الفصل السادس: عصيان قورح والحديث عن دور الكهنة

الفصل السادس
عصيان قورح والحديث عن دور الكهنة
16: 1 – 19: 33


أ- المقدّمة
متى وأين ثار قورح وداتان وأبيرام على موسى؟ هذا ما لا يقوله الكتاب الذي يروي ذكريات من تقليد بني إسرائيل ويربطها بزمن عيشهم في البرّية (تث 6:11 ؛ مز 17:106 ي ؛ سي 18:45- 22).
عاقب الرب المتمرّدين (16: 20- 35)، فبيّن لشعبه بوضوح أيّة سلطة يتمتعّ بها موسى وهارون. وهذا ما دفع الكاتب الملهم إلى جمع أحداث تبيّن اختيار الرب لسلالة هارون (17: 1- 28) ودوره في تقدمة ذبائح التكفير، وتحدّد مداخيل الكهنة واللاويين (8:18- 32)، وتورد طقس مياه التطهير للذين لمسوا جثّة ميت (19: 1- 22). سنكتشف في هذه الفصول تعليمات عن الكهنوت: أصله الديني، طابعه المقدّس، دوره في شعائر العبادة، وظيفته التكفيرية. هذا الفصل يكمّل ما قلناه عن تنظيم الشعب وعن علاقة الكهنة باللاويين (3: 5- 13)، وعن الطهارة التي يجب أن يتحلّى بها شعب الله (5: 1- 4) رغم خطيئته في البرية (11: 1- 15؛ 12: 1- 16 ؛ 14: 1- 4).

ب- تفسير الآيات الكتابية
1- عصيان قورح وداتان وأبيرام وعقابهم
16: 1-35
أوّلاً: أسئلة عديدة تطرح: من هم الثائرون؟ قورح (آ 1، 8، 16، 19، 24، 27)، أم داتان وأبيرام (آ 1، 2، 25، 27)، أم قورح وجماعته (آ 5، 6، 11، 16)، أم كلّ عيال قورح (آ 32)، أم 250 من الرؤساء (آ 2، 17، 35)، أم اللاويون كلّهم (آ 7-8)؟
وعلى من ثاروا؟ على موسى (آ 2، 4، 12، 15، 16، 23، 25، 28)، أم على هارون (آ 11، 16، 17)، أم على الاثنين معًا (آ 3، 18، 25)؛ ولماذا يثورون؟ بسبب السلطة التي استأثر بها موسى، أم بسبب الطريقة التي تمرّس بها (آ 3، 12، 15، 18)، أم لأنّ هارون اعتبر الكهنوت محصورًا فيه، وفي أبنائه (آ 8- 11)؟ وماذا كان عقاب العصاة؟ هل انشقّت الأرض وابتلعتهم (آ 31- 34)، أم خرجت نار فأكلتهم (آ 35)؟ وأخيرًا، هل نحن أمام ثورة سياسية يقوم بها داتان وأبيرام على موسى (التقليد اليهوهي والالوهيمي)، أم أمام ثورة دينية يطالب فيها اللاويون بأن يشاركوا الكهنة في الأعمال الكهنوتية (التقليد الكهنوتي)؟
لكي نفهم ما عرض علينا من أسئلة، لا بدّ من الانطلاق من النواة الأساسية التي توسّع فيها الكهنة على مرّ العصور، فزادوا ما زادوا ورحموا في هذا الفصل صورة عن الشعب الذي عارض سلطة موسى وهارون وما زال يعارض السلطة في داخله.
ثانيا: نواة هذا الفصل ترجع إلى التقليد اليهوهي الذي يحدثنا على ثورة 250 رئيسًا على سلطة موسى (آ 2): يعاتبونه على إخراجهم من مصر (آ 13)، يتّهمونه بالكذب (آ 14) والظلم والجور. يصرخون في وجهه: لا نصعد (آ 12- 14)، فيدلون بذلك على نوايا الجماعة التي ترفض الانطلاق إلى أرض كنعان (رج 14: 3- 4)، التي ترفض أرض الموعد وتنسب ميزاتها إلى أرض مصر (آ 13)، فتنبذ بذلك وعد الله وخلاصه وتستهين بسلطة موسى. لقد أراد الرؤساء هؤلاء أن يحاسبوا موسى، فجاء عقاب الله لهم قاسيًا: انفتحت الأرض ونزل المذنبون أحياء إلى الجحيم (آ 28- 33، أي إلى مثوى الأموات
جميعًا) الذي تصوّره الكاتب وحشا يفتح فمه ويبتلع فريسته (مز 15:49). ونتساءل: هل حدث تزامن بين ثورة هؤلاء على موسى وهزّة أرضية ضربت المكان، فرأى المؤمنون في هذه الضربة عقابًا للمتمرّدين على سلطة موسى؟ افتراض معقول.
ثالثا: إذا كانت الجماعة كلّها مقدّسة (آ 3)، كما يقول موسى (خر 19: 6)، فلا حاجة إلى وسيط، لا حاجة إلى قبيلة خاصة تقوم بشعائر العبادة، وتنقل إلى الشعب أقوال الله. هنا نقرأ ثورة بني رأوبين (آ 12، 25، 27) على سلطة موسى وامتيازات هارون وابنائه: كفاكم ما قحطون يا بني لاوي (آ 7). تلك كانت صرخة المتمرّدين (رج 1 مل 12: 31. يربعام ضد اللاويين).
رابعًا: إن آ 4- 7 تعكس الزمن الذي سبق إعلان سفر التثنية وإصلاح يوشيا، وهو زمن طالبت فيه بيوتٌ بأن يكون الكهنوت محصورًا فيها دون سائر البيوت. دعا موسى قورح وجماعته ليتقدموا أمام الرب مع المجمرة (آ 6- 7) ويمارسوا العمل الكهنوتي تاركا للربّ أن يختار من يشاء. مثل هذا الموقف المسالم والذي يحترم إرادة الله يوافق ما نعرفه من سفر التثنية (18: 6- 8): سمح للاويين بأن يقدّموا ذبائحهم في أورشليم. ولكنّ بني صادوق منعوهم وجعلوهم في الدرجة الدنيا (2 مل 9:23).
ولكنّ الحالة سوف تتبدّل (آ 16- 18) والصراع بين قورح وهارون هو صراع بين اللاويين والكهنة. ونتيجة هذا الصراع: سيتميّز اللاويون عن سائر أفراد الشعب، ولكنّهم سيخضعون للكهنة. والعبرة: كلّ تمرّد على هارون يعتبر تمرّدًا على موسى وبالتالي على الله. وهكذا يكون ف 16 تأمّلاً في تاريخ بني إسرائيل على ضوء الأحداث المعاصرة.
خامسًا: أي تعليم نستنتج من هذا الحادث؟ إنّ رفض التقدم إلى أرض الميعاد، ورفض سلطة موسى، ورفض كهنوت يقدس الشعب، كلّ هذا يعتبر خطيئة واحدة. فالكلمات التي أطلقوها (كلّهم قدّيسون في آ 3، كفى يا بني لاوي في آ 7، لا نصعد في آ 12)، تشكّل وجهات الخطيئة التعليمية والاجتماعية والأدبية.
الصرخة الأولى (كلّهم قدّيسون) تستعيد كلام موسى وتشوّهه. كان موسى قد أعلن أنّ العبرانيين يكونون شعبًا مقدّسًا إن حفظوا العهد، فتوسل إلى الله ليسير بينهم (خر 34: 9) وتمنّى أن يمتلئوا جميعًا من روح النبوة (11: 29). فقال المتمرّدون: الشعب قدوس والرب في وسطه فلا يحتاج بعد إلى وسائل تقديس، إلى مواعيد وشريعة، إلى قائد يسير بهم إلى أرض الميعاد. أجابهم موسى: غدًا باكرًا، سيعرّفنا الرب من هو القدّوس. نحن أمام خطيئة في التعليم تدفع الشعب إلى الضلال.
الصرخة الثانية (كفى يا بني لاوي) تربط المعارضة الاجتماعية بالمعارضة التعليمية تجاه الجماعة التي نظمها الرب على يد موسى. ظهرت جماعة أخرى (آ 5، 11)، ومسكن آخر (آ 34، 27) وتقدمة جديدة (آ 15). وهكذا حدث انشقاق عظيم جعل الشعب يقف ضدّ موسى. فدعا موسى الرب لكي يتدخّل. نحن أمام خطيئة على الجماعة، وعندما تنقسم الجماعة على نفسها تخرب.
الصرخة الثالثة (لا نصعد) ترتبط برفض مواعيد الرب والنظام الذي أقامه، وتستند إلى ثقة بالمتمرّدين. إعتبر العصاة قداسهم الخادعة أي اعتبار فما عادوا يؤمنون بالمواعيد. جعلوا موسى كذّابًا (آ 12- 14) وما عادوا يصدّقون كلام الله إليه. نحن أمام خطيئة ضد الله ترفض متطلّبات الوصايا وبنود العهد. لم يعد من الممكن السير إلى الأمام، إذًا سيموتون في البرّية (آ 31- 35)، لم يعودوا يؤمنون بعطايا الله فحُرموا نعمةَ التحرر التي حصلوا عليها في زمن الخروج. لقد عبروا البحر الأحمر ولكنّهم ما أرادوا عبور البرّية فانفتحت الأرض وابتلعتهم.
سادسًا: ملاحظات: 1- في آ 1: أخذ قورح. الكلمة العبرانية "يقح " تعني أخذ (لقح)، ويمكن أن نترجم إنّ قورح كان وقحًا مع موسى.
2- في آ 5: ليقترب منه. أي ليحمل تقدمة، أو ليقدم بخورًا، وكلا العملين محصور بالكهنة دون سواهم (خر 30: 7- 8).
3- في آ 10: قرَّبك الرب إليه. نقرأ عن وظائف اللاويين في تث 8:10: يحملون تابوت عهد الرب، يقفون أمام الرب ليخدموه ويباركوا باسمه.
4- في آ 11: أنتم تهدّدون الرب. لقد اقتبل هارون كهنوته من الرب. فمن عارض هذا الامتياز عارض أحكام الرب.
5- في آ 12: لا نصعد. هذا إذا رجعنا إلى الكلمة العبرانية (علة، راجع علا في العربية). أمّا إذا رجعنا إلى الأكادية فنترجم: لا نخضع.
6- في آ 13: أخرجتنا من مصر، الأرض التي تدرّ لبنًا وعسلاً. نجد في هذا الكلام تجديفًا على لسان المتمرّدين الذين ينسبون إلى مصر، أرض العبودية، ما هو محفوظ لكنعان، أرض الموعد.
7- في آ 15: غضب موسى وقال: لا تقبل تقدمتهم. يبدو موسى هنا رجلاً قاسيًا يطلب الانتقام من ابناء شعبه (راجع بالمقابل 3:12؛ 13:14؛ 22:16).
8- في آ 19: جمع قورح كلّ الجماعة أي أراد ان يُشرك الشعب كلّه في ثورته. ويمكننا أن نفهم "كل جماعته " أي محازبيه الذين هم غير الـ 250 رجلاً.
9- في آ 22: يا مصدر حياة كلّ بشر الترجمة الحرفية: الله، إله ارواح كلّ بشر هناك تفسيران: الأوّل: الله هو سيّد الأرواح أكانت صالحة أم شرّيرة وهو يرسلها إلى من يشاء (1 صم 10: 10) وبالأخص إلى كلّ شعب إسرائيل (11: 16- 30؛ 27: 16، إر 12: 12، يوء3: 1). الثاني: الله هو سيّد الأرواح والأجساد، وهو يعطي لكل كائن حيّ نسمة الحياة (تك 7:2) وينتزعها منه ساعة يشاء (مز 104: 29- 30). في هذا يقول ترجوم يوناتان: الله جعل روح النسمة في اجساد البشر وأعطى الروح لكلّ بشر (رج تك 12:6، أش 40: 6؛ إر 25: 31).
أيخطأ رجل واحد... يطلب موسى أن يمتد الخلاص المعطى له (آ 21) إلى كل الأبرياء فلا يموت البريء بجريرة المذنب.
10- في آ 24: المسكن. في الأساس مسكن الرب حيث تجتمع الجماعة ولهذا حذفت بعض المخطوطات اليونانية "داتان وابيرام ". ولمّا دُمج التقليدان زيدت أسماء قورح وداتان وابيرام.
11- في آ 30 : إن فعل الرب... حرفيًّا: إن خلق الله خلقًا (راجع برأ في العربية) أو إن قطع الله أو نحت (راجع برى في العربية): أي لو شق الله الأرض، وهكذا يبان حكمه وتظهر قداسته.
12- في آ 32: ابتلعتهم. العقاب عقاب جماعي مع أنّ التقليد الكهنوتي قال (آ 22): أيخطأ رجل واحد فتغضب على الجماعة.
13- في آ 35: خرجت نار. لم يعاقب الرجال كابني هارون اللذين أخذا نارًا غير مقدّسة (لا 10: 1) بل لأنّهم وضعوا يدهم على وظيفة ليتورجية محصورة بهارون وابنائه.

2- أمور تتعلّق بالكهنة
17: 1- 27
17: 1- 5: مجامر النار
يرتبط هذا النصّ بما حدث لناداب وابيهو اللّذين قدّما للرب نارًا غير طاهرة فعاقبهما الله (لا 10: 1- 7)، ويرتبط أيضاً بما قرأناه في سفر الخروج (2:27 ؛ 2:38) عن تغطية المذبح بالنحاس.
بما أنّ المجامر قدّمت للرب ولمست نار السماء (لا 10: 6؛ عا 4: 11، أش 9: 14)، فقد صارت مقدّسة، ولهذا لم تبتلعها الأرض كما ابتلعت كلّ ما يخصّ المتمرّدين من متاع. هذه المجامر ستعمل صفائح ويغطّى بها المذبح. فليتذكّر الشعب خطيئة قورح، وليحذر الأحياء من القيام بعمل يشبه عمله.
ينظر الشعب إلى المذبح فيتنبّه إلى خطيئة قورح، وينظر إلى الحيّة النحاسية (21: 4- 9)، فيتنبّه إلى العقاب الذي أصابه بسبب ضجره في البرّية. ويفهم الجميع أنه لا يحقُّ لأحد أن يقوم بالأعمال الكهنوتية، حتّى ولو كان ملكًا (2 أخ 26: 16- 18)، ما عدا الكهنة.

آ 6- 15: هارون يكفِّر عن الشعب
تشكّل آ 6- 10 خاتمة لعصيان قورح، وهي تستعيد مواضيع وعبارات قرأناها في أخبار تمرّد بني إسرائيل المتعدّدة في البرّية (14: 10- 13، خر 16: 10). أمّا آ 11- 15 فقد زادها الكهنة.
نقرأ في آ 11- 12 المثل الوحيد عن دور البخور في التكفير عن الشعب، وهذا ما يفهمنا أنّنا أمام تأثير مصري على العبادة في بني إسرائيل.
ونستنتج من هذا الحدث: إنّ كهنوت هارون هو كهنوت شرعي: من تمرّد على هارون، تمرّد على موسى وبالتالي على الرب فاستحقّ القصاص. وإنّ كهنوت هارون يفعل في الجماعة: مجمرة هارون سبّبت غضب الرب، ومجمرة هارون هدّأت غضب الرب، وكفّرت عن خطايا الشعب.
نلاحظ هنا أنّ موسى وهارون صلّيا إلى الرب من أجل من تمرّد عليهما. أمَا نجد هنا تطبيقًا مسبّقًا لكلام الإنجيل الذي يطلب إلى المؤمنين أن يحبّوا أعداءهم ويصلّوا من أجل مضطهديهم!

آ 16-28: عصا هارون
هذه الآيات تلفت نظرنا إلى شرعية كهنوت هارون: اختاره الله بطريقة عجائبية واضحة لا تقبل الشكّ. اختار الرب هارون لا من بين اللاويين، بل من أسباط بني إسرائيل الأحد عشر. أفرخت عصا هارون فتبيّن للجميع أنّ هارون هو الرئيس الوحيد للقبيلة التي اختارها الله وجعل بيده عصا المعجزات (خر 7: 9- 19 ؛ 8: 1- 22). جُعلت عصا (مطا في العبرانية، والكلمة تعني أيضاً السبط) كلّ واحد أمام خيمة الاجتماع، أي أمام الشريعة الموضوعة في تابوت العهد (خر 25: 16 ؛ 18:31)، وما سيفعله الله سيدلّ على حقّ سبط لاوي في خدمة الرب (آ 20- 22).
بعد هذا الحدث ستعود عيلة هارون إلى ممارسة وظائفها (آ 25) أمام تابوت العهد. يدخل هارون المسكن في يوم التكفير (لا 16: 1 ي) ليبطل تذمر الشعب ويمنعه من أن يموت. ولكنّ الشعب تكبّر ورفض أن ينعزل عن سائر الشعوب فأظهر الرب مجده، فكفّر الكهنة عما فعل الشعب.
وجود الكهنة هو علامة للشعب وهو يذكره أنّه أخطأ أمام الله وأنّ الله صفح عنه. من هذا الحدث انطلق إنجيل يعقوب المنحول ليجعل من يوسف الرجل الذي اختاره الرب ليكون خطّيب مريم العذراء، وتابوت العهد يرمز إليها.

3- الكهنة واللاويون ومداخيلهم
18: 1- 32
18: 1- 7: الكهنة واللاويّون
تشدّد هذه الآيات على تسلسل الرتب عند الكهنة واللاويين (رج حز 44: 7- 16): الكهنة يقومون بخدمة المكان المقدّس، واللاويون يتولّون حراسته، وكلّهم يتوسّط بين الله والجماعة.
أنت وبنوك (آ 1). وحدهم أبناء هارون قلّدوا وظائف الكهنوت دون اللاويين.
المكان المقدّس (آ 1)، والكلمة العبرانية (مقدس) تعني أيضاً الأواني المقدّسة (10: 21) أو التقدمات (18: 29). أمّا الخطايا المذكورة هنا فهي أصلاً خطايا "طقسية".
إنّ الكهنة واللاويين يخاطرون بحياتهم عن الجماعة ليدفعوا عنها الموت (28:17)، وهذا ما يبرّر امتيازاتهم.
آ 8- 32: مداخيل الكهنة واللاويين
تشدّد هذه الآيات على مداخيل الكهنة (آ 8- 19، 25- 29) واللاويين (آ 20- 24، 30- 32). أمّا مصادر هذه المداخيل فاثنان: ما يقطع ممّا يقدم على المذبح (آ 8- 19)، والعشور (آ 20- 23).
أوّلاً: شريعة "الاقتطاع ": لائحة أولى تعطي الكهنة الأشياء المقدّسة (آ 8) كلّ ما يُرفع (تنوف في العبرانية) للرب (آ 11)، وأفضل (حلب في العبرانية) الزيت والخمر والحنطة كل التقدمات (آ 19).
"ذلك يكون لك " (آ 9، 11). بهذا يبدأ تنظيم جديد عن نصيب الكهنة: القرابين المقدّسة والتقدمات الخاصة. ثمّ يزيد الكاتب ما يتعلّق بافتداء الأبكار (آ15- 17).
ثانيًا: شريعة العشور. كُتبت بروح اشتراعية وتوجّهت إلى بني لاوي. بعد مقدّمة، يورد الكاتب واجبات بني لاوي وحقّهم في العشور. ثمّ يشدّد موسى على خضوع اللاويين للكهنة، وعلى إعطائهم عُشر العشر، يستفيدون منه دون أن ينجّسوا الأشياء المقدّسة.
ثالثًا: كان مجمل هذا الفصل مكتوبًا قبل إصلاح نحميا (10: 36- 40) الذي وعد بحفظ ما كُتب في الشريعة، أي أن يحمل المؤمنون إلى بيت الرب: إلى الكهنة بواكير الأرض وأبكار الناس والبهائم، وإلى اللاويين العشور. وهكذا يكون هذا الفصل تكويمًا لنصوص وتقاليد متنوّعة ترجع إلى الماضي السحيق، نظّمت وأدخلت في القانون الكهنوتي.
رابعًا: كيف كانت حالة الكهنة المادية؟ عاش الكاهن في كلّ مكان وزمان من المذبح، وقصة بني عالي (1 صم 2: 12- 17)، وكلمات هوشع (4: 8) أكبر شاهد على ذلك. الكاهن مسؤول عن العبادة، فمن الطبيعي أن يكون له من المداخيل ما يكفيه لحياته وللقيام بوظيفته، أمّا مداخيله فكانت في البداية ما يقتطع من الذبائح كالكتف والفكّين والكرش (تث 18: 1- 5) أو الصدر والساق اليمنى (لا 7: 31- 35)، وما يأتي من البواكير ومن فدية الأبكار (3: 44- 51). ولما قام الملك يوشيا بإصلاحه وهب الكهنة الضريبة الشخصية والتبرّعات، على أن يقوم الكهنة بترميم ما تهدّم من البيت (2 مل 5:12).
أمّا قصّة العشور التي يرجعها المشترع إلى زمان كان اللاويون فيه خدّام المعابد، فهي تتعلّق بمحاصيل الأرض من قمح وخمر وزيت. يمكن أن يكون هذا العشر هو ما كان يُدفع للملك ثمّ صار للكهنة بعد الجلاء؟
خامسًا: للكهنة واللاويين حقّ في أن يعيشوا من المذبح، ومداخيلهم هي تعويض وأجرة للخدمة التي يؤدّونها للجماعة عندما يقومون من أجلها بشعائر العبادة. وهذه الأجرة واجبة من قبيل العدالة، وحقّ الكهنة يستند إلى الفائدة الاجتماعية لليتورجيا التي هي خدمة عامّة.
فُرِز الكهنة واللاويون عن الشعب فلم يكن لهم أرض ميراث بين قبائل بني إسرائيل، لأنّ الرب هو نصيبهم وميراثهم. وهذا يعني أنّ عبادة الرب ستكون ينبوعَ مدخول لهم بشكل عشور أو ذبائح، ويعني أيضاً أنّ المؤمن يثق بالرب وحده مهما كانت الصعوبات المادية، وسيتكل عليه من أجل عيشه.
وهكذا يكون اللاوي شاهدًا على العهد، فقيرًا أكان أو غنيًّا، ويذكر الرباط الذي يوحّد الرب بشعبه. وهكذا يصبح هذا الفصل بطابعه المادي والقانوني نداء للثقة بالله وتقدمة الذات له. "بيعوا ما تقتنونه وأعطوا ثمنه للفقراء" (مت 6: 25- 34؛ 19: 21)، ذاك ما قاله يسوع.

4- رماد البقرة الحمراء
19: 1- 22
يورد هذا النصّ وسائل تكفير عن الخطايا ويذكر ذبح البقرة الحمراء واستعمال مياه التطهير.
نقرأ أوّلاً عن ذبح البقرة الحمراء (آ1- 10). كان ينحرها أحد أفراد الشعب قبل أن يصبح نحرها من حقّ اللاويين، ثم من حقّ بني هارون وحدهم دون سواهم. ونتذكّر هنا شعائر الاحتفال التي يقوم بها سكّان قرية وُجد قتيل في خراجهم (تث 3:21). ولكنّ النصّ يزيد بعض التفاصيل: تُحرق البقرة (آ 5)، ويُرمى عود أرز وزوفى (آ 6)، يُرش دم الذبيحة سبع مرات (آ 4)، ويُحفظ رمادها بعناية (آ 9). إلى هذه النواة زيدت بعض الأمور المتعلّقة بتطهير المشتركين على غرار ما نقرأ في شريعة الطهارة (لا11: 25؛ 15: 8؛ 16: 28).
ونقرأ ثانيًا (آ 11- 13) عن حالة نجاسة أصابت من لمس جثّة ميت: مدة النجاسة، ضرورة التطهير منها، خطورة إهمال الوصية. ونقرأ ثالثًا (آ 14- 22) لائحة بالأشخاص والأشياء الواجب تطهيرهم، ومياه التطهير (آ 17) تتكوّن من المياه الجارية ومن رماد ذبيحة الخطيئة.
نلاحظ هنا أنّ المشترع لا يكتفي بطرد المنجّسين خارج المحلة، بل يقترح عليهم وسائل تطهيرها، ويحدّثهم عن مياه التطهير، وذبح البقرة الحمراء. بهذه الوسائل تبقى المحلة طاهرة ويبقى الله وسط شعبه.

ج- ملاحظتان على الفصل السادس
1- عصا هارون
يروي لنا مقطع من سفر العدد (6:17- 26) خبرًا عجيبًا عن تلك العصا التي أفرخت وأزهرت وأنضجت لوزًا، ويشدّد على اختيار الرب لسبط من أسباط بني إسرائيل. جعل موسى العصيّ (أو الفروع) أمام خيمة الشهادة (9: 15، 18: 2) وأمام الشهادة بالذات. وكلمة شهادة تعني في النصوص الكهنوتية الشريعة الموضوعة في تابوت العهد (خر 16:25؛ 18:31؛ 40: 20 ؛ تث 10: 1- 5). وهذا يعني أنّ الشريعة تواجه الأسباط الاثني عشر وهي تضع ختمها فتدلّ على حقوق قبيلة لاوي، وعلى الكهنوت الخاص ببني هارون والذي تعارضه سائر القبائل.
وهذا الفرع (أو هذه العصا) أفرخ مثل فرع يسّى الذي نبت غصن من أصوله (أش 11: 1- 2) فأعطى ثمرًا، وهذا علامة اختيار الله له. أجل، لقد اختار الرب قبيلة كهنوتية لتحمي الشعب من الغضب الإلهي (53:1)، ولتكفّر عن الخطيئة (17: 12)، ولتكون علامةً لعهد بين الله والشعب يقوم على غفران الخطايا.
من أجل هذا، ففرعُ هارون هو نموذج المسيح الممجد الذي أفرخ مع أنّه قطع. المسيح هو الكاهن الأعظم الحقيقي (عب 9: 1- 4)، الذي لم يتولّ بنفسه مقام الكهنوت، بل دعاه الله إليه (عب 5: 4). وهو أيضاً الزهرة الخارجة من فرع يسى الذي أعلن عنه أشعيا. إذًا بيت هارون هو صورة عن الكهنوت المسيحي.
ونورد أخيرًا مقطعًا من إنجيل يعقوب (8- 9) المنحول عن قصّة زواج يوسف من مريم العذراء، وهذه القصّة تستقي عناصرها من حدث عصا هارون.
"ونزل والدا (مريم) متعجّبين وهما يسبّحان الله، لأنّ ابنتهما لم تنظر إلى الوراء. وكانت مريم في الهيكل تقتات كالحمام، وكانت تتقبّل طعامها من يد ملاك.
"وعندما بلغت (مريم) الثانية عشرة من عمرها اجتمع الكهنة وقالوا: ها مريم قد بلغت الثانية عشرة من عمرها في هيكل الرب، فأيّ إجراء نتخذه لئلاّ يتنجّس هيكل الرب. وقالوا لعظيم الكهنة: أنت موكّل على مذبح الرب، فادخل إلى الهيكل وصلّ من أجل مريم، ونحن نفعل بحسب ما يكشفه الله لك.
"وارتدى عظيم الكهنة اللباس ذات الجريصات الاثنتي عشرة، ودخل قدس الأقداس وصلّى لأجل مريم. فتراءى له ملاك من السماء وقال له: زكريا، زكريا. أُخرج واجمع كلّ أرمل في الشعب وليحمل كلّ منهم عصاه، والذي يفعل معه الرب معجزة يكون زوج هذه الفتاة. فخرج المنادون وجالوا في بلاد اليهودية، ونفخوا في الأبواق وعادوا عاجلاً.
"أمّا يوسف فرمى فأسه جانبًا وخرج ليلحق بهم. ولمّا اجتمعوا خرجوا مع عصيّهم للقاء عظيم الكهنة. فأخذ كلّ واحد عصاه ودخل إلى الهيكل وصلّى. وأخذ يوسف عصاه، وكانت الأخيرة فإذا حمامة خرجت منها وطارت وحطّت على رأس يوسف. فقال رئيس الكهنة ليوسف: إليك أوكلت حماية عذراء الرب... ".

2- البقرة الحمراء
كان الاسيانيّون يذبحون البقرة الحمراء ويمارسون الغسل بماء التطهير ويفرضون على المؤمنين ارتدادًا داخليًا. وسوف تتوسّع التراجيم في الحديث عن البقرة الحمراء وكذلك التقاليد السامرية. أمّا القرآن فيكرّس فصلاً يتحدّث فيه عن البقرة الحمراء، ويستوحي كلماته من سفر العدد (19: 1- 10) وسفر التثنية (21: 1- 9). "وإذ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم أن تذبحوا قالوا: اتتخذنا هزوا؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قالوا: ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي. قال: إنّه يقول إنّها بقرة لا فارض ولا بكر عوان فافعلوا ما تؤمرون. قالوا: ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها. قال: إنّه يقول إنّها بقرة صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين " (سورة البقرة 67- 69).
والرسالة إلى العبرانيين (13:9 ي) تماثل بين ذبح البقرة الحمراء والذبيحة من أجل الخطيئة وتشدّد على مفعولها التطهيري. وتقابل أيضاً ذبح البقرة بذبيحة المسيح الذي قدّم نفسه حرًّا ليطهّر ضمائرنا من الأعمال الميتة فنعبد الله الحي.
وسينطلق التقليد المسيحي من هذا الحدث، فتقول الرسالة إلى برنابا (8: 2) إنّ العِجْلَة هي المسيح. ويقول كيرلس الاسكندراني: "عِجلة بلا عيب ستحمل النير يومًا هي المسيح الذي هو بلا خطيئة وحرّ كليًّا، هو المعطى والمذبوح خارج المدينة لنحيا به: دمه يطهّر سبع مرّات تطهيرًا كاملاً المعبد الحقيقي الذي هو الكنيسة. أمّا مياه التطهير، وقوّتها تأتيها من رماد العجلة المذبوحة، فهي رمز إلى ماء العماد الذي بدونه لا نتقدّس، والذي به نطهر من كل دفق موت ونحصل على الحياة والقيامة (بعد ثلاثة أيّام). إذًا، نتخلى عن نزعتنا إلى الشر ونغتسل ونتطهّر بدم المسيح ".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM