الفصل الثاني عشر: الحرب المقدّسة على مديان

الفصل الثاني عشر
الحرب المقدّسة على مديان
31: 1 – 54

أ- المقدّمة
هذا الخبر المبسَّط الذي كتبه التقليد الكهنوتي في زمن متأخّر هو تتمّة لما قرأنا في 25: 16- 18، وهو يصوّر لنا حملة عسكرية شبيهة بتلك التي قادها شاول على بني عماليق (1 صم 17:15- 9)، وهي حملة تبدو بشكل حرب مقدّسة تُمارس باسم الرب.
هذا الخبر قريب من المدراش وهو يهدف إلى توضيح تعليم ديني. نقرأ هنا كيف قهر بنو إسرائيل أعداءهم المديانيين وكيف قتلوهم عن بِكرة أبيهم. ولكنّ هذا ليس بصحيح، وبنو مديان ما زالوا على قيد الحياة. لو فني المديانيون لكان بنو إسرائيل نجوا من الوقوع في الخطيئة، ولكن وجودهم هنا جرّ شعب الله إلى الخطيئة.
أين وقعت هذه الحرب، وكيف انتصر بنو إسرائيل بهذه السهولة على شعب قويّ ومنظّم؟ أتكون هناك غزوة سريعة أوردها الكاتب وهمه التشديد على قواعد الطهارة بالنسبة إلى المقاتلين، وتنظيم توزيع الأسلاب على الذين قاتلوا وعلى الذين حرسوا الأمتعة؟

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
31: 1-54
آ 3- المديانيون (رج 10: 29- 36) هم شعب قبلي أقام شمالي خليج العقبة وذكرته التوراة مرارًا. لم يكن بنو إسرائيل على علاقة طيّبة بهم، وإن تزوّج موسى بامرأة منهم (خر 16:2-21).
آ 4- "ترسلون ألفًا". نحن نعرف أنّ القبائل تختلف عدة وعددًا، فكيف ترسل كلّ قبيلة ألفًا؟ نحسّ أنّنا أمام خبر يريد به الكاتب أن يدلّ على مساواة القبائل في القيام بالأعمال الحربية.
آ 6- أرسلهم ومعهم فنحاس. هذه الحرب حرب مقدّسة، ولهذا لا يقود بنو إسرائيل لا موسى ولا يشوع، بل فنحاسُ رئيس الكهنة. فنحاس (7:25) اسم مصري معناه العبد (الفاء هي للتعريف كالهاء في العبرانية، وأل في العربية).
آ 8- ملوك مديان الخمسة. نقرأ هذه الأسماء في يش 13: 21- 22، ونفهم أنّهم حلفاء سيحون. نعرف منهم صورًا وقد قال عنه سفر العدد (25: 15) إنّه رئيس عشيرة من عشائر مديان. لقد دأب التقليد الكتابي على المبالغة في تصوير قوّة الأعداء ليدلّ على قدرة الله وشعبه للتغلّب عليهم.
وقتل بلعام بن بعور. إنّ قرب قصّة بلعام من حادثة بعل فغور جعلت الكاتب يستنتج أنّ بلعام مسؤول عن خيانة بني إسرائيل لربّهم وأنّه يستحقّ القتل. هذا هو أساس سمعة بلعام الفاسدة كما نقرأها في سفر يهوذا (آ 11).
آ 14- غضب موسى، لأنّ المحاربين جاؤوا معهم بالنساء والأطفال، فأصرّ عليهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بالمحاربين. هكذا سيفعل شاول مع بني عماليق.
آ 19- كلّ من قتل نفسًا، كلّ من لمس قتيلاً. لقد أمر موسى كلّ من تنجّس أن يبقى خارج المحلّة سبعة أيّام. يتطهّر هو وتتطّهر معه الأسلاب والمغانم.
آ 26- وقال ألعازار، لا موسى. وهذا يدلّ على أن هذه العبارة زيدت فيما بعد لتعطي دورًا لرئيس الكهنة.
آ 23- ماء التطهير. تحدّثنا عنها في ف 19.
آ 29- لم يُفقد منا رجل، مع أنّ النصر كان سريعًا وكاملاً. الرب يحارب عن شعبه.
آ 50- قرّبنا للرب كلّ ما وجدنا من أدوات الذهب. يبدو أنّ المديانيين كان يهمّهم حمل الذهب في رقابهم وآذانهم (قض 8: 24- 26).

ج- ملاحظات حول الفصل الثاني عشر
1- بعد الحديث الطويل عن الذبائح، نعجب لوجود خبر عن حرب مع المديانيين تنتهي بالنصر عليهم. إنّ هذا الحدث يرتبط بقضية بعل فغور (ف 25). أمر الرب بهذه الحملة (25: 16- 18) تأديبًا لبلعام (31: 8، 16) والمديانيين. فالأشخاص هم هم في الحالتين: فنحاس ثمّ صور والد كزبي (25: 7، 15، رج 31: 6، 8). والنتيجة: هكذا ينتهي الصراع بين بني إسرائيل وجيرانهم: بعد النصر يفكّرون باقتسام شرقي الأردن، ويستعدّون لاحتلال الأرض المقدّسة بمعونة الرب (ف 32).
كُتب هذا الفصل في زمن متأخّر، واستقى كاتبُه معلوماتِه من مصادر توراتية متعدّدة يلمِّح إليها دون أن يوردها حرفيًا: قصّة بلعام وتفسيرها على ضوء قصّة بعل فغور، موت موسى، حرب يابيش في جلعاد (قض 21: 10- 12): اثنا عشر ألف رجل، قتل الرجال والنساء المتزوّجين، الإبقاء على العذارى. ويلمح النصّ أيضاً إلى انتصار جدعون على المديانيين (قض 6- 8): تحرير الرب لشعبه الذليل وتخليصه من يد بني مديان، قسمة الرجال إلى ثلاث فرق، النفخ في البوق (قض 7: 16)، نصر كامل على جيش العدو (قض 8: 12)، تسليم كلّ أدوات الذهب إلى القائد (قض 8: 24- 27). ثمّ إنّ تطهّر المحاربين والغنائم يتوافق مع ما نقرأه عن داود يومَ انتصر على بني عماليق (1 صم 30: 24-25).
2- لسنا في هذا النصّ أمام خبر تاريخي: لا ذكر لموقع المعركة، لا ذكر لزمانها، لا ذكر لأيّ تفصيل لها. الأشخاص فئتان: كهنة بني إسرائيل، أعداء بني إسرائيل. ثمّ إنّ رقم الأسلاب كبير جدًّا. فلا يعقل أن يكون لقبيلة من قبائل البدو، كل هذا الغنى! وإذا كان بنو إسرائيل قد أفنوا أعداءهم فكيف سيخافونهم في عهد جدعون (قض 6: 1-6)؟
هذا لا يعني أنّه لم يكن حرب ولا نصر على بني مديان، هذه القبيلة الآتية من حدود بلاد العرب (تك 25: 2- 4، حب 7:3) والعارفة بطرق الصحراء (10: 31، رج تك 38:27) والمعتادة على السلب والقاء الرعب في قلوب السكان الآمنين (قض 6: 1ي). ولقد حفظ لنا الكتاب ذكرياتهم عن غزواتهم على بني إسرائيل في زمن القضاة، وعن انتصار جدعون عليهم في يوم مشهور يسمى "يوم مديان " (أش 3:9؛ 10: 26 ؛ مز 83: 10).
3- إنطلق الكاتب الملهم من ذكريات عن يوم مديان فرجع إلى أيّام موسى واهتمّ بشرائع وعادات ترتبط بحياة الكهنة. نقرأ أوّلاً تشريعًا عن هدم المدن وقتل الرؤساء وذبح الشبّان مع الإبقاء على العذارى (تث 20: 10- 14)، والحرب حرب دفاع لا حرب احتلال.
من جهة ثانية يعلمنا النصّ بتطوّر في مبادئ تنظيم اقتسام الأسلاب: كان زمن يسلب فيه الجندي كلّ ما يقع تحت يديه (53:31 ؛ يش 7: 21؛ 1 صم 22:30؛ 1 مل 20: 39- 40؛ 2 مل 8:7)، ولكن هذه الممارسة استُهجنت فيما بعد، وأخذوا يجمعون الأسلاب ثم يقتسمونها (26:31 ؛ قض 5: 30، اش 2:9) تاركين للقائد الحصة الكبرى التي تتكوّن عادة من أثمن الأشياء (تك 14: 21- 24؛ قض 8: 24- 25 ؛ 2 صم 8: 7- 8). ولقد فرض داود عادةً يجعل بموجبها نصف الأسلوب للمقاتلين، والنصف الآخر لغير المقاتلين (1 صم 30: 23- 25). أمّا الأدوات الثمينة فكانت تُقدّم للرب فتوضع في الهيكل في حماية الكهنة (54:31 ؛ قض 19:6، 2 صم 11:8، 2 مل 5:12-6).
4- تأمّل كاتبُ سفر العدد في يوم مديان فرأى فيه صورة عن انتصارات الله العظيمة التي بها يقضي بالعدل لشعبه. فالمعركة هي معركة انتقام الرب (3:31) وفيها يحكم على أعداء شعبه الذين هم بابل (إر 50: 15، 28، 51: 11) وادوم والفلسطيّون (حز 25: 14- 17). أجل، سينتقم الرب لعبيده (تث 43:32)، فيعاقب أعداءهم (نا 1: 2، إر 46: 10، 51: 36) ويعاقب معهم بني إسرائيل الجاحدين إيمانهم (إر 5: 9، 29؛ 8:9). إذًا، النصر الذي يرويه سفر العدد هنا يذكّرنا بحكم الله كما أعلن عنه الأنبياء. نحن أمام انتصار إسكاتولوجي أكثر منه نصرًا تاريخًا.
في الحروب يقاتل بنو إسرائيل من أجل بقائهم، أو لامتلاك الأرض الموعودين بها. أمّا في هذه الحرب فهم يقاتلون للحفاظ على إيمانهم ولنقاوة عبادة الرب وتثبيت ملكه في شعبه. هذا النصّ لا يذكر اسم يشوع، القائد الحربي الذي أعطاه موسى سلطته (27: 18-23)، بل فنحاس الكاهن الذي غار بغيرة الرب فحافظ على الأمانة للشريعة (7:25-13). إذًا لسنا أمام عملية حربية وحسب بل أمام عمل كهنوتي، والقضية ليست قضية احتلال أرض وانتصار على أعداء، بل اقتلاع الشر بمعاقبة الذين علّموا الناس خيانة الرب، وبالحفاظ على الشعب من نجاسة الخطيئة. النص هو خبر حرب وهو أيضاً شريعة طهارة.
يهتمّ الكاتب أوَّل ما يهتم بقواعد الطهارة: تُحرَق المدن الوثنية بمعابدها، تقتل السبايا المضللات وكل اللواتي مارسن الزنى. تطهّر الأسلاب بالنار أو مياه التطهير قبل أن تُعطى للشعب المقدس، ويطهَّر جنود الحرب المقدّسة لأنّهم لمسوا الجثث. بهذه الطريقة يلمّح الكاتب إلى أنّ كلّ حرب، مهما كانت عادلة، تبقى سبب نجاسة. من أجل هذا يقدّم الرؤساء للرب أدوات الذهب تكفيرًا عن خطايا الشعب.
ويهتمّ الكاتب أيضاً بما يقدَّم للرب من تقدمات لتأمين حياة الكهنة واللاويين (8:18- 32). يحمل الرؤساء تقدمة الرب ويضعونها أمام خيمة الاجتماع، تقدمة طوعية تزاد على ما يفرض على الجيش من تقدمة للكهنة (25:31- 47). إنّ دور الكهنة واضح، إنْ بقيادة الحرب المقدّسة (تث 20: 2- 4) أو بتطبيق قوانين الطهارة، أو بتنظيم اقتسام الأسلاب، أو بالاهتمام بقبول التقدمات والمحافظة عليها. كلّ هذا يبيّن أنّ الشعب جماعة مكرّسة لله قبل أن يكون جيشًا محاربًا.
كلّ هذه الملاحظات تفهمنا أنّ عملية القتل الجماعي لم تتم، وأن شريعة "التحريم " شريعة نظرية لم يُعمل بها يومًا، خاصّة وأنّ النصّ كتب حين كان بنو إسرائيل خاضعين لحكم مملكة فارس. والتلميح إلى الدينونة والعدالة الإلهية يدلنا على أنّ هذه الحرب هي أخلاقية أدبية، وأنّ النصر يتمّ في آخر الأزمنة، وأنّه يجب أنّ نقتلع الشر، لا الناس، وإن كانوا أشرارًا.
5- في هذا الاتجاه انطلق كلّ من التقليد اليهودي والمسيحي. توسّع الترجوم في 8:31 فروى أنّ بلعام، قد طارده فنحاس، فهرب في الهواء بحيلٍ سحرية. ولمّا وصل إليه فنحاس دعا باسم الله ثمّ قتله بعد أن وبّخه على كل الشر الذي صنعه بأبناء يعقوب بواسطة لابان والمصريين وبني عماليق وبالاق وبنات مديان. في 31: 5 يقول الرؤساء إنّهم أخذوا كلّ أدوات الذهب من بنات مديان ولكنّهم لم يضلّوا معهن لئلاّ يموتوا موت الكافرين في الجيل الآتي. أجل، بلعام هو الشرّير بالذات وهو الذي أوحى بكلّ الجرائم التي حلت ببني إسرائيل. والحرب هي حرب في عالم آخر، عالم الهواء، والمحاربون يمجدَّون لا لأنّهم قتلوا، بل لأنّهم رفَضوا الخطيئة.
وسار آباء الكنيسة في هذا الخط عينه فقالوا إنّ المسيحيين عامّة والرهبان خاصّة يحاربون حربًا روحية بأسلحة الصلاة والصوم والفضيلة (رج 6: 14- 17). في هذه الحرب يعاونهم المسيح، رئيس الكهنة، والملائكة الحاملون أبواق الدينونة الأخيرة، ويقودهم الرسل والأنبياء والمعلّمون. لقد انتصروا على الملوك الخمسة، رمزًا إلى الحواس الخمسة التي نتغلّب عليها بالتقشّف والإمانة. أمّا الرذائل التي نزيلها فهي: الغضب والعناد والتكاسل والإعجاب بالذات. ويحمل المؤمنون معهم أسلاب الأعمال الصالحة التي لا تخلو من نجاسة والتي تحتاج أنّ تتنقّى من كلّ ما يجرّ إلى خطايا الجسد. ثمّ يقتسمون ثمرة انتصارهم مع شعب الله كلّه. وبعد أن يطهّرهم المسيح، يمكنهم أن يدخلوا ملكوت الله حيث يستقبلهم الملائكة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM