن (26:2- 3: 11) واقتسموها بين بني رأوبين وبني جاد ونصف قبيلة منسى (12:3-17). حينئذ أخذ موسى التدابير الأخيرة (3: 18- 29) فأمر القبائل المقيمة شرقي الأردن بالمشاركة في معارك كنعان القريبة، وأوصى موسى أن لا يخاف عدوًّا، لأنّه هو لن يدخل أرض الميعاد، بل يراها من بعيد، من قمّة فسجة، قرب جبل نبو حيث كان الشعب. "ثمّ أقمنا في الوادي قبالة بيت فغور" (3: 29).
يورد الكاتب اسمَ بيت فغور فيتذكّر قصّة فُسْق بني إسرائيل وعبادتهم للأوثان (عد 25: 1ي)، حينئذ ينهي خطابه بإرشاد (4: 1- 40) يلحّ فيه عليهم بالطاعة لوصايا حوريب، فيعود ذلك بالخير للأمّة التي إلهُها قريب منها وهي تدعو باسمه (4: 1- 8). وبما أنّ الله لم يكشف عن ذاته على جبل حوريب بأيّ شكل أو صورة، فليحذَرْ بنو إسرائيل عبادة الأوثان وليبقوا أُمناء لعبادة لا صورة فيها ولا تمثال (4: 9- 24)، وإلاّ عاقبهم الله إلى أن يعودوا إليه بتوبة صادقة (4: 25- 31)، فإله بني إسرائيل هو الإله ولا إله سواه (4: 32- 40).
3- يُقحم الكاتب هنا (4: 41- 43) خبرًا صغيرًا عن تعيين موسى لثلاث مدن ملجأ في شرقيّ الأردن، ثم يورد مقدّمة تاريخية جديدة (4: 44- 49) كبداية لخطبة موسى الثانية: "وهذه هي الشريعة التي وضعها موسى لبني إسرائيل " (4: 44). أمّا ظروف الزمان والمكان التي فيها تحدّث المشترع، فهي تلك التي عرفناها في 1: 1- 5، مع تحديد خاص للمكان: ليس فقط عبر الأردن، بل في الوادي تجاه بيت فغور.
4- خطبة موسى الثانية (5: 1- 11: 32) وفيها نلاحظ مدخلاً (ف 5) وإرشادات متنوّعة (ف 6- 11) تتضمّن هي أيضاً استعادة للماضي (7:9- 10: 11).
يذكر موسى أوّلاً إعلان الوصايا العشر (5: 1- 22)، ذلك الدستور النهائي للعهد مع الرب في حوريب، ونص الوصايا هو ذاته الذي نقرأه في سفر الخروج (20: 2- 17) مع بعض الاختلافات الطفيفة. وكان بنو إسرائيل قد طلبوا في سيناء من موسى أن يقوم بدور الوسيط، لهذا حرّضهم قال: "إحرصوا بأن تعملوا بما أمركم الرب إلهكم، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، بعد أن أعطاكم الرب الوصايا والسنن والأحكام، فتحيوا وتنالوا خيرًا (5: 21- 33).
وتتوسّع الخطبة (6: 1ي) أوّلاً في موضوع حب الله وحفظ وصاياه. "اسمعوا يا بني إسرائيل: الرب الهُنا رب واحد. فأحِبوا الرب إلهكم بكلّ قلوبكم وكلّ نفوسكم كلّ قدراتكم. ولتكن هذه الكلمات التي أنا آمركم بها اليوم في قلوبكم " (6: 4- 6). فلا الرخاء المادي ولا الآلهة الكاذبة تميل بالشعب عن هذا الواجب: محبة الله وحفظ وصاياه حبًّا به (6: 10- 19)، فيدلّ المؤمن على أمانته ويتجاوب مع حب الله الغيور لشعبه (6: 20 – 25).
وتتوسّع الخطبة ثانيةً في الأمانة الواجبة للرب بعد الإقامة في أرض كنعان (ف 7- 8). سيعمل بنو إسرائيل على إخفاء الكنعانيين وإزالة أوثانهم، لأنّهم شعب مقدّس للرب (7: 1- 6): اختاره الرب وغمره بعطاياه فجعله منيعًا، وسيبقى كذلك إن أطاع الرب، ولن يخاف سائر الأمم ما دام في حماية الرب (7:7- 26). ولكن على بني إسرائيل أن يتذكّروا عطايا الرب خلال أربعين سنة من التجوال في البرّية (8: 1- 6) لأنّ عليهم مقاومة إغراءات أرض الميعاد، وإن نسوا أن كلّ هذا الخير يأتيهم من الرب فسيموتون موتًا (7:8-20).
وتتوسّع الخطبة ثالثةً (9: 1- 10: 11) فتقول: أنتم عابرون الأردن الآن لتحتلّوا أرض كنعان بمعاونة الرب، فلا تنسبوا النصر لنفوسكم (9: 1- 6). وتذكّروا تمرّد الشعب السابق (7:9- 29) يوم أراد الرب إفناءهم مع هارون بسبب العجل الذهبي. هناك في حوريب وفي تبعيرة ومسة وقبروت هتأوة وقادش، ولولا تشفّعُ موسى بهم ورحمة الرب وطولُ باله لزال بنو إسرائيل من الوجود. أمّا وجود لَوْحَيْ الوصايا في تابوت العهد واختيار لاوي لخدمته فيدلاّن على أنّ الله غفر، وأنّه لم ينقض العهد وأنّه أمر شعبه بالتوجّه إلى الأرض التي أقسم أن يعطيهم إيّاها (10: 1- 11).
ويختتم موسى خطبته (10: 12- 11: 32) فيحّض الشعب على حفظ الأمانة للرب وممارسة ختانة القلب أي انتزاع كلّ ما يمنع العنصر الروحي فينا من فهم إرادة الله والتعلّق بها (15: 12- 22). إنّ بني إسرائيل يعرفون ما فعل الرب بالمصريين وبالمتمرّدين من شعبه في البرّية (11: 1- 7)، فليأخذوا العبرة من ذلك ويعبدوا ربّهم بخوف ومحبّة بعد أن وضعوا مصيرهم بين يديه: الطاعةُ تحمل معها البركةَ، والعصيانُ اللعنةَ (11: 8- 32؛ رج27: 11 ي).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM