الفصل العاشر: الاستعداد لاقتسام أرض الموعد

الفصل العاشر
الاستعداد لاقتسام أرض الموعد
26: 1 – 27: 23

أ- المقدّمة
نحن في الجزء الثاني من القسم الثالث وفيه ستّة فصول: الاستعداد لاقتسام أرض الموعد، الذبائح والنذور، الحرب المقدّسة علي مديان، اقتسام شرقيّ الأردنّ، لمحة وجيزة عن مسيرة الشعب في البرّية، قانون اقتسام ارض كنعان.
لم يعد الشعب يتطلع إلى الوراء، إلى مصر، بل إلى الأمام، إلى المستقبل، وها هو يستعدّ لدخول كنعان. بهذه الروح نقرأ المقاطع المتعلّقة بالاستعداد لاقتسام كنعان. يُحصي موسى الشعب بأسباطه فيعرف حاجة كلّ جماعة (26: 1- 50) ويحدّد قواعد اقتسام الأرض ويثبتها (26: 52- 56). ثمّ يحصي اللاويين (63:26- 65) ويتطرّق إلى حالة البنات اللواتي يحقّ لهن الميراث (27: 1- 11). وينهي كلّ هذه الاستعدادات بتعيين يشوع كرئيس شرعي بعده ليدخل وهذه الجماعة إلى أرض كنعان.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- إحصاء قبل دخول أرض كنعان: 26: 1- 65
26: 1- 51: إحصاء جديد
لا بدّ من إحصاء جديد لشعب الله، لأنّ الذين تمّ إحصاؤهم قد ماتوا في البرية.
نقرأ في هذا المقطع لائحة برجال كل قبيلة، تشبه ما قرأناه في الفصل الأوّل، وبالعشائر التي تكوّن الأسباط. هذا الإحصاء يُهيّئ الشعب لدخول كنعان واقتسام أرضها.
يتضمّن النصّ عنصرين متميّزين جمعهما الكاتب في خبر واحد.
أوّلاً: لوائح عشائر كل سبط كما نقرأها أيضاً في تك 46: 8- 25 وخر 6: 14- 25 و 1 أخ 2-8. نظّم سفر التكوين لائحة بأسماء بني يعقوب ومنهم لاوي، نظّمها بحسب ولادتهم، فذكر أبناء ليئة ثمّ زلفة ثمّ راحيل ثمّ بلهة. وأنهى بتعداد أسماء الأشخاص. أمّا سفر العدد فأبرز تجمّع العشائر لم يذكر لاوي بين سائر الأسباط وجعل إلى منسى وأفرائيم محلّ اسم يوسف. يبدو أنّ لائحة سفر العدد أقدم عهدًا من لائحة سفر التكوين، وأنّها كتبت في أوائل عهد الاحتلال وقبل معاهدة يشوع مع جبعون (يش 18:9- 27)، وقبل أن يورد سفر الأخبار لائحته باسماء العشائر.
ثانيًا: إنّ هذا الإحصاء يشبه ما قرأناه في الفصل الأوّل: هو يذكر ما في السبط من عشائر ويعلن عدد المحصيّين من عشرين سنة وما فوق، كلّ القادرين على حمل السلاح. هناك أرقام هي هي في ف 26، وأرقام قد خُفّضت بالنسبة إلى رأوبين وجاد وافرائيم ونفتالي وشمعون، وأرقام قد رُفعت بالنسبة إلى يهوذا ويساكر وزبولون وبنيامين ودان وأشير ومنسّى. يمكننا أن نرى في هذا التحوّل في الأعداد انعكاسًا للواقع التاريخي المتطوّر.
ثالثًا: بعد ذلك، جاء كاتب كهنوتي فجمع بين العنصرين، واستفاد من معرفته بالإحصاء الأوّل وموت هارون وتنصيب العازار كاهنًا وثورة قورح وقضية الجواسيس، فأعطانا تعليمًا دينيًا وهو: أنّ هذا الشعب الكبير لا يتضمّن أحدًا من الذين خطئوا في البرّية (آ 64- 65، رج 29:14-30). إنّه شعب تطهّر وأُحصي لا ليحارب، بل ليتقبّل الميراث الموعود به. وهكذا لا يعود الإحصاء إحصاء حربيًا بل إحصاء الناجين والمخلَّصين من محنة البرّية، وهو يذكّرنا بإحصاء العائدين مع زربابل بعد الجلاء (عز 2: 1 ي) أو بلائحة المختارين في سفر الرؤيا (7: 5- 8)

آ 52- 56: قواعد اقتسام أرض الميعاد
هدفَ الإحصاءُ إلى تقسيم أرض كنعان، بحيث يكون لكلّ قبيلة حصّة من الأرض تقابل عدد أفرادها. ثمّ برز مبدأ قسمة آخر هو مبدأ إلقاء القرعة الذي يجعل كلّ حصة توازي الأخرى، إن لم يكن بالمساحة أقلّه بالقيمة والإنتاج. ولكن كيف التوفيق بين الاثنين؟
في الواقع كان احتلال أرض كنعان بحسب ظروف الحرب. فاقتسام شرقيّ الأردنّ بين سبطَي جاد ورأوبين وعشيرة ماكير من سبط منسّى لم يتمّ بالقرعة (32: 34- 42)، وإعطاء منطقة حبرون لبني كالب كان اعترافًا من يشوع لهم بما احتلّوه من الأرض (يش 14: 6- 15)، وبنو دان بحثوا عن أرض وأخذوها بالقوّة (قض 18: 1ي). وهكذا نفهم لدى قراءة سفر القضاة (ف 1) أنّ كلّ سبط بحث عن وسائل خاصّة به لتكون له حصّة في أرض كنعان.
من أجل اقتسام الأرض بين أفراد العشيرة أو البيت، كانت عادة إلقاء القرعة، وهي عادة قديمة عرفتها نوزي (شرقي اشور) وأشور وكبادوكية والعرب. بموجب هذه الطريقة تمّت إقامة الأسباط في المكان الذي تقيم فيه (33: 54؛ 13:34، يش 13: 6 ؛ 14: 1-5 ؛ 18: 2- 10). هذا ما يؤكّده الكاتب الملهم ليدلّ على دور الله في اقتسام أرض الموعد بحسب حاجات القبائل وأفرادها. ولقد قال كتاب اليوبيلات (وهو كتاب غير قانوني) إنّ طريقة القاء القرعة عرفت منذ زمن نوح الذي اقتسم الأرض بين أبنائه.
إلقاء القرعة وسيلة عمليّة تهدف إلى تهدئة المنازعات (أم 18:18)، وقد عمل بها العبرانيون بمناسبة اتخاذ القرارات (حز 21: 26 ؛ مي 2: 5) واقتسام الأسلاب والمغانم (مز 22: 19؛ أم 1: 14) واختيار أشخاص (قض 20: 9، 1 صم 10: 19 ي) وتحديد دور وخدمة كلّ منهم (1 أخ 24: 5، نح 10: 35). بما أنّ القرعة لا تحابي وقرارها لا يرتبط برغبات البشر، فقد جعلوها تعبيرًا سرّيًا عن إرادة الله: "القرعة تلقى لتحكم في الأمور، ومن الرب جميع أحكامها" (أم 33:16). من أجل هذا، فإلقاء القرعة عمل ديني تسبقه صلاة (1 صم 10: 22، 14: 41) تقام في المعبد أمام الرب (1 صم 17:10) الذي يساعدنا على معرفة الحقيقة (يش 7: 20 ؛ 1 صم 14: 43 ؛ يون 1: 7). يقول مز 78: 55: "قسم الرب أرضهم (أي أرض الأمم) ملكًا لأسباط بني إسرائيل ". ويقول أشعيا 17:34: "هو ألقى القرعة لكلّ واحد منهم، ويده قسمت لهم الأرض بالحَبْل. هم يرثونها مدى الدهر ويسكنونها جيلاً بعد جيل".
وهكذا، عندما نقول إنّ أرض كنعان قُسمت بالقرعة، فنحن نقرّ بسلطان الله المطلق على الأرض، ونؤكّد أنّ ما احتلّته الأسباط كان عمل العناية الإلهية من أجل كلّ شعبه ومن أجل كلّ فرد من أفراد هذا الشعب. وهكذا يكون توفيق بين اقتسام الأرض بحسب إرادة الله (إلقاء القرعة) وبحسب العدالة التي تحسب حساب كل فرد في قبائل الله.

آ 57- 62: إحصاء بني لاوي بحسب أنسابهم
يحصي موسى اللاويين على حدة: هم مُعفون من الخدمة العسكرية ومكرّسون لعبادة الله (47:1- 54 ؛ 62:2)، هم لا حصّة لهم في أرض الميعاد، والرب حصّتهم.
يورد الكاتب في هذا المقطع أسماء عشائر لم نتعرّف إليها من قبل، ويجهل أسماء جرشون وقهات ومراري. في آ 58 نقرأ اسم المحليين، أبناء محلّة (آ 33)، ابنة صلفحاد، والموشيين، أبناء موسى (خر 18:6- 20) والحبرونيين واللبنيين، أبناء حبرون ولبنة (مدينتان كهنوتيتان، يش 3:21) والقورحيين، أبناء قورح، أحد أبناء كالب المقيمين في تفوح غربي حبرون (1 أخ 43:2). كلّ هذه الأسماء تقودنا إلى المنطقة الجنوبية حيث أقامت قبائل يهوذا وكالب وشمعون، وبهذه القبائل ارتبط بنو لاوي في أوّل عهدهم (تك 33:29 - 35 ؛ 34: 30).
تلك كانت الحالة في زمن القضاة حيث نرى اللاويين يجوبون البلاد ويتخصّصون في شعائر العبادة (قض 7:17- 8، 8:18، 30؛ 19: 1). أمّا فيما بعد فسيتمّ تنظيم آخر يجمع كلّ عشائر بني لاوي في أبنائه الثلاثة: جرشون وقهات ومراري.

آ 63- 65: خاتمة الإحصاء
يشدّد الكاتب على القول إنّ جميع الذين أحصوا في المرّة الأُولى ماتوا في البرّية، ولم يبقَ منهم إلا يشوع وكالب. أجل، هو شعب جديد سيدخل أرض الموعد.

2- قضايا تنظيمية: 27: 1-23
27 : 1- 11: ميراث بنات صلفحاد
بعد إحصاء الشعب لاقتسام أرض كنعان، يتعرّض المشترع لحالة بنات صلفحاد بأسلوب نعرفه وهو يتألّف من العناصر الآتية. أوّلاً: عرض الحالة بشكل خبر: وتقدّمت بنات صلفحاد... ثانيًا: يرفعِ موسى الدعوى إلى الرب الذي يعطي الحل على هذا الشكل: فقال الرب لموسى. ثالثًا: تصبح الحالة الخاصّة نقطة انطلاق لشريعة عامّة تبدأ بهذه الكلمات: قل لبني إسرائيل (قد تبدو بشكل فتوى: أي رجل... أو فإن كان له إخوة...)، وتكون الشريعة لهم مدى أجيالهم. رابعًا: بعض المرّات يعمل موسى بحسب الحلّ الذي قدّمه الله (15: 36 ؛ 36: 10- 12).
نعرف قانون الوراثة عند اليهود (تث 21: 15- 17) الذي يميّز البكر عن إخوته، ونقرأ في 27: 8- 11 تسلسل الوارثين: الابن، الابنة، الأخ، العمّ، أحد الأقارب. ونقرأ في أحد عقود مدينة نوزي: "إذا لم يكن لجلمنينو ابن، تأخذ ابنته حصةً من الميراث ويدخل زوجها في عشيرتها بالزواج ". مثل هذا الحكم الذي سيأخذ به بنو إسرائيل، يحفظ أملاك القبيلة داخل القبيلة.
نقرأ تلميحًا إلى شريعة غير مكتوبة تقول: الثائر والمجدّف يُقتل، وتُجعل أملاكه للملك. هذا ما فعل أحاب باملاك نابوت اليزرعيلي (1 مل 21: 1- 16). أمّا الشرائع الشفهية والتي لم تدوَّن في التوراة فهي عديدة (ستدوّن في المشناة والتلمود). نورد مثلاً شريعة اقتسام الغنائم: للنازل إلى الحرب والقائم على الأمتعة نصيب واحد (1 صم 30: 24 ي). ونورد أيضاً شريعة السبت كما نقرأها في إر 17: 21- 22: "إحذروا أن تحملوا حملاً يوم السبت، ولا تعملوا عملاً".
ونلاحظ لدى قراءة هذه المقطع الكتابي أنّ أسماء بنات صلفحاد هي أسماء مدن تقع غربي الأردن: نيعة في زبولون (يش 13:19)، حجلة في يهوذا (يش 15: 6)، ترصة في منسّى (يش 24:12 ؛ 1 مل 15: 21). وفي هذا السبيل نقرأ في يش 4:17: وإن صلفحاد... لم يكن له بنون، بل بنات فنعرف أنّنا أمام الخبر نفسه بعد احتلال أرض كنعان. ونقرأ في 32: 40- 42 أنّ ماكير ويائير ونويح يقيمون شرقي الأردن، أمّا بنات صلفحاد ففي كنعان (رج قض 5: 14 الذي يذكر ماكير بين المنتصرين على سيسرا الكنعاني).

آ 12-23: يشوع يخلف موسى
أوّلاً: نحن هنا أمام تقليد اشتراعي قديم (تث 31: 14، 23) أقحمه الكهنة في رواية موت هارون (20: 22- 29) مستعملين مواد متعددة. أمر الرب موسى أن يصعد إلى الجبل وأخبره أنّه سيموت قريبًا وينضمّ إلى آبائه لأنّه تمرّد على الرب في مريبة (آ 12- 14، 22:20- 24).
نقرأ في آ 15- 17 صلاة موسى إلى الرب: ليوكل الرب رجلاً على الجماعة... يخرج ويعود... وقد قال ترجوم يوناتان: يخرج أمامهم فينظّم صفوفهم للحرب ويعود أمامهم في عودتهم من الحرب، يخرجهم من أيدي أعدائهم ويدخلهم إلى أرض إسرائيل... فلا يضلّون بين الشعوب كخراف لا راعي لها.
في آ 18- 23 يأمر الرب مولى بأن يأخذ يشوع ويقيمه أمام الجماعة. ففعل موسى كما أمره الرب ونصّب يشوع رئيسًا عليهم.
ثانيا: نعرف موضع موت موسى. مات خارج أرض الميعاد، في جبال عباريم، في نبو (تث 32: 49)، ودُفن في الوادي تجاه بيت فغور في أرض موآب (تث 34: 5- 6). هذه المنطقة قد احتلّها بنو إسرائيل (قبيلة رأوبين) منذ القديم، وهذا ما يجعلنا نفهم أنّ الكاتب لم يعد يتذكر أين دُفن موسى (تث 34: 6)، أو أنّه لا يريد أن يتذكّر لئلاّ يصبح مدفنه مركز تجمع ديني، وهذا ما لم تكن لترضى عنه الشريعة.
ثالثًا: من هو يشوع؟ رجل من قبيلة إفرائيم (8:13) وقائد عسكري انتصر على بني عماليق والكنعانيين (خر 9:17- 13، يش 8:6). كان خادم موسى وقد شاركه في رسالته الدينية: صعد معه إلى سيناء (خر 13:24، 17:32، عد 11: 28)، وباسمه حرس خيمة الاجتماع (خر 33: 11). اختاره موسى لخلافته فوعده الله بعونه: كن قويًّا شجاعًا وأنا أكون معك (تث 23:31 ؛ يش 1: 16- 18).
يشدّد النصّ على دور يشوع الحربي الذي يشبه إلى حد بعيد دور داود (1 صم 18 : 13-16)، فيهدف إلى التمييز بين السلطات الحربية الموكولة إلى يشوع، والسلطات الكهنوتية المحصورة بالعازار الكاهن. الكاهن يطلب للرئيس وهو بذلك يساعده على القيام بواجبه من أجل شعبه.
رابعًا: كان التقليد الالوهيمي قد جعل تنصيب يشوع يتمّ في خيمة الاجتماع خلال تجلّي الله بكلمته التي منحت يشوع القوةَ وأرسلته في رسالة (تث 31: 14- 23). أمّا النص الكهنوتي الذي نقرأه هنا فهو يذكر وضع اليد (وهو طقس نجده مرارًا في الذبائح) الذي يدل على نقل السلطة من شخص إلى آخر وتولّيه الوظيفة الجديدة: صلّى موسى، ثم بناء على أمر الله، اختار يشوع وأقامه أمام الجماعة كلّها وأعطاه السلطان بوضع اليد. وهكذا تنتقل سلطة موسى إلى من سيكون رئيس الشعب. لقد حلّت مهابة موسى على يشوع، تلك المهابة النابعة من المجد الذي حصل عليه يوم نزل من سيناء (خر 34: 35). كان روح الرب قد انتقل إلى السبعين شيخًا (17:11)، وكان بينهم يشوع، ولهذا اختاره موسى. وقد قال فيه سفر التثنية رابطاً بين حلول روح الرب ووضع اليد: "أمّا يشوع بن نون فمُلىء روحَ حكمة، لأنّ موسى وضع عليه يده، فأطاعه بنو إسرائيل وعملوا كما أمر الرب موسى" (تث 34: 9).
خامسًا: شبَّه التقليد اليهودي انتقال روح الحكمة من موسى إلى يشوع بماء يسيل من وعاء إلى آخر بحيث أصبح يشوع قادرًا على تعليم الشعب على مثال موسى. ولقد رجع التقليد المسيحي إلى حفلة تنصيب يشوع ليقيم الخدّام السبعة (أع 6: 6): اختارهم الرسل، قدّموهم إلى الجماعة، وضعوا عليهم الأيدي. كما تذكّر هذه الحفلة ليقول لنا إنّ الرب يهتمّ بخرافه المشتّتة. سيموت موسى ولكنّ يشوع سيخلفه. مع نهاية الشريعة يخلف يسوعُ موسى، والإنجيلُ الشريعةَ، ويكون يسوع القادر وحده على قيادة الرب إلى أرض الميعاد، إلى الميراث الأبدي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM