سِفر التثنية

سِفر التثنية

ولكنّ هذا المبدأ يجعل المشترع أمام معضلة يصعب حلّها. من جهة، إنّ القاتل، وان مصادفة، قد سفك دمًا زكيًّا ونجّس الأرض، فيجب أن يموت ويحقّ لولي الدم ملاحقته وقتله، لاسيّمَا وأنّ للحياة البشرية من الثمن ما يجعل أيّ مال غير كاف ليعوّض عنها. ومن جهة ثانية، إنّ القاتل بغير تعمّد ليس مذنبًا (تث 19: 6) لأنّ الرب جعل الضحيّة بين يديه (خر 31: 13) واختاره كأداة ينفّذ بها إرادته. في هذه الحالة فإنّ حكم المشترع على القاتل بالقتل يكون قد سفك دمًا زكيًّا ونجّس الأرض المقدّسة (تث 19: 10).
هذه المعضلة هي معضلة كلّ عالمِ أخلاق يريد أن يأخذ بعين الإعتبار الله والحياةَ البشرية وحقّ الإنسان، وكلّها أمور مطلقة لا نسبية، فيتوقّف عند نيّة البشر أجل، ليس من عالم أخلاقي يستطيع أن يعطي حلاًّ مرضيًا لهذه القضايا. وحدها الجماعة، أي شعب الله المقدّس، تقدر أن تحكم هل القاتل مذنب وتنجّيه، إذا دعت الحاجة، من ولي الدم. أمّا تنظيم مدن الملجأ فهدفه المحافظة على حقّ الإنسان وتقدير نيته واحتفاظ الأرض من سفك دمٍ زكيٍّ آخر.
ولكن كيفَ يُكفّر عن الدم الزكي الذي سُفك من دون تعمد، وكيف نَغسِل الأرض من نجاستها؟ لا الدّيّةُ تنفع (35: 22) ولا أيّة ذبيحة تكفيرية كما في الخطايا الطقسية (15: 22- 31). يبقى انتظار موت رئيس الكهنة الممسوح بالزيت المقدس، والذي يكون موته بمثابة ذبيحة تكفيرية عن كلّ قتل بغير تعمد حصل في أيّامه.
ولكنّ التكفير الحقيقي لن يتمّ إلا بموت المسيح، كاهن الخيرات المستقبلة (عب 9: 11): بذبيحة فدائه حافظ وبالوقت عينه على قداسة الله ونوايا البشر. فيه وحده الحل للمعضلات التي تحتويها الأخلاقيات البشرية. كفّر عن الجميع فانتصر على الموت، مات وقام فنجّى الموتى المحفوظين هناك كما في مدن الملجأ.
من أجل هذا يتمسّك كلّ الخطأة بقرون مذبح ذبيحة المسيح، ويبقون في المدن الملجأ التي ترمز إلى فضائل الإيمان والرجاء. فإن هم تركوا مدن الملجأ الأمينة لاحقهم العدوّ وصار خلاصهم في خطر.

المقدّمة

ظلّ سفر التثنية كتاباً مجهولاً في العالم المسيحي، شأنه شأن سائر كتب العهد القديم. فالقارئ الذي يبدأ في مطالعة التوراة، يتوغّل في سفر التكوين ثمّ تتعثّر خطواته في سفر الخروج، فلا يعود يجد حاجةً الى متابعة الطريق، حاجةً الى قراءة العهد القديم، فيتركه للاِختصاصيين في علوم الديانات. أمّا نحن في أكثرّيتنا فنكتفي بقراءة العهد الجديد، أو سماع بعض فقرات عن الإنجيل في قدّاس الأحد تعلق في ذاكرتنا دون أن تحرّك فينا الإيمان بكلمة الله الفاعلة في الكون. ونتعجَّب بعد ذلك عندما نرى إيماننا ضعيفاً يسقط صريعاً أمام أوّل هجوم، وحديثَنا عن الله مملاًّ لأنّنا لم نستمع إلى كلام الله الموجود في العهد القديم وفي العهد الجديد، في أسفار موسى الخمسة، في كتب الأنبياء والحكماء، في الأناجيل المقدّسة، في ما تركه لنا الرسل من كتابات، كلّها أسفار متنوّعة في الزمان والمكان تسعى إلى التعبير عن كلمة الله الواحدة بالأساليب المختلفة.
في هذه السلسلة عن التوراة قرأنا معا أسفار التكوين والخروج واللاويين والعدد، وها نحن نصل إلى سفر التثنية الذي يعتبره الشرّاح محطّة هامّة في تاريخ بني إسرائيل الدينيّ، لأنّه يجمع في ذاته كلّ مواضيع العهد القديم في توازن لم يصل إليه أيّ سفر من أسفار التوراة، ويعدّونه قمّة روحية في التوراة فيشبهون مكانته فيها بمكانة إنجيل يوحنّا في أسفار العهد الجديد.
هذا الكتاب وجد صعوبة كبيرة ليدخل في تراث اليهود الدينيّ. خبّأه كاتبه فما تجرّأ على "نشره" قبل الساعة المحددة بسبب متطّلباته التي توجب على الإنسان أن يُدخل كلامَ الله إلى أعماق حياته فلا يعيش إيمانه طقوساً فارغة لا تصل به إلى حياة مع القريب بسبب غنى العقيدة التي يعرضها، وجمال الأسلوب الذي يتحلّى به. قرأته جماعة قُمران وتركت لنا من نصوصه خمس عشرة نسخة مخطوطة ونيّفاً، وهذا ما لم يحظَ به كتاب. وتأمّل فيه المسيحيّون الأوّلون فأوردوا من نصوصه في كتب العهد الجديد ما يزيد على أي سفر من أسفار التوراة، ما عدا المزامير وآشعيا.
هذا الكتاب يجمع في طياته كلّ الفنون الأدبية التي تعرفها التوراة. ففيه من نفحة الأنبياء ما يجعلنا ننسى أنّنا أمام شريعة وقانون، وفيه من عمل الكهنة التشريعي ما جعل التقليد اليوناني يسميه الشريعة الثانية، أي النسخة المراجعة والمصحّحة للشريعة الأولى. ينطلق سفر التثنية من أسفار موسى الأربعة (أي التكوين والخروج واللاويين والعدد) ويتجذّر فيها، ولكنّه يجدّد روح الشريعة التي يعرضها ويدخل فيها لاهوتاً غنيًّا جدًّا.
هذا الكتاب سنقرأه. ننطق من تحليل أدبي وتاريخي وقانوني لنصل إلى التعليم، إلى كلام الله الذي نبحث عنه عبر كلام البشر كلّ الوسائل العلمية تبقى وسائل، أمّا الهدف الذي نصبو إليه فهو كلام الله الذي حصلنا على ملئه في المسيح، كلمة الله الوحيد.

أ- إسم الكتاب وكاتبه وتصميمه
1- إسم الكتاب
إنه في العربية التثنية، أو الاِشتراع، أو تثنية الاشتراع.
هو السفر الخامس من البنتاتوكس، أي أسفار [موسى] الخمسة، وهو يحتوي على ما يقول التقليد "وصيّة" موسى وكلماته الأخيرة قبل موته ودفنه.
اسم في العبرانيّة "دبريم " أي الكلمات، لأنّه يبدأ بهذه العبارة "إله دبريم " أي إليك الكلمات التي كلّم بها موسى كلَّ بني إسرائيل. وفي السريانية "تنين نموسو" اي تثنية الناموس وتكراره (راجع "تنو" الذي يقابل في العربية ثنّى أي كرّر الشيء وأعاده وردّده)، أي الناموس الثاني. أمّا اسمه في اليونانية فهو "دوتيرو نومس " أي الشريعة ("نومس " التي صارت "الناموس " في العربية) الثانية، وقد أخذ بهذا الاسمِ اللاتينيةُ كلُّ اللغات الغربية ثمّ كلّ لغات العالم.
ولكن كيف وصلت السبعينية اليونانية إلى اسم "دوتيرو نومس "؟ انطق المترجم من آ 17: 18 وفيها "مشنة هتورة هزوت " أي مثنّى هدَه التوراة، أي نسخة ثانية من هذه الشريعة أعطيت لموسى على جبل موآب وهي تقابل تلك المعطاة له على جبل سيناء. اشتقّ علماء الإسكندريّة الذين ترجموا التوراة إلى اليونانيّة من هذه العبارة كلمةً جديدة تعني الشريعة الثانية. لم يُوفَّقوا في ترجمة النصّ العبراني الذي يعني "نسخة لهذه الشريعة"، ولكنّهم وُفقوا في اكتشاف عنوان لكتاب يبدو شريعة جديدة قبالة ما نجده من شرائع في أسفار الخروج واللاويين والعدد.
أجل، هذا الكتاب يحمل اسمَ "الشريعة" (أي التوراة. رج 1: 5، 4: 44؛ 17: 18؛ 29: 28؛ 31: 9، 11، 24)، أو "كتاب الشريعة" (دبري هتورة أي كلمات التوراة. 28: 58؛ 29: 19؛ 31: 26 ؛ رج 2 مل 22: 8- 11). أمّا العهد القديم فيسمّيه "كتاب العهد" (كلمات سفر العهد. رج 2 مل 23: 2- 21).
نجد في هذا السفر شرائع ومع الشرائع أخباراً وإن قليلة، منها ما يحدّثنا عن إقامة بني إسرائيل في موآب، ومنها ما يروي نهاية حياة موسى على حبل نبو تجاه أريحا (34: 1). غير أنّ ما نقرأه في سفر التثنية هو أكثر من مجموعة قوانين وشرائع جافة، إنّه كلام "وعظ " يتلفّظ به أحد الكهنة بلغة محبّبة وقريبة إلى القلب، فيقدم للمؤمنين مثال حياة يعيشونه لا في زمن البرية بل في زمان حياتهم الحاضرة.
هذا الكتاب فريد من نوعه بين كتب التوراة، وطرافته لا تقوم بهذه الأخبار القليلة، بل بطريقة رجوعه إلى تاريخ الشعب الديني وصياغته في خطب وعظات تشكّل إطاراً للشرائع. في هذه الخطب يبرز معنى أحداث الخروج وسيناء وتأخذ الشريعة مداها فيفهم الشعب أنّ مستقبله يرتبط، لا بما يقوم به من حروب، بل بأمانته في حفظ شريعة الله والعمل بها.

2- بنية سفر التثينة وتصميمه
قبل أن نتعرّف إلى اسم "كاتب" سفر التثنية ننظر في بنية هذا الكتاب وتصميمه. يُقسم سفر التثنية إلى أربعة أقسام.
القسم الأوّل (ف 1- 11) يتضمّن مقدّمة لاهوتية نقرأها في خطبتين، ويسبق كلّ خطبة مقدمة تاريخية. إن 1: 1- 5 تكوّن الإطار التاريخي للخطبة الأولى (1: 6- 4: 40)، وإن 4: 41- 49 تكوّن الإطار التاريخي للخطبة الثانية (ف 5- 11).
القسم الثاني (ف 12- 26) يتضمّن الدستور الاشتراعي.
القسم الثالث (ف 27- 30) يتضمّن الخطبة الختامية التي فيها يجدد الرب عهده مع شعبه.
القسم الرابع (ف 31- 34) يتضمّن كلمات يودعِّ بها موسى شعبَه ويبارك أسباط الرب قبل أن يموت ويُدفن في موآب، تجاه الأرض التي وعد الرب شعبه بأن يعطيه إيّاها.
وهكذا يبدو سفر التثنية بشكل خطبات ثلاث يتوجّه فيها موسى إلى الشعب. في الخطبة الأولى يورد الأحداث الرئيسيّة التي عاشها الشعب خلال مسيرته من جبل حوريب (أي جبل سيناء بحسب تسمية سفر التثنية) إلى سل موآب، ويدعوه بإلحاح إلى حفظ شريعة الله. في الخطبة الثانية يذكِّر موسى بني إسرائيل ببنود العهد الموسوي الذي انطق من الوصايا العشر، وهذه الوصايا تطلب قبل كلّ شيء إخلاص الشعب المطلق لربّه. إنّ امتلاك أرض كنعان رهن بالطاعة لهذه الشريعة. أمّا القسم الأكبر من هذه الخطبة فيشمل شرائع وأحكاماً جديدة تُزاد على الوصايا العشر، وهدفها أن تساعد الشعب على المحافظة على العهد الذي بواسطته يتقبّلون بركة الرب. وبعد أن يسمع المؤمن هذا الكلام يقتنع بأنّ الشريعة ليست عبئًا ثقيلاً. وتُتلى أمامه لائحة البركات واللعنات فتوضح له أنّ التهامل في حفظ الشريعة هو الذي أدّى إلى دمار البلاد في كارثة سنة 587. في الخطبة الثالثة يرسم موسى خطّي الاختيار اللذين يوجهان بني إسرائيل: إمّا طاعة لوصايا الله، وإمّا عصيان وتمرّد عليه. أهمل الشعب وصايا الله وتمرّد على أحكامه فاستحقّ العقاب القاسي. ولكنّه إن تاب وندم سيرى تبديلاً في مصيره يعيد إليه امتلاك أرض الرب.
وينتهي سفر التثنية ببعض الملحقات التي تتطرّق إلى تدوين الشريعة ووضعها داخل تابوت العهد. ويعد أن يعيّن موسى يشوع خلفاً له ينشد نشيده للرب ويبارك الأسباط الاثني عشر ثمّ يموت على الجبل.

3- من كَتب سفر التثنية
أولاً: كانت النظرة اليهوديّة التقليديّة تعتبر أنّ موسى هو الذي دوّن سفر التثنية كما دوّن سائر أسفار البنتاتوكس، وتبع المسيحيون هذه النظرية وظلّوا عليها إلى عهدٍ غير بعيد. ونسارع إلى القول إنّ اليهوديّة لم يكن همّها التشديد على اسم الكاتب، بل على سلطة ونفوذ الشريعة الاشتراعية (نسبةً الى تثنية الاشتراع) واعتبارها جزءًا لا يتجزّأ من "التوراة" التي هي الاسم اليهودي لأسفار موسى الخمسة.
إذا تأمّلنا في سفر التثنية وجدنا أنّه يختلف عن الأسفار الأربعة الباقية (تك، خر، لا، عد) وهذا يدلّنا على أنّه لم ينبت في المناخ الذي دُوِّنت فيه تلك الأسفار. وإذا قرأنا كلماته اكتشفنا أنّ اسلوبه البعيد عن أسلوب التقاليد اليهوهية والالوهيمية والكهنوتية، هو قريب من أسلوب الكتب التاريخيّة (أي كتب الأنبياء الأوّلين: يش، قض، 1 و 2 صم، 1 و 2 مل).
وهذا ما دفع بعض العلماء إلى الحديث عن "تتراتوكس " أي الكتب الأربعة (تك، خر، لا، عد)، والى جعل سفر التثنية مقدّمة لمجموعة الكتب التاريخيّة متّبعين في ذلك التقليد اليهودي الذي سوف ينتظر زمن الجلاء (587 ق م) ليفصل سفر التثنية عن يش، قض... ويلحقه بالأسفار الأربعة.
ثانياً: يرتبط سفر التثنية باكتشاف كتاب الشريعة في الهيكل سنة 621 ق. م. (2 مل 22: 1ي)، في عهد الملك يوشيا، الذي سمع محتوى الكتاب فتأثر كثيراً وانطلق في إصلاح ديني جذري نتج عنه تركيز كلّ عبادة في هيكل أورشليم وهدم سائر المعابد المشتتة في البلاد. وبما أنّ هذا التركيز في العبادة هو التجديد الرئيسيّ في الشريعة الاشتراعية، فقد اعتبر علماء الكتاب المقدّس أنّ الكتاب الذي اكتُشف في الهيكل كان يحتوي القسم الأكبر من المواد التشريعيّة (12: 1- 26: 28) التي ستوضع داخل الخطبة الثانية والثالثة فتكوِّن القسم الأكبر من سفر التثنية (4: 44- 30: 20).
عندما نقرأ سفر التثنية نجد فيه مقدّمتين سابقتين لدستور العهد (المقدّمة الأولى 1: 1- 4: 43، والمقدّمة الثانية 4: 44- 11: 32)، وهذا راجع إلى أنّ المؤرّخ الاشتراعي أفاد في زمن الجلاء من كتاب التثنية الأصلي فجعله مقدّمة لعمله التاريخي الذي يبدأ بسفر يشوع وينتهي بسفر الملوك الثاني. كُتب تاريخ شعب إسرائيل منذ اقتحامهم أرض كنعان حتى ذهابهم إلى الجلاء، على ضوء الشريعة الاشتراعية، فجعل المقدّمة الأولى (1: 1- 4: 43) كمقدّمة لكل الكتب التاريخيّة، وجعل المقدّمة الثانية (4: 44- 11: 32) كمقدّمة لسفر التثنية في صيغته الأصلية. سنلاحظ فيما بعد أنّ الكتاب عرف أوّلاً صيغة الخاطَب المفرد في حديثه إلى الشعب، ثمّ الخاطَب الجمع، بعد أن بعدت الأحداث وأخذت الشريعة طابعاً عامًّا (راجع مثلاً 9: 1ي: إسمع يا إسرائيل... وفي 9: 8 ي: وفي حوريب أسخطتم الرب وكاد يفنيكم).
بما أنّ آخر حدثٍ يسجله المؤرخ الاِشتراعي هو الإفراج عن يوياكين الملك المنفي وإخراجه من سجنه سنة 561 ق م (2 مل 25: 28)، وبما أنّه لا يلمح إلى بداية عهد قورش، الملك الفارسي، ولا إلى رجوع الشعب من الجلاء سنة 538 ق م، يمكننا القول إنّه أنهى كتابة تاريخه بعد الإفراج عن يوياكين بقليل. وهكذا عندما "نُشر" سفر التثنية بصيغته النهائية كان بنو إسرائيل قد اختبروا العقاب الذي ما زال يهدّدهم.
ثالثاً: أن يكون سفر التثنية قد ارتبط بالكتاب الذي وُجد في الهيكل في عهد يوشيا، فذلك لا يَفترض أنّه كُتب في ذلك الوقت، إذ فيه شرائع عديدة ترجع إلى زمن بعيد. بالإضافة إلى ذلك، فقد اتفق العلماء على القول إنّ التقليد الاشتراعي كُتب في مملكة الشمال وحُمل إلى مملكة الجنوب بعد سقوط السامرة على يد الأشوريين سنة 721 ق. م. إنّ سقوط مملكة السامرة ودمجها بالإمبراطورية الأشورية أثّر في مملكة يهوذا القريبة التي فسّرت هذه النكبة بأنّها النتيجة المباشرة لإهمال شريعة العهد الذي عقده الرب مع شعبه في سيناء. وكان الأنبياء قد أعلنوا مسبّقاً حكم الله على مملكة السامرة، فجاءت الأحداث فأثبتت نبوءتهم. ولهذا أراد حزقيا، ملك يهوذا، أن يجنّب مملكته مصير مملكة الشمال فبدأ بإصلاح ديني، ونقّى شعائر العبادة ممّا علق بها من عادات وثنية (2 مل 8: 1- 6)، وركّز على العبادة في هيكل أورشليم دون أن يزيل من الوجود سائر المعابد.
في ذلك الوقت انتقلت تقاليد الشمال الأدبية إلى يهوذا للحفاظ عليها. ويبدو أنّه في عهد حزقيا أو بعده بقليل امتزجت تقاليد الشمال بتقاليد الجنوب فكونت ما يسميه العلماء التقليد اليهلومي (أي اليهوهي والالوهيمي). فالعجل الذهبي يذكّرنا بعجلَيْ يربعام (1 مل 12: 18 ي، رج هو 8: 5 ي، 10: 5، 13: 2) والتشريع المعارض لعبادات الكنعانيين يعكسه إصلاح حزقيا، والأحكام المتعلقة بالحجّ ثلاث مرات إلى المعبد المركزي في الأعياد الكبرى (خر 34: 22- 24)، هي نتيجة سياسة حزقيا.
ولكنّ إصلاح حزقيا لم يدم طويلاً بعد أن شدّدت أشور مراقبتها السياسية على يهوذا وظلّ منسى، خليفةُ حزقيا، خاضعاً لأشور مُدّة سنوات ملكه الطويل. ويبدو من المعقول أن تكون الشريعة الاِشتراعيّة قد ظهرت وقت إصلاح حزقيا، ثمّ ما عتّمت أن أُلغيت.
رابعاً: كلّ ما قلناه يبيّن لنا أن كاتب سفر التثنية ليس شخصاً فرداً، بل هو نتيجة تأمّل طويل وتفكير عميق امتدّ سحابة قرنين من الزمن. ولكنّنا نتساءل: مَن كتب سفر التثنية؟ هل هم الكهنة، هل هم الأنبياء، هل هم الحكماء، كلّهم يعنون بأمور التعليم والكرازة (ار 18: 18)؟ يرى بعض العلماء في الأسلوب الاِشتراعي تكملة لما بدأ به الأنبياء من وعظ وإرشاد. ولكنّ سفر التثنية يتصرَّف مع الأنبياء بشيء من التحفّظ (13: 51؛ 18: 20- 22). وبحث آخرون عن مؤلّف سفر التثنية بين صفوف الكهنة واللاويين الذين يحمّلهم هذا الكتاب مسؤولية حفظ الشريعة (17: 18، 31: 9، 24- 26) وتعليمها للمؤمنين (33: 8- 10) وشرحها لهم (رج نح 8: 1ي وتكليف عزرا اللاويين بذلك). ولكنّ علماء آخرين أدركوا أنّه بسبب مركزية العبادة خسر معظم اللاويين وسائل عيشهم وصاروا ينتظرون حسنات المؤمنين كالأرامل واليتامى والغرباء، فقالوا إنّه لا يمكن أن يكون اللاويون قد نظّموا مثل هذا الإصلاح الديني. واقترح آخرون أن يكون كتّاب سفر التثنية بين هؤلاء الحكماء المقيمين في البلاط الملكي الذين يهتمّون بسياسة الدولة والذين كانوا متأثّرين بالتعليم عن الثواب والعقاب كباعث على العمل بالشريعة كما نجده في أسفار الأمثال والجامعة وأيّوب.
لا نستطيع الجواب عن هذا السؤال، غير أنّ ما يمكن أن نؤكّده ببعض اليقين هو أنّ أصل سفر التثنية (4: 44- 30: 20) أو نموذجه الأوّل (12: 1- 26: 28) وُلد في زمنٍ يقع بين إصلاح حزقيا وإصلاح يوشيا، وهو هذا الكتاب الذي اكتُشف في الهيكل فوافقت عليه حركة الأنبياء (2 مل 22: 14- 20) وأضاء الطريق أمام إصلاح يوشيا. هذا كلّ ما نستطيع تحديده.
خامساً: ويمكننا أن نوجز الخلفية التاريخية لسفر التثنية على الشكل الآتي:
سنة 721: سقوط السامرة بيد الاشوريين واندماج الشمال بأمبراطورية أشور.
سنة 705: حزقيا، ملك يهوذا (715- 687)، يتخلى عن التبعية لأشور ويبدأ
إصلاحاً دينيًّا.
سنة 701: سنحاريب الأشوري يحاصر أورشليم ويخفق في احتلالها.
سنة 687: في عهد منسى (687- 642) عقدت مملكة يهوذا معاهدة مع أشور.
سنة 640: قُتل امون (642- 640) ملك يهوذا وخلفه يوشيا (640- 609).
الانحطاط في مملكة اشور يساعد يوشيا على التحرّر من تبعية الأشوريين.
سنة 621: اكتشاف كتاب الشرائع في الهيكل يقود يوشيا إلى إصلاحه الديني.
كان هذا الكتاب يحتوي على النواة الأساسية (12: 1- 26: 28)
لسفر التثنية ككلّ.
سنة 612: سقوط نينوى، عاصمة الاشوريين، بيد البابليين، ونهاية مملكة أشور.
سنة 609: موت الملك يوشيا في معركة مجدّو (2 مل 29:23) ضدّ المصريين
الذين يبسطون سيطرتهم على يهوذا.
سنة 605: انتصار البابليين على المصريين في معركة كركميش، وتبعية يهوذا
لسلطة بابل.
سنة 601: تمرّد بلاد يهوذا على البابليين.
سنة 598: سقوط أورشليم بيد نبوكد نصر (605- 562) البابلي الذي سيأخذ يوياكين
إلى المنفى ويجعل صدقيا (597- 587) على العرش مكانه.
سنة 589: تمرّد يهوذا على بابل مرّة ثانية.
سنة 587: نهب أورشليم وسلبها، دمار الهيكل، وامبراطورية بابل تبتلع مملكة يهوذا.
سنة 561: أُخلي سبيل يوياكين فترك سجنه في بابل دون أن يعود إلى عرشه.
سنة 565- 540: في تلك الفترة يتم العمل الاشتراعي: ينتهي "الكاتب " الملهم من
تدوين سفر التثنية والكتب التاريخية (يش، قض، 1 و 2 صم، 1 و 2 مل).
سنة 539: قورش الفارسي يحتلّ بابل.
سنة 538: قورش يصدر قراراً يسمح لليهود بموجبه بالرجوع إلى أرضهم
وإعادة بناء الهيكل وإقامة شعائر العبادة فيه.

ب- الطابع الأدبي لسفر التثنية
أمام هذا الكتاب الذي يبدو فريداً في التوراة نتساءل: في أي محيط وُلد؟ أمّا الجواب على هذا السؤال فيفرض علينا أن ننطق من العهد الذي ترتكز عليه كلّ ديانة إسرائيل. العهد في معناه الأوّل اتفاق بين الله وشعبه. ولقد أوردت لنا التوراة "عهوداً" عديدة تدخل كلّها في إطار تجمع ليتورجي، وتسير بحسب شعائر محددة. وكان المشتركون في هذه الاحتفالات يتذكرون أعمال الله العظيمة ويساعدون الأجيال الآتية على الاِلتزام بكلام الله وكأنّه يُوجّه اليهم اليوم. لهذا كان العهد يُجدّد دوريًّا مرةً كلّ سبع سنوات (31: 10- 11) في إطار ليتورجي شبيه بالإطار الذي عقدت فيه أوّل اتفاقية بين الله وشعبه في سيناء. أمّا الموجّه لهذه الأعياد فهم الكهنة واللاويون الذين ما كانوا يكتفون بإعلان نص العهد الأوّل، بل كانوا يقدّمونه للمؤمنين ويشرحونه ويكمّلونه ليتكيّف وظروف الحياة الجديدة. وهكذا عندما نقرأ "عظات " عن العهد نستطيع أن ننسبها إلى هؤلاء اللاويين النشيطين في عملهم الكرازي (27: 9؛ 31: 10 ؛ رج 2 أخ 8:17- 9؛ 30: 22؛ 35: 3، نح 8: 1ي)، والذين تركوا لنا سفر التثنية الذي هو أعظم شاهد على هذه الخطبات التي كانت ترافق إعلان العهد بين الله وشعبه.

1- نصوص العهد
ترتبط عظات العهد ارتباطاً وثيقاً بنصوص العهد التي لجأ اليها بنو إسرائيل ليعبّروا فيها عن تعلّقهم بالله. عادوا إلى اللغة الدبلوماسية في زمنهم فوجدوا في علاقات السيّد بمروؤسيه أسلوباً عن علاقة الرب بشعبه.
إنّ الوثائق الدبلوماسية التي تساعدنا على فهم هذه العلاقة نجدها عند الملوك الحثّيين (في علاقاتهم مع الأموريين أو الحوريين)، وفي ماري وسفيرة وتلّ العمارنة، ونجدها خاصّة في الاتفاق الذي عقده حنو سيليس مع رعمسيس الثاني وكان يتألف من سبع نقاط: أوّلاً: مقدّمة تلخّص الوثيقة وتورد اسم كلّ متعاقد. ثانياً: رجوع إلى الوراء تذكر فيه الوقائع التي تبرّر معاهدة جديدة، وتتضمّن خريطة للمنطقة التي اقتطعها الرئيس لمرؤوسه. ثالثاً: تحديد العلاقات الجديدة، ويبدأ هذا القسم بالعبارة: والآن. رابعاً: بنود العهد يُعبّر عنها بصيغة شرطية: إذا حصل... خامساً: لائحة الشهود. أُشهد الآلهة. سادساً: سلسلة من البركات واللعنات التي تجازي أو تعاقب المرؤوس على سلوكه. سابعاً: تدوين الوثيقة. ومن أتلفها أو بدّلها يكون قد خالف العهد.
هذا المخطط للمعاهدات في الشرق القديم نلاحظه في نصوص التوراة. فماذا قرأنا خر 19: 3- 8 وجدنا النقطة الثانية (رأيتم ما فعلت بالمصريين) والثالثة (والآن...) والرابعة (إن سمعتم كلامي). وفي خر 34: 3- 7 نرى موسى يكتب جميع كلام الربّ، ثمّ يتلو كتاب العهد على مسامع الشعب. يمكننا أن نلاحظ عناصر هذا الخطط في يش 24: 1ي ؛ نح 9: 1ي، عز 9: 1ي ؛ دا 9: 4- 19). ونلاحظها خاصّة في سفر التثنية.
فالنقطة الأولى نقرأها في هذا العبارة "أنا هو الرب إلهك " أو تلك "هذا ما يقول الربّ ". وفي النقطة الثانية يذكِّر الرب شعبه بكل ما فعل له من خير، وبالأخصّ لأنّه أعطاه أرض كنعان. وفي النقطة الثالثة نقرأ: "والآن يا إسرائيل، اسمع الفرائض والأحكام " (4: 1، 10: 12، خر 19: 5، يش 24: 14)، وعبارة "أكون الهكم وتكونون شعبي" (26: 11- 18، 29: 12) التي ستكون أساس اللاهوت الاشتراعي.
أمّا بنود المعاهدة فتأتي عادة بصيغة الامر لا بصيغة الشرط: "أنا الربّ الهك... لا يكنْ لك آلهةٌ غيري. لا تَصنع منحوتاً... " (5: 6- 26). أو"ملعون من يصنع منقوشاً
أو
مسبوكاً" (27: 15- 26). نحن هنا أمام تعابير ليتورجية حلّت محلّ العبارات القديمة فجاءت مطبوعة بطابع الوعظ والإرشاد. كان المتعاقدون يُشهدون الآلهة، أمّا في العهد مع الله فنحن نقرأ: "فأنا اليوم أشهد عليكم السماءَ والأرض " (4: 26 ؛ 30: 19 ؛ 31: 28، لا 26: 14- 19). وفي هذا الكلام نداء إلى السماء وساكنيها. أمّا البركة: "إذا سمعت هذه الأحكام وحفظتها وعملتَ بها، فجزاؤك أن يحفظ الرب عهده لك... فيحبّك ويباركك ويكثرك " (7: 12 ي). "أمّا إذا لم تطيعوا الرب الهكم فتأتي عليكم هذه اللعنات كلّها وتلحق بكم، فتكونون ملعونين في مدنكم وفي حقولكم " (28: 15 ي). وبعد هذا كلّه تدوّن الوثيقة، فلا يزيدون كلمة على ما أمرهم به الرب ولا يُنقصون (4: 2)، وتحفظ في صندوق (تابوت العهد) من خشب السنْط (10: 3- 5 ؛ 31: 26) وتتلى دوريًّا على مسامع الشعب فيستمع الأبناء ويتعلّمون مخافة الرب (10:31-13).

2- كرازات العهد
إنّ عناصر نصوص العهد واضحة في سفر التثنية (4: 9- 28؛ 5: 6- 22 ؛ 6: 16- 7: 5؛ 29: 1- 20) وهي تبدو بشكل إعلان للعهد. غير أنّنا نجد داخل هذا الإعلان عناصر الوعظ والكرازة التي تلعب دوراً هامًّا في هذا الكتاب، وهذا ما سنتوقف عنده مميزين بين ما هو عام في الفن الأدبي الكِرازي وبين ما هو خاص بسفر التثنية.
يتميّز القول عن الكرازة في أنّ القول يُتلى بشكل مبهم لا شخصيّ، بينما تَفرض الكرازة على الخطيب التزامَه بما يقول، فيتكلّم باسمه الشخصي ويدفع بأفكاره الخاصّة ويضمّها إلى التعليم المسلّم اليه. هكذا فعل موسى في سفر التثنية: توجّه إلى الشعب مباشرة وبصيغة المتكلّم.
ويهتم الخطيب بالتأثير في السامعين، فيلجأ إلى لغة بسيطة لا مكان فيها للرؤى الشعرية والاِستعارات المتكلّفة والبراهين المعقّدة. ويلجأ أيضاً الى لغة فيها التلميح والتهديد والحماس ليحرّك عواطف الانسان ويُدخل كلامه إلى قلبه.
وتتخذ الخطبة شكل نثر إيقاعي يبرز خاصة في تكرار بعض العبارات والجمل نذكر بعضها: أنظرْ، اعرفْ، احرصْ، احفظْ، احرص أن تفعل، اتّبع طريق الرب واسمعْ صوته واخضعْ له. ويدعو الخطيب السامعين إلى اتّخاذ موقف من كلام الرب: في هذا اليوم (لا في الماضي) يأمركم الرب إلهكم أن تعملوا بهذه السُنن والأحكام... الرب اختاركم في هذا اليوم لتكونوا له شعباً (26: 16- 18).
وهنا يلفت انتباهنا ست كلمات تتردد مراراً. الأولى: "حق " أو"حقه " (دائماً في صيغة الجمع) أي السُنَّة، أي القرار المحفور في الحجر فلا يمحّى. الثانية "شفطيم " (دائماً في صيغة الجمع) أي الأحكام، أي ما تدلّ عليه السلطة من سلوك في حالة خاصة قبل أن يعمّم شريعة على الجميع. الثالثة "مصوه " (وهو اسم جمع) أي الوصية والرسالة التي تُسلّمها السلطة إلى فرد (أو جماعة) ليقوم بها. والرابعة "تورة" أي الشريعة، وهي كلمة قديمة جدًّا تعني أوّلاً جواب الكاهن على استشارة قانونية أو طقسية (17: 11)، وتعني ثانياً (بحسب سفر التثنية) مجموعة متطلبات العهد كما أوحى بها الله كتعبير كامل عن إرادته. الكلمة الخامسة "عدوت " (جمع عدت) التي هي الفرائض. والكلمة السادسة "دبريم " أي الكلمات، أي بنود العهد، مفردها "دبر" (اي الكلمة) أي الشريعة (5: 5؛ 13: 1؛ 30: 14) التي هي تعبير عن إرادة الله.

3- علاقة سفر التثنية بسائر أسفار موسى
إنّ سفر التثنية اعتمد على الأسفار الأربعة (تك، خر، لا، عد) لينقل إلينا القسم الكبير من معلوماته التاريخية والقانونية. أن الضروري أن نقابله بتلك الأسفار، ونحن عارفون أنّ هذه الأسفار مكوّنة من تقاليد متعددة، ولكلّ تقليد طابع خاص به. من هذه التقاليد نذكر التقليد ذا الطابع النبوي والذي نرى آثاره في المرجع اليهوهي والالوهيمي، والتقليد ذا الطابع الكهنوتي والذي نرى آثاره خاصة في سفري اللاويين والعدد. إنّ كلّ هذه المراجع تتضمّن في طيّاتها شرائع تتورع في ثلاث مجموعات تختلف فيها المجموعة عن الأخرى بأسلوبها وروايتها.
المجموعة الأولى نقرأها في التقليد اليهوهي والالوهيمي. ان سفر الخروج (ف 20- 23) يتضمن الوصايا العشر (خر 20: 1- 17)، والشرائع المسّمّاة "كتاب العهد" (خر 24: 7) الذي يشتمل على أحكام مدنيّة لتنظيم حياة الجماعة، وفرائض دينية سيُزاد عليها فرائض لاحقة تتعلّق بعيد الفطير وافتداء الأبكار (خر 13: 3- 16). أمّا المجموعة الثانية فهي الشرائع الموجودة في التقليد الكهنوتي، وهي تورد ما يتعلّق بنظام الذبائح وغيرها من شعائر العبادة لدى العبرانيين. تحتلّ هذه المجموعة القسم الأكبر من سفر الخروج (ف 25 - 31، 35- 40) واللاويين (ف 1- 16) والعدد (1: 1- 10: 28، 18: 1- 19: 23، 25: 10- 36: 13). والمجموعة الثالثة دخلت هي أيضاً في التقليد الكهنوتي وإن بقيت متميّزة عنه ومطبوعة بطابعها الخاص. هذه المجموعة، وبعضها أدبي أخلاقي، وبعضها الآخر طقسي، نقرأها في سفر اللاويين (ف 7- 26) ويسمّيها المعلّمون: شريعة أو دستور القداسة.
ونودّ أن نعطي بعض الأمثلة عن شرائع موجودة في سفر التثنية وفي الأسفار الأربعة الباقية. فالوصايا العشر نقرأها في تث 5: 6- 18 وخر 20: 12- 17، وسنة الإعفاء نقرأ عنها في تث 15: 1- 11 وخر 23: 10 ي ولا 25: 1-7. والعبد العبراني يتحدث عنه تث 15: 12- 18 وخر 21: 2- 11 ولا 25: 39- 46. والبواكير في تث 15: 19- 23 وخر 22: 29 ؛ 23: 12 وعد 18: 17 ي. والحج ثلاث مرّات في السنة في تث 16: 1- 17 وخر 23: 14- 17، 34: 18- 24 ولا 23: 1ي وعد 28: 1ي.
هذه الأمثلة وغيرها تعطينا فكرة عن ارتباط سفر التثنية بسائر أسفار موسى الأربعة، ولكنّنا سنكتشف في سياق تفسير النصوص كيف أن "الشريعة الثانية" جدّدت الشريعة الأولى وجعلت من الوصايا والأحكام والفرائض نداء يتوجّه إلى قلب الإنسان.

ج- الطابع الديني لسفر التثينة
1- لماذا كُتب سفر التثينة
إنّه لمن سخريات القدر أن يظهر سفر التثنية بشكله التامّ الناجز يوم اعتُبر عهد الرب مع شعبه قد انتهى بسبب احتلال بابل لأورشليم. ولكن عندما "نشر" المؤلّف الاشتراعي سفر التثنية هدف في عمله إلى اثنين. أوّلاً: اجتهد في التعرّف إلى النقطة التي فيها ضلّ الشعب طريق الرب، فنقض عهده معه وخسر نعمة الاختيار. ثانياً: أراد أن يدلّ بني إسرائيل على طريق الرب إن هم أرادوا أن يستفيدوا من الفرصة المعطاة لهم: اليوم إن أنتم سمعتم صوته.
بالنسبة إلى الكاتب الاشتراعي، خطيئة بني إسرائيل هي جحودهم لربّهم وكفرهم به: عارضوا الوصيّة الأولى والأساسية وسَعوا إلى إقامة علاقات مع آلهة أخر عبر علاقاتهم مع شعوب أُخَر. وإن كان الله طوّل باله فأعطى يهوذا في مصير مملكة الشمال تحذيراً وتنبيهاً، إلا أنّه في النهاية دان مملكة الجنوب وأصدر حكمه عليها. ونظرة الكاتب الاشتراعي تكمن في القول إنّ إسرائيل لم يكن ليُجَرّ الى الجحود وعبادة الآلهة الوثنية لو أنّه منذ دخوله أرض الميعاد أزال سكّانها الكنعانيين. من خلال هذه الثغرة الأساسية دخلت الديانة الكنعانية مع طقوسها ونظمها، فجرَّت بني إسرائيل إلى رفض العهد مع الربّ، فرذلهم الرب. إذاً انحصر الخطر في وجود الكنعانيين، ويجب أن يفنوا سريعاً لينجو بنو إسرائيل من تأثيرهم المفسد.
لاشكّ في أنّ شعب إسرائيل لمّا دخل كنعان أخذ بشعائر الديانة المحليّة ودمجها في ديانته الخاصة، وهذا أمر لا مفرّ منه، إذ التقت مدنية بسيطة، هي مدنية بني إسرائيل، بمدنيّة الكنعانيين، وهي أكثر غنى وتعقيداً. فكان تجاذب بين ما هو أصلي في مدنيّة بني إسرائيل وما دخل إليها بفعل تأثير الكنعانيين، تحدّث عنه الأنبياء مراراً. واعتبر سفر التثنية أنّ وفرة الخير في كنعان جعلت شعب الله يأخذ بممارسات الكنعانيين وينسى قدرة الله الذي حرّره من عبودية المصريين وأعطاه أرض الميعاد. الحياة الجديدة في كنعان تكفيه، فلمَ الرجوع إلى إله سيناء؟
ولكنّ عمل الكاتب الاشتراعي لا يُعنى فقط بالماضي، بل أيضاً بالحاضر اندفع إلى توبيخ بني إسرائيل على خطيئتهم، ولكنّه سعى أيضاً الى تشجيعهم ودفعهم إلى التطلعّ إلى المستقبل. وإذ يقرّ أنّ جيل الله قد اختبر حكم الله القاسي على ضوء العهد الموسوي، فهو يتطلعّ أيضاً إلى إمكانية تجعل الرب الرحيم يقود شعبه ثانيةَ عبر الأردن، فيكون له عبور أو خروج ثان كما كان لآبائه. ولكنّ هذا لا يحصل إلا إذا ظلّ الشعب أميناً لربّه رغم الشقاء الحاضر ولهذا جعل المؤرخ الاشتراعي الشريعةَ الاشتراعية (الموجودة في سفر التثنية) كمقدّمة للكتب التاريخية.
يبدو أنّ عمل الكاتب الاشتراعي قد أوحى به الإفراج عن يوياكين، وهذا الإفراج بعث الراحة في قلوب اليهود المقيمين في بابل وفي أرض إسرائيل. فتأمّلوا أن يكون هذا العمل مقدّمة إلى عمل آخر يتم بقدرة الله الذي يعود إلى شعبه كما كان في زمن العهد الموسوي. ولكنّ الأمور لم تسر على هذا المنوال، ولهذا لم ينطلق لاهوت بني إسرائيل في هذا الخط، بل أخذ طريقاً آخر لفهم علاقة العهد بين الله وشعبه، بدأ مع سفر التثنية وتتابع مع حزقيال (ف 32) وانتهى بعمل الكهنة الذين انتجوا ما سميناه "تتراتوكس " أي الكتب الأربعة (تك، خر، لا، عد). رأوا أنّ اختيار جماعة إسرائيل المولودة من جديد راجع كليًّا إلى نعمة الرب، ورأوا أيضاً أنّ حياة هذه الجماعة لم تكن مرتبطة بالطاعة لشريعة العهد. ولهذا لا بد من العودة بشعب الله لا إلى كيان سياسي وحسب، بل إلى جماعة عبادةٍ مركزُها الهيكل وإِمامُ عبادتها رئيسُ الكهنة. ولكنّ هذا المفهوم الجديد لعهدٍ مؤسَّس على نعمة الله ورحمته سيبين الحاجة إلى الشريعة كما نقرأها في الكتب الأربعة وكما نقرأها في سفر التثنية. أجل، إنّ التوراة بمعناها الحصري هي المعيار الأوّل لمصداقية الإيمان في العالم اليهودي. وعندما زالت شعائر العبادة سنة 70 ب. م.، وعندما هُدم هيكل أورشليم على يد الرومان، ظلّت الشريعة البرهان الوحيد المنظور لاختيار الله لشعبه اختياراً لا رجوع عنه.

2- عهد موآب
إنّ سفر التثنية كسائر أسفار البنتاتوكس، يتجذَّر في عهود إسرائيل القديمة من عهد سيناء (أو حوريب) الذي هو أساس ديانة الرب والذي فيه عرف بنو إسرائيل أنّهم شعب الله وعرفوا متطلّبات الله بالنسبة اليهم، إلى عهد شكيم (يش 24: 1ي) الذي نظم الشعب في اتحاد فدرالي مؤلّف من اثنتي عشرة قبيلة، وكلّ قبيلة تؤمن خدمة المعبد شهراً من شهور السنة، إلى عهد الجلجال (1 صم 12: 1ي) الذي قبل فيه الشعب بالتنظيم الملكي، إلى عهد موآب الذي كتب شريعة ثانية على عتبة الجلاء.
أمّا إطار هذا العهد فعيد تجديد العهد وما فيه من كرازة يقوم بها الكهنة الملتزمون بخدمة المعبد. ولمّا جُمعت كل الكرازات الآتية من مملكة الشمال كانت لنا النواة الأساسية التي ستكتمل يوماً بعد يوم إلى أن يأتي كاتب يؤلّف بين هذه العناصر التعليمية ويطبعها بطابع لاهوتي خاص.
عندما نتطلعّ إلى ما يؤلّف القسم الأكبر من سفر التثنية نتساءل: أمَا نكون أمام مجموعة تشريعيّة لمملكة الشمال؟ وعندما نتأمّل في التعليم العميق الذي يرشح من سفر التثنية نحسبه كتاب لاهوت بشكل خُطَب وكرازات ونحسّ أنّنا أمام شرعة منظّمة ومنسّقة، بل أمام بيان (أو منشور)، يهدف إلى تثقيف الرأي العام ودفعه إلى القبول بما يعرض عليه. أجل، إنّ سفر التثنية لا يسعى إلى تبديل الشرائع فحسب، بل إلى إصلاح حياة المؤمن في الأعماق.
كل المعلمين قبل الجلاء جابهتهم مسألة واحدة وهي التصدّي للأزمة الدينية التي طرأت على الشعب بعد انتقاله من حياة البداوة إلى حياة الحضارة. إنّ ديانة يهوه التي وُلدت في الصحراء لم تدخل القرية أو المدينة. حاول المصلحون فلم يفلحوا. أمّا سفر التثنية فأخذ بالنُظم الحضرية الكاملة، ناقض ما نادى به الركابيون وكثير من الأنبياء (هو 2: 16ي؛ إر 2: 3 ؛ 24: 1ي)، فشجّع التطوّر السياسي والاجتماعي الذي يجعل من شعب إسرائيل دولة حضرية، ودعا المؤمن إلى عيش إيمانه حقاً في هذا الإطار الجديد. لا حاجة إلى الرجوع إلى سيناء ليعيش المؤمن إيمانه، بل عليه أن يعيش هذا الإيمان في هذه الظروف المستجدة والله إلهُ الصحراء ونُظُمِها، كما هو إِله المدينة ونظمها، فلماذا التطلعّ إلى الوراء!
واستند سفر التثنية في إصلاحه هذا إلى قوى حية في الشعب هي ما سُمِّي بشعب الأرض (عم ها أرص)، فبقي متمسّكا بالروح الوطنية التي لا يساوم عليها، وعرف أنّ المستقبل هو لسلالة دواد، وأنّ على الشعب أن يتطلعّ إلى الأمام إذا أراد أن يواكب التطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط. أعلن سفر التثنية مبدأ الإصلاح وطلب من سامعيه موقفاً روحيًّا خاصًّا: دعاه للرجوع إلى ينابيعه، لا إلى ينابيعه القديمة، بل إلى عهد موآب الذي يشكل حالة انتقال كان الوعد قد بدأ يتحقق فيها: كان العهد قد أُبرم بين الله وشعبه، إلا أنّ المرحلة الأخيرة، مرحلة امتلاك الأرض، لم تكن قد جاءت. كان الله ينتظر أن يرى أيّ طريق يختاره بنو إسرائيل: مع الرب أو ضدّه، طريق الأمانة أم طريق الخيانة. وهذا هو المناخ الذي فيه المؤمنون كلمات سفر التثنية: كانوا ينتظرون آخر مراحل تحقيق العهد. فإن التزموا بطريق الله سيساعدون مخطّط الخلاص على البلوغ إلى تمامه، وإلاّ سوف ينتظرون وقتاً آخر ومخططاً آخر سيحققه الله فيما بعد. هذه الفكرة كانت محور كلّ عهد، غير أنّ سفر التثنية سيعرضها بإلحاح لا يعرف الكلل، فكأنّه يقول للسامعين: هذه هي الفرصة الأخيرة. ليس مع آبائنا قطع الرب هذا العهد، بل معنا نحن الذين هنا اليوم كلّنا أحياء (5: 3)، "واليوم إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم " (مز 7:95).

3- عناصر تعليميّة: بنو إسرائيل شعبُ الله
أجل، في وقت محدد من التاريخ تدخّل الله ليكوِّن له شعباً خاصّاً به. وتلخّصَ هذا التدخّل في واقعين اثنين. الواقع الأوّل: التحررّ من عبودية مصر (4: 32- 40، 9: 26) الواقع الثاني: عهد حوريب. هكذا بدأ شعب إسرائيل وجوده كشعب، فتكوّنت بينه وبين ربّه علاقة حميمة، هي أكثر من علاقة الخالق بخالقه، هي عهد (وميثاق) بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معان كالوفاء والمودّة والالتزام. فكلمة عهد (بريت في العبرانية) ترد ستاً وعشرين مرّةً في سفر التثنية (مثلاً 4: 13، 23، 31؛ 5: 2، 3؛ 7: 2، 9، 12) وهي ترجع إلى الكلمة الأشورية "بارو" التي تعني أكل (المتعاقدون يشتركون في الوليمة) وارتبطَ وتعاهدَ، أو إلى العربية حيث "برّ" تعني أطاع وصدَق. يستعمل الكاتب الاشتراعي كلمة "بريت " في معانٍ متعددة. فهي وعد الرب الذي به يلزم نفسه بعمل في التاريخ (8: 8)، وهي ميثاق بين فريقين، فريق إلهيّ وفريق بشريّ (5: 3 ؛ 7: 2) وهي حالة اتحادٍ بالله يعيشها الشعب (7: 9). ويعبّر الكتاب عن هذه العلاقات بسلسلة من العبارات: الرب إلهك أو إلهُنا أو إِلهكم (ترد هذه العبارة ثلاث مئة مرّة)، إسرائيل هو شعب مقدّس، ميراث الله وملكه، بل ولده (8: 5 ؛ 14: 1).
والعهد جماعي بمعنى أنّه يتوجّه إلى الشعب ككلّ لا إلى الأفراد، والأمر واضح في كل ليتورجيات العهد. بالإضافة إلى ذلك فسفر التثنية يختصر التاريخ، ويمزج بين الأجيال المتعاقبة، ويسوّي الخصائص بين القبائل، فتصبح أعمال الفرد الواحد وكأنّها أعمال كلّ شعب إسرائيل. محورُ اهتمامِ سفر التثنية هو الشعب، لهذا نراه يتجاهل كلّ شخصيات بني إسرائَيل التاريخية، ويجعل من موسى ناطقاً باسم الله، لا شخصيةَ له كما تفعل سائر أسفار موسى.
ويبدو شعب الله كشخص حيّ بقي وجدانه الديني هو هو من جيل إلى آخر، وهو يحمل غنى اختبار كلّ واحدٍ منّا. سيحدّثنا القدّيس بولس عن جماعة المؤمنين كجسد المسيح (1 كور 12: 27) وعن الكنيسة كعروس المسيح (أف 4: 12- 13؛ 5: 22- 23). ولكنّ سفر التثنية سيبقى بعيداً عن العهد الجديد، لأنّه يحصر شعب الله في أُمّة، هي الأمّة اليهوديّة، فينسى سائر الشعوب التي هي أيضاً شعب الله، ويبقى غريباً عن الرسالة الواجب حملها إلى الوثنيين.
حالة العهد حالة نهائية، أمّا تمامها فننتظره، وهو سيكون نتيجة واقع من تاريخ إسرائيل. وعندما يحين موعد هذه المرحلة الأخيرة، وهي قريبة بالنسبة إلى الكاتب الاشتراعي، لا يعود إسرائيل ينتظر شيئاً، بل يصبح هدفه أن يحفظ نفسه في العهد فلا ينقضه. هذا التصوّر يدفعنا إلى التفكير بكنيسة المسيح التي حصلت على الخلاص التام الناجز بيسوع، ولكنّها ما زالت مشدودة إلى تمام خلاصها في نهاية الأزمنة. ولكنّ هذا التصوّر المسيحي يبقى غامضاً بالنسبة إلى سفر التثنية. إذ يكون بنو إسرائيل شعباً حقيقيًّا مرتبطاً بالتاريخ يجعل نفسه وكأنّه عائش خارج التاريخ، في الأبدية، وهذا هو عين التناقض. مثل هذه النظرة الاسكاتولوجية المحصورة في العالم الحاضر قادت الشعب إلى الطريق المسدود وأعطته روحانيةَ إنسان قد بلغ النهاية فما بقي طريق أمامه، وما بقي سؤال يطرحه على نفسه، وما بقيت له رسالة يقوم بها، وهنا مكمن الخطر: انغلق شعب إسرائيل على ذاته فما عاد منفتحاً على المستقبلِ، فصار أنبياؤه الذين جعلهم الرب قواد شعبه في طرق جديدة، جزءًا من نظام وأداةَ للمحافظة على التقليد (والكلام) الذي سمع منذ القديم (18: 15- 20).
كل هذا يدلّنا على أنّ سفر التثنية يشكّل مرحلةً من مراحل الوحي، وأنّه لا يجد كامل معناه إلا داخل الوحي كلّه. وأنّ شعب الله لا نراه بأُمّ العين، بل يبقى موضوع إيمان ورجاء: شعب الله سرّ مثل سرّ الكنيسة: يعلن عنها يسوع ويصوّرها مسبّقاً (أف 5: 32).

4- الديانة الأخلاقيّة
بدت ديانة يهوه منذ بدايتها ديانة أخلاقية، والتقليد الذي يربط الوصايا العشر بعهد حوريب قديم جدًّا، ولا غرابة في ذلك. فالديانات المصريّة والبابلية كانت قد وصلت إلى طور أخلاقي رفيع قبل موسى.
جمع سفر التثنية أحكاماً مشتّتة فوحّد بينها، وعرض على المؤمنين أخلاقية إيجابية، لا أخلاقية سلبية تكتفي بوضع الحواجز وسرد الممنوعات، وتحديد الخط الأدنى الذي لن يعود بعده للعهد من وجود. وإليك ملخّصاً عن هذه الديانة الأخلاقيّة كما لخّصتها المدرسة الاشتراعيّة.
- ما يطلبه منك الرب الهَك هو أن تخافه، وتسلك في كل طرقه، وتحبه وتعبده بكل قلبك كل نفسك، وتعمل بوصاياه وسننه (10: 12- 13).
- خوف الله يعني الإقرار به ربًّا وسيّداً مطلقاً نتَّقيه ونهابه. أجل، إنّ خوف الله أساس الديانة، ويطبق سفر التثنية هذا المبدأ في الحياة العملية: إن اغراك أخوك فقال لك: تعال نعبدْ آلهةً أُخَر، فلا تلتفت إليه ولا تسمع له ولا تستر عليه، بل اقتله قتلاً (13: 7-. 1). نجد هنا روحاً مثالية مناضلة في سبيل وحدانية الله داخل شعب الله. فلا يحق للإنسان أن يحيد عن إيمان الجماعة.
- أمّا وصيّة المحبّة فقد كان سفر التثنية أوّل من عبّر عنها بطريقة واضحة نهائية لا رجوع عنها. الرب الهنا واحد. فأحبّوا الرب إلهكم بكلّ قلوبكم كل نفوسكم كل قدراتكم (6: 4- 5). هذه الوصية سيكتفي المسيح بإعلانها والتأكيد أنّها أولى الوصايا. سأله أحد معلّمي الشريعة: ما هي أولى الوصايا كلّها؛ فأجابه يسوع بالكلام الذي أورده سفر التثنية (مر 12: 28- 30)
- وعبادة الرب هي القيام بالأعمال الليتورجية، وهذه ناحية مهمّة جدًّا في حياة بني إسرائيل. سيوردها الكاتب الاشتراعي، ولكنّه يشدّد على الموقف الروحي العميق الذي يبرز من خلال عمل العبادة الخارجي. عبادة الله خدمة وخضوع وطاعة، ومن عبدَ الله لازمه ولم يفارقه، تمسّك به وجعل نفسه عبداً له. وهكذا لن تعود الليتورجيا وسيلةً نتصل بواسطتها بالله الحي وحسب، بل فعلَ إيمان بالله الخلّص (5: 15؛ 14: 23 ؛ 16: 3) وإقراراً بجميله عن عطاياه، وتعبيراً عن فرح بجميع الخير الذي أعطاه الرب لشعبه (26: 11).
- ممارسةُ الوصايا جملةً وتفصيلاً موضوع كلّ خطبات العهد، أمّا سفر التثنية فيدلّنا على جوهر الوصايا: لتكن هذه الكلمات، أو الوصايا، التي أنا آمركم بها اليوم في قلوبكم (6: 6)، والقلب هو الإنسان الداخلي (نقول اليوم الإنسان الروحي، النفس) ويقابله الجسد الذي هو الإنسان الخارجي كما نراه ونلمسه. أجل، إنّ الديانة التي يعلمها سفر التثنية تقوم على العنصر الروحي، وتتوجّه إلى القلب والنفس (6: 5؛ 10: 12؛ 11: 13) والى أعمق أعماق الإنسان الذي يُلزِم نفسَه تجاه الرب ويتمسك به بالخوف والمحبة والعبادة والأمانة له طوال أيّام حياته.
في هذا الإطار لا تعود الشريعة التي هي تعبير عن إرادة الله محرر شعبه إكراهاً تعسفيًّا وإرغاماً وقَسْراً، بل نتيجة العهد وكفيلته. تصبح الشريعة كالعهد خيراً كبيراً يمنحه الله لشعبه. "أيّ أُمة كبيرة لها سُنَن وأحكام صادقة مثل كلّ هذه الشريعة التي أنا أتلوها عليكم اليوم " (8:4)؟

5- سعادة الشعب في المحافظة على العهد
يتوجّه سفر التثنية بحديثه إلى المؤمن فيلحّ عليه أن يختار بسرعة بين الله والآلهة، ويبيّن له نتائج قبوله أو رفضه للعهد. ولكي يصل كلامه إلى قلب الشعب ينطلق من رغباتهم العميقة. فالشعب يتطلعّ إلى الحياة والسعادة ويهمّه أن تكون العائلة كبيرة والعشيرة كثيرة العدد، والماشية نامية والغلال وفيرة. الشعب يريد السلام والأمان وطول الحياة ونصراً على الأعداء. وتلك هي السعادة التي يعد بها سفر التثنية المؤمنين.
هو يلفت انتباهَ المؤمن إلى أرض إسرائيل التي أعطاها الرب لشعبه، هذه الأرض الطيّبة (1: 35 ؛ 3: 25) التي فيها أنهار وينابيع، أرض الحنطة والشعير والكرْم والزيتون والرمّان (8: 7- 8)، فيجعل أمامه سعادة مادية. ولكنّ هناك سعادة روحية أيضاً، لأنّ الأرض التي يسعد فيها هي عطيّة من الرب. لا، ليس يهوه إلهَ البداوة والحروب وحسب، بل هو سيّد الأرض المزروعة ومعطي كلّ خصب.
كان الناس يحسبون أنّ البعلَ هو سيّد الزراعة والخصب، وكان إيمان بني إسرائيل في خطر بسبب المزج بين عبادة يهوه والعبادات الكنعانية (6: 12- 15 ؛ 8: 7- 16 ؛ هو 2: 14- 15). نبّه سفر التثنية المؤمنين: "إيّاكم أن تنسوا الرب الذي أخرجهم من أرض مصر" (6: 13)، ولكنّه دعاهم إلى النظر إلى أرض الميعاد نظرة تفاؤل لأنّها عطيّة الله وبركته على شعبه (ترد كلمة "بركة" سبعاً وعشرين مرّة في سفر التثنية).
البركة هي عطية الله، وهي لا تنفصل عن العهد لأنّها علامة العهد. ففي العهد وبالعهد يكون شعب إسرائيل مباركاً فوق جميع الشعوب (7: 14) لأنّه اتّحد بصورة خاصة بالله، ينبوع كل حياة وسعادة. ولهذا فنقضُ العهدِ انتحار (6: 2 ؛ 30: 20)، والأمانة للعهد ضرورة حياتية (30: 15- 20؛ لا 18: 5؛ حز 18: 1ي). واللعنات والبركات التي تتوجّه إلى الشعب ككلّ تتوجّه إلى كلّ فرد بطريقة شخصية بمعنى أنّ كلّ شخص معنيّ بما يقوله الرب وبعهده مع الرب.
بهذه الطريقة يفلتُ سفر التثنية من عالم الشرع والقانون، فيشدّد على الرباط بين البركة الآتية من الرب والأمانة لشريعته. إنّ سفر التثنية يفهم الشريعة كجواب على مبادرة الله الذي يعطي البركة والعهد بطريقة مجانية (27: 9) فتكون الشريعة نتيجة للعهد لا شرطاً له. (10: 22؛ 15: 15؛ 16: 1؛ 20: 1؛ 24: 18). كل ما يرجوه شعب إسرائيل هو أن لا تزول هذه الحالة من السعادة، بل تصل إلى كمالها. وهكذا نفهم أن تَربطَ النصوصُ المتعلّقة بعهد موآب امتلاكَ الأرض بتتميم الشرائع والوصايا (6: 18 ؛ 7: 12 ؛ 8: 1 ؛ 11: 8). ولكن حتّى في هذه الحالة يجب أن يفهم شعب إسرائيل أنْ ليس ببرّه واستقامة قلبه جاء ليرث الأرض (9: 5). كلّ ما يستطيع أن يفعله هو أن لا يضع حاجزاً بوجه تحقيق الوعد الذي قطعه الرب (وسيفي به) من أجل الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب.
ولكن إذا كانت عطية الله مجانية فهي لا تنفي مشاركة الإنسان في العمل مع الله. والبركة لا تحلّ محلّ نشاط الإنسان، بل تعمل على إنجاحه. وهكذا فالأرض التي يعطيها الرب، يجب على جيش بني إسرائيل أن يحتلّها. وغلال الأرض التي هي علامة بركة الله، تفترض عمل الإنسان وتعبه (أعمال يديك. في العبرانية "معثة يديك" 2: 7؛ 14: 29 ؛ 16: 15 ؛ رج حج 2: 17 ؛ أش 65: 22. ما تمتدّ إليه يداك، مشله يديك، 12: 17، 18 ؛ 15: 10).

6- وجهُ الله
إنّ الله يكشف عن ذاته في تاريخ شعبه، وإنّ سفر التثنية يبيّن لنا نظرته إلى الله عبر لاهوت شعب الله. هذه النظرة تقليدية حتى في تعابيرها، ولكنّها تبرز عناصر تدلّ على الجدّة والاِبتكار.
لا شكّ في أنّ سفر التثنية يلجأ كغيره من الأسفار إلى الصور التشبيهية المعروفة ولكنه يعطيها بُعداً روحانياً. هو يشدّد على التجلّي في حوريب حيث ظهر الله للشعب كلّه، ولكنّ ظهوره كان عبر النور من دون أيّ شكل يدركه الإنسان. علاوةً على ذلك سيجعل الرب اسمه يقيم في المعبد بمعنى أنّ الشعب يستطيع الاتصال بربّه عندما يدعو باسمه خلال احتفال ليتورجي. الاسم هو وجه الشخص ولو كان هذا الشخص هو الله بالذات. إنّ هذا الاسم كشف لنا عن الله (خر 3: 14- 15) فذكّرنا من جهة بالتزام الرب بشعبه في التاريخ، ودلّنا من جهة ثانية على سرّ الربّ وحرّيته السامية.
وهكذا نصل إلى حرية الله التي هي الوجهة المميزة للاهوت الاشتراعي. فإذا كان الرب يلزم نفسه تجاه الشعب، تجاه الآباء، وإذا كان الله أميناً لعهده (7: 9، 9: 5)، فالمبادرة تبقى في يده، ولا يفرض عليه الإنسان ما يجب أن يفعله. بحريته اختار الرب شعباً لم يكن يستحقّ هذا الاختيار. "الرب اختاركم لا لأنّكم أكثر من جميع الشعوب، فأنتم أقلّ من جميع الشعوب، لكن لتعلّقه بكم ومحافظته على اليمين التي أقسم بها لآبائكم " (7: 7- 8). وهكذا تصبح فكرة الاختيار موضوعاً أساسيًّا في سفر التثنية. اختار الرب شعب إسرائيل والآباء. اختار بني لاوي (10: 8، 18: 5)، اختار الملك (17: 15)، واختصّ بذاته طقوساً وعِباداً.
وإذا كان الله حرًّا، وإذا كان اختار شعبه، فقد اختاره حُباً به (7: 8). لقد تحدّث هوشع (3: 1؛ 9: 15؛ 11: 1؛ 14: 5) قبل صاحب سفر التثنية عن هذا الحبّ، ولكنّه قابل هذا الحب بحب الزوج لزوجته، بينما قابله سفر التثنية بحب الأب لابنه (1: 31؛ 8: 5؛ 14: 1)، وطلب من الشعب أن يجيب على الحب بالحب. لقد سبق سفر التثنية القديس يوحنّا فأعلن أنّ الله محبّة هو (4: 31؛ 5: 10؛ 7: 12؛ 8: 23).

د- سفر التثنية في تقليد العهدين القديم والجديد
نُشر سفر التثنية للمرّة الأولى على عهد يوشيا فكان تأثيره كبيراً في قسم كبير من التوراة، وهذا ما يجلعنا نلاحظ واقعين:
الواقع الأوّل: كان سفر التثنية الشريعة الوحيدة المعمول بها مدى قرنين من الزمن، من يوشيا إلى عزرا، وذلك رغم التيّارات التي تلاقت في تلك الفترة المبلبلة من تاريخ شعب إسرائيل. فالنبي ملاخي (1: 8؛ 3: 22) يعود إليه مراراً ويطلب من الشعب أن يعمل به، وفي سفري الأخبار اللذين هما كتابان كهنوتيان نجد مواضيع اشتراعية كالدعوة إلى الفرح في الليتورجيا، والتشديد على دور اللاويين. غير أن إرميا كان أكثر من تأثر بسفر التثنية: اكتشفه يوم كان نبيًّا فكانت شراكة في الأفكار بين النبي والكتاب الاشتراعي. فكأنّي بإرميا استعدّ مسبّقاً لتقبّل كتاب الشريعة وديانة القلب: "تأتي أيّام أقطعُ فيها مع آل إسرائيل عهداً جديدا... أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً" (إر 31: 31- 33).
الواقع الثاني: وجود المدرسة الاشتراعية المكوّنة من جماعة من المؤمنين الذين تشرّبوا من لاهوت سفر التثنية وأسلوبه فكتبوا التاريخ الاشتراعي المكوّن من أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك، وأعادوا نشر أسفار بعض الأنبياء. لقد امتدّ نشاط هذه المدرسة منذ عهد يوشيا إلى نهاية الجلاء (620- 520 ق. م.)، وكان لها تأثيرها في كتب عديدة مثل أشعيا الثاني وأناشيده عن عبد يهوه.
أمّا بالنسبة إلى العهد الجديد فنلاحظ أوّلاً أنّه يورد نصّ سفر التثنية اربعاً وعشرين مرّة، ونلاحظ ثانياً تقاربًا بين سفر التثنية وأسفار العهد الجديد بالنسبة إلى اللاهوت. فنقابل مثلاً بين جماعة الله في التثنية والكنيسة عند القدّيس بولس، بين أخلاقية الدستور الاشتراعي وأخلاقية العِظَةِ على الجبل

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM