الفصل الخامس
على أبواب أرض الميعاد
13: 1 – 15: 41
أ- المقدمة
الأحداث المرويّة في هذه الفصول الثلاثة من سفر العدد (13- 15) تقع في برّيّة فاران (12: 16؛ 3:13- 26) مع أنّ سفر التثنية (1: 19- 46) يجعلها تقع في قادش التي هي على ملتقى برّيّة صين ببرية فاران.
وهكذا وصل الشعب إلى أبواب أرض الميعاد من الجنوب، كما سيكون عند أبواب أرض الميعاد من الشرق عندما يصل إلى سهول موآب. حينئذ أرسل موسى جواسيس يجسون الأرض (ف 13)، كما سيفعل يشوع (يش 2: 1- 24) فيما بعد. ثمّ أصدر أحكامًا تشريعية سيعمل بها العبرانيون عندما يدخلون أرض الرب (15: 2) كما سيفعل في سول موآب (تث 1: 1؛ 12: 1). ولكنّ الشعب سيتذمّر على الرب، فيرفض دخول أرض الموعد (ف 14) ويفقد ثقته بربّه، ولكنّه سيعاقب إذ يجبر على الدوران في برّيّة التّيه أربعين سنة (25:14).
ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- تجسّس أرض الميعاد
13: 1- 33
أوّلاً: نقرأ في هذا الفصل تقاليد من تاريخ قبائل الجنوب. فكالب القنزي (32: 12) أخذ حبرون وطرد منها بني عاناق فأعطي له أن يكون شريك بني إسرائيل (يش 13:15- 14؛ قض 1: 1- 15) في أرض الرب، وذلك بسبب إيمانه بالرب (يش 6:14- 15).
ونعرف أنّ العمليات العسكرية كانت تتمّ عادة في الربيع (2صم 11: 1). يجسّون الأرض ثم ينطلقون إليها. هذا ما فعله يشوع بالنسبة إلى أريحا (يش 2: 1- 24) والعي (يش 2:8-3)، وهذا ما سيفعله بيت يوسف (قض 1: 23- 25) بالنسبة إلى بيت إيل.
ثانيا: نجد نواة يهوهية تورد أمر موسى وتعليماته للجواسيس (آ 17- 20)، ثمّ تروي كيف تعرّف الجواسيس إلى الأرض وإلى ثمارها (آ 22- 24)، وأخيرًا تنقل تقرير الجواسيس (آ 26- 29). في هذه النواة الأساسية يشدّد النص على شجاعة كالب وروح المبادرة التي تحلّى بها وتلفت النظر إلى تراخي سائر الجواسيس. وهكذا يتأمّل التقليد اليهوهي نجاح بيت كالب في احتلال حبرون فيرى في ذلك تتمّةً للعهد الذي قطعه الرب مع الآباء ومع موسى (29:13؛ رج تك 15: 21؛ خر 8:3، 17) ونتيجة للعهد الذي قطعه كالب مع بني إسرائيل ولأمانته لهذا العهد.
ثالثًا: بعد أن زيدت تفاصيل تاريخية (آ 22) وسكّانية (آ 33) واشتقاقية (آ 24)، تابع التقليد اليهوهي تأمله في الأحداث فقابل بين شجاعة كالب ويشوع وبين خطيئة الشعب الذين تذمّروا على الرب في البرّيّة ورفضوا الإيمان بمواعيده وتردّدوا في دخول الأرض فكان لهم أن يتيهوا أربعين سنة في البرّيّة. سيشدد سفر يشوع (14: 6- 5) على فضائل كالب، ويلفت سفر التثنية (1: 19- 40) نظرنا إلى نقص الإيمان عند الشعب.
ويذكر حزقيال (20: 6) قضيّة الجواسيس فيعتبر أنّ الله أراد أن يجسّ الأرض التي هي فخر جميع الأرض ليؤكّد مواعيده لشعبه.
رابعًا: إنّ هذا الحدث الذي ارتبط ببيت كالب سيصير أساس إيمان الشعب كلّه فيقول الكتاب إنّ موسى أرسل اثني عشر رجلاً، واحدًا من كل قبيلة. من هذا القول انطق التقليد الكهنوتي فأورد لائحة بالجواسيس (آ 1- 13) وشدّد على تعلّق يشوع بالرب الذي غيَّر له اسمه (آ 16)، وجعل جسّ الأرض يمتد لا إلى منطقة واحدة بل إلى أرض الموعد كلّها (آ 25)، ويطول أربعين يومًا. وأخيرًا ذكر حضور هارون والجماعة إلى جانب موسى ساعة رجع الجواسيس (آ 26).
إنّ لائحة الجواسيس لا توافق لائحة رؤساء القبائل المذكورة سابقًأ (1: 15- 16)، ولكنّ الكاتب ذكر الرؤساء هنا ليدلّ على مسؤوليتهم في قلّة إيمان الشعب بالله.
لم يكتفِ الجواسيس بالتعرف إلى أرض النقبَ، إلى مدينة حبرون، بل جالوا في الأرض من برّيّة صين إلى رحوب عند مدخل حماة (آ 21)، ففعلوا مثل إبراهيم الذي قال له الرب بأن يجول في طول الأرض وعرضها (تك 17:13)، فوصلوا، كما يقول التقليد إلى جيحون أو النيل جنوبًا، وإلى الفرات وأنطاكية شمالاً.
تأمّل التقليد الديني في أحداث التعرف إلى الأرض فأعطانا صورة مثالية عن أرض الميعاد التي سيمنحها الرب لشعبه والتي تتعدّى ما يتصوّره العقل والخيال. فالجواسيس هم الشهود الأُوَلُ على تحقّق المواعيد، وبناء على شهادتهم سيأمل الشعب أو ييأس. إنّهم حاملو البشري الحسنة وهم مسؤولون عن إيمان الشعب أو كفره. فإن حملوا أثمارًا طيّبة وقالوا إنّ الأرض جميلة (آ 27) شدّدوا الشعب في إيمانه ورجائه (آ 30) وإن ذمّوا الأرض (آ 32) وانتقصوا من قدرها جعلوا الشعب ييأس ودفعوه إلى الجحود والثورة (14: 1- 4 ).
ملاحظات: 1- رحوب بلدةٌ قريبة من دان وجبل حرمون (قض 18: 28؛ 2 صم 6:10-8).
2- برّيّة صين تقع إلى الشمال من قادش وتشكّل الحدود الجنوبية لأرض الموعد (34: 4). أمّا رحوب فتشكل حدودها الشمالية.
3- سار الجواسيس مسافة 600 كلم بحسب التقليد الكهنوتي، في نواحي طول البلاد وعرضها. أمّا في التقليد اليهوهي فقطعوا مسافة 120 كلم ولم يتعدّوا مدينة حبرون.
4- الفصل الأوّل من سفر العدد يذكر رؤساء القبائل، والفصل 13 يذكر الرؤساء الذين تحت سلطة الرؤساء الأوّلين، وكلّهم مجهولون ما عدا كالب ويشوع، والجبل المذكور في آ 17 هو جبل يهوذا.
5- هوشع صار يهوشع (آ 16) أي يشوع، ومعناه الرب يخلّص. يشدّد التقليد الكهنوتي على أنّ المولودين قبل الخروج لم يكونوا يعرفون الرب، والعهد في سيناء جعلهم يعرفونه. أمّا تبديل اسم يشوع فيدلّ على وضع جديد في حياته، بل على تبديل في شخصيته يرتبط برسالته كمساعد لموسى. أمّا اسم يشوع فقد قرأناه في سفر الخروج (17: 9- 14؛ 24: 13 ؛ 17:32؛ 33: 1).
6- تقع وادي اشكول (آ 43) إلى الشمال من حبرون.
7- البحر المذكور في آ 29 هو البحر المتوسّط.
8- أرض تأكل أهلها (آ 32)، لهذه العبارة معنيان: أو إنّ الحيوانات البرّية تمنع الحياة فيها، أو إنّ الحرب لا تهدأ فيها (رج مز 13:36- 15).
2- الشعب يرفض التقدّم إلى أرض الميعاد وهزيمة حرمة
14: 1-45
14: 1- 38: الشعب يرفض التقدّم
بعد جسّ أرض كنعان تأثر الشعب بالصعوبات التي أشار إليها الجواسيس (13: 25-33)، فضعف إيمانه بالرب ورفض التوجّه إلى أرض الميعاد.
نحن هنا أمام تقاليد بني كالب وقد زيد ما زيد عليها على غرار الفصل الثالث عشر.
أوّلاً: تشكّل آ8- 9 النواة الأولى للتقاليد المتعلّقة بإقامة بني كالب جنوبي أرض كنعان، وبشجاعة كالب وثقته بربّه. بهذه النواة ترتبط آ12وفيها تهديد لأهل الأرض: الرب يضربهم بالوباء (خر 3:9، 5)، يفنيهم أو ينزع عنهم ملكهم (خر 34: 24). يهدّد الرب بضرب الكنعانيين ويعد كالب بأن يكون شعبًا قويًّا عديدًا على مثال إبراهيم أو إسماعيل (تك 18:21). من أجل هذا يطالب كالب بحبرون وبأرض عاناق ليقيم بها (يش 2:14).
ثانيًا: انطق الكاتب اليهوهي من هذه النواة القديمة فتأمّل فيها، وقابل بين موقف كالب الواثق بربه بفتور همة سائر الجواسيس. وهذا ما جعل الشعب يبكي ويثور على الرب ويبدي رغبته في الرجوع إلى مصر بقيادة شخص آخر غير موسى.
يصوِّر الكاتب ردة الفعل عند الله وموسى على ما في حادث العجل الذهبي: غضبُ الرب، وعيده لموسى، صلاة موسى، صفح الرب لشعبه. ولكنّ الكاتب يكيّف مرجعه بحسب فكرته التي يبرزها بوضوح: بكى الشعب فأجاب الرب الشعب بأسلوب بكائيّ: إلى متى؟ خفّ إيمان الشعب فبدّل الرب ما وعد به كالب: سيطرد العبرانيين لا الكنعانيين. أراد الشعب أن يرجع إلى مصر، إذًا سيضربهم الرب بالوباء كما ضرب المصريين لأنّهم تشبّهوا بهم في إنكارهم لقدرة الله (لا 26: 25؛ تث 28: 21؛ 2 صم 13:24- 15؛ 1 مل 37:8).
صلاة موسى قريبة من صلواته ساعة تذمّر الشعبُ في البرّية، وفيها مواضيع وعبارات كتلك التي نقرأها بعد حادثة العجل الذهبي (خر 32: 11- 13)، وعند ظهور الرب لموسى (خر34: 6- 9) ووعده له بحماية شعبه في السحاب. يتذكّر موسى قوة الله وأمانته وأعماله العظيمة ويتوسّل إليه كما سيفعل داود وسليمان.
وتنتهي الرواية اليهوهية بجواب الرب على سؤال موسى وفيه الصَّفح (آ 20) والعقاب (آ 21- 25). هذا الجواب يستعيد العبارات التي قالها الشعب. أراد الشعب أن يرجع إلى مصر (آ 3، 25)، قال الرب: لن يدخلوا الأرض (آ 30- 31). استهان الشعب بالرب (آ 11) فاستهان بهم الرب (آ 23). وفصل الرب مصير كالب عن مصير الشعب (آ 24- 30) وعاقب الشعب لا بالوباء (آ 12)، بل بطردهم إلى البرّية (آ 25)، ومنعهم من دخول أرض الميعاد (آ 30- 31).
ثالثًا: وتأمّل المصدر الاشتراعي (تث 1: 26- 45) في هذا النص وكيَّفه بحسب رؤيته اللاهوتية. فبعد أن روى عمل الجواسيس وأورد تقريرهم، أشار إلى رفض الشعب. تدخّل موسى وردّد كلمات كالب فلم يستمع إليه أحد. فأعلن عليهم العقاب: لن يدخل أحد أرض الميعاد. وأمرهم بالرجوع إلى جهة البحر الأحمر. لن يعاقب الرب كالب بسبب شجاعته وإيمانه، وسيدخل يشوع أرضه كخلَفٍ لموسى. ولكنّ شهرة يشوع ستتعدّى فيما بعد شهرة كالب، فيكون له المقام الأوّل في النصوص الكهنوتية.
رابعًا: وجاءت التقاليد الكهنوتية (آ1- 2، 5-7، 10، 26- 29، 34- 38) فتوسّعت في التقاليد القديمة في وجهتين اثنتين: في الأولى اهتمّت بالجواسيس، فأعطت لائحة باسمائهم وروت ما فعلوه في سفرهم وأوردت تقريرهم عن الأرض التي ذهبوا إليها. ولكنّ كلامهم أثار الشكّ في قلب الشعب فكفر، لذلك عوقب الجواسيس عقابًا خاصًّا وماتوا بضربة أمام الرب، ولم يَنْجُ إلاّ يشوع وكالب اللذان لم يوافقاهم الرأي. في الثانية فسّرت خطيئة الشعب وعقابه بحسب النظرة الخاصة بالنصوص الكهنوتية: إنّ الثورة هي ثورة الجماعة كلّها التي تهدر ضد موسى وهارون.
في النصوص اليهوهية كان موسى الوسيط الوحيد الذي يتشفّع للرب في شعبه (آ11-13)، في النصوص الاشتراعية (تث 1: 29- 31) موسى هو النبي الذي يحضّ شعبه على الاتكال على ربّه وعلى التحلي بالشجاعة. وفي النصوص الكهنوتية يبدو موسى ضحيّة راكعة (آ 5) يهدّده الموت كما يهدّده سائر الخاطئين، فلا ينجو منه إلاّ بتدخّل من محبّة الله تدخلاً بارزًا (آ10؛ خر 16: 10).
يرتبط العقاب (آ 26- 29، 34- 35) بالذنب (آ 28)، ويتناسب وعدد الأيّام
التي كان فيها الجواسيس في البلاد (كلّ يوم بسنة)، ويصيب الجماعة كلّها. كان النصّ اليهوهي قد عاقب بني إسرائيل بأن حرمهم موقّتًا من الدخول إلى أرض الميعاد، وحكم عليهم بأن يَتيهوا في البرّية كالبدو الرحّل. أمّا النص الكهنوتي فسوف يزيد لهم عقاب الموت (آ 29- 35) والحرمان من الدفن: تفنى جثثهم في البرّية (آ 33).
خامسًا: جمع الكاتب الأخير هذه التقاليد في خبر واحد ففسّر لنا طبيعة الخطيئة وخطورتها عندما ينسى الشعب ربه. المسؤولون الأوّلون هم الجواسيس الذين رأوا مسبّقًا الخيرات التي وعد بها الرب شعبه، ولكنّهم لم يقدروها حقّ قدرها (آ 7- 8)، بل عابوها أمام الشعب. والشعب مسؤول ككلّ لأنّه فضّل الاطمئنان المادي على مغامرة الإيمان (آ 2-4). هم لم يؤمنوا بالرب (آ 11)، ولم يسمعوا قوله (آ 22). نسوا ما وعد به بالقَسَم (آ 23- 30)، لم يفهموا أعماله الماضية (آ 13- 14)، ولم يروا فيها علامة على حمايته لهم في المستقبل. لم يقدِّروا قوّته وحضوره وسط شعبه (آ 19)، بل استهانوا بالرب ولم يعاملوه كالرب فكان ذنبهم شبيهًا بالزنى (آ 33): خانوا ربّهم كما تخون المرأة زوجها.
لم يُصِب العقاب الإلهي إلاّ المذنبين، وها هم سيتيهون في البرّية إلى أن يموتوا. ولكن يتبيّن أنّ كلمة الله فاعلة، وأنّ وعده سيتحقّق لا مع هذا الجيل بل مع الجيل الآتي (آ 31). مع موسى سيخرج من جديد شعب مجدّد أعظم وأقوى من الأوّل فيدخل أرض الميعاد. إنّ الخطيئة تحمل العقاب للخاطئ، ولكنّها لا تلغي وعد الله، وإن أَخَّرت تحقيقه.
سادسًا: انطلق التفسير المسيحي (كيرلس الإسكندراني) من هذا النصّ فرأى في أرض الموعد ملكوت السماوات الذي يقدّمه المسيح لكل من يؤمن به. أعطى الرب الشعب القوّة للتغلب على أعدائهم والوصول إلى الملكوت. غير أنّ بعضاً رفضوا أن يؤمنوا وفضلوا مشاغل الأرض على ملكوت السماء، فأخرجوا من الوليمة السماوية، بينما دخلت جماعة المخلَّصين أرض الموعد مع الجيل الآخر الذي هو الشعب الجديد المؤمن، صورة الكنيسة. ولهذا علينا أن نكون مع المؤمنين لا مع أولئك الذين ماتوا في البرّية (عب 7:3-9 ؛4: 1-3).
آ 39- 45: هزيمة حرمة
نحن هنا أمام تقليد بيت يهوذا ومحاولاته المتكرّرة لاحتلال النقب. نقرأ أوّلاً ذكريات دينية بحسب التقليد الالوهيمي: بكاء وصلاة على رأس الجبل. ونقرأ ثانيًا ذكريات حربية عن الحروب بين بني عماليق وقبائل الجنوب. ولكن في هذه الحرب لم يكن موسى معهم، فهزموا.
تابوت العهد لم يغادر المحلة، لأنّ الرب قال للشعب إنّه لا يصعد معهم، وهكذا كان. تابوت الرب هو رمز حضور الرب، وغيابه يعني غياب الرب. من أجل هذا انهزم الشعب.
حرمة (رج 2:12 ؛ قض 1 :17) تقع شرقي النقب. لم تكن الهزيمة كاملة ولهذا بقي بنو إسرائيل في النقب، ولم يكن النصر كاملا فلم يتحقّق لهم وعد الله بامتلاك الأرض. نقرأ خبر هزيمة حرمة على ضوء سفر التثنية (1: 41- 45) فنفهم أنّ اليأس خطيئة تعارض الرجاء، وأنّ التهوّر يعارض الرجاء أيضاً. يئس الشعب كما خاف من بني عاناق وما اتّكلوا على الله. وتهوّر الشعب لمّا أراد أن يصعد إلى أرض كنعان من دون تابوت الرب ومن دون موسى المؤتمن على كلام الله. فقِوى الشعب وحدها لا تكفي، وسَيُمنى بالهزيمة عقابًا لتهوره. وإن أراد أن ينجح عليه أن يرجع إلى ربّه ويحرّم على نفسه كل ما يأخذه في الحرب من أسلاب (2:21- 3). وهذا ما سوف يفعل.
3- شرائع المقدمات وما يرتبط بها
15: 1-41
15: 1- 16: التقدمة من الدقيق والخمر مع الذبائح
أوّلاً: تأخّر الشعب عن دخول أرض الميعاد، ولكن عليه أن يتابع استعداده لدخول أرض الرب. من أجل هذا رسم لهم موسى بعض الأحكام التي سيعملون بها. ذكر المشترع تقدمات (منحة في العبرانية) الدقيق والخمر (نسك في العبرانية) التي ترافق المحرقات وذبائح السلامة. هذه التقدمات هي غير الذبائح اللا دمويّة المسمّاة أيضاً تقدمات (رج لا 2: 1- 3، 6- 11؛ 7: 10) وغير الذبيحة عن الخطيئة التي يقربها الفقير والمسكين (لا 5: 11- 13) وغير تقدمة الغيرة (5: 15)، مع أنها تتألف من دقيق ملتوت بزيت.
نجد تدرّجًا في جدول التقدمات. يحدد النص التشريع الذبائحي ويذكّرنا بما كان يُفعل عند الفينيقيين كما عرفناه في مرسيلية وقرطاجة.
هذه الأحكام وغيرها لن يعمل بها شعب إسرائيل قبل الإقامة بأرض كنعان. أجل، عندما يدخل الشعب أرض الموعد سيعملون بحسب هذه الشرائع فيدلون على عرفان جميلهم لعطية الرب لهم.
ثانيا: كان هذا النصّ نواة صغيرة زيدت عليها أشياء وأشياء ليتكيَّف التشريع ومتطلباتِ العصر هذه الشريعة تطبَّق على الغريب والنزيل المقيم وسط شعب الله.
إنّ عادة جمع هذه التقدمات مع الذبائح معروفة بصورة خاصّة عند أهل أوغاريت: يقدّم الملك ذبيحة حمل ويصحبها بتقدمة عصفور وعسل وخمر. وهي معروفة أيضاً في ذبائح السلامة عند اليونان (توسيا في اليونانية) حيث تقدَّم الخمر مع المحرقة. أما نكون هنا أمام عادة قديمة أخذ بها الكنعانيون وانتقلت إلى العبرانيين بعد أن تحضّروا في كنعان؟
إنّ بني إسرائيل مارسوا هذه العادة منذ القديم. فحنة، أمّ صموئيل، جاءت إلى شيلو بعد أن نذرت أن تكرّس ابنها للرب: جلبت معها ثلاثة ثيران، وقفَّة من الدقيق، وزقَّ خمرٍ (1 صم 1: 24). وشاول يلتقي ثلاثة رجال صاعدين إلى الرب، إلى بيت إيل، يحمل الواحد ثلاثة جداء، والثاني ثلاثة أرغفة خبز، والثالث زقّ حمر (1 صم10: 3). ونقرأ في هوشع (9: 4) عن سكب الخمر مع الذبائح، وفي سفر الملوك عن آحاز الذي احرق محرقته وتقدمته: سكب الخمر على المذبح الجديد الذي شيّده في الهيكل (2 مل 13:16- 15؛ رج1 أخ 29: 21 ؛ 2 أخ 35:29).
ثالثا: كان سِفر اللاويين قد أشار إلى كمية الدقيق والخمر المقدّمة بمناسبة تقدمة البواكير (لا 23: 13- 18) وتطهير الأبرص (لا 14: 10، 20، 21). أمّا في النص الذي نحن بصدده فيمكننا أن نكوّن فكرة عن الكميّة المقدّمة والتي تتناسب والذبيحة المقدّمة: إذا كان حملاً أو كبشًا أو عجلاً.
رابعًا: إنّ كلّ هذا التنظيم عن التقدمات، عن المحرقة الدائمة (خر 29: 40)، وعن الأعياد (28: 7، 9، 12- 14، 20- 28) الذي يسعى إلى توحيد الشرائع بالنسبة إلى المواطنين العائشين في المملكة الفارسية، يجعلنا نرى أنّ هذا النصّ كُتب في زمن متأخّر (القرن الخامس). ولكنّ هذا لا يعني أنّ مواده جاءت متأخّرة. فنحن أمام عادات قديمة توضّحت وسُكبت في قوانين تطبَّق على كل مواطن يهودي في بلاد فارس.
خامسًا: ويُطرح السؤال: لماذا يقدّم الدقيق والخمر للذبيحة؛ لكي تكون الوليمة المقدمة للإله كاملة. فتلك كانت عادة أهل الشرق. قدّم قايين من ثمار الأرض وهابيل من نتاج غنمه (تك 3:4- 5)، وقدّم ملكيصادق الخبز والخمر (تك 18:14). ولقد سعى المشترع اليهودي ليجمع في عمل ديني واحد البدو والحضر فكما أنّ عيد الفصح هو عيد البدو (تقدمة الحمل) وعيد الحضر (تقدمة الفطير)، كذلك تكون الذبيحة تقدمة الحمل أو الكبش (على عادة البدو) وتقدمة الخمر والدقيق (على عادة الحضر).
إعتاد الكاهن أن يسكب النبيذ على أقدام المذبح (سي 50: 15)، كما كان يريق الدم على المذبح (1: 5). من أجل هذا لا تظهر عظمة الذبيحة كاملة إلاّ ساعة يُسكب النبيذ. حينئذ يرفع المسبِّحون اصواتهم، ويهتف بنو هارون بالأبواق، ويبارك رئيس الكهنة الحاضرين (سي 50: 14- 21).
آ 17- 21: الضريبة على الخبز
بعد أن حدّثنا المشترع عن تقدمة الدقيق ذكر قانون اقتطاع العجين: يوم يقيم الشعب في أرض الميعاد يقتطع قسمًا من العجين الذي يعجنه فتكون تقدمته هذه امتدادًا لتقدمة البواكير بعد الحصاد والدِراس.
كلّ العجين مخصّص للرب الذي قاد شعبه إلى أرض يأكل فيها خبزًا، والقسم الذي يقتطع هو الأفضل وهو مقدّس، وبالتالي يصبح العجين كلّه مكرَّسًا للرب ومقدّسًا.
آ 22- 31: خطايا السهو
نجد في هذه الآيات الوسائل التي تأخذ بها الجماعة لتكفِّر عن كل مخالفة لهذه الوصايا. هناك رتبتان طقسيتان؛ واحدة جماعية وأخرى فردية. أمّا الأسلوب فهو المتّبع في كتاب الطقوس: إن سهوتم... إن خطئ... ثمّ ترد الأعمال الواجب القيام بها، وتُذكر النتيجة المرجوّة التي هي مسامحة الرب للفرد والجماعة.
في نظرة الكاتب الكهنوتي، مخالفة إرادة الله تجرّ وراءها اللعنة بصورة تلقائية. فمن تحوّل عن شريعة الرب انقطع عن معين الحياة. أمّا إذا كانت الخطيئة سهوًا فالنظام السابق الذي بُلبل يمكن ان يعود إلى هدوئه بذبيحة يصالح فيها الإنسان ربّه.
هذه الشريعة مهمّة في ما يسمّى اللاهوت الأدبي والأخلاقي. لا شكّ في أنّ الخطايا المذكورة هي خطايا لأنّها تخالف شعائر العبادة. ولكن أن يهتمّ المشترع بنيّة الفاعل فهذا أمر مهمّ جدًّا بالنسبة إلى نتائج الخطيئة وعقابها (رج يش 3:20- 9). إنّ الخطيئة "الطقسية" (أي إهمال في شعائر الطقوس) تجعل الإنسان نجسًا، ولكنّه يكفر عنها بذبائح خطيئة وطقوس تكفير. أمّا الخطيئة الإرادية (ضدّ الوصايا) فلا يمكن لذبيحة تكفير أن تعوّض عنها. لهذا يُجعل الخاطئ خارج المحلّة ولا يبقى له إلاّ رحمة الله. يضربه الله (تث 2: 15) أو تقتله الجماعة. ولكنّ الأمور ستتبدّل فيما بعد لأنّ الله لا يريد موت الخاطئ بل أن يعود عن ضلاله فيحيا.
آ 32- 36: مخالفة شريعة السبت
نحن هنا أمام شريعة تنبع من حادث معيّن (رجل يجمع حطبًا). يروي الكاتب حالة خاصة لم يَرد شيئًا عليها في الشريعة. يستشير موسى الرب فيجيبه الرب بأمر محدّد. وهكذا ينطلق الكاهن من الحياة اليومية ويشرّع على ضوء الحالات التي تعرض له.
يُرجم المخالف لشريعة السبت على مثال المجدِّفِ على الرب (1 مل 21: 10: نابوت) والابنِ العقوق (تث 21: 18- 21) والمتزوّجين المذنبين (تث 22: 21- 24). من حمل حطبًا أو أشعل نارًا يوم السبت يُعتبر مخالفًا للشريعة ويستحقّ الموت (إر 17: 24- 27 ؛ خر 21: 12-17؛ 2:35-3، حز 12:20 ي).
كلّ هذا يجعل المؤمن يفهم أنّ شريعة السبت شريعة عظيمة، ومخالفتها تعتبر جرمًا كبيرًا. من تعدّى السبت هو كالمجدف وعابد الأوثان والممارس للسحر (لا 27:20 ؛ 24: 14؛ تث 17: 5- 7). السبت هو علامة العهد وميزة شعب الله الذي قدّسه الرب الخالق (خر 12:20 ى)، ولهذا فالمذنب بحقّ السبت يجعل خارج المحلّة (5: 1- 4) ويُقتل.
آ 37- 41: أهداب الثياب
الأهداب تساعد المؤمن على تجنّب خطايا السهو. نحن هنا أمام تقليد قديم عرفته بلاد أشور كزينة وبلاد مصر كتعويذة ورقية. إلاّ أنّ التوراة ستعطيه معنى جديدًا: الهدُب يذكّر المؤمن بوصايا الله المقدّسة، يذكّره بنجاته من مصر، وبعهده في سيناء. أجل، إنّ الهدب هو علامة الخلاص (يش 4: 18).