الكِتابُ الثاني: سِفْرُ اللاويّيْن

الكِتابُ الثاني
سِفْرُ اللاويّيْن

مُقَدّمَةُ عَامَّة

مَدخل الى سفر اللاّويّين
وينتهي سفر الخروج (40: 26-33) ببناء خيمة الاجتماع التي سيقيم اللهُ فيها وسَطَ السحاب (خر 40: 34-40). في هذه الخيمة سيجتمع الربّ بموسى، ويكلّمه في سفر اللاويّين، كما كان يكلمه على قِمّة جبل سيناء في سفر الخروج، وسيطلب إليه أن ينقل الى الشعب سُنَنه وأحكامه ليعملوا بها، ومَن عمِلَ بها يحيا (5:18).
هذه الخيمة هي موضع اللقاء بين اللّه والشعب، والوسيطُ بينهما شعائرُ العبادة التي يقوم بها الكهنة بحسب الطقس والترتيب الذي جعله الربّ. ولكن لكي تبقى هذه "الخيمة" حقًّا الموضعَ الذي فيه يلتقي الله شعبَه، يجب أن يتجنّبوا كلّ نجاسة ورجاسة وخطيئة.
لأجل هذا كُتب سفر اللاويّين، فوصف بدقة وتفصيل كيف تُمارَس الشعائرُ الدينية التي تساعد الإنسان على التقرّب الى الله. لا شكّ أنّها لا تكفي وحدَها للحصول على الخلاص، ولهذا سيشدّد الأنبياء (رج ار 7: 3- 11، هو 6: 6) على أهميّة ارتداد القلب وعلى العيش بحسب وصايا الله ، وعلى ضرورة ممارسة العدالة والرحمة. غير أنّ سفر اللاويّين سينبّهنا الى أنّ الاتّصال بالله الحيّ هو مُنْيَة قلب الإنسان العميقة، ومن هذا الاتّصال تَنبُع سائر الأمور والواجبات.

أ- إسم الكتاب وكاتبُه وزمنُ كتابته وتقسيمُه.

1- إسم الكتاب

يسمّى كلّ كتاب في اللغة العبريّة بأولى كلماته. وسفرُ اللاويّين يبدأ بهذه الكلمة " ويقرا " أي ودعا (الربّ موسى). بهذا الاسم سمّى يهود فلسطين السفر الثالث من أسفار تَوراة موسى، وسمَّوه أيضًا شريعةَ الكهنة وسفر الكهنة وسفر التقدمات. ويبدو أنّ الترجمة السْريانيّة البسيطة، أخذت بهذا الخطّ " فسمّته سفرَ الكهنة (سفرودكهني)
أمّا الترجمة السبعينيّة فقد سمّته " بيبليون لاويتيكون " أي كتابَ اللاويّين، أو كتابَ بني لاوي، لأنّه يتطرّق إلى شعائر العبادة وسُنَنها في سِبط لاوي الكهنوتيّ. وسارت الترجمة اللاتينيّة الشعبيّة (فولغاتا) على خُطى اليونانيّة، وتبعتهما سائرُ اللغات التي سمّت هذا الكتاب "سفرَ اللاويّين "
في العربيّة تقليدان: تقليدٌ أول أخذت به جمعيّة الكتاب المقدّس، فسمّت الكتابَ سفرَ اللاويّين، وتقليدٌ ثانٍ أخذت به ترجمةُ الآباء اليسوعيّين، فسمّت الكتاب سفرَ الأحبار.
2- من كتبَ سفرَ اللاويّين؟

لم يعد علماء الكتاب المقدّس يأخذون بالتقليد القائل إن موسى كتب الأسفار الخمسةَ المدعوّة "بنتاتوكس "، بل أخذوا يميلون الى القول إنّ موسى هو أبو شريعة بني إسرائيل. ولهذا نُسبت إليه الأسفار الخمسة، كما نسبت المزاميرُ الى داود، والكتبُ الحِكْميّة إلى سليمان. لقد أقّر الشُرّاح أنّ البنتاتوكس هو عملُ أكثرَ من كاتب، هو عمل مجموعة من الكتَّاب الذين دوّنوا ما دوَّنوه على مر العصور.
تحدّثنا في الماضي على التقاليد أو المراجع الأربعة التي كانت أساسًا للتدوين النهائيّ لأسفار موسى الخمسة، فقلنا إنّ التقليد اليَهْوَهيّ كتب في مملكة يهوذا، في الجنوب في القرن العاشر ق.م، وإنّ التقليد الإلوهيميّ كتب في مملكة إسرائيل في الشمال في القرن التاسع، وإنّ التقليد الاشتراعيّ كتب قبل دمار السامرة (سنة 722 ق. م) في مملكة الشمال، وإنّ التقليد الكهنوتيّ كتب في زمن الجلاء يوم أحسّ الكهنة أنّ المراجع التي تتحدّث عن وصايا الله وأحكامه، قد أخذت تضيع. وفي مَعرِض حديثنا عن سفر الخروج، ذكرنا التقليد الذي استقى منه الكاتب قبل أن يعطينا النصّ النهائيّ الذي بدا مزيجًا من التقاليد اليهوهيّة والإلوهيميّة والكهنوتيّة، مع تأثير بسيط للتقليد الاشتراعيّ. أمّا بالنسبة الى سفر اللاويّين، فهناك تقليد واحد يسيطر عليه سيطرةً تكاد تكون تامّة، هو التقليد الكهنوتيّ. وهذا يعني أنّ الكهنة جمعوا الموادّ المختلفة لهذا السفر، وطبعوها بطابَعهم الخاصّ. لا شكّ في أنّ سفر اللاويّين يتألّف من ثلاث مجموعات هي المجموعة الكهنوتيّة (ف 1-16، 27) وقانونُ القداسة (ف 17-22، 26)، ومجموعةٌ قُدسيّة دخلت إليها نصوصا أخرى في زمن الجلاء (ف 23-25). إلاّ أنّ هذه المجموعاتِ الثلاثَ قد خرجت من أوساط الكهنة، على الأقلّ في صيغتها النهائيّة.
ونتساءل: ما هو دور الكهنة في تدوين سفر اللاويّين، بل في تدوين أسفار موسى الخمسة؟ إلى هذا السؤال يجيب العلماء فيؤلّفون رأيَين متباينَين. الرأيُ الأوّل يقول: كان البنتاتوكس في البداية مجموعةَ موادَّ كتبت في أوقات متفرّقة وأماكنَ متعدّدة، ثم تنظّمت وترجمت في حلقات الكهنة. إذاً، كلّ ما فعله الكهنة هو أنّهم جمعوها ونسّقوها وربطوا أقسامها بعضها ببعض، وجعلوا لها مقدّمة تبرز معناها. والرأي الثاني يقول: إنّ المدرسة الكهنوتيّة دوّنت وثائقَها، فجاءت موازيةً لما دوّنته التقاليدُ الكتابيّة الثلاثة، أي التقليدُ اليهوهيّ والإلوهيميّ والاشتراعيّ. ثم جاء أحد الكهنة فانطلق من المرجعِ الكهنوتيّ، فجعله بُنْيةً أساسيّة أدخل فيها ما وجده في سائر المراجع.
ومهما يكن من أمر، فالنتيجة هي هي، وذلك أنّ الأسفار الأربعة الأولى، أي التكوينَ والخروج واللاويّين والعدد، هي في آخر المَطاف نتاجُ الكهنة، بمعنى أنّهم وضعوا عليها اللمَسات الأخيرة قبل أن "ينشروها " في أوساط الشعب. أمّا سفرُ اللاويّين فهو بصورة خاصة نتاجُ الكهنة، من بدايته إلى نهايته، شرطَ أن نضعَ جانبًا قانونَ القداسة (ف 17- 22).
3- متى كُتب سفرُ اللاوّيين

نبدأ فنقول إنّ سفر اللاويّين بحالته الحاضرة قد دُوّن في الزمن اللاحق للجلاء، وهو يؤلّف في مجموعةٍ شبهِ متراصّة عناصرَ متنوّعة يعود بعضُها إلى زمن موسى أو إلى ما قبلَه.
فيومَ لم يعُد في شعب إسرائيل ملك، ويومَ أخذت الحركة النبويّة تضمحلّ ويومَ أخذت سلطةُ الكهنة السياسيّةُ تتعاظم، أحسّ كهنة أورشليم بمسؤوليّتهم، فضمّوا مجموعاتٍ من السُنن والشرائع، وزادوا عليها ما زادوا تلبيةً لحاجة العبادة ، في زمن الهيكل (الذي بدأوا ببنائه بعد سنة 537) وقدّموا نِتاجهم هذا كدستور للأمّة في الزمن اللاحق للرجوع من الجلاء.
ما الذي يدفعنا الى القول بهذا الموقف المبدئيّ؟
أوّلاً: إنّ نصّ سفر اللاويّين كما نعرفه الآن، يفترض أنّ بني إسرائيل اتّصلوا بالكنعانيّين، وأنّهم عاشوا في المدن المتحضّرة بعد أن مضى عليهم زمان تركوا فيه حياة البداوة في الصحراء. يكفي أن نلاحظ أنّ الأعياد الزراعيّة صارت تكوّن العَمود الفَقْريّ لدورة السنة الطقسيّة، لنتيقّن أنّ هذا السِفر ليس وليدَ الحياة في البريّة " بل وليدُ حياةٍ تميّزت بالحياة في الحقول والإقامة في المدن.
ثانيًا: نرى إنّ السِفر يقسِم الذبائح وينظّمها بطريقة لم تعرفها الأسفارُ التاريخيّة (أي سفرُ صموئيل، وسفر الملوك وسفر الأخبار) أو النبويّةُ الى عهد حزقيال. ثم لا نجد أيَّ ذكر للملك، وقد لعب دورًا رئيسيًّا في حياة بني إسرائيل منذ عهد شاول وداود (القرن الحادي عشرا إلى بداية القرن السادس، يوم هُدمت أورشليم وزالت الملكيّة على يد البابليّين. بل نجد ذِكرًا للرئيس أو الأمير (رج 4: 22) ويسميه "نشيا" أي الرفيع (راجع نشأ في العربيّة أي ارتفع) أي الذي يتقدّم الناس في المجلس، فيلتقي بذلك حزقيالَ (9:45 ي) الذي تنبّأ بين السنة 592 وسنة 570 ق. م. ثم إنّ الإلحاح على الذبائح يجعلنا بعيدين عن زمن كتب فيه عاموس (5: 21-24) وهُوشع (4: 6، 8: 11) اللذَين نبَّها بني إسرائيل الى أنّ ذبيحتهم صارت لهم دينونة بسبب خطيئتهم. وهكذا نستنتج أنّ الزمن الذي كُتب فيه سفر اللاويّين هو قريب من الزمن الذي تنبّأ فيه حِزْقيال، وأنّ نِقاط المقارنة بين سفر حزقيال وسفر اللاويّين واضحة.
ثالثًا: إن كان الكتاب ككلّ قد ظهر بعدَ زمن حِزْقيال، فعناصرُ الكتاب سابقة لنبيّ الجَلاء الذي يوبّخ بني إسرائيل باسم دستور القداسة (قابل لا 17: 10 وحز 8:14؛ لا 13:17 وحز 7:24؛ لا 10:20 وحز 18: 11)، ويسمّيهم بيتَ التمرّد (حز 13: 9). ثم إن حِزْقيال (18: 1ي) يحدّثنا عن مسؤوليّة الفَرد في الخطيئة، وهو أمر لم يعرفه سفر اللاويّين (20: 5؛ 26: 39) الذي يعتبر الفَرد واحدًا في مجموعة لا كيانَ له. وأخيرًا كان سفرُ اللاويّين (21: 7) قد منع زواجَ الكاهن بامرأة مطلّقة، فأكمل حزقيال (44: 22) ذاك التشريعَ " فمنع زواج الكاهن بالأرملة.
رابعًا: إنّ قانون القداسة هو تشريع دوّنه الكهنةُ في أواخر زمن الملكيّة، فجاء تكويمًا لنصوص قانونيّة معمول بها في أورشليم، كما كان القانونُ الاشتراعيّ (نواةُ سفرِ التثنيّة) تكويمًا لنصوص قانونيّة معمولٍ بها في مملكة الشمال.
كل هذه الأمور وغيرُها ممّا سنوضحه خلال تفسيرنا لنصوص سفر اللاويّين ، يدفعنا الى الاستنتاج التالي: هناك عناصرُ قديمة في سفر اللاويّين؛ إلاّ أنّ النصّ النهائيّ هو وليد زمن بعد الرجوع من الجلاء، أي بعد سنة 538. يبقى أن نعرف أنّ هذه النصوص، جملةً وتفصيلاً، هي نصوصٌ تقليديّة محافظة، تهدِفُ الى تصوير عادات عمِلَ بها شعب إسرائيل قبل الجلاء. وهي تدعو الى المحافظة عليها دون تطويرها، وتتوسعّ في الحديث عن مُعطَيات يهوهيّة كالاختيار الإلهيّ، والشريعة المُوحاة، والخطيئة ضدّ الوصايا. هذه الأفكار تجعلنا نكتشف روح موسى من خلال سفرٍ نُسب إليه مع ما نُسب من الأسفار الخمسة.
4- تصميم الكتاب ومضمونُه

هذا الكتاب هو مجموعة نصوص تشريعيّة تهدِف الى تنظيم شعائر العبادة وترتيب الحياة الأخلاقيّة والنُظُم الدينيّة في شعب إسرائيل ، وهو يقسم أربعةَ أقسام رئيسيّة، يتبعها مُلحَق صغير (27: 1 ي) عن النذور والهِبات.
القسم الأول (ف 1-7) يبحث في الذبائح وينتهي بخاتمة خاصّة: تلك شريعةُ المحرقة والتقدمة وذبيحة الخطيئة (7: 37).
القسم الثاني (ف 8- 10) يبحث في إقامة الكهنة وتكريسِهم لخدمة الربّ.
القسم الثالث (ف 11-16) يتطرّق الى قواعد الطهارة ، وينتهي بالحديث عن يوم التكفير العظيم.
القسم الرابع (ف 17-27) يعلن قانون القداسة: ما هي الشروط التي تلتزم بها الجماعةُ لتشارك في ليتورجيّةٍ تقرّبها الى الله وتجمعها به؟
في القسم الأول نجد عرضًا لأصناف الذبائح التي يقرّبها المؤمن للرب في ظروف محدّدة. وهذا العرض لا يتوجّه الى أُناسٍ مبتدئين، بل إلى أشخاص عارفين للطقوس وممارسين لها. لذلك لا نجد معلوماتٍ عن أصل هذه الذبائح ولا عن معناها. وكلّ ما نستشفه من خلال التعليمات والمقارنات، يفهمنا أنّ بني إسرائيل أخذوا مبدأ الذبائح من ديانات الشرق القديم، ثم أعطوا هذا المبدأ مضمونًا جديدًا يتّفق ونِظْرتَهم إلى الكون ومعرفتَهم لله.
في القسم الثاني يصوّر الكاتب الملهم الاحتفالاتِ التي تُقام بمناسبة تنصيب هارون وبنيه كهنة. يمكن أن يكون هذا القِسم قد شكَّل في الأصل تتمّة لما قرأناه في سفر الخروج (29: 1ي) عن تكريس الكهنة، وفيه يبدو الكهنةُ في وظيفتهم كوُسطاءَ بين الله والشعب، وهذا يفرض عليهم أن يتحلّوا بالنقاوة والطهارة.
في القسم الثالث يستعرض الكاتب أنواعَ النَجاسات التي تمنع الإنسان من الاتّصال بالله، من الدخول الى المعبد والحضور أمام الله. وهذه النَجاسات هي: أكلُ طعام نجِس، لمسُ امرأة بعد الولادة، البرَص. ويشكّل الفصل 16 قمة الكتاب، وهو يصوّر يوم التكفير (يوم كيبور)، أي يومَ الغفران العظيم.
في القسم الرابع نقرأ فصولاً تعوّدنا أن نسمّيها "شريعةَ القداسة" أو "قانون القداسة" وهي تعلن: أنّ الربّ هو الله الحيّ القدّوس (11: 44-45؛ 19: 20؛ 20: 26). لذلك فالشعب الذي اختاره وخصَّ نفسَه به هو شعب مقدّس، مكرَّس للربّ. وعلى هذا الشعب أن يتلمّس كلَّ ما يسهّل له الاتّصال بالرب، وأن يتجنّب كل ما يقف حاجزًا أمام هذا الاتّصال: لا يأكل الدم، لأنّ الدم مَركِز الحياة، ويرفض الجِماع الجنسيّ الشاذّ، ويكرّم الله لأنْ لا إلهَ سواه، ويكرّم الإنسان لأنّه خليقة الله، ويحتفل بأعياد الله وسنواته المقدّسة، ويقدّم ذبائحه بطرق لائقة، ويعامل كهنته بما يُمْليه عليه مَقامهم.
لقد سعى سفر اللاويين الى التأليف بين الذبائح المعمول بها في شعب إسرائيل، وهو عمل شاقٌّ وصعب، لم يقم به أحد من قبلُ عند هذا الشعب الذي تأثّر بالطقوس وشعائر العبادة الآتية إليه من كل مكان. فبنو إسرائيل العائشون على ملتقى الطرق، قد أخذوا الكثير من عادات الكنعانيّين، واستفادوا من طقوس الاشوريّين والبابليّين والمصريّين، ودمجوا كل ذلك في وَحدة ينفَحُها إيمانٌ وصلَ إليهما من إبراهيم، وشريعةٌ نقلها إليهما موسى من عند الربّ.

ب- الذبائح في سفر اللاويّين
إنّ سفر اللاويّين هو امتداد لوصايا الله العشْر، وانعكاس لروح الأنبياء الذين ما برِحوا يذكّرون الشعب بمتطلّبات الله على مستوى الأخلاق. غيرَ أنّ الكتاب ليس مقالةً في الأخلاقيّات، رغم ما نقرأه في الفصول (18-26)، وليس خُطبة نبويّة رغم ما نقرأه في الفصل (26)، وليس قانونًا وشريعة، بل هو كتاب يحتوي القواعدَ المتّبعة لممارسة الطقوس، كالاحتفال بالعيد (23: 1 ي)، وشريعةِ الطُهر (14: 1 ي) والتكفير (16: 1 ي) وتنصيبِ الكهنة (ف 8-9) وشريعةِ تقدمة الذبائح (ف 1-7). سنتوقّف عند هذه الأخيرة فنذكر أنواعها بحسب التقليد الكهنوتيّ.
1- المُحرقة

هي ذبيحة قديمة في إسرائيل: تُحرق الضحيةُ كلُّها على المذبح (ما عدا جلدها) فتعبّر عن عطاء الانسان الكامل لله فلا يستردُّ شيئًا من عطائه. نجد ما يقابل المحرقة عند أهل أوغاريت واليونان، لا عند سائر الساميّين ولا عند البابليّين. دخلت مصرَ مع الملوكِ الرُعاة (الهكسوس 1700- 1600 ق. م)، ولكنّها ظلّت غريبةً عن الشعب. مارس بنو إسرائيل هذا النوع من الذبيحة فأعطاها سفرُ القضاة (19:6 ي؛ 19:13 ي) المَقام الأوّل، ومارسها المؤمنون ليشكروا لله حضورَه بينَهم بطريقة ظاهرة. هي ذبيحة "علة" (في العبريّة) أي ذبيحة رفيعة (راجع علا في العربيّة) تُرفع على المذبح فيرتفع دخانها جامعًا المؤمن بربّه. كانت المحرقة في القديم مجرَّدَ ذبيحة (تك 8: 20؛ قض 11: 31؛ 1 صم 6: 15)، ثم أخذت قيمةً تكفيريّة في سفر اللاويّين (1: 1 ي). وبما أنّها ستحرق سميت وقيدة (اشة في العبريّة) لأنّها توضع على الموقد فتحرق.
2- ذبيحة السلامة (3: 1 ي)

تسمّى أيضًا ذبيحةَ العهد، وذبيحةَ الاتّصال بالله والاتّحاد به (بعد أن أعطانا سلامه)، وذبيحةَ التمام والكمال. إسمها في العبريّة "ذبح" (راجع في العربيّة ذبح) "شلاميم" (راجع في العربيّة السلام). قال بعض الشرّاح إنّ هذه الذبيحة تربط بين الله والشعب، وتربط بين أفراد الشعب. وألمحَ الآخرون الى فكرة كمال الذبيحة التي تعبّر عن فرح المؤمنين بسبب البركة التي أخذوها عن المذبح. في أوغاريت كلمة "شليم " (الجمع) تدلّ على هديّة مُرسلة كعُربون للسلام، أمّا المفرد "شلم" فهو سائل يُسكب على الأرض ليؤمّن الخصب لها.
"ذبح" تعني نحْرَ كل حيوان للأكل. كان الحيوان يُنْحر على المذبح الذي كان مجرّدَ حجر (1 صم 33:14) قبل أن يُرفع حسب الأصول. كان الكاهن يسفُك الدم على الأرض، كما في "شليم" أوغاريت، وكان الناس يأكلون اللحمَ فيدلّون على اتّحادهم بالله واتّحادهم بعضِهم ببعض. ولما تركّزت العبادةُ في هيكل أورشليم، صار تمييز بين ما يذبح للطعام، وما يذبح للولائم المقدسة.
كانت ذبيحة السلامة تقسم إلى ثلاثة أقسام: الشحم يحرق على المذبح إكرامًا لله، قسمٌ من اللحم يأخذه الكهنة، وقسمٌ آخر يأكله مقدِّم الذبيحة مع الأهل والأقارب والأصحاب. هذه الذبيحة عرفها أهل أوغاريت واليونان، فكانت وليمةَ عيد بحسب سفر التثنية (12: 1ي) الذي حدّد شروطَ الاشتراك فيها. أمّا سفرُ اللاويّين (7: 1ي) فلم يُولها الاهتمامَ اللازم بسبب ما رافق الاحتفال بها من فِسق وأعمال إباحيّة في زمن الملوك.
كانت الذبيحة المحرقة تقام في مناسبة من المناسبات، أمّا ذبيحةُ السلامة فهي ذبيحة الأعياد الكبرى، وستطغى على سائر طقوس الأعياد التي يحُجّ فيه بنو إسرائيل معابدَهم.
3- التقدمة (2: 1 ي؛ 6: 7- 11)

إسمُها في العبريّة "منحة" (راجع في العربية منح اي أعطى) وهي تدلّ على الهديّة التي يقدّمها الصغير الى الكبير. في التقليد الكهنوتيّ، "منحة" هي كلّ تقدمة تؤكل، وليست لحمَ حيوان. ولهذا تكون من الحِنطة أو من بواكير ثمار الأرض، فتخصَّص للكهنة، ويؤخذ منها عِينة لتحرق على المذبح.
المحرقة وذبيحة السلامة يمارسهما البدو الرحّل، أمّا التقدمة فيمارسها الحَضَرُ المقيمون في مكان من الأمكنة. يقدّمون قُربانهم من محاصيل الحقول، فيمزجون قسمًا منها بالزيت، ويحرقونه إكرامًا للرب. هل كان الكاهن يملأ وعاء (راجع الزكرة في العربيّة) فيكونَ له بمثابة مِكيال، فيكيلَ به الحنطة أو غيرَها، أم كان يطلب الى الرب أن يذكره (أزكره في العبريّة) ولا ينساه، فنسمعه يبدأ صلاته بهذه الكلمات: أريد أن أذكر (رج تث 26: 1 ي )؟
4- ذبيحة الخطيئة
(راجع في العبرّية "حطا" 4: 1-5؛ 6: 17-23)

تهدَف كذبيحة الاثم التي سنذكرها الى إعادة العلاقات بالله، بعد أن انقطعت بفعل خطيئة الإنسان، ولهذا نميّزها بصعوبة عن ذبيحة الإثم. ولقد تساءل الباحثون: هل نحن أمام ذبيحة واحدة عُرفت باسمَين مُترادفَين في المعنى، أم نحن أمام ذبيحتين مختلفتين أصلاً، امتزجت الواحدةُ بالأخرى، فلم يعد الكهنة يفرّقون بينهما.
في هذه الذبيحة تتنوّع الضحيّة بحسب صفة الخاطىء ووسائله الماديّة. فيها يلعب الدم الدورَ الأهمّ، لأنّه يُرشّ فيغفر الخطايا، أمّا الشحم فيُحرق على المذبح كما في المحرقة، وأمّا اللحم فحصّة الكهنة. هذه الذبيحة لا تمحو الخطايا المتعمّدة، بل خطايا السَهو والنسيان.
5- ذبيحة الإثم
(راجع في العبريّة "اشم " 5: 14-16، 7: 1-6)

هي ذبيحة تكفير تدلّ على أنّ الإنسان مسؤول عن خطيئته، وأنّه يتحمّل تَبِعتها. نحن أمام خطايا السَهو التي فيها يتعدّى الإنسان، لا على الوصيّة المتعلّقة بالقريب، بل على تلك المتعلقةِ بالله. هذه الذبيحة معروفة عند سائر الساميّين، وكانت تقوم بأن يدفع المذنب (في فينيقيا، في الجزيرة العربيّة) غَرامة نقديّة. غير أنّ بني إسرائيل زادوا على هذه الغرامة ذبيحة يقدّمها المؤمنون مقرّين بخطاياهم (5: 5)
6- ملاحظات حول الذبائح

الملاحظة الأولى: في البداية لم تكن ذبيحة الفصح ذبيحةً تقام في الهيكل، بل ذبيحةً يحتفلون بها في إطار عائلي. غير أنّ المشترع سيفرض بعد إصلاح الملك يوشيّا (621 ق. م) أن يُذبح الخروف في الهيكل، ويسيلَ دمه على المذبح.
الملاحظة الثانية: تعني كلمة "قربان" (قربن في العبريّة 25: 12 ، 13) التقدمةَ (أو الحيوان) التي نحملها الى الهيكل ونقرّبها على المذبح. أما في المعنى الحصريّ فالقربانُ هو ما يقدّمه المؤمنون لصيانة الهيكل. من هذا القَبيل يختلف "القربان" عن " الأقداس " (5: 15) التي هي تقدمة تقوم بأَوَد حياةِ موظّفي الهيكل، وعن "قُدْس الاقداس" الذي هو تقدمة مقدّسة كلَّ التقديس (2: 3) ومختصّة بالكهنة دون سواهم.
الملاحظة الثالثة: إنّ ما يُرع من الذبيحة (ترومه في العبريّة. راجع رام في العربيّة) هو حصة الكاهن الذي يحتفل بالذبيحة (7: 14، 32)، وما يحرّك منها (تنوفة في العبريّة، راجع في العربيّة ناف) فهو حصّة الكهنة جميعًا (7: 35-34).
الملاحظة الرابعة: في الزمن اللاحق للجلاء كانوا يقدّمون البخور (راجع "قطرت" في العبريّة، في العربيّة قتر اللحم أو البخور: سطعت رائحته) فترتفع رائحته الى الرب. هناك رأي يقول إنّ البخور دخل الى هيكل أورشليم بتأثير من العبادة البابليّة، ورأي آخر يعتبر أنّ البخور جاء من مصر الى أرض كنعان قبل إقامة بني إسرائيل فيها. ومما يكن من أمر فنحن لا نرى استعمال البخور في شعائر العبادة كما كان يفعل الكهنة (رج 2 اخ 26: 16) قبل رجوع بني إسرائيل من الجلاء.
الملاحظة الخامسة: إذا اطّلعنا على شعائر الديانات، رأينا في الذبائح محاولةً للاتصال بالله بطريقة قويّة وثابتة. ولهذا فدارسو الديانات ينظرون الى الذبائح من وُجُهات ثلاث. الذبيحة هي عطيّة الإنسان لله، الذبيحة هي علّة اتحاد الانسان بالله، الذبيحة تكفّر عن الخطايا وتلتمس الغفران والذبائح. في بني إسرائيل تتضمّن الذبائح هذه الوُجهات الثلاث.
الملاحظة السادسة: إنّ سفر اللاويّين سينظّم كلّ أنواع الذبائح حول فكرة الخطيئة والتكفير والغفران، دون أن ينسى جوّ الفرح الذي يطبع بطابَعه أعيادَ الجماعة. لا شكّ أنّ عظمة الذبيحة في بني إسرائيل بما فيها من تجرّد عن خير نقدّمه للرب، ومن تكفير عن خطيئة أقترفناها. إلاّ أنّ سفر اللاويّين سيطلب من المؤمنين أكثر من عمل خارجيّ. سيطلب منهم رجوعًا الى الرب وعطاء الذات، تعبّر عنه الذبيحة أفضلَ تعبير. وهذا واضح من كلام الرب القائل إنّه ليس بحاجة الى رائحة تُريحه، أو طعام يقتات به. "إن جعت فلا أخبرك، فلي العالم وكلُّ ما فيه. أنا لا آكل لحم الثيران،ً ولا أشرب دمَ التُيوس. فليكن الحمدُ ذبيحتَك لي " (مز 50: 12-14)، لأنّ القلب المتخشعّ المتواضع لا يرذله الله (مز 51: 19)، ولأنّ "الربّ يريد رحمة لا ذبيحة" ويفضّل معرفة الناس لته على تقدمتهم المحرقاتِ له (عد 6: 6).
الملاحظة السابعة: إنّ الذبيحة في العهد القديم أخذت بغنى ذبائح الأمم الوثنيّة، وألّفت منها مجموعة على ضوء معرفة الشعب لله الواحد. وإنّ الذبيحة في العهد الجديد ستأخذ بغِنى ذبائح العهد القديم، لتُدخلها في نِظْرةٍ يكون المسيح محورَها. فذبيحة الإفخارستيّا هي ذبيحة شكر على مثال المحرقة التي نرفعها الى الرب. وهي مشاركة في حياة المسيح عبرَ شكلَي الخبز والخمر، كما في ذبيحة السلامة. وهي ذبيحة تكفير للخطايا، حيث الضحية هي يسوع المسيح ذاتُه. نجد التقدمة عندما نقرّب الخبز والخمر، ونفهم أنّ الذبيحة الدمويّة تمّت مرّةً واحدة، وصارت تعاد ذبيحةً غيرَ دمويّة في القداس، لتجعل جميع الأجيال حاضرين ذبيحة المسيح الوحيدة التي تُشْركهم في آلامه وموته، بانتظار أن تشركهم في قيامته.

ج- الكهنوت في سفر اللاويّين
هناك ثلاثُ صور عن الكهنة في العهد القديم: الصورةُ الأولى صورة كهنوتيّة، تتحدّث عن الكهنة بني لاوي؟ الصورةُ الثانية صورة اشتراعيّة، تتحدّث عن الكهنة اللاويّين، الصورةُ الثالثة نقرأها في سفر حزقيال (44: 15)، وهي تتحدّث عن الكهنة اللاويّين الذين هم أبناء صادوق. والنتيجة: اللاويّون هم كلّهم كهنة، أو اللاويّون المتحدّرون فقط من هارون هم كهنة، أو اللاويّون المتحدّرون فقط من صادوق هم كهنة.
في بداية تاريخ الشعب العبريّ، كان الآباء (إبراهيم، إسحق...) كهنةً في قبائلهم، وكان كلّ ربّ بيت كاهنًا لبيته. فلقد بنى إبرام (تك 8:12؛ 22: 9 راجع عن نوح 8: 20) وإسحق (تك 26: 25) ويعقوب (35: 7) المذابح، وقدّموا عليها ذبائحهم للرب. وإذ نرافق تنقّلات الآباء عبرَ كنعان، نلاحظ أنّهم كانوا يبنون مذبحًا حيث يحلّون، ويسمّونه باسم الرب: بيتَ إيل، فنوئيل...
هذا عند بني إسرائيل، أمّا في الخارج، فملكيصادق هو كاهنُ الله العليّ (تك 14: 18)، ويتْرو حَمو موسى، هو كاهن بني مديان، وقد قدّم لرب شعب إسرائيل محرقاتٍ وذبائح (خر 18: 1، 12). وعلى مثال حَمِيه يفعل موسى في شعبه، فيصعدُ إلى الجبل (خر 19: 24) تاركًا الكهنة والشعب بعيدين عن الربّ. بحسب الكتاب يبدو موسى أعظمَ كاهن في تاريخ الشعب (خر 19: 14؛ مز 99: 6). فعلاقته بالرب علاقةٌ حميمة، وهو يراه وجهًا لوجه. هو الوسيط الوحيد بيت الله وشعبه، يحمل إليهم توصياتِ الله، ويرفع إليه طلباتِ شعبه، وهو الذي يضع نظام الذبائح وكلّ ما يتعلّق بها.
كان الأمر في بني إسرائيل كما كان في باقي الشعوب، حيث الملوكُ هم الكهنة الأوّلون. وكانوا ينتدبون من قِبَلهم من يقوم بهذه المهمّة عنهم. فلقد قدّم الملك داود (2 صم 24: 25) وسليمان (1 مل 3: 15) وآحاز (2 مل 13:16) ذبائحَ للرب، واعتبر أدونيا بنُ داود (1 مل 1: 9) أنّه إن قدّم ذبيحة حُقَّ له العرش. ويَروي الكتاب أنّ بني داود كانوا كهنةً باسم والدهم (2 صم 8: 18)، وأنّ زبود بنَ ناثان النبي وصديقَ الملك، كان كاهنًا (1 مل 4: 1-6).
كان كلّ ربّ بيت كاهنًا لأسرته، وكان يجعل أحد أبنائه كاهنًا بعده. هذا ما فعله داود الملك كما ذكرنا، وميخا الإفرائيميّ ( قض 17: 15). ولكنّ الناس أخذوا يفضّلون أن يكون الكاهن من بني لاوي. وهذا ما فعله ميخا عندما قال للاوي: "كن عندي أبًا وكاهنًا" (قض 10:17).
إنّ العلاقة بين الكهنوت وقبيلة لاوي أمرٌ متشعّب، وما زال موضوعَ جدال. ففي وقت من الأوقات لم يكن شيء يميّز قبيلةَ لاوي عن سائر القبائل (تك 34: 30؛ 49: 5)، ولكن عندما نقرأ سفر التثنية (8:33- 11) نفهم أنّها صارت فئةً كهنوتيّة، وإن ظلّ اسمُها يذكر مع سائر القبائل. هل اهتمّ اللاويّون بالمعبد وآنيته، لأنّ موسى كان من بني لاوي ، فارتبطوا بالعمل الكهنوتيّ؟
كانت أسرة عالي أسرةً كهنوتيّة خدمت في مصر، قبل أن تخدم تابوت العهد في شِيلو (1 صم 27:2-36)، لكنّ النكبة ستَحلّ بها يوم سقط حفني وفنحاس، ابنا عالي (1 صم 4: 10 ي)، واخذ تابوت الله. وكان بيت أَحيطوب كهنةً في نوب، فأمر شاول بقتلهم. لم يشأ عبيده أن يمدّوا إليهم يدًا، فقتلهم دُوئج الأدوميّ، ولم ينجُ منهم إلاّ أبياتارُ الذي كان كاهنًا في زمن داود (1 صم 22: 11-23). يبدو أنّ كهنة نُوب هؤلاءِ تركوا شيلو التي دمّرها الفلسطيون بعد معركة أفيق (1 صم 4: 1 ي ). ولهذا ربطهم الشُرّاح بسلالة عالي.
أقام داود لنفسه كاهنين، هما أبياتارُ الذي ذكرناه، ثم صادوقُ الذي كان كاهنًا في يبوس (اي أورشليم)، وبقي كاهنًا بعد أنِ احتلّ داود مدينة اليبّوسيّين. ولمّا تمّ الانقلاب الذي صار سليمان بموجبه ملكًا، رُفع صادوقُ الذي ناصره، وأُرسل أبياتار الى المنفى، إلى عناتوت (أيكون إرميا من نسل أبياتار؟ رج ار 1: 1)، لأنّه ناصر أدونيّا. وهكذا سيصبح كل كهنة أورشليم من نسل صادوق، منذ عهد سليمان الى الجلاء.
أمّا بعد الجلاء، فيذكر تقليد كهنوتيّ دوّن في سفر العدد (13:25) أنّ الله أقام عهدًا كهنوتيًّا دائمًا مع فنحاسَ بنِ ألعازارَ بنِ هارون الكاهن. وألعازار هذا كان بكرَ ابنَي هارونَ اللذين بقيا له، بعد أن قُتل بِكراه أبيهو وناداب، ومنه تحدّر الصادوقيّون، كما يقول سفر أخبار الأيّام الأولى (24: 3). ورغم أنّ التقليد الكهنوتيّ يسمّي الكهنةَ أبناءَ هارون، فسفر الأخبار يَعزُو إلى داود أنّه جعل ثلثَي الكهنة من نسل صادوقَ بنِ ألعازار، والثلثَ الباقيَ من نسل إيتامار أصغرِ أبناء هارون (1 أخ 24: 4). بالإضافة الى ذلك، ستكون رئاسة الكهنة لأبناء صادوق الى زمن أونيا الثالث (175 ق. م).
قبل إصلاح يوشيّا كانت الحالة كما يلي: كان اللاويّون كهنة في الجنوب ، وكان في الشمال كهنةٌ غيرُ لاويّين. فكان أبناء جرشوم في دان (قض 18: 30) وأبناءُ هارون في بيتَ إيل (راجع خبر العجل الذهبي وعلاقة هارون به؛ خر 32: 1ي، 1 مل 12: 28-29). وعندما قام يوشيّا بإصلاحه الشهير جاء إلى أورشليم بالكهنة اللاويّين المقيمين في الجنوب، وهذا ما جعل سفر التثنية يقول بالمعادلة بين الكهنة واللاويّين. ولكن كيف يمكن أن يُجعل اللاويّون على قدَم المساواة مع الكهنة أبناءِ صادوق، وهم المسؤولون عن كل عبادة وثنيّة خارج أورشليم (حز 44: 4-12)؟ لهذا سلّمت إليهم وإلى الكهنة الآتين من المناطق الأعمالُ الوضيعة في الهيكل، كقطع الحطب وجلب النار.. تلك هي مكانة بني لاوي، كما ترشّح من سفر اللاويّين (8: 1 ي ) وسفر العدد (18: 2-7) وسفر الأخبار: تنظيمُ الخدمة المقدّسة في الهيكل. أمّا الكهنة فسيلعبون دورًا مهمًّا في حياة الشعب، فيصبح رئيسهم الرئيسَ الفعليّ للبلاد، فيرتدي الملابس الملَكيّة (8: 9) ويُمسح كالملك بالزيت المقدّس (8: 12)، بانتظار أن يتّخذ لقبَ الملك (2 مك 1: 10)، كما فعل أرسطو بولس في نهاية القرن الثاني ق. م.

د- كيف نفهم سفر اللاويّين؟
1- الغرض من كتابة سفر اللاويّين

الغرضُ من كتابة سفر اللاويّين قضيّة معقّدة، أمّا السبب الذي لأجله كتب، فلا يصعب التعرّف إليه. فإن كانت الشرائع الموجودة فيه قد وضعت في إطار إخباريّ تاريخيّ، فحسبناها من الماضي السحيق، فإنّ الكهنة، عندما جمعوا تشريعهم لم يتطلّعوا إلى الماضي فحسب، بل الى الحاضر والمستقبل أيضا. لقد رأى الناس دمار مملكة السامرة ومملكةِ أورشليم، فهل جاءت نهاية شعب إسرائيل وإلهِ إسرائيل (2 مل 18: 33-35)؟
حاولت المدرسة الكهنوتيّة بطرق متعدّدة أن تواجه الصَدمة التي حلّت بالشعب، بعد هذه النكبة الوطنيّة التي تركت المدينة تدمّر والهيكلَ يحترق. فبدأت أوّلاً بالحفاظ على الشرائع التي هي أساس حياة الشعب، فدوّنتها وثبّتتها. كان هناك كثير من التقاليد تتناقله الشفاه، فجمعها الكهنة حِفْظًا لها من الضياع والنسيان. ونظّموا وظيفة جديدة هي وظيفةُ حافظ الشريعة: يذكرها في الحلَقات الخاصّة، وينقلها الى الأجيال الآتية وهذه الشريعة ليست كلمةً خارجيّة يردّدها المؤمن، كما يردّد أيّة قصّة عرفها، إنّها وصيّة خاصّة من عند الله وجّهها بنفسه الى شعبه في عهد موسى. يومَ أعطيت هذه الشريعة كان الشعبُ قريبًا من ربّه، وكان يسمع له، وزمنُ الحياة في البريّة هو الزمن المثاليّ في حياة بني إسرائيل مع ربّهم.
وسعى الكهنة ثانيًا الى فهم أسباب المأساة التي حصلت للشعب فاقتفَوا آثار الكتَّاب الاشتراعيّين، وأخذوا بتعليم الأنبياء الكبار الذين عاشوا بعد الجلاء، فجمعوه ودوّنوه وتأمّلوا فيه، فجاء كما يلي: لا لم يكن الله ذلك الكائنَ الضعيف الذي لم يقدر أن يخلّص شعبه، بل هو القويّ الذي أرسل النكبةَ على شعبه وسمح للغُزاة الفاتحين أن يفعلوا ما فعلوا، وهدفُه بذلك أن يعاقب بني إسرائيل على عصيانهم الدائم لوصايا العهد الذي قطعوه مع ربّهم. وعندما يعود تقليد الكهنة إلى شرائع الله ووصاياه، فهم يريدون أن يبيّنوا للشعب تقاعسَهم التامّ عن العمل بما أمرهم الله به.
ولكن، إذا كانت الشريعة تَدين الشعب في ماضيه، فهي تمثّل لحاضره ومستقبله تحذيرًا وتنبيهًا. وهنا نكتشف الهدف الثالث الذي دفع الكهنة الى تدوين سفر اللاويّين: يمكن الشعبَ أن يعمل اليوم بوصايا الربّ، فتكونَ أساسًا لبناء الجماعة الجديدة. إن حافظَ الشعبُ على عهد الرب بأمانة، فسوف تتغيّر حالته عمّا كانت عليه من قبل. وهكذا أخذ الكهنة يحرّضون الشعب على حفظ الشريعة، إذا أرادَ أن يعودَ الى الحياة (راجع قانون القداسة)، وسعوا إلى إفهامه أنّ ممارسة الشريعة أمر ممكن. ولهذا أعادوا تفسير النُظم القديمة التي لم يعد الشعب يفهمها، وتوسّعوا فيها آخذين بعين الاعتبار كل التغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
2- قيمة الكتاب اللاهوتيّة

إنّ ما يَلفِت النظر هو أنّ سفر اللاويّين، وما كتبه الكهنة إجمالاً، يَحسب إيمان إسرائيل بالعهد وكأنّه أمر لا يقبل الجدَل. نسوق هذا القول ضدّ الذين يريدون أن يفصلوا فصلاً قاطعًا بين نِظرة الكهنة ونظرة الأنبياء إلى العهد، وكأنّ ديانة الكهنة غيرُ ديانة الأنبياء. غير أنّ الأمثلة عديدة على التشابه الجوهريّ في طريقة الكهنة والأنبياء، لفهم علاقة الشعب بربّه. إنّ الكهنة بعدَ الجلاء هم الذين ورثوا تعليم الأنبياء الكبار، ونقلوه الى الأجيال اللاحقة. وهكذا نكون أمام تعبير مشترك لاختيار الله لشعبه، وما يتبع هذا الاختيارَ من فرائضَ وواجبات. أمّا الفروقات فلا تصل الى جوهر الإيمان.
يشدّد سفر اللاويّين أولاً على حفظ وصايا الشريعة، والعمل بها، لتتوطّد علاقة الشعب بربّه. لا شكّ في أنّ الأنبياء طلبوا ديانة تتعدّى ممارسة الشريعة الخارجيّة، فتصل الى تبديل قلب الانسان. لا شكّ في أنّ القدّيس بولس يعتبر الشريعة مُلْغاة، والإيمان بيسوع المسيح علّةَ الخلاص، ولكنّ هناك فكرتين لا بدَّ من الانتباه إليها. الاولى: هناك نِظرة دينيّة إلى العالم الواسع الذي يعيش فيه بنو إسرائيل، والذي فيه يتصرّف الآلهة بطريقة كيفيّة وتعسّفيّة. أما الشريعة فهي تبيّن للإنسان ما يريد الربّ منه بصورة أكيدة وواضحة. في هذا المجال قال إبراهيم للرب: "أديّانُ الأرض لا يَدين بالعدل " (تك 18: 25)؟ الثانية: كلّ السُنَن والوصايا الفرديّة تَنبع من عهد الله مع شعبه، وهي هديّة الله لشعبه. فالخلاص الذي تمّ لبني إسرائيل هو نعمةٌ من لَدُن الرب، والشريعةُ التي أعطاها لشعبه هي أيضًا نعمةٌ من عنده. وكما أنّ الله أمينٌ للعهد، فهو يطلب من شعبه أن يكون بدوره أمينًا للعهد.
ويشدّد سفر اللاويّين ثانيًا على أنّ الشريعة أمر خاصٌ بإسرائيل، وهي تفصله قَطْعًا عن الشعوب الذين لا يشاركونه في العهد. يمكننا أن نحكم من الخارج على هذا الموقف المنغلق، ويمكننا أيضا أن ننظر إلى عمل الكهنة الذين نجحوا في الحِفاظ على بني إسرائيل كجماعة دينيّة. رغم أنّهم خسِروا استقلالهم وأضاعوا وطنهم، استطاعوا أن يحافظوا على الوحي بالإله الواحد الحقيقيّ كأساس لحياة الجماعة الجديدة. وهذا الوحي يمكن أن يشارك فيه سائرُ الشعوب الذين ستجتذبهم حياة المؤمنين، وتهيّئهم لقبول رسالة المسيح.
ويشدّد سفر اللاويّين ثالثًا على الطقوس والذبائح كما عرفتها كلّ ديانات العالم القديم. ولكنّ الكهنة سوف يجعلون مضمونًا جديدًا لهذه الطقوس القديمة التي أخذوها من محيطهم دون أن يناقشوها. فالفكرةُ القديمة للذبيحة كهديّة للإله، ستصبح عند الكهنة اعترافًا بأنّ كلّ ما للإنسان هو هديّة من الله. وكذا نقول عن يوم السبت أو السنة السبتيّة: هي سيادة الربّ على الحياة والزمان، وارتباط الانسان بالله. وهناك حقيقة في عالم الطاهر والنجس (ف 11-15) تقول إنّ سلطة الإنسان على الكون محدودة، وإنّ عليه أن يعيش في عالم يتوجّه بحسب أمر الله وقيادته. ما طهّره الله لا ينجّسه الإنسان (أع 15:10).
ويشدّد سفر اللاويّين رابعًا على الذبائح التي تكفّر عن الخطايا. إنّ الخطيئة تقطع علاقتنا بالله، والذبيحةَ تعيد علاقتنا به. الخطيئةُ تضع البلبلة في النظام الخاصّ بالأشياء، والفوضى في جماعة يدبّرها اللهُ بحسب وصاياه وشرائعه. فإذا عمل الإنسان عملاً يخالف وصيّة من وصايا الله، فهو يتحمّل تَبعة خطيئته، سَواءٌ أتعمّدَ ما فعل أم لم يتعمّد. بالإضافة الى ذلك فللخطيئة نتائج بعيدة لأنّها تهدم كمال القداسة التي يطلبها الله من شعبه. من هنا نفهم وجود الذبائح المتعدّدة التي هي وسيلة يلغي بها الرب كل نتائج الخطيئة، ويعيد الخاطىء إلى ملء الاتّحاد به وبالجماعة التي ينتمي إليها.
ويشدّد سفر اللاويّين خامسًا على قداسة الله الذي لا يقترب منه إلاّ الإنسانُ الطاهر بحسب الشريعة. القداسة تدلّ أساسًا على سرّ الله الذي لا يُسبر غَورُه، على الإله المميَّز إطلاقًا عن كل ما في الكون. فلا شيء يقابله، ولا شخص يدركه، ولا لسان يعبّر عنه، ولا بشرَ يصل إليه. عندما نقول إنّ الله قدوسٌ فنحن نؤكّد أنّه يختلف جَذْريًّا عن كلّ ما يستطيع الإنسان أن يعرفه أو يتصوّره. غيرَ أنّ هذا الربّ القدّوس سيسمح للإنسان بأن يقترب منه (23: 1 ي ). هذا الربّ الذي لا يُدرَك، سيكشف عن نفسه ويوصل إلينا إرادتَه (19: 1 ي ). هو يُشعّ قداسةً، كما تُشعّ الشمس نورَها، ليُشرك فيها جميع المؤمنين. "كونوا قديّسين لأنّي أنا قدّوس" (19: 2). وعندما اختار شعبَ إسرائيل، أراده مختلفًا عن سائر الشعوب ففرزَه ليربطه بالإله القدّوس، وفرض عليه متطلّبات أخلاقيّة تقوده، لكي يتقدّس دومًا ولكي يبيّن، على عيون الأمم قداسةَ الله الذي يعبده.
3- موقع سفر اللاويين في الكتاب المقدّس

إنّ سفر اللاويّين هو وليد عقليّة طغَت على القرون الأربعة السابقة لزمن المسيح. وكما أنّ سفر التثنية أَلْهم الكُتّاب فدوّنوا أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك، كذلك طَبع سفرُ اللاويين بطابَعه أسفارَ الأخبار ونحَمْيا وعَزْرا، وترك بصماتِه في مزاميرَ عديدة تجعل الهيكل وطقوسه مركزَ لقاء اليهود المشتّتين في كل جهة. إنّ ذبائح الهيكل وأعياده ما زالت تمثّل الكثير للمؤمنين العائشين في القرن الثاني ق. م (1 مك 57:2؛ 4: 36 ي)، وهو أمر يتوسعّ فيه سفر اللاويّين. وبعد أن أُحرق الهيكل على يد تيطس الرومانيّ (70 ب. م) وزالت شعائر العبادة، بقي سفرُ اللاويين محافظًا على مكانته، فكان المعلّمون اليهود يبدأون تعليم الأولاد للدين بتفسيرٍ لهذا السفر، فيدخلونهم في جوّ قداسة الله.
لقد بدا سفر اللاويّين كقلعة التقليد اليهوديّ الحصين؛ ولهذا تخوّفت منه الكنيسة المسيحيّة الأولى، ورفض القديس بولس في رسالته الى أهل غلاطية أن يمرّ كل إنسان في الشريعة اليهوديّة قبل أن يحصل على نعمة الخلاص. الشريعة الحقّة ليست ممارسةَ طقوس بل ممارسةُ المحبّة (غل 5: 14). أمّا رسالة برنابا التي كُتبت في القرن الثاني ب. مٍ ، فقد أفرغت سفر اللاويّين من مُحتواه التاريخيّ، فاكتشفت في نصوصه معانيَ رمزيّة توصلنا الى المسيح. وعلى خُطى هذه الرسالة سار إقليمس وأوريجنس وكيرلوس الإسكندريّ في تفسيرهم بحثًا عن الرموز لاستخلاص المعنى الروحيّ.
ظهر سفر اللاويّين متأخّرًا في حياة بني إسرائيل، وجاء عَرْضاً لتقْنِيّة الذبائح في العهد القديم، فلم يهتمَّ العهدُ الجديد بإيراد الكثير من نصوصه، أللهمَّ ما وجده من سُنَن أخلاقيّة في قانون القداسة. غيرَ أنّ تأثير سفر اللاويّين على العهد الجديد لا يُحسَب بعدد الآيات الواردة فيه، بل بالتأثير المهمّ الذي تركه، وإنْ بطريقة غير مباشرة في الطقوس المسيحيّة عبرَ الطقوس اليهوديّة. بالإضافة الى ذلك يبدو هذا السفر خلفيّةً لا بدّ منها لنفهم كهنوت المسيح وذبيحته، كما فسّرهما صاحب الرسالة الى العبرانيّين.
نحن اليومَ نتخوّف من قراءة العهد القديم بمُجمله، ونتورّع أكثرَ من قراءة كتاب صعب ومُملّ، لا يحدّثنا إلاّ عن ممارسات أبطلها العهدُ الجديد وألغاها. ولكنّنا نلاحظ عودةً الى سفر اللاويّين، بسبب ما يمثّله من غنًى يساعدنا على دراسة تاريخ الديانات وتطوّر العبادات ومفهوم الذبائح. ونقول أيضًا: إنّ شعب إسرائيل أخذ طقوسه الدينيّة من المحيط الذي عاش فيه، بعد أن طبعها بإيمانه بالله الواحد. لقد جعل شعائرَ العبادة تعبّر عن مصالحة الشعب مع الله، وعن ارتباط شعب مقدّس بإله قدّوس جاهرَ باسمه الانبياءُ وكلُّ الذين سهِروا على نقاوة الإيمان. إنّ الأعياد والشعائر تتنوّع بتنوّع الأزمنة والأمكنة، غيرَ أنّ وراء هذه الممارسات الخارجيّة تبقى هذه الرغبةُ في المجاهرة بإيماننا، في عيد نعيشه كجماعة، فنعبّر عنه بأفواهنا وأيدينا وكلّ جسمنا. وما فعله اليهود في سفر اللاويّين، علينا نحن المؤمنين اليومَ أن نفعل مثله، فنعبّر عن إيماننا بما أعطي لنا من وسائلَ في الظروف التي نعيش فيها. فالتعبير الخارجيّ يدلّ على ما في الداخل، وفعلُ العبادة الظاهر يدعونا الى القداسة على مثال الله القدّوس.
بعد هذه المقدّمة الطويلة عن سفر اللاويّين، نبدأ بتفسير آياته واستخلاص المعاني الكتابيّة التي نقرأها فيه، متوخّين من عرضنا هذا الوصولَ الى العهد الجديد الذي يجد فيه العهدُ القديم كماله، والولوجَ في سرّ المسيح الذي يدلّ عليه ما نقرأه في التوراة. فإن كان الفلاسفة تكلّموا عنه دون أن يعرفوه، والشعراءُ تحدّثوا عنه ولم يعرفوه، فهل نَعجب بعدُ أن تكون التوراة كلُّها وسفرُ اللاويّين منها، تهيئةً وإعدادًا لمجيء المخلص الذي جاء يحقّق لجميع البشر، لا لليهود وحدَهم، ما وعدت به هذه الكلمات؟ بدم المسيح وحدَه تكون لنا المصالحة وغفران الخطايا، وبدمه وحدَه يَحِقّ لنا الدخولُ الى قدس الأقداس، إلى عرش الله

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM