الفصل السابع
من قادش إلى سهول موآب
20: 1 – 21 : 35
أ- مقدّمة
بعد أن أطال الكاتب حديثه عن الكهنة (ف 17- 19)، ها هو يعود فيروي آخر مراحل المسيرة في البرية قبل أن يوصل الشعب إلى سول موآب، وعلى ضفة نهر الأردن (22: 1).
بين يدي الكاتب تقاليد تتعلّق بموت مريم (20: 1)، وتذمّر الشعب الدائم (20: 2- 11 ؛ 4:21- 9)، وخطيئة موسى (12:20- 13)، والمفاوضات مع بني أدوم (14:20- 21)، وموت هارون (22:20- 29)، ومعركة حرمة (21: 1- 3)، وضربة الحيات (21: 4- 9)، واحتلال شرقيّ الأردنّ (21: 21- 35).
هذه التقاليد قديمة وهي ترتبط بذكريات تاريخية، وقد جعلها الكاتب الكهنوتي في إطار خاصّ واستنتج منها تعليمًا دينيًّا: رغم خطيئة الشعب ورؤسائه (20: 1- 3، 21: 4- 9)، ورغم معارضة الأم (20: 18، 21 ؛ 21: 1، 23، 33)، حقّق الله مخططه الخلاصي. وهو وإنْ عاقب شعبه (20: 12 ي ؛ 6:21) إلاّ أنَّه يحميه ويدافع عنه. يعطيه ماء يحتاج إليه (7:20- 11، 16:21-18، رج خر 17: 1- 4)، ينجّيه من الضربات والآفات (8:21- 9)، يجعله يعبر نهر أرنون كما أعبره في الماضي البحر الأحمر (21: 5)، ويسلّم أعداءه إلى يديه (21: 3، 21- 35). إنّ إله العهد هو الإله الأمين لمخطّطه الخلاصي.
ب- تفسير الآيات الكتابية
1- وفاة مريم وهاوون وخطيئة موسى
20: 1- 29
20: 1: وفاة مريم
تورد هذه الآية حدث موت مريم. بعد الإعلان عن موت موسى (آ 12)، وخبر موت هارون الذي سنقرأه (23- 29)، فهم الشعب أنّه لا يحقّ لأحد أن يدخل أرض الميعاد لأنّها عطيّة لا يستحقّها نبيّ (12: 12) أو كاهن (23:17- 26). أجل، لا النبوّة، ومريم نبيّة بحسب التقليد الالوهيمي (20:15، تث 24: 1 ؛ مي 4:6)، ولا الكهنوت، وهارون هو الكاهن، ولا شريعة العهد القديم تقود إلى أرض الموعد.
كانت آ 26:13 قد جعلت الشعب في قادش، إلاّ أنّ التقليد الكهنوتي يعتبر أنّ الشعب وصل إلى قادش بعد الأربعين سنة التي قضاها في البرّية (36:33- 37).
آ 2- 13: خطيئة مودى وعقاب الله له في مريبة (مياه الريبة).
- المياه الخارجة منه الصخر (آ 2- 11) تذكّرنا بما نقرأ في سفر الخروج (17: 1- 7) وتجعلنا نتساءل: لماذا عاقب الله موسى هذا العقاب القاسي فمنعه من دخول أرض الميعاد (آ 12)؟
سنحلّل هذا النصّ تحليلاً أدبيًّا علّنا نجد بعض الخطوط التي تساعدنا على هذا الجواب.
أوّلا: هناك نواة الوهيمية (آ 3، 5، 8، 9، 11، 13) تروي كيف صرخ الرب بوجه موسى وكيف أخرج موسى المياه من الصخر يستعيد النصّ موضوع تذمّر الشعب في البرّيّة بعبارات تشبه التي قرأناها: خاصم (ريب في العبرانية) الشعب موسى (آ 3)، وعاتبه لماذا أخرج الشعب من مصر إلى أرض لا تينَ فيها ولا كرم، ولا ماء فيها للشرب (آ 5). أمر الرب موسى بأن يأخذ عصاه (آ 8)، عصا سفر الخروج (4: 2، 7: 15) العجائبية، فيضرب الصخرة فيخرج منها ماء يروي الشعب (آ 8- 11).
هل نحن أمام حادثتين، واحدة أوردها سفر الخروج وأُخرى سفر العدد؟ مكان الحادثتين هو مريبة (أو ماء الريبة) قادش (27: 14، تث 32: 51؛ حز 47: 19)، ويزيد سفر الخروج (7:17) كلمة "مسه " ليدلّ على أنّ الشعب جرّب (نسه في العبرانية) الله ونساه. رواية سفر الخروج أقدم من رواية سفر العدد. ومعنى ترداد الحادثة مرتين يفهمنا أنْ لا شيءَ يرضي الشعب، وأنَّ أمانة الله ورحمته لا خلل فيهما وهولا يني يعمل من أجل شعبه.
ثانيًا: ثمّ جاء التقليد الكهنوتي (آ 2، 4، 6، 7، 9، 10) ليعطينا تعليمًا يتوافق ونظرته اللاهوتية. فقد ربط الكهنة هذا الحدث بما سبق: ندم الشعب لأنّهم قبلوا بوساطة الكهنة، بعد موت جماعة قورح. وتمرّدوا على موسى وهارون المتضامنين في السرّاء والضرّاء: هما يعملان معًا ويعطيان الماء للشعب (آ 6، 8، 10). بعد هذا لا يعود أمامنا إلاّ عصا هارون التي جعلت أمام الرب (آ 9)، ولم تعد القضيّة ضرب الصخرة بل التكلّم إلى الصخرة (آ 8) أمام الجماعة المحتشدة أمامها (آ 10) كما أمام الرب (لا 17: 5) أوخيمة الاجتماع (8:17، 19: 4) لصلاة ليتورجية. فالصخرة تمثّل الرب كالسحابة وتابوت العهد اللذين يرافقان الشعب ويقودانه ويحميانه. وهذه الفكرة سوف تساعدنا على التعرّف إلى خطيئة موسى وهارون.
ثالثًا: عرف سفر التثنية أعمال الله كما أوردها التقليد الالوهيمي وفيها معجزة الماء، ولكنّه لم يلمِّح إلى أيّ ذنب اقترفه موسى (تث 8: 14- 16). وعندما تحدّث عن موت موسى قبل دخول أرض الموعد، فقد اكتفى بالقول إنّ الربّ غضب عليه بسبب الشعب، ولكنّه لا يقول شيئًا عن سبب هذا الغضب (تث 1:37 ؛ 23:3-28، 4: 21- 28). ولكنّ هناك آية (تث 1 :37) لربط غضب الله على موسى بقضية الجواسيس: تخاذل موسى فلم يدخل أرض كنعان من الجنوب كما فعل بنو كالب. ولكنّه بعمله هذا تضامن مع شعبه. وبما أنّ غضب الرب انصبّ على الشعب، فقد انصبّ على موسى أيضاً، ولهذا عاقبه الله وحمّله وزر خطيئة شعبه على مثال عبد يهوه الذي يتحدّث عنه أشعيا النبي (53: 4- 5).
رابعًا: عاد الكاتب الكهنوتي الذي سيروي لنا موت هارون (20: 23- 29) والذي جمع بين هارون وموسى في حادثة مريبة، فربط حادثة الصخرة بخطيئة موسى بواسطة آ 12 القائلة: بما أنكما لم تؤمنا بي إيمانًا...
فالآية 12 هذه تورد خطيئة موسى وهارون وعقاب الله لهما، وهي لا تذكر العصا ولا مياه الصخرة. بل تتحدّث عن الجماعة وترتبط بالآية 10. لهذا سنرجع إلى آ 10 لنرى لماذا حكم الرب على مودى وهارون هذا الحكم. من أجل هذا ننطلق من مزمور 106: 32 الذي يتأمّل في هذا الحدث على ضوء التقليد الاشتراعي فيبيّن لنا أنّ تذمّر الشعب أغضب الرب ودفع موسى إلى أن يتفوّه بكلام جهل سيكون سبب شقائه: أغاظوا الربّ عند ماء مريبة فاستاء موسى بسببهم لأنّهم ملأوا قلبه مرارة فتلفّظت شفتاه بكلام جهل.
ما الذي تحمله الآية 10 من كلام خطأ تفوّه به موسى؟ اسمعوا أيّها المتمرّدون. أنخرج لكم من هذه الصخرة ماء؟ هل نسب موسى المعجزة إليه وإلى هارون فكان كمن يجدّف على الله؟ هل شكّ في قدرة الله عندما تساءل هل تخرج الصخرة ماء؟ هل نفد صبره من تذمّر الشعب المتواصل، وهل تشكك بسبب صلاح الله الذي يعطي الشعب ماء ولا يعاقب المتمرّدين منهم (2 صم 3:12 ؛ 1 مل 13: 21، أش 1: 20، إر 17:4)؟ إنّ رحمة الله منعت قداسته (وغضبه) من أن تتجلّى، وحنانه كان عطاء لا قوّة انتقام (هو 8:11-9).
ونقول أيضاً: قال الرب لموسى لا أن يضرب الصخرة بالعصا العجائبي، بل أن يكلّم الصخرة، أي أن يلجأ إلى الكلام والصلاة. غير أنّ موسى لم يتكلّم إلى الصخرة، بل تكلّم عن الصخرة، لم يكلّم الرب، بل كلّم المتمردين، فكان كمن يقوم بعمل سحري بدل أن يتوجّه إلى الله في الصلاة، وعلى هذا قال المعلّمون بعد الجلاء: إن خطيئة موسى ليست في أنّه شكّ بقدرة الله، بل لأنه لم يؤمن بقوّة الصلاة، فالديانة التي تحمل في طيّاتها آثار السحر لا يمكنها أن تظهر قداسة الله.
آ 14- 21: معارضة ملك أدوم لبني إسرائيل
حين ترك موسى قادش بدأ بمفاوضات مع ملك أدوم ليسمح له بعبور أرضه (آ 14- 17، 19)، ولكنّ ملك أدوم رفض طلب موسى (آ 18، 20، 21) وقطع عليه الطريق (آ 20) وأجبره أن يدور حول أرضه (آ 21). نجد في هذا الخبر عناصر ثلاثة:
العنصر الأوّل: رسالة (آ 14- 17) كمثل ما نقرأ في رسائل ماري وبابل وتل العمارنة: العنوان (آ 14)، الشخص المرسل إليه (ملك أدوم)، ثمّ عرض الموجبات التي دفعت موسى إلى الكتابة، وأخيرًا الطلب: دعنا نعبر أرضك. نحن هنا أمام وثيقة قديمة تدلّ على طول باع مَن كتبها، تدلّ على معرفة موسى بفنّ الكتابة. هذه الوثيقة الالوهيمية تشبه بأسلوبها حديث موسى مع يثرو المادياني (خر 18: 8) أو النؤمن الاشتراعي (تث 26: 5- 10).
العنصر الثاني: رفض أدوم لطب بني إسرائيل وتهديده بالسلاح.
العنصر الثالث: كلام بني إسرائيل إلى ملك أدوم: ندفع لك حتّى ثمن الماء الذي نشربه. نودّ القول هنا إنّ التقليد الاشتراعي (تث 2: 6) يتجاهل رفضت ملك أدوم ويؤكّد أنّ الشعب مرّ في سعير (تث 2: 29) بعد أن دار طويلاً حول أدوم (تث 2: 2- 8).
نلاحظ هنا أوّلاً أنّ طريق الشمال قطعت على بني إسرائيل بفعل الكنعانيين وبني عماليق بعد معركة حرمة (14: 145)، فلم يبقَ لهم إلاّ طريق الشرق والدوران حول البحر الميت للوصول إلى كنعان.
ونلاحظ ثانيًا أنّ سفر العدد يجعل الحدث في قادش بينما يجعله سفر التثنية في إيلات. وتساءل الشرّاح: هل طلب العبرانيون البدو حقّ المرور في أرض أدوم المتحضّرة والمنظّمة بقيادة ملك (تك 36: 31- 39)؟ أم هل طلب العبرانيون المقيمون في كنعان حقّ استعمال الطريق التجارية التي تقود إلى إيلات وإلى مناجم شاطئ البحر الميت؛ فهل نحن إذًا أمام وثيقة تثبت صدق نيّة إسرائيل مع جيرانهم؟ على كلّ حال، يجب أن نعرف أنّ قبائل الجنوب كانت على عداوة مع بني أدوم (قض 1: 1ي) بينما كانت قبائل الشّمال والوسط على اتفاق معهم (تث 2: 2- 8، 8:23). يوم دوّن هذا المقطع كان الشعب يعتبر أدوم أكز خطرًا من سيحون، ملك الأموريين (21: 1- 4)، وهذا واقع عرفه شاول (1 صم 47:14) وداود (2 صم 12:8- 13، 1 أخ 18: 11 ؛ مز 2:60). وعندما نتذكّر أقوال الأنبياء في أدوم (عو 8- 12، حز 25: 12- 14، 35: 1- 10، أش 63: 1- 6) نفهم لماذا احتفظ سفر العدد بهذا الكلام المعادي لأدوم.
ونلاحظ ثالثًا التعليم الديني الذي نستنتجه من هذا المقطع: تقدّم إسرائيل الذي كان عبدًا مهانًا (آ 15) من أخيه أدوم بطريقة متواضعة ومسالمة، فرفض أدوم رسالة السلام (آ 18)، ولم يهتمّ لتدخّل الله من أجل شعبه المختار، ونسي روابط القرابة بين الشعبين الشقيقين (تك 36: 1- 9).
يقدّم إسرائيل رسالة الخلاص إلى الأم فيرفضونها. لا شكّ في أنّهم لم يدعوا بعد إلى مشاركة إسرائيل في امتيازاته (10: 29- 30)، بل إلى التعرّف إلى حماية الرب لشعبه (13:14- 14 ؛ أش 52: 10، مز 3:96) والاهتمام بتسهيل مسيرة هذا الشعب إلى أرض كنعان.
آ 22- 29: وفاة هارون على جبل هور
جبل هور مكان قريب من قادش. قال سفر التثنية (6:10): إنّ هارون مات في "موسير" وهو أيضاً مكان قريب من قادش.
قبل موت هارون، خلع موسى عنه ثيابه الكهنوتية (خر 28: 2) وألبسها العازار الذي تقبّل بذلك الكهنوت الأعظم. استبعد بيت ناداب وأبيهو (لا 10: 1- 5) وجعل بيت ايتامار في الدرجة الثانية (3: 1- 4، عز 8: 2). وبما أنّ ألعازار هو والد فنحاس، صاحب الغيرة من أجل الرب (25: 10-13)، وجدّ صادوق (1 اخ 5: 30- 34)، يمكننا القول إنّ هذا النصّ كتب في الحلقات الصادوقية وفي عهد عزرا.
مات هارون فبكى عليه الشعب 30 يومًا (آ 29)، كما سيبكون على موسى يوم وفاته (تث 8:34). تلك كانت عادة العبرانيين خاصّة، وأهل الشرق عامّة، في حزنهم على رجل عظيم، وكانوا في بعض الأحوال يقرنون زمن الحداد بصوم يدوم سبعة أيّام (تك 50: 10، 1 صم 13:31). أمّا المصريون فكانوا يحدّون على العظام من موتاهم سبعين يومًا (تك 3:50).
في آ 24 نفهم أن موت هارون هو عقاب الله له بسبب خطيئة في مياه مريبة: إستهان بكلام الله فلم يحقّ له الاستفادة من مواعيده (20: 12- 13). ولكنّنا نتصوّر من خلال آ 27- 29 عظمة موت هارون على قمّة جبل هور.
2- إنتصارات على الطريق إلى أرض الموعد رغم الصعوبات
21: 1- 3: إنتصار على الكنعانيّين
نحن أمام تقاليد بني كالب ويهوذا كما حفظتها لنا تقاليد الجنوب وأدخلها الكاتب في تاريخ شعب الله.
بعد محاولة أُولى، اتّكل بنو إسرائيل على الرب فانتصروا على الكنعانيين في حرمة ودمروا المدن. نقرأ شيئًا مماثلاً لذلك في سفر القضاة (17:1): اتّفق يهوذا وكعون وانتصرا على الكنعانيين في "صفات " التي سمّوها حرمة والتي صارت من نصيب كعون (يش 3:19) ثم يهوذا (يش 15: 35).
تلك هي المرّة الأولى التي فيها ينتصر العبرانيون بعد انطلاقهم من سيناء. لقد صاروا اقوياء فلم يعد باستطاعة أحد أن يقف بوجههم (21: 23، 35 ؛ 7:23- 10، 31: 7). بدأوا يوجّهون قلوبهم إلى الله ونذروا له غنائم الحرب كباكورة انتصاراتهم. حرّموا على انفسهم استعمال هذا الغنائم وكرّسوها له (لا 29:27 ؛ تث 13: 15 ي ؛ يش 17:6 ي، 27:8).
آ 4- 9: الحيَّات السامّة والحيّة النحاسيّة
أوّلاً: بعد الحديث عن معركة حرمة، عاد الكاتب إلى الحديث عن مسيرة البرّية. توجّه العبرانيون إلى بحر سوف، أي خليج العقبة (خر 23: 31؛ 1 مل 9: 26)، فتعبوا ويئسوا وتذمّروا على مولى (وعلى الرب) الذي أخرجهم من مصر وأعطاهم طعامًا لا يكفيهم. فعاقبهم الرب فأرسل عليهم حيّات سامّة ثمّ خلصّهم منها بصلاة موسى: أعطاهم الحية النحاسيّة كراية يتجمّعون حولها.
يجدر القول إنّ الحيّة النحاسية المسماة "نحشتان " (راجع في العربية حنش) ظلّت تكرّم في أورشليم إلى أن أزالها الملك حزقيا مع التماثيل والأوتاد المقدّسة (2 مل 18: 4).
كانت هناك أحداث مؤلمة عالقة في ذاكرة الشعب: هجوم حيات اعتبرت عقابًا للشعب المتذمّر على ربّه: صور عن "السارافيم "، هذه الوحوش المجنّحة التي تقف على مدخل البيوت أو تملأ صحراء سيناء. أخبار عن وحوش بحرية (أش 27: 2، عا 3:9) تلدغ في قعر البحار. كلّ هذه الأمور أخذ بها التقليد الالوهيمي ليفسّر لنا وجود نحشتان في هيكل أورشليم.
ثانيًا: انطق الكاتب الملهم من هذه العناصر القديمة وأعطاها محتوى جديدًا: فلدغُ الحيّات لم يعد ضربة طارئة أو هجمة تقوم بها وحوش أسطورية، بل عقاب خطيئة هي رفض عطايا الرب. وحيّة النحاس لم تعد تعويذة تحمي حاملها من الشرّ، بل راية ينظر إليها المؤمن فينجو من الموت. وهذه الحية تفعل لا بذاتها، بل بإرادة الله. وهكذا جمع الكاتب في إطار واحد مواضيع الخطيئة والعقاب والندامة والخلاص بفعل شفاعة موسى.
ثالثًا: كان هذا الحدث ملخّصاً لتاريخ الخلاص (تث 8: 15)، وقد شرحه الشرّاح على ضوء مراحل تاريخ شعب الله. فسفر الحكمة (16: 5- 4) يربطه بالخروج: فلدغ الحيّات الذي نجا منه العبرانيون يشبه القروح التي أماتت المصريين. والحيّة النحاسية هي رمز خلاص يذكّر المؤمن بالشريعة وبعمل الله الخلّص. أمّا ترجوم أورشليم فيقرأ عن الحية النحاسية فيتذكّر الحيّة الأولى التي أهلكت الإنسان فاستحقّت لعنة الله (تك 3: 14- 15). ويوحنّا اعتبر في إنجيله (3: 14 ؛ 12: 32 ؛ 19: 37) أن رفع الحية النحاسية علامة رفع يسوع على الصليب ليخلّص البشرية من الخطيئة.
آ 10- 20: من جبل هور الى سهـول موآب
بعد حادثة الحية النحاسية انطلق العبرانيون من جديد (آ 10) فوصلوا على مراحل إلى سول موآب (آ 20) عبر شرقيّ الأردنّ: ارتحلوا... نزلوا... ويبدو أنّهم مرّوا عبر أرض موآب دون أن يلقوا مقاومة (رج 33: 44- 46).
أين موقع الأمكنة التي مروا فيها؟ بعضها شمالي وادي أرنون، وبعضها الآخر لا نستطيع تحديده. إنّ وادي أرنون يشكّل حدود موآب الشمالية.
"واهب بسوفه ". قال النص السامري: واهب على بحر سوف (أو خليج العقبة). وقالت الترجمة اليونانية: "اشعل صوب وأودية ارنون ". وقالت السريانية: "اللهب في الإعصار". وقال ترجوم اونكيلوس: كتب في سفر الحروب التي عملها الرب على البحر الأحمر: "معجزات عند وادي أرنون ". وقال ترجوم نيوفيتي: "المعجزات التي صنعها الرب حين كانوا عند البحر الأحمر". آراء عديدة.
نحن نقرأ في آ 14- 15 نصًّا مأخوذًا من كتاب حروب الرب. ينطلق النصّ الماسوري من هاتين الآيتين فيعتبر أنّه أمام تصوير جغرافي لصوفة وأودية أرنون وموت عار. أمّا النصّ السامري فيشير إلى أنّ الله أعطى هذه الأرض للعبرانيين. وتجعل الترجمة السريانية واليونانية من هذا المقطع خبرًا ملحميًّا عن الانتصارات. أمّا التراجيم (واللاتينية معها) فتقرأ في هذا المقطع عبورًا للبحر الأحمر، وفي هذا العبور كانت الصخور تنحني لتجعل الشعب يعبر ليقيم في أرض أعطاها الربّ له.
ونقرأ في آ 17- 18 نشيد البئر ينشده العمال: لقد كان حفرُ هذا البئر سهلاً. إنّه عطية الرب وهبها لمؤمنيه من دون كدّ ولا تعب.
إنّ هذه المراحل التي يمر بها الشعب عبر شرقي الأردن، من هور إلى موآب، هي جزء من مسيرة الشعب من مصر إلى أرض الميعاد، وهي تحتوي عجائب الله، وهي تدخل في ملحمة الخروج. فعبور وادي أرنون الضيق أمر عجيب مثل عبور البحر الأحمر. ونجاة العبرانيين من الموآبيين شبيهة بنجاتهم من المصريين. ومياه البئر التي حفرها الرؤساء بالصولجان والعصي هي كتلك التي أعطاها لشعبه في البرية يوم أخرج له الماء من الصخرة بعصا هارون.
من أجل هذا يردّد التقليد اليهودي والمسيحي نشيد البئر متأمّلاً في عطايا الله المتجدّدة. فخيط الماء الرفيع يصبح ينبوعًا على مثال نهر الفردوس الذي يتفرّع إلى أربعة أنهر، ويصبح أيضاً بئر الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، ويصبح أخيرًا بئرًا حيًّا يرافق الشعب أينما رحلوا.
آ 21- 32: الإنتصار على سيحون
يتوقّف الكاتب هنا على حادثة احتلال الأرض الواقعة شمالي أرنون.
تروي آ 21- 25 كيف احتلّ بنو إسرائيل مملكة سيحون ملك الآموريين.
سيحون شعب متحضّر تربطه صلة القرابة بسكّان كنعان (13: 29، عا 2 : 9)، وقد أكّدت الحفريات وجود هذه المملكة، واكتشف العلماء "جلول " في منطقة "مدبه "، و"حشبون " عاصمة سيحون، و "عراعير" على مدخل ارنون.
الرسالة إلى ملك سيحون تشبه إلى حد بعيد تلك المرسلة إلى ملك أدوم (20: 14- 17).
خبر الإنتصار على سيحون تاريخي في نواته، ولكنّ الكاتب الملهم أعطى لمملكة سيحون أبعادًا واسعة فأوصلها إلى وادي يبوق ليجعل من هذه الأرض الحدود بين بني إسرائيل وبني عمون (قض 11 : 19- 23، تث 24:2- 37).
ثمّ نقرأ في آ 26- 35 لمحة تاريخية مكتوبة بطريقة شعرية على مثال ما قرأنا في آ 14- 15، 17- 18. نشيد حشبون على موآب نشيد قديم جدًا. أيكون نشيدًا أموريًا ضدّ الموآبيين استعاده بنو إسرائيل وجعلوه نشيدًا ينشدونه على موآب؟ الأمر معقول.
في آ 31- 32 يروي الكاتب أخذ "يعزير" من أيدي الأموربين.
نحن هنا أيضاً أمام عظائم الله، وأحداث التاريخ هي عمل الله والإنسان معًا.
آ 33- 35: احتلال أرض باشان
بعد احتلال مملكة سيحون، وصل العبرانيون إلى سهول موآب في وادي الأردنّ قبالة أريحا، وهي منطقة تختلف عن فيافي موآب وبرية موآب (تث 8:2) الواقعة إلى الشرق. ولكن قبل الوصول إلى المحطّة الأخيرة يروي الكاتب احتلال مملكة عوج، ملك باشان، بأسلوب يشبه احتلال شرقي الأردن (تث 1: 1- 5).
كانت أرض باشان وأرض حشبون منطقتين يسكنهما الحضر، ومن المعقول أن تكون دارت معارك بينما وبين العبرانيين البدو. ولكنّ العبرانيين احتلّوا هذه الأرض، كما يقول عد، وهو أمر لا يمكن تأكيده لأنّ هناك مواقع لم يحتلّها العبرانيون إلا في زمن القضاة (قض 10: 5؛ رج عد 39:32- 42). المهمّ أنّ احتلال الأرض قد بدأ، ومن له الباكورة له الغلّة كلها، ومن له مدخل الأرض سيكون له كامل الأرض، والقضيّة قضيّة وقت: وعدَ الله وسوف يفي بوعده.
ج- ملاحظات حول الفصل السابع
1- معنى وفاة هارون
مات هارون على قمّة الجبل، فأشار الكتاب إلى العظمة السرية لهذه الميتة. كان هارون قريبًا من الجماعة ومعروفًا عند الشعب فاحتُفل بموته احتفالاً مهيبًا. ولقد شدّد التقليد اليهوهي على هذا الطابع السري فتصوّر هارون يموت وحده على مرأى من الجميع فوق صخر على الجبل، أو ينطفئ بهدوء في مغارة زيّنها الله بحضوره بينما كانت السحابة التي أعطيت للشعب بواسطة صلاته، تبتعد عن بني إسرائيل.
من أجل هذا قابل التقليد المسيحي بين هارون والمسيح الكاهن الأعظم الحقيقي. فقالت الرسالة إلى العبرانيين (5: 4- 5): "وما من أحد يتولّى بنفسه مقام كاهن أعظم، إلاّ إذا دعاه الله كما دعا هارون. وكذلك المسيح لم يرفع نفسه إلى هذا المقام، بل الله الذي قال له: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك ".
المسيح هو على مثال هارون. نُزعت عنه ثيابه كما نزعت عن هارون ومات على الجلجلة على مرأى من الجميع. مات وحده فوضع بموته حدًّا لكهنوت الشريعة القديمة.
عوقب هارون بسبب خطيئة (خر 32: 1ي) مثل مريم (20: 1) وموسى (27: 12- 13؛ تث 32: 48- 52؛ 34: 1- 2)، فما استطاع أن يدخل أرض الميعاد. أمّا المسيح الممجّد فقد كفر عن خطايا الشعب. أُعطي له كهنوت أزليّ يحمل الخلاص التامّ. دخل السماء وهو قادر أن يخلّص الذين يتقرّبون به إلى الله تقرّبًا تامًّا، لأنّه حيّ باق ليتشفّع بهم (عب 22:7- 25؛ 24:9).
هذه الذي تذكره أسفار موسى الخمسة مئات المرّات، هذا المتكلّم باسم موسى ورفيقه إلى الحرب أو إلى جبل سيناء، هذا الذي يساعد موسى بالكلام والمعجزات ويحلّ محلّه ساعة غيابه، سيموت على جبل هور (أو مسيرة).
لم تذكر التقاليد القديمة هارون، أمّا التقاليد الحديثة فجعلته ابن عمرام ويوكابد وبكر موسى. تزوج اليشابع فولدت له ناداب وابيهو والعازار وايتامار. هو أوّل كاهن أعظم في بني إسرائيل وواهب اسمه لجماعة الكهنة الذين سموا أبناء هارون أو بيت هارون. بعد الجلاء سيرتبط به بنو صادوق وابياتار بطريقة وثيقة وينشدونه في مزامير تجعله راعي شعب الله وكاهنه مدى الدهر.
2- الحيّة النحاسيّة
كانت التقاليد القديمة تجعل من الحية النحاسية تمثالاً صغيرًا يستعمل كتعويذة تقي الإنسان من لدغات الحيات. فالاعتقاد الشعبي كان يتصوّر أن من يكشف ينبوع الشرّ ويرسمه في رسم، يحمي نفسه من هذا الشر هذا ما فعله الأقدمون، وهكذا صارت حيّةُ اسكولاب عند اليونان علامةَ الطبّ. ونجد عند العبرانيين شيئًا مماثلاً لذلك. فقد استعمل موسى خشبًا مرًّا ليجعل المياه المرّة حلوة (خر 15:15)، واستعمل أليشاع الملح لتصبح المياه المالحة حلوة فتخصب الأرض (2 مل 2: 21).
ولكنّ الكاتب الالوهيمي سيحوّل هذه المعطيات القديمة ويكيّفها مع نظرته الإيمانية. وهكذا تصبح لدغة الحيّة عقابًا للخطيئة، وتأتي قوّة الحيّة النحاسية لا بقوّة السحر بل بقدرة الله الفاعلة. الحيّة السامّة في البرّية هي بنت الحيّة الأولى التي لدغت آدم وحمراء فحملت إليهما الموت، والحيّة النحاسية رمز إلى خلاص الرب وشريعته في شعبه.
يتوسّع القدّيس يوحنّا (3: 14) في رمز الحيّة فيقول: "وكما رفع موسى الحيّة في البرّية، فكذلك يجب أن يُرفع ابنُ الإنسان ". فرفعَ الحيّة النحاسية علامة لرفع المسيح على الصليب. وعلى خطى يوحنّا سيسير الآباء فيقول يوستينوس مثلاً في دفاعه الأوّل: حين خرج بنو إسرائيل من مصر وعبروا البرّية هاجمتهم حيّات سامّة افترست الشعب. فأوحى الرب إلى موسى وأمره بأن يصنع صليبًا نحاسيًا ويجعله فوق خيمة الاجتماع ويقول للشعب: انظروا إلى هذه العلامة فتكون لكم النجاة. وحالاً بعد ذلك هلكت الحيّات ونجا الشعب من الموت.
3- معنى نشيد البئر
إنّ نشيد البئر قد دخل في التقليد اليهودي والمسيحي فصار هتافًا عظيمًا ينشد بإعجاب عطايا الله المتجددة يومًا بعد يوم. هذه البئر ستصبح مياهًا حيّة ترافق الشعب وتُعطَى له بفضل استحقاقات مريم وفضائلها.
هنا يفترق الشرح الكتابي عن المعنى التاريخي فيصبح الحدث تأمّلاً وصلاة. فقوّاد الشعب هم الكتبة الذين يعلّمونه الشريعة والحكمة، عطيّة الله السامية، التي هي تلك المياه.
ولكن إذا كانت الشريعة قد أُعطيت في موسى، ففي يسوع جاءتنا النعمة (يو1: 7). من أجل هذا يستعيد يوحنّا موضوع البئر في إنجيله فيدّلنا على المسيح الذي يعطي الماء الحيّ للسامرية قرب بئر يعقوب (يو 4: 10- 15)، والذي يصبح هو نفسه ينبوعَ ماءٍ حيّ يشرب منه كلّ من يعطش (يو 37:7-38) ويفيض في المؤمن معين ماء لا ينضب.
من أجل هذا يرى الشرّاح المسيحيّون في البئر إنجيل يسوع أو المسيح المطعون بالحربة (يو 19: 34). ولكنّ هذا الماء الحيّ لا يتدفّق إلاّ إذا حضر الرسل حوله لتخرج مياه النعمة. فدور الكنيسة ضروري لتصل إلى البشرية نعمة يسوع.
4- هزيمة ملك سيحون
إنّ هزيمة ملك سيحون تركت أثرها في الكتاب المقدّس، ونحن نفهمها عندما نقرأ النصوص التي تشير إليها.
فيفتاح يذكرها في سفر القضاة (11: 19- 27)، خلال محادثاته مع الأموريين: " ثمّ وجّه بنو إسرائيل رسلاً إلى سيحون ملك الأموريين، ملك حشبون، وقالوا له: دعنا نعبر في أرضك إلى موضعنا". لم يأمن سيحون إسرائيل، أي إنّه شكّ في صدق نوايا شعب الله، لذلك دفع الرب سيحون وكلّ شعبه إلى أيدي بني إسرائيل.
وفي سفر التثنية (2: 34- 37) يشدّد الكاتب على روح المسالمة عند بني إسرائيل وعلى دور الرب في إعطائهم أرض سيحون الذي يعتبره النص ملك الأموريين كلّهم. أمّا احتلال حشبون فهو بداية احتلال أرض كنعان. ولهذا حرّم موسى على المقاتلين أن يمسّوا شيئًا من الأَسلاب التي هي كلّها مكرّسة للرب.
والانتصار على ملك سيحون (21: 21- 32) يشكّل حلقة من عظائم الله تزاد على تلك التي عرفها شعب الله في زمن الخروج. قال نحميا (9: 22): وهبت لهم ممالك وأممًا، ومهدت لهم طريق البرية، فملكوا أرض سيحون وأرض حشبون وأرض عوج، ملك باشان، وقال المزمور (135: 10- 11) عن الرب: هو الذي ضرب أممًا كثيرة وقتل الملوك العظام: سيحون، ملك الأموريين، وعوج ملك باشان، وجميع ملوك كنعان (رج مز 136: 19).
أمّا التقاليد اللاهوتية اللاحقة فسوف تهمل التفاصيل الجغرافية وتبحث عن التطبيقات العملية. ففي ترجوم يوناتان يطلب بنو إسرائيل أن يعبروا طريق ملك السماء (21: 22)، أي طريق الخير. أمّا نشيد حشبون (21: 27- 30) فينشده الأبرار الذين يسيطرون على شهواتهم والنار (21: 28) تخرج من أفواه الذين يقرأون التوراة ويتشبّعون منها فيدمّرون عبدةَ الأوثان.
أمّا الشرّاح المسيحيون فانطلقوا من أصول أسماء العلَم فأعطونا نظرة روحية. فسيحون أي العقيم والمتكبّر يمثّل الشيطان، أركون هذا العالم. والمؤمن يخرج (يصه في العبرانية) بسلام في طريق المسيح الملكية فيكفر بأعمال الشيطان ومغرياته حسب مواعيد المعمودية. وهو يملك في حشبون وهذا يعني أنّه يملك على أفكار قلب الإنسان الشريرة ويقهر مملكته في "يصه " بحفظ الوصايا، ويعود إلى بناء عاصمته المدمرة بأفكار التقوى والعفّة والمحبّة على ما تنشد الشريعة ويعلن الأنبياء عن نهاية كلّ شر إلى نهاية العالم.
5- شخصيّة عوج
إنّ شخصية عوج، ملك باشان، تنفلت من إطار التاريخ وتصل إلى عالم الأسطورة. يقول عنه الكتاب إنّه آخر "الرفائيم " (تث 3: 11، يش 12: 4، 13: 12)، أي آخر هؤلاء الرجال الطوال الذين أقاموا بأرض الأموريين والعمونيين والذين كوّنوا عالمًا خياليًا من الجبابرة.
أمّا دور الرب في الحرب بين ملك عوج وبني إسرائيل فهو عظيم رغم تفاوت القوى بين الفريقين (رج 1 صم 17: 46 ي). ولقد قابل الكاتب الملهم بين انتصار بني إسرائيل على عوج وانتصارهم على سيحون، وكلا الانتصارين معجزة من معجزات الله تمّت بصلوات المؤمنين في شعبه.
وانطلقت التراجيم من النصّ الكتابي، فجعلت من عوج معاصرا لنوح (رج تك 6: 4) وإبراهيم، وقالت عنه إنّه كان رجلاً جبّارًا وضخمًا يستطيع أن يحمل الصخور على يده. شتم إبراهيم ولم يقدر إبراهيم على قهره إلاّ بقدرة الله.
أمّا التقليد المسيحي فقد اهتمّ (على خطى أوريجانس) بالمعنى الروحي المخفي وراء ترجمةِ اسم عوج. فعوج هو نموذج الخطيئة التي لا بدّ من إزالتها قبل دخول أرض الميعاد.
6- خاتمة القسم الثاني
أوّلا: وهكذا يروي القسم الثاني من سفر العدد أهمّ الأحداث التي طرأت على العبرانيين خلال مسيرتهم في برّية سيناء (10: 11) حتّى وصولهم إلى شواطئ الأردن قبالةَ أريحا (22: 1). هذا القسم الرئيسي هو نواة الكتاب، وبدونه لا يُفهم تاريخ الخلاص. فهو يروي كيف عاند الشعب المختار الرب عبر عبده موسى، وكيف تنقّى في البرّية قبل الدخول إلى أرض الرب. هذه المرحلة من تاريخ الخلاص هي مهمة وقد ذكرها الكتاب للشعب مرارًا (تث 1- 3 ؛ حك 16- 19). نكتفي منها بإيراد ما يقوله المزمور 68: 8- 9: "عندما خرجتَ يا الله قدّام شعبك، عندما صعدتَ تجتاز البرّية، ارتعشت الأرض وقطرت السماء من وجهك يا إله سيناء، من وجهك يا إله إسرائيل " (رج مز 78: 17- 41).
يأخذ كاتب سفر العدد بأسلوب سفر الخروج، وأحداثُه امتداد لأحداث سفر الخروج. فهو يشير إلى المحطات التي سار فيها الشعب بعبارات مقولبة عرضها تقليد الكهنة. وارتحل بنو إسرائيل... وأتوا إلى... ونزلوا منها من نقطة غير معروفة إلى برّية صين (20: 1)، من قادش إلى هور (20: 22). من هور إلى نقطة غير معروفة (21: 4) ومن هناك إلى أوبوت (21: 10) ومن أوبوت إلى عيي عباريم (21: 11)، ومن نقطة غير مذكورة إلى سهول موآب (1:22).
في هذا الإطار يجمع الكاتب أخبارًا متعددة ينهيها بنصوص تشريعية (ف 15، 18- 19). فنتعرّف فيها إلى محطّات رئيسية تتّفق عليها التقاليد الكتابية: سيناء (12:10)، قبروت هتأوة (11: 35)، قادش (20: 1). ونتعرّف إلى محطّات يذكرها هذا التقليد أو ذاك، فنفهم أنّنا أمام خبر حفظته هذه القبيلة أو تلك. وتتّفق التقاليد أيضاً على الحديث عن الأربعين سنة، وهو الوقت اللازم ليموت جيل ويعيش جيل.
نحن إذًا أمام حقبة من حياة بني إسرائيل في البداوة، حول قادش، مركز العبادة لهم. جمع الكاتب أخباره ووحّدها وركّزها حول المعبد وأعطاها معنى دينيًا عميقًا.
ثانيًا: المعنى الديني لهذه الحقبة: الله هو من يقود شعبه المختار إلى الأرض التي وعده بها: أناره بالسحابة، ووجّهه بتابوت العهد إلى مكان الراحة. الله يجعل الشعب يرتحل ويتأخّر ويدور، الله يرشده ويقيته وينجحه. وخلال هذه المسيرة يجدّد لأجله معجزات سفر الخروج: المّن والسلوى ومياه الصخر. يعبرون وادي أرنون فيتذكرون عبور البحر الأحمر، يحتلون النقب فيعتبرون نفوسهم وكأنّهم احتلّوا أرض كنعان كلّها. وهكذا يصبح زمن البرّية زمن حب الله لشعبه.
ولكنّ جواب الشعب للرب كان بالخطيئة (مز 106: 13- 27)، فيكوّم سفر العدد أخبار عصيان الشعب من تذمّر وروح سيئة، تململ من المن، يأس وامتهان لأرض الموعد، تخاذل أو اعتداد بالنفس. وهذه الخطيئة ستأخذ أشكالاً متعددة: رفضٌ لسلطة موسى ووساطته الكهنوتية، انشقاق عن الجماعة، واعتبارها غير محتاجة إلى الله، اهتمام بالممارسات الوثنية والسحرية.
وهذه الخطايا ليست فعلَ حثالةِ القوم أو الشعب وحسب، بل فعل الرؤساء والجواسيس ومريم وهارون. لهذا سيحلّ غضب الله عليهم: نار من السماء، أمراض، هزّة أرضيه، حيّات سامّة، هزائم وموت الخاطئين. وهكذا لم تعد هذه الفترة زمن المحنة والاختبار كما نظر إليها سفر التثنية (8: 1- 5، 29: 4- 6)، بل زمن العقاب على الخطيئة (14: 25- 34)، بحيث إنّ الشعب الذي خرج من مصر لم يدخل أرض كنعان، بل دخلها شعب جديد.
ولكن كيف يحمي الشعب نفسه من الخطيئة ونتائجها؟ بعد أن يصاب الشعب بضربة من الضربات، كانوا يصنعون شيئًا يذكّرهم بما حدث لهم من شرّ، وينبّههم إلى ما يجب فعله ليتجنّبوا طريق الخطيئة: أهداب في أذيال ثيابهم، مجامر في المذبح، الحية النحاسية. ثمّ يورد السفر نصوصاً تشريعية عن الطقوس التكفيرية التي يقوم بها كهنة أقامهم موسى، الذي هو الكاهن والنبي ورجل العجائب، الذي هو رجل الله، ولولاه ولولا صلاته لكان شعب الله قد هلك وفني