الفصل الخامس عشر: قانون اقتسام أرض كنعان

الفصل الخامس عشر
قانون اقتسام أرض كنعان
33: 50 – 36 : 13

أ- المقدّمة
إنّ المسيرة التي ذكرناها في 33: 1ي أوصلتنا إلى أبواب أرض الميعاد، وها هي المقاطع الأخيرة تقودنا إلى كنعان التي سيحتلّها الشعب ويتقاسمها.
ترك الكاتب الأسلوب الإخباري وأخذ بالأسلوب التشريعي: كلّ مقطع يبدأ هكذا: أمر الرب موسى. وهذا الامر ينقله موسى إلى الشعب. وقال الرب لموسى: قل لبني إسرائيل (33: 50، 34: 1، 16، 35: 1، 9). هذا القانون الصغير تحدده آية أولى (33: 50) وآية أخيرة (13:36) تقولان إنّه أعطي في سهل موآب (رج تث 1:1).
نجد في هذا الفصل قواعد اقتسام الأرض وحدودها، ونتعرّف إلى المسؤولين عن القسمة، وإلى حصّة اللاويين ومدن الملجأ، ونكتشف الإجراءات اللازمة التي تمنع تعديل هذه القسمة بانتقال أرض من قبيلة إلى أخرى بنتيجة الزواج.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- اقتسام أرض الموعد: 33: 5- 34: 29
33: 50- 56: قواعد اقتسام الأرض
بعد مقدّمة بأسلوب كهنوتي (آ 50- 51)، يتذكّر الكاتب قوانين التقليد اليهوهي (خر 34: 10- 16) والالوهيمي (خر 23: 20- 32) والاشتراعي (تث 7: 2- 6) المتعلّقة بالإقامة في كنعان. هذه الإقامة هي نتيجة عمل الله العجيب الذي حقّق مواعيده فطرد الأعداء من أمام شعبه وأفناهم. ولهذا يجب على بني إسرائيل أن يقطعوا كلّ علاقة لهم بالكنعانيين: يمتنعون عن الزواج بهم، يقتلعون شارات عاداتهم الوثنية.
آ 54: نقرأ قاعدة تستوحي مضمونها من 52:26- 56 حيث إلقاء القرعة يتوافق وعدد أفراد كل سبط من أسباط بني إسرائيل.
آ 55- 56: نعود إلى اللعنات التي تصيب بني إسرائيل إن لم يعطوا بحسب أوامر الرب: فأفعل بكم (يا شعبي) ما نويت أن أفعل بهم (أي بسائر الأمم). هذا ما قاله سفر الخروج (23: 32) واللاويين (26: 14- 41) والتثنية (28: 15- 68) ويشوع (23: 12- 13).
أمّا التعليم الذي يستنتجه المؤمن من هذا المقطع فهو أنّ أرض كنعان ميراث أعطاه الرب لشعبه، وهي تُقسم بالإنصاف بين القبائل. أرض الموعد هي أرض الرب فلا تنجّس بوجود الأصنام عليها، بل تطهّر من الأصنام وعبّادها لأنّهم يشكّلون خطرًا على العهد بين الرب وشعبه.

34: 1- 15: حدود الأرض
كان قانون العهد في خاتمته (خر 23: 20- 32) قد حدّد الأرض التي سيُدخل الرب شعبه إليها (رج تك 18:15، تث 11: 24، يش 1: 4). ولكنّ سفر العدد لم يشرْ إلى أماكن بعيدة، فجاءت الحدود التي يراها قريبة من تلك التي نقرأها في سفر حزقيال (13:47- 20).
الحدود الجنوبية (آ 3- 5؛ رج يش 15: 1- 4): برية صين على جانب أدوم، أمّا الحدود فحدود قبيلة يهوذا.
الحدود الغربية (آ 6): البحر الكبير أو البحر الأبيض المتوسط. نسي الكاتب أنّ الفلسطيين يقيمون على الشاطئ الذي لم يصل إليه بنو إسرائيل إلا في القرن الثاني ق. م. (1 مك 5:14).
الحدود الشمالية (آ 7- 9). نحن أمام خطيّن. خطّ أوّل يمرّ قرب الحدود اللبنانية الإسرائيلية الحالية، وخطّ ثان يجعل حدود إسرائيل في اللبْوَة قرب بعلبك. الخطّ الأوّل خطّ واقعي والخطّ الثاني خطّ مثالي لم يصل إليه بنو إسرائيل يومًا، ولا يتّفق مع ما سوف نقوله عن الحدود الشرقية.
نشير هنا إلى أنّ مدخل حماة (لبو حماة) هو مضيق بين جبال لبنان الجنوبية وحرمون، وهو يفتح الطريق إلى سهل البقاع ومنطقة حماة.
الحدود الشرقية (آ 10- 12): بحر كنارة أي بحيرة طبرية. ثمّ يذكر الأردنّ والبحر الميت.
تجدر الإشارة إلى أنّ ربلة المذكورة هنا ليست ربلة الواقعة على نهر العاصي.
تلك هي حدود أرض كنعان المقسومة بين القبائل العشر أمّا جاد ورأوبين ونصف منسّى فلهم شرقي الأردن (آ 13- 15).

آ 16- 29: الرجال الذين يقسمون الأرض
فوّض موسى يشوع بن نون والعازار الكاهن بإلقاء القرعة (رج 27: 15- 23، يش 14: 1، 19: 51)، ثمّ اختار عشرة رؤساء لعشرة أسباط (لأنّ حصّة سبطي جاد ورأوبين تقع شرقيّ الأردنّ). في الماضي كان قرب موسى وهارون اثنا عشر رئيسًا لاحصاء الشعب (13:1- 16)، واثنا عشر جاسوسًا ليجسّوا الأرض، لكلّ سبط رئيس أو جاسوس (3:13-16، يش 18: 1-6).
ترد أسماء الأسباط بحسب موضع إقامتها من الجنوب إلى الشمال. أمّا الرؤساء فلا نعرف منهم إلاّ كالب. يشارك واحد منهم في الإحصاء الأوّل، لا في جسّ أرض كنعان، لأنّ الشعب كلّه قد مات في البرّية قبل أن يدخل أرض كنعان.

2- مدن بني لاوي ومدن الملجأ: 35: 1- 34
35: 1- 8: مدن بني لاوي
يتطرّق سفر العدد مثل سفر يشوع (ف 21) إلى مدن بني لاوي (آ 1- 8) ثمّ إلى مدن الملجأ (آ 9- 34).
بعد مقدّمة بأسلوب كهنوتي (آ 1- 2) يعطي موسى بني لاوي مدنًا تحيط بها المراعي، مدنًا يقيمون بها هم وماشيتهم. أمّا عدد المدن فثمان وأربعون بما فيها مدن الملجأ الست.
نحن هنا أمام تقليد يجهل ما قاله الكتّاب الأوّلون أن لا مُلك لبني لاوي بين بني إسرائيل، لأنّ الربّ ملكهم وميراثهم (18: 20، 23، 24، 26: 62، تث 12: 12؛ 14: 27؛ يش 13: 14- 33)، وهو تقليد يستند إلى التمييز بين الكهنة واللاويين. غير أنّ سفر العدد لا يتحدّث عن مُلك أو ميراث بل يكتفي بالقول إنّها مدن يعطونها فيقيمون بها ويسكنونها.
إذا قرأنا في سفر يشوع (ف 21) أسماء المدن التي أُعطيت للاويين نجدها واقعة على حدود البلاد. فقبيلة لاوي ظلّت أمينة للمثال الذي حملته معها من البرية، وثابتة على نقاوة العبادة للرب فلم تتحضّر إلاّ بعد أن تملّك بنو إسرائيل كلّ أرض الموعد. حينئذ سمح لهم أن يقيموا في مدن سائر القبائل... ومع الوقت تخصّصوا في أمور العبادة، وعاشوا في المدن المرتبطة بالمعابد من التقدمات والذبائح.
كما عاش بنو لاوي على حدود الأرض، دافعوا عن الشعب من أعداء الرب. ولمّا تفرّقوا بين بني إسرائيل، قاموا برسالة بين أفراد الشعب فأطلعوهم على التوراة ودلّوهم على إرادة الرب (تث 33: 9- 10).

آ 9- 34: مدن الملجأ
حُسبت مدن الملجأ بين مدن بني لاوي (35: 6)، ولكنّ الاختلاف واضح بين نظام مدن اللاويين ومدن الملجأ، لهذا تطرّق الكاتب بصورة خاصّة إلى مدن الملجأ.
آ 9- 15: مبدأ مدن الملجأ: يهرب إليها من قتل نفسًا سهوًا فلا يلاحقه وليّ الدم (أي الذي يثأر لقريبه) بانتظار حكم الجماعة. وهذه المدن تكون ستًّا: ثلاث مدن شرقي الأردن، وثلاث غربيّه، وتكون للغريب والنزيل كما لبني إسرائيل.
آ 16- 29: يميّز المشترع بين القتل المتعمِّد والقتل بالمصادفة (بغير تعمد ولا عداوة). فحمل السلاح (آ 16- 18) والبغض (شنأ في العبرانية. تث 19: 4- 6) والعنف في التصرف (آ 20- 21) دليل على أنّ القاتل مذنب هو، وأنّه يستحق القتل. أمّا الصداقة السابقة وطابع المصادفة فيجعلان المشترع يستنتج أنّ القتل كان من دون تعمّد (آ 22- 23). حينئذ تفرض الجماعة على القاتل الإقامة في إحدى مدن الملجأ (آ 24- 25)، فلا يخرج منها لئلاّ يقتله وليّ القتيل ولا جرم عليه (آ 26-29).
آ 30- 34: تعليمات لاحقة عن حدود الشهود لتكون المحاكمة صحيحة (آ 30)، عن رفض أخذ دِيَةٍ من قاتل (آ 31- 32)، وعن مسبّبات هذا التشريع (آ 33- 36): "لا تدنّسوا الأرض التي أنتم فيها لأنّ الرب مقيم بينكم ".

3- التبديل في ميراث الاسباط: 36: 1- 13
36: 1- 13: لا ينتقل الإرث من سبط إلى سبط
هذه شريعة تزاد على قواعد اقتسام الأرض، وهي تتعلّق بالفتيات اللواتي لهن حقّ في الميراث (رج 27: 1- 11).
الفنّ الأدبي لهذا المقطع هو فن الشريعة المرتبطة بالخبر: يعرض الكاتب قضية بنات صلفحاد (آ 1- 4) كيف حلّها موسى (آ 5- 7) فنتج عن ذلك شريعة عامة (آ 7- 9) تمنع الفتيات الوارثات من الزواج خارج سبطهن لئلاّ تنقص حصّة كلّ سبط من الأسباط.
هذه الشريعة التي تفرض على الفتاة الوارثة أن تتزوّج رجلاً من سبطها شريعة معروفة. نقرأ مثلاً في سفر طوبيا أنّ رعوئيل أراد أن يعطي سارة، ابنته الوارثة الوحيدة لخيراته، لا لواحد من سبطه وحسب، بل لواحد من أقرب أقربائه تنفيذًا لشريعة موسى (طو 6: 12 ؛ 7: 1- 13). ولكنّ هذه الشريعة هي غير تلك التي تمنع الرجل أنّ يتزوج بامرأة غريبة عن قبيلته (تك 24: 4، 2:28؛ 19:29).
هذه الشريعة تجعل شعب الله يستمرّ، فيكون لكلّ بيت وارثٌ يرثه (تث 25: 5- 10)، وتثبت حق كل قبيلة في أرض الميعاد كما تحفظ ميراث كلّ سبط سليمًا لا نقص فيه.
وهكذا، وبعد أن تأمّن لكلّ سبط من أسباط بني إسرائيل ولكل بيت من بيوتهم إرثٌ دائم أبديّ، انتهى قانون اقتسام الأرض. وها العبرانيون وقد وصلوا إلى ضفاف نهر الأردن، وتنقّوا من الخطايا التي اقترفوها في البرّية، ها هم يستطيعون أن يعبروا النهر ليمتلكوا الميراث الذي وعدهم به الرب إلههم.

ج- ملاحظات حول الفصل الخامس عشر
1- حدود أرض الميعاد
تمتدّ حدود أرض الميعاد وبحسب سفر العدد من برية صين جنوبًا إلى مدخل حماة شمالاً، ومن البحر غربًا إلى أقصى شرقيّ الأردنّ شرقًا. غير أنّ هذه الحدود لم تكن يومًا حدود البلاد في أيّ فترة من تاريخ بني إسرائيل: لا في الزمن السابق للملكية يوم كان الفلسطيون أسياد المناطق الساحلية، ولا في زمن داود وسليمان يوم كان بنو إسرائيل يسيطرون على بلاد أرام ( 2صم 3:8- 12، 1 مل 5: 1) وادوم (2 صم 8: 14، 1 مل 26:9) وشرقيّ الأردن (1 مل 13:4- 19). كانت مملكة إسرائيل دومًا مسلّطة على شرقي الأردن، إلاّ في زمن ياهو وابنه يوآحاز (2 مل 10: 32- 33، 13: 25، 14: 25)، ولكنّها لم تصل يومًا إلى البحر. وسيأتي يوم تدخل تحت سلطة الأشوريين (2 مل 15: 29: الجليل الاعلى. 17: 5: السامرة) بانتظار سلطة الفرس واليونان.
في عهد يشوع (13: 1- 7) طمح بنو إسرائيل إلى احتلال بلاد الفلسطيين وأرض صيدون وجبيل إلى مدخل حماة، وحلموا في عهد سليمان بأرض واسعة، فغذوا بهذه الأحلام الرجاء المسيحاني. ولكنّنا هنا أمام أرض مثالية لأرض موعد تخيّلوها عظيمة ومجيدة.
نجد ثلاث صيغ لحدود أرض إسرائيل. الأولى: من دان إلى بئر سبع. نقرأ هذه الصيغة في أسفار القضاة وصموئيل والملوك والأخبار (1 أخ: من بئر سبع إلى دان)، وهي تدلّ على موضع إقامة قبائل الشمال وقبائل الجنوب. الثانية وهي صيغة مضخّمة: من مدخل حماة إلى نهر مصر (1 مل 8: 65، 2 أخ 8:7) إلى وادي العربة (عا 6: 14، 2 مل 14: 25). تستعمل هذه الصيغة في الحديث على الاحتفالات بالأعياد أو عند دخول تابوت الرب إلى أورشليم وتدشين الهيكل. الصيغة الثالثة تجعل حدود أرض الميعاد من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات (تك 15: 18؛ 2 مل 24: 7). هذه الصيغة الأخيرة تدلّ على أنّ شعب الله ينتظر من الرب عطايا تزيد على كلّ عطاياه في الماضي وفي الحاضر أجل، إنّ ما يترجّاه شعب إسرائيل لا حدود له.
ومع التراجيم ستتوسّع حدود أرض الرب: من نهر مصر جنوبًا إلى أَفاميا شمالاً، وستتضمّن جزر البحر وما فيها من سفن، كما تصل إلى وادي أرنون شرقًا. وهناك نصّ من قُمران يجعل موطن إبراهيم يتضمن الجزيرة العربية. أجل، سيصبح كلّ العالم المعروف آنذاك أرض ميعاد، لأنّ الأرض كلّها أرض الرب، وشعوب الأرض كلّها شعوب له تخصّه.

2- شريعة القاتل وحقّ اللجوء
أوّلاً: عندما يُقتل إنسان، كان وليُ القتيل يثأر لدمه. ولكنّ ذلك كان يجرّ إلى انتقامات متتالية لا تنتهي قبل أن تفنى القبيلتان (تك 4: 15- 24). في هذه الحالة لم يكن للقائل إلا أن يلتجئ إلى حماية الله في أحد معابده فيتمسّك بقرون المذبح (1 مل 1: 50-53 ؛ 28:2- 31، عز 2:27- 5 ؛ 2:31- 4). وحق اللجوء إلى المعبد أمر معروف في كلّ المدنيات، والطابع المقدّس الذي يطبع به المعبد والمذبح يمتدّ إلى المدينة التي تصبح كلّها مقدّسة وملجأ للقاتل.
عندما دخل العبرانيون أرض كنعان وجدوا مدنًا يستطيع القاتل أن يلجأ إليها. ولكنّ هذا النظام كان يحمي كل قاتل متعمدًا كان أم غير متعمّد، وتلك كانت سيّئاته (رج تث 3:19). غير أنّ سفر العدد سيميّز القاتل عمدًا والقاتل من غير روية.
ثانيًا: عند البدو، والعبرانيون منهم، كانت عدالة خاصة تحدّ من مخاطر الانتقامات والثارات. فولي الدم، وهو أقرب الناس إلى القتيل، يعيَّن لمعاقبة القاتل بالقتل، أي بشريعة المعاملة بالمثل. من حسنات هذا العرف أن يحدد الانتقام بشخص المذنب وأن يدلّ على الشخص الذي ينفذ حكم الإعدام. فولي الدم كان المحامي والقاضي والجلاد.
إنّ التشريع القديم الذي حفظه لنا قانون العهد (خر 13:21- 14) من زمن الاحتلال، يأخذ بعين الاعتبار هذه العادات. فهو يحافظ على مبدأ قتل القاتل، ولكنّه يميّز بين القاتل الذي يطارد إنسانًا فيقتله بالحيلة واغتيالاً، وبين القاتل بالمصادفة أو عن غير تعمد. في هذه الحالة الأخيرة فقط يمكن القاتل أن يلجأ إلى موضع (مقام أو معبد) يعيّنه الرب لشعبه. إنّ الرب يحامي عن نفس الإنسان، ولكنّه إله عادل لا يسمح بأن يحمي مذبحُهُ انسانًا مجرمًا. من أجل هذا قتل سليمان يوآب عند أقدام المذبح (1 مل 28:2- 31). لم يحدد "قانون العهد" الشخص الذي يحكم بنوعية القتل، بل ترك الأمر لولي الدم. بعد ذلك ستلعب السلطة الملكية دورها (1 مل 28:2- 31): السلطة القضائية أو قضاة الملك (تث 19: 12، 22: 15؛ 25: 7)
ثالثا: كتب سفر التثنية في عهد تركّزت العبادة في هيكل أورشليم (تث 12: 4-7) وألغيت سائر المعابد المحليّة (2 مل 8:23- 9)، فجدّد التشريع في نقاط ثلاث (تث 4: 41- 43، 19: 1- 13). أوّلاً: لم يعد لمدن الملجأ أي طابع مقدّس، بل صارت مدنًا عادية في المناطق. يستطيع القاتل بغير عمد أن يهرب إليها قبل أن يصل إليه ولي الدم. ثانيًا: إنّ الحصانة التي تتمتعّ بها هذه المدن لا تعتمد على طابع التقديس المرتبط بالمعبد الموجود فيها، بل على اهتمام السلطة بالعدالة فلا يراق دم بريء. ثالثًا: يشدّد سفر التثنية على طابع المصادفة وعدم التعمّد في القتل من دون رويّة، ويشير إلى المسؤول عن تحديد نوعية القتل. أجل، لم يعد ولي الدم من يحدد نوعية القتل (بتعمّد أو بلا تعمّد)، بل مجلس شيوخِ مدينة القاتل الذي له الحقّ في استرداد القاتل وتسليمه إلى ولي الدم الذي لم يعد إلا منفِّذَا لما قررّته العدالة. ولكن سوف يطرأ تطوّر على هذا التشريع عندما تنتقل سلطة تحديدِ نوعيةِ القتل من شيوخ مدينة القاتل إلى شيوخ مدينة الملجأ الذين يلفظون حكمهم قبل أن يلجأ القاتل إلى مدينتهم.
بعد الجلاء سيحدّد التشريع بعض النقاط: الشريعة تطبّق أيضاً على الغريب والنزيل (أراد الفرس أن تطبق الشريعة الواحدة على الشعوب العائشة في مكان واحد). القاضي لم يعد مجلس الشيوخ، بل الجماعة كلّها. القاتل يبقى في مدينة الملجأ إلى موت رئيس الكهنة، لأنّه عند موت رئيس الكهنة وتنصيب خلفه، كان عفوٌ عام يستفيد منه القاتل. وهكذا تصبح مدن الملجأ بعد الجلاء بمثابة سجن أو موضع إقامة جبريّة.
رابعًا: أساس هذا التشريع في شعب إسرائيل هو قداسة الله الذي يسكن وسط شعبه وفي أرض ميعاده بواسطة العهد وهيكل أورشليم. وبحضور الرب في أرضه ينقل إليها شيئًا من قداسته، فلا يحقّ للإنسان أن ينجّسها بسفك دم زكي عليها. وهذه النجاسة، إذا حصلت، لا يكفّر عنها إلا بإراقة دم القاتل

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM