الفصل الحادي عشر: الذبائح والنذور

الفصل الحادي عشر
الذبائح والنذور
28: 1 – 30: 17

أ- المقدّمة
ننتقل الآن من القسم الإخباري إلى القسم التشريعي وقد تعوّدنا في أسفار موسى هذا الانتقال، لأنّ البنتاتوكس يجمع الخبر إلى الشريعة. ولنا مثال على ذلك في سفر العدد كما ذكرناه سابقًا: بعد محاولات الدخول إلى أرض الميعاد (ف 13- 14)، تأتي الشرائع عن تقدمات الحنطة والخمر (15: 1- 12).
ما نقرأه هنا يرجع إلى التقليد الكهنوتي، وهو يقدّم لنا لائحة موجزة بأعياد الشعب اليهودي واحتفالاته، مع ذكر ما تتطلّبه كل فترة طقسية من ذبائح. أعطانا الكاتب الملهم الشرائع المعمول بها في ما بعد الجلاء، ولكنّه جعلها في إطار زمن الحياة في البرّية.

ب- تفسير الآيات الكتابية
1- التقدمات والذبائح في يوم السبت والاعياد
28: 1- 29: 39
28: 1- 8: المحرقة الدائمة
تبدأ لائحة الذبائح بالمحرقة الدائمة (ويسمّيها الآباء: العيد الدائم) كما نقرأ عنها في خر 38:29- 42. أمّا سكب الخمر فلا يتم أمام خيمة الاجتماع، بل في داخل القدس أو المكان المقدّس.
أوّلاً: كانوا في زمن الملكية يقدّمون التقدمات (1 مل 18: 29، 36 ؛ 2 مل 3: 20)، دون التمييز بينها. في عهد احاز أخذوا يميّزون بين محرقة الصباح ومحرقة المساء ويقدمون مع المحرقتين تقدمة من الحنطة والخمر (2 مل 15:16 ؛ حز 13:46- 15). بعد الجلاء جرت العادة أن يقدّموا حَمَلاً في الصباح وفي المساء مع تقدمة الحنطة والخمر. وسمّي هذا العمل فريضة دائمة (3:28- 6)، فريضة دائمة لأجيال بني إسرائيل (خر 29: 42). وبما أنّ الذبائح تبقى موقدة قسمًا من النهار والليل سمّيت هذه الذبائح النار التي لا يجب أن تنطفئ (لا 2:6، 6، 2 مك 1:19).
ثانيًا: كانت تقام الذبائح اليومية تكريمًا لله وعبادة بحسب ما يتطلّبه العهد. بحسب خر 28:29- 42، فرض الله على موصى ذبائح على الجبل، وعندما يذبح الكهنة ذبيحتهم فهم يجدّدون الذبيحة التي ذُبحت على جبل سيناء (28: 6). إنّ الذبائح هي علامات العهد الدائمة، ولهذا تقدّم دائمًا، ولا يجب أن تنطفئ نار محرقة الذبائح، وإن توقّفت كان ذلك بداية نكبة وطنية (دا 8: 11، 11: 31؛ 12: 11). ونذكر هنا أنّ المسيح مات ودشّن العهد الجديد ساعة تقدمة ذبيحة المساء.
ثالًثا: يذكر المعلّمون كيف يجب على كل مؤمن أن يتّحد بهذه العبادة الدائمة. ففي قمران يطلبون من المؤمنين أن يتلوا الصلوات، وينشدوا الأناشيد ويردّدوا الوصايا الإلهية، ليدخلوا عندما يأتي الصبح والمساء في عهد مع الرب. والآباء المسيحيون يعلّموننا أن لا نكرم الله بطريقة عابرة، بل بنشيد يتردّد في أعماقنا (تلميح إلى الفرض المقدّس الذي يتلوه الرهبان مرّات في اليوم) وعمل يومي لمجد الله، وسلوك أخلاقي لا يجدّف على اسم الله بسببه. والحملان المذبوحان صباح مساء، هما رمز إكرام العهد القديم والجديد للرب، وصدى لعبادته الدائمة في السماء.
رابعًا: يتحدّث النصّ الكتابي عن القربان، وهو كلّ ما يحمل إلى الله، وعن الطعام، أي الخبز (لحم في العبرانية) الذي يكون من الشعير أو القمح. هكذا كانوا يفعلون في مصر وبلاد الرافدين، فيقدّمون الطعام إلى الآلهة المحتاجة إلى من يقيتها. أمّا الذبائح التي تحرق بالنار ويرتفع دخانها رائحة ترضي الرب، فقد عرفتها بلاد أرام وفينيقية.
في التقليد الكتابي تعبّر الذبائح والتقدمات عن سلطان الله المطلق على كلّ شيء. ولهذا عندما جمع الكاتب الكهنوتي عوائد بني إسرائيل التي هي عوائد الشعوب المجاورة، لم يخَفْ من النظرات الوثنية إلى تقدمة الطعام للآلهة، والعبادة في شعب إسرائيل فعل إكرام لله يعبّر عمّا في القلب من إيمان ومحبّة بلغة الحياة اليومية وأساليبها.

آ 9- 10: يومُ السبت
يتميّز السبت بالراحة والامتناع عن كلّ عمل (خر 34: 21، إر 17: 19- 22، عد 15: 32- 36). في السبت يرتاح الرجل وخدمه وبهائمه (خر 23: 12؛ تث 5: 14)، وفي السبت يتذكّر المؤمن تحرّره من عبودية عاشها في مصر (تث 5: 15)، ويتذكّر راحة الله بعد أن خلق الكون في ستّة أيّام (تك 2: 1- 4 ؛ خر 20: 11، 17:31). السبت يوم الفرح (أش 1:13، هو 13:2)، يوم مكرّس للرب يقدمون فيه ذبائح أكثر ممّا يقدّمون منها في أيّام الأسبوع (خر 46: 4)، يقدّمون "ذبيحة مضاعفة".

آ 11- 15: رأس الشهر
الاحتفال برأس الشهر عادة قديمة: كانوا يتوقّفون عن العمل (عا 8: 5) ويذهبون إلى رجال الله (2 مل 4: 23) يستشيرونهم. كما كانوا يشتركون في ولائم دينية ويقدّمون ذبائح سلامة تحضرها العشيرة كلّها (1 صم 20: 5- 29).
يحدّد حز 46: 6- 7 عدد الذبائح التي تقدم في هذه المناسبة: ثور كبش.. أمّا سفر العدد فيجعل ذبائح رأس الشهر شبيهة بذبائح سائر الأعياد، ويشدّد على طابع العبادة، ولا يهمل الطابع الشعبي للعيد.
ولكنّ كل هذه الذبائح هي ظلّ الآتيات، أمّا الحقيقة، فجسد المسيح (كو 2: 16- 17)، الذي سيدشّن زمنًا جديدًا وحياة جديدة.

آ 16-25: الفصح
جمع الكاتب الملهم في لمحته عن عيد الفصح عنصرين متميّزين: إطار العيد ولائحة بالضحايا التي تنحر.
آ 16- 18، 24- 25 تشير إلى زمان العيد والاجتماع والفطير والامتناع عن العمل، كلّ هذه الأمور مأخوذة من حزقيال (45: 21) وسفر اللاويين (12: 15- 16): سبعة أيّام تأكلون فطيرًا...
آ 19- 23 تشير إلى الذبائح وما يرافقها من تقدمة الحنطة والخمر. هذه اللائحة هي التي نجدها في كلّ عيد من أعياد السنة.
مع سفر العدد سيتبدّل معنى عيد الفصح. لم نعد فقط أمام طقس يُذبح فيه حمل ليُؤكل ويُجعل دمه على قائمتي الأبواب (خر 12: 21- 27). وخسر الفطير أهميتَه بعد أن صار تقليدًا أكثر منه فريضة. لم تعد القضيّة قضية وليمة يشارك فيها أهل البيت، بل ذبائح تقدَّم للرب أمام الشعب المدعوّ للقاء بالرب في هذا العيد كما في سائر الأعياد. هذا لا يعني أنّ سفر العدد ألغى الاحتفال العائلي بالفصح، بل إنّه شدّد على الذبيحة كعنصر مهم في عبادة عيد الفصح لا يحسن بالمؤمن أن يهملها.

آ 26: 31: يوم البواكير
يوم البواكير هو عيد الأسابيع بحسب سفر اللاويين (ف 23).
منذ قديم الزمان كان البدو يقدّمون بواكيرهم للرب (تك 4: 4، خر 13: 1- 2)، وما عتّمت هذه العادة أن ارتبطت بعيد الفصح (خر 13: 11- 16 ؛ 34: 19). وعندما أقام العبرانيون بأرض كنعان كانوا يأتون إلى بيت الرب بأفضل بواكير أرضهم. ولم يكن مجيئهم إلى المعبد في يوم محدّد (خر 23: 19، تث 26: 1- 11)، بل كانوا يجيئون بحسب المناطق والمحاصيل المقدّمة للرب. من هنا كان عيد الحصاد وعيد القطاف في الربيع وفي الخريف (خر 23: 16)، وكان الفرح علامة هذه الأعياد (قض 27:9).
كانوا يحتفلون بعيد الحصاد (خر 23: 16) في فرح الوفرة والشبع (شبع في العبرانية)، ولهذا سمّوه عيد الأسابيع (راجع في العبرانية شبع أي سبعة وأسبوع) في القوانين القديمة (خر 22:34 ؛ تث 16: 10- 16، 2 أخ 13:8). ومع فرحة الشبع كانت تقدمة البواكير للرب والشكر له على عطية أرض الموعد.
إذا قرأنا سفر التثنية (16: 9- 12؛ 26: 1- 11)، لرأينا أنّهم كانوا يحتفلون بهذا العيد في الهيكل، يحتفلون به سبعة أسابيع بعد أن يقطعوا أوّل سبلة من حقلهم، أي في بداية حصاد الشعير. ويحدّد قانون القداسة أنّ أوّل حزمة تقدّم للرب غداة سبت (لا 23: 11)، وأنّ التقدمة الجديدة (لا 23: 16) تقدّم خمسين يومًا بعد ذلك الوقت وترافقها محرقات وذبائح للتكفير عن الخطايا (لا 18:23- 19). كلّ هذا يتمّ في يوم تعطيل وخلال محفل مقدّس (لا 23: 11).
في سفر العدد (28: 26- 31) يأخذ عيد الأسابيع اسمَ يوم البواكير الذي يقدّمون فيه تقدمة جديدة. المهم في هذا العيد هو التقدمة المحمولة إلى الرب. وتكون جديدة بمعنى أنّها ليست تردادا مملاًّ لتقدمة قام بها المؤمن في السنة الفائتة وما قبلها، بل تقدمة الحصاد الجديد (خر 34: 22) التي تدفعنا إلى تكريم الله وإنشاده النشيد الجديد (مز 96: 1؛ 98: 1). في ذلك الوقت تقدَّم للرب الذبائح كما في سائر الأعياد ويجتمع المؤمنون في الهيكل اجتماعًا احتفاليًا.
عندما نقرأ التراجيم نرى أنّ تقدمة الحزمة الأولى ترتبط بعيد الفطير، وتقدمة عيد الأسابيع (الذي يحتفل به خمسين يومًا بعد الفصح ويسمّى "العنصرة" أو بندكستي) يرتبط بذكر عطية الشريعة في سيناء. في هذا العيد عيد "العنصرة"، كانوا ينشدون مز 69: 19: "إقتربْ مني وكن محاميًا عني، ومن أعدائي افْتَدِني".
أمّا الترجمة السبعينية فتسمي يوم البواكير يوم الأشياء الجديدة. وتذكَّرَ المسيحيون أنّ عيد العنصرة تميّز بحلول الروح القدس (أع 2: 1- 4)، أنّ البواكير الجديدة هي ثمار الروح أي المحبّة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والأمانة والتواضع والصبر (غل 22:5- 23).

29: 1- 6: يوم الهتاف
نقرأ هنا عن ثلاثة أعياد يُحتفل بها في الشهر السابع: يوم الهتاف، يوم التكفير، يوم المظالّ.
من أين جاء المم "يوم الهتاف "؟ كان القانون الكهنوتي (لا 23:23- 25) قد جعل صوت الهتاف (تروعه في العبرانية، وهو صوت الهتاف وخاصة في الحرب. راجع في العربية الروع أو الحرب) مع سائر شعائر العيد من عطلة عن العمل وتقدمة ذبائح.
في يوم الهتاف يقدّم الكهنة كبشًا وسبعة خراف كما في سائر الأعياد، وعجلاً واحدًا كما في عيد التكفير. ولكنّ هذه الذبائح تزاد على ما يقدم من ذبائح في رأس كلّ شهر، وهذا ما يجعل اليوم الأوّل من الشهر السابع أكثر الأيّام احتفالاً.
ما هو موضوع هذا العيد؟ الشهر السابع هو "شهر سبتي " وبالتالي أقدس من سائر الشهور، وهو عيد رأس السنة الذي فيه يهتفون للملك مجددين عهدهم له. فالهتاف كان صرخة حرب، كما قلنا (عا 1:14؛ 2:2)، ترافق وصول تابوت العهد إلى المخيّم (يش 6: 5- 20، 1 صم 4: 5- 6). ثمّ صار صرخة ليتورجية إكرامًا لتابوت العهد (2 صم 6: 5)، وهتافًا ملكيًّا للرب ملك بني إسرائيل (21:23 ؛ مز 2:47- 6).
هذه العيد عرفته بابل وفينيقية إكرامًا للملك، وأخذ به بنو إسرائيل فجعلوه يوم تنصيب الرب كملك لهم ويوم هتاف له كسيّد في أرض إسرائيل.

آ 7- 11: عيد التكفير
إنطلق سفر العدد من سفر اللاويين (27:23) فأورد زمن الاحتفال بعيد التكفير وفرض الصوم والامتناع عن العمل. وزاد (كعادته) لائحة بالذبائح التي تقدّم في مثل هذا اليوم.
هناك وجهتان لكل تكفير. وجهة أُولى: أعمال التوبة من صوم وحداد (عنا في العبرانية أي قهر نفسه). ووجهة ثانية: كثرة الذبائح. ولكنّ هذه الذبائح، على كثرتها، لن تكون كافية، وذبيحة جسد المسيح ودمه وحدها تقدّسنا وتطهّرنا من خطايانا (عب 10: 1- 10).

آ 12- 38: عيد المظالّ
كان العبرانيون يحتفلون بعيد القطاف (خر 16:23، 34: 22) في الخريف وسط ابتهاج شعبي على ما كان يفعل الكنعانيون (قض 27:9، 21: 19- 21). وكان العيد يدوم سبعة أيّام (1 مل 2:8، 65- 66)، يعبّر فيه المؤمنون عن شكرهم لله وفرحهم لوجودهم في أرضه. ثمّ ما عتمّ عيد القطاف أن صار عيد المظالّ أو الخيام، لأنّ الناس يعيشون تحت الخيام سبعة أيّام (لا 23: 42- 43، 8: 14- 17).
خلال هذا العيد دشّن سليمان الهيكل، وأصعد إليه تابوت العهد، وذبح الذبائح العديدة (1 مل 8: 62- 66). وقدّم يربعام ذبائح في هيكل بيت إيل (1 مل 12: 32) وزربابل على المذبح المعاد بناؤه بعد العودة من الجلاء (عز 3:3- 4). وهكذا، وبعد أن كان عيد المظالّ عيد الفرح والشكر صار عيد الهيكل والمذبح (الهيكل هو مظلة الله وخيمته. مز 27: 5، 3:76)، وسيصبح في المسيحية عيد تدشين كنيسة القيامة وارتفاع الصليب في 14 أيلول وذلك منذ القرن الرابع المسيحي.
وسيتّخذ العيد معنى ثالثًا عندما ترتبط الخيام التي يقيمون فيها لقطاف كرومهم، بالخيام التي أقاموا فيها في البرّية مع موسى. حينئذ يتذكّرون أنّهم أقاموا في المظالّ بعد أن أخرجهم الرب من مصر
عدد الذبائح المقدّمة كثير جدًّا: فالعيد عيد الرب وتكريم لاسمه، ومهما فعلنا من أجله نبقى مقصّرين. من أجل هذا تتحوّل أفراح العيد إلى فعل عبادة عظيم.

2- فرائض النذور:
30: 1-17
غالبًا ما تجتمع في نصوص التوراة الفرائض الملزمة والتقدمات الطوعيّة والذبائح مع النذور والقرابين. هذا ما نجده في هذا الفصل الذي يتطرّق إلى الشروط التي تجعل النذر صحيحًا: بعد الإعلان العامّ (آ 3) يتطرّق الكاتب إلى نذور تتلفّظ بها امرأة أكانت فتاة غير متزوّجة (آ 4- 6)، أم فتاة نذرت قبل زواجها ثمّ تزوّجت (آ 7- 9)، أم أرملة أم مطّلقة (آ 10)، أم امرأة متزوّجة (آ 11- 16). كل هذا كُتب بأسلوب الفتاوى: أي رجل نذر... أيّ امرأة نذرت... وإنْ نذرت...
هذا النصّ حديث العهد وهو يفترض وجود تنظيم اجتماعي لم يعرفه العبرانيون في البرّية، وفيه من الفرائض القانونية التي تدلّنا على وضع المرأة في الجماعة اليهودية في العهد القديم. المرأة قاصرة وخاضعة دومًا للرجل، أكان ذلك الرجل والدها أم زوجها. وحدهنّ الأرامل والمطّلقات يتمتّعن ببعض الحقوق. للمرأة حقّ بأن تنذر، ولكنّ نذرها يحتاج إلى موافقة والدها أو زوجها، أقلّه موافقة ضمنية. ولكن بعد الموافقة، لا يحلّ للرجل أن يلغى ما وافق عليه (آ 16).
النذر عادة قديمة في شعب إسرائيل: نذر يعقوب أن يقدّم عشر ما يعطيه الرب (تك 28: 20)، ونذر يفتاح أن يضحّي لله بأوّل فتاة تأتي لملاقاته، فكانت ابنته (قض 11: 30)، ونذر أبشالوم أن يذبح ذبائح في حبرون إن ردّه الرب سالمًا إلى أورشليم (2 مل 7:15).
النذر أصلاً هو أن يتخلّى الإنسان عن شيء فيكرّسه للرب، ولا يعود له الحق في استعماله. النذر عطاء نحرم منه نفسنا، وننتظر بالمقابل خيرًا من الرب (2:21 ؛ 1 صم 1: 11). ويمكن أن نقدّم النذر للرب كتعبير عن عبادتنا له (6: 1ي. المنذور).
لكي يكون النذر صحيحًا يجب أن نعبّر عنه بكلام ننطق به، وهذا ما يعطيه قوّة تفرض علينا. وهذه القوّة تأتي من الاحترام لذاتنا ولكلامنا، والكلام شيء مقدّس. وتأتي هذه القوّة أيضاً من احترامنا لله. نذرنا له نذرًا ولا نتراجع. ويكون النذر أقوى عندما نحلف، ولكنّ الحلف ليس ضروريًّا، لأنّ النذر بذاته يربطنا ويقيّدنا (أسر في العبرانية).
ماذا كان ينذر المؤمن؟ ينذر أشخاصاً أو أشياء فيحرّم على نفسه استعمالها (21: 2) فيكرّسها للرب بصورة نهائية (1 صم 1: 11) أو مؤقّتة (6: 1ي). كانوا ينذرون للرب بيوتًا وحقولاً، فضلاً عن البواكير (لا 27: 1ي). أو يفرضون على ذواتهم الصوم والانقطاع عن الأكل (30: 14 ؛ 1 صم 14: 24). ولكن يبقى أنّ النذر هو قبل كلّ شيء تقدمة الذات للرب، نعبّر عنه بتقدمة نأخذها ممّا أعطانا الرب.

ج- نظرة عامّة إلى الأعياد والذبائح
1- هناك أعياد ثلاثة يحجّ فيها المؤمنون إلى المعبد المقدّس: عيد الفطير وعيد الأسابيع أو الحصاد، وعيد القطاف عند نهاية السنة. هذا بالنسبة إلى سفر التثنية (16: 1- 17). أمّا سفر اللاويين فهو لا يعرف "أوائل الشهور"، ولكنّه يزيد على الأعياد الثلاثة عيد "الحزمة الأولى" (لا 23: 9- 14) وعيد الهتاف وعيد التكفير (لا 23:23- 32، رج عد 28: 1ي). أمّا سفر حزقيال (46: 1- 15) فيميّز بين احتفالات السبت، وبين احتفالات أوّل الشهر. وأسفار عزرا (3: 5) ونحميا (10: 34) والأخبار (1 أخ 23: 31، 2 أخ 3:2، 13:8 ؛ 3:31) تجمع الأعياد بطريقة قريبة إلى ما نقرأ في سفر العدد (ف 28). وهذا ما نجده عند السامريين وعند فيلون الإسكندراني.
2- كيف يبدو التشريع الليتورجي؟ إنّ اللوائح الثلاث الأولى عن الحجّ (خر 23: 14- 17، 18:34- 26 ؛ تث 16: 1- 17) تورد الأعياد الثلاثة بالترتيب الذي نعرفه، وتنظّمها بحسب الروزنامة الكنعانية (شهر أبيب) التي تبدأ سنتها في الربيع (خر 23: 16). هذا التشريع سابق لإصلاح يوشيّا وهو يعطي العيدين الأوّلين طابعًا زراعيًّا.
وسوف ننتظر سفر التثنية لترتبط أعياد بني إسرائيل بذكريات تاريخية مؤسّسة على أحداث الخروج.
بعد موت يوشيّا خضع يوياكيم لنبوكد نصر (2 مل 24: 1) وأدخل الحساب البابلي الذي يجعل السنة تبدأ في الخريف (28: 16) والذي يجعل للشهور أرقامًا (الشهر الأوّل، الشهر السابع. 28: 16، 29: 1) والذي يجعل النهار يبدأ في المساء لينتهي في المساء اللاحق. ويجدر القول إنّ هناك أعيادًا نظّمت في العهد اليوناني مثل عيد تدشين المذبح (1 مك 59:4) وعيد نكانور (1 مك 49:7).
3- أيّ تعليم نستنتج من هذه الأعياد؛ كانت لائحة سفر الخروج (23: 14 ؛ 34: 18) تفرض على المؤمن أن يعيّد، أن يشارك في الحجّ إلى المعبد المقدّس: يحضر المؤمن أمام الرب (لا بأيد فارغة) لتقدمة الذبيحة، وإن كان جوهر العيد هو الحج، هو المسيرة التي تجعلنا قريبين من الله الساكن في هيكله.
أمّا سفر التثنية فيتوقّف عند الأعياد الثلاثة التي فيها يحجّ المؤمنون إلى الهيكل. ولكنّ الأعياد أصبحت بالنسبة إليه، لا احتفالات زراعية وحسب، بل تذكارات وطنية لأحداث الخروج العظيمة. ويحتفل المؤمنون بهذه الأعياد ويفرحون فرح عيد يشاركهم فيه الفقير والغريب واللاوي، ويمتنعون عن أي عمل، ويجتمعون ليحتفلوا بالعيد إحتفالاً مقدّسًا.
أمّا في سفر اللاويين والعدد فالأعياد هتاف وتكفير. يجتمع المؤمنون اجتماعًا مقدّسًا بناءً على دعوة مقدّسة في عيد طالت أيّامه إلى سبعة، يجتمعون ليحتفلوا بالعيد: يمتنعون عن أي عمل، يقدّمون الذبائح التي تحرق بالنار. في هذا الإطار ستصبح الذبائح عنصرًا جوهريًّا من عناصر كلّ عيد، وستكون الذبائح عديدة، وسيكون لكلّ عيد ذبيحة تكفير خاصّة به، وإلاّ لمَا استحقّ الشعب أن يحضر أمام الله ليشارك في الاحتفال المقدّس

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM