القِسمُ الرّابع: شَريعَة القدَاسَة

القِسمُ الرّابع
شَريعَة القدَاسَة
17 : 1 – 27 : 34
منذ زمن بعيد ، اتّفق العلماء على القول إنّ الفصول 17-27 كانت تشكّل مجموعة مستقلّة قبل أن تضمّ مع الفصول (1-7) إلى باقي فصول سفر اللاوييّن، وتجعل في إطار سفر اللاويّين، في إطارٍ إخباريّ رتّبه الكهنة بعد الرجوع من الجلاء.
إسم هذا القسم "شريعة القداسة " وهو يردّد مرارًا نداء الربّ لشعبه: "كونوا قديّسين لأنّي أنا الرب إلهكم قدّوس" (19: 2؛ 20: 7؛ 21: 6، 8، 15-23). ويقول إنّ بني إسرائيل شعب يختلف عن سائر الشعوب، كما أنّ إلههم يختلف عن سائر الآلهة (20: 24، 26)، فعليهم إلاّ يعملوا كما يعمل أهل مصر وأهل كنعان (18: 2). عليهم أن يحافظوا على هذه القداسة بالمحافظة على شرائع الطهارة والقداسة. وهكذا يشدّد الواعظ على وجوب العمل بوصايا الله وسُنَنه وأحكامه (18: 4-5؛ 19: 19، 37 ؛ 8:20، 22؛ 22: 31 ؛ 26: 31). من هنا نفهم أنّ هدف قانون القداسة لا يختلف أصلاً عما نقرأه في الفصول 11-16 من سفر اللاويّين، وهذا ما جعل "الناشر" يضمّ هاتين المجموعتين في كتاب واحد هو سفر اللاويّين.
غير أنّ هناك فوارقَ بين شريعة الطاهر والدّنِس، وشريعةِ القداسة. الفرق الأول: إنّ العبارات الخاصّة بقانون القداسة، والتي سبق فذكرناها، غيرُ موجودة في شريعة الطاهر والنجس، أللهمّ إلاّ ما زِيد عليها في ما بعدُ (رج 43:11-45). مقابل ذلك لا يرد موضوع التكفير إلاّ قليلاً في قانون القداسة، وما يرِد فيه يبدو مَزيدًا (19: 20-22)، فيتلاءم قسما الكتاب ويتوافقان. الفرق الثاني: قال قانون القداسة إنّ قداسة الأمّة ترتبط بقداسة الهيكل والكهنوت والطقوس، إلاّ أنّه لا يُبرز هذا القولَ بوضوح، كما في أقسام سفر اللاويّين الباقية، وهو في المقابَل يشدّد على واجبات المؤمن اليوميّة في حياته الاجتماعيّة والأخلاقيّة (راجع مثلاً 19: 1-8). الفرق الثالث: تتميّز الفصول 17-26 بطابع الوعظ والإرشاد، فنجد فيها كلمات عاطفيّة تهدف لا إلى تعليم السامعين شرائع عرفوها سابقًا، بل الى حثّهم على حفظ الوصايا والعمل بها. وهكذا تَبرُز وصايا الله بصورة جذّابة، فلا يُعقَل أن لا نأخذها بعين الاعتبار. ونلاحظ أيضًا تواتر ذكر عقوبة الموت، على من يخالف هذه الوصايا (8:19 ؛ 20: 2- 21 ؛ 9:21؛ 24: 16). والهدف من ذلك تنبيه السامعين الى ما يفعلون. عندما يتعدَّون الوصايا: سيتحمّلون عاقبة إثمهم، إن هم دنّسوا ما هو مقدّس للرب.
لا شكّ في أنّ الموضوع واحد، والأسلوب واحد في الفصول 17-26، إلاّ أنّ الوحدة ليست كاملة بسبب التطوّر التاريخيّ الطويل الذي مرّت فيه هذه الفصول. فنرى من جهة كيف أنّ الشكل القديم لهذا القسم قد توسعّ وتطوّر، ليتلاءم ونظرةَ التقليد الكهنوتيّ بعد الجلاء، وهذا أمر واضح خصوصاً في الفصل الثالث والعشرين؛ ونرى من جهة ثانية أنّ شريعة القداسة بُنيت انطلاقًا من مجموعات شرائعَ مستقلّة تتعلّق بمواضيع مختلفة. فجمعها الكاتب وجعل لها خُلاصات ختاميّة بشكل نصيحة عامّة، تدعو المؤمنين إلى حفظ وصايا الله. وهذه الخلاصات جُعلت هنا لتربط هذه المقاطع بعضَها ببعض (رج 18: 24-30؛ 37:19؛ 20: 22-40؛ 22: 31-33). ما يمكن أن نقوله هو أنّنا أمامَ مقاطعَ تعليميّة متنوعّة تمثّل تقاليد تعاليم الكهنة قرب معابد بني إسرائيل المتعدّدة، يرجع بعضها إلى ما قبلَ الجلاء ، وحتى قبل أن تصبح أورشليم المعبدَ الوطنيّ الوحيد.
عندما نربط شريعة القداسة بأحداث جرَت بعد الجلاء يمكننا أن نقترح زمانًا ومكانًا لهذه المجموعة التي نقرأها في الفصول 17-26. فالتهديد الذي نقرأه في 26: 14-35 يعكس الظروف التي عرف فيها الشعبُ الاجتياح البابليّ والذهابَ الى المنفى. وهذا ما يدفعنا إلى القول إنّ قانون القداسة دُوّن في زمن الجلاء. حين لجأ كهنة المعابد المتفرّقة إلى أورشليم في زمن الجلاء (587-538)، أحسّوا بالحاجة إلى تنظيم تعليمهم وممارسات عبادتهم. فعمَدوا إلى جمع تقاليدهم، فكان لنا قانون القداسة بشكل عظة للكهنة تعلّمهم كيف يمارسون خدمة الكلمة والطقوس، وتهيّىء الشعب ليكون الجماعةَ الجديدة المقدّسة التي لا تقع في تلك الخطايا التي سبّبت لأورشليم تلك النكبة المريعة.
ونزيد اعتبارين يؤيّدان رأينا بأنّ شريعة القداسة جُمعت في زمن الجلاء. الاعتبار الاول نجده في العبارة التي تتردّد 37 مرّة في شريعة القداسة ( 18: 2، 4، 5...): أنا الرب، أنا الربّ إلهك. هذه العبارة هي نجعل إيمان بوحدانيّة إله إسرائيل بوجه الآلهة الأخرى (43:11-45) ، وهي ترتبط بتحذير بني إسرائيل من جحد إيمانهم واتّباع الآلهة الغريبة (3:18 ، 21-30؛ 19: 26-28؛ 20: 22-24). إن ما نعرفه هو أنّه في الزمن القريب من الجلاء، كثرت العبادات الوثنيّة في أرض إسرائيل. فإله إسرائيل بدَا ضعيفًا بوجه الآلهة الغريبة، لأنّه لا يستطيع أن يحمي شعبه من شعوب تعبد هذه الآلهة (رج ار 44: 2-3 ؛ حز 16-18؛ اش 3:57-10 ؛ 3:56- 5). وهكذا دعا الوعّاظ المؤمنين من خلال شريعة القداسة، ليرجعوا إلى الإله الحقيقيّ، وحذّروهم من خطر الوقوع في الخطيئة من جديد، فيكون عملهم خيانةً للرب.
الاعتبار الثاني نجده في العلاقة بين شريعة القداسة وسفر حزقيال، وكلاهما يشدّدان على القداسة. كان حزقيال من سلالة كهنوتيّة (حز 1 :3)، فعبّر عن تطلّعات محيطه، والتقى "ناشرَ" قانون القداسة الذي كانت له الاهتمامات عينُها. ويمكننا والحالةُ هذه أن نرى في سفر حزقيال وفي شريعة القداسة، شكلين من الوعظ اتّخذ الموادّ ذاتَها، فأعطيا للأمّة تفسيرًا عن الحالة التي وصلت إليها. فدعت الشعب الى بناء جماعة جديدة مكرّسة لله. وهنا نجد في لقاء سفر حِزْقيال لشريعة القداسة مثلاً عن اللقاء بين تعليم الكهنة المتمثّل بحزقيال، وتعليمِ الأنبياء المتمثّل بقانون القداسة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM