الفَصل الثَاني عَشَر: تَنْفيذُ أشغَالِ المَسكِن

الفَصل الثَاني عَشَر
تَنْفيذُ أشغَالِ المَسكِن
35 : 1 – 40 : 38

أ- مقدّمة
نقرأ في الفصول ( 35-40) ما سبق وقرأناه في الفصول (25- 31) عن بناء المسكِن وصُنع أواني العبادة وملابس الكهنة، وعن تنظيم الكهنة. في (25- 31) أمر الرب موسى؟ وفي (35-40) نفّذ موسى ما أمره الرب به.
لن نتوقّف على هذه التفاصيل، بل نكتفي بسرد المواضيع الرئيسيّة.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- قوانين السبت (35: 1-3)

السبت مقدّس وكلُّ من عمِل فيه يقتل. (رج 12:31-18). لقد أصبحت شريعة السبت أُولى الشرائع عند بني إسرائيل، في عهد الفرس واليونان...
2- التقدمات لخيمة الاجتماع (35: 4-29)

حمل المؤمنون تَقدماتِهم لبناء المسكِن وصنع أوانيه (رج 25: 1-9). عمَل الله هو عمل الشعب، وعلى الشعب أن يشارك بفرح، لأنّ الرب يحبّ المعطيَ الفرحان. ولقد شاركت النساء في العمل، فأعطَين أثمنَ ما عندَهنّ، المرآةَ والأساورَ والحلَقَ والخواتم، وعمِلن بأيديهنّ في الغزْل وغيرِه.
3- الصانعان الماهران (35: 30- 35)

إختار موسى صانعَين بصلئيل من سبط يهوذا، وآهليآب من سبط داني (رج 31: 1- 11) ملأَهما الله حكمةً وفهمًا ومعرفة ، وآلهمهما التعليم (أي معرفة التوراة). العمل الماديّ لا يكفي تمجيد الربّ.
4- تقدمات كثيرة (36: 1-7)

لقد كانت التقدمات كثيرةً، وسخاءُ الشعب فوق المعقول، فأمرهم موسى بإيقاف التبرّع، لأن ما تبرّعوا به أكثرُ من كافٍ لإتمام العمل.
5- المسكِنُ أو خيمة الاجتماع (36: 8-38)

فصنع جميعُ المهَرة مسكنَ الربّ (رج 26: 1-37).
6- داخل المَسكن (37: 1-28)

(آ 1-9) تابوت العهد الذي صنعه بصلئيل من خشب السّنط (رج 25: 10-22).

(آ 10-16) المائدة التي توضع عليها التقدمات (رج 23:25-30).
(آ 17-24) المِسْرَجةُ التي تُضاء من المساء إلى الصباح (رج 25: 31-40)، أوالتي تضاء دائمًا فلا تنطفىء (20:26- 21)
(آ 25-28) مذبح البخور (رج 30: 1-10)
(آ 29 ) الزيت المقدّس والعطور (30: 22-38)

7- خارج المَسكن (38: 1- 20)

(آ 1-7) مذبح المُحرقات لحرق البخور.
(آ 8) مِغسلة النحاس.
(آ 9- 20) الرِواق.
8- المعادن المستعملة للمسكن (38: 21- 31)

كانت الكميّة كبيرة، ولهذا كان ما عمله بصلئيلُ وأهليآب جميلاً جدًا.
9- ملابس الكهنة (39: 1- 31)

(آ 1) المقدّمة (28: 1- 5)
(آ 2-7) الأَفود (28: 6- 14)
(آ8- 21) صورة القضاء. لا يعود يذكر الأوريم والتوميم كما في (28: 15- 30).
(آ 22-26) الجّبة (28: 31-35)
(آ 23- 31) التاج، الكتّونة (28: 36-43)
10- إكتمال العمل (39: 32-43)

فكَمُل العملُ كلّه... وبذلك صنع بنو إسرائيل جميعَ ما أمر الرب به موسى. لقد أطاع الشعب الله طاعةً حرفيّة دقيقة. قال لهم أن يصنعوا "على المثال " فصنعوا كما أمرهم الربّ. أجل لا مكانَ للمبادرة الإنسانيّة في عملٍ هو عملُ الله وحدَه.
11- تدشينُ خيمة الاجتماع وتكريس الكهنة (40: 1-38)

بعد أن انتهى بنو إسرائيل من العمل، وقبل به موسى، وافق عليه الربّ، فنزل مجدُه في السحاب وملأ خيمة الاجتماع.
يحوي هذا الفصل ثلاثة مقاطعَ. في المقطع الأوّل (آ 1-15) يمسح موسى بالزيت المقـدّس المسكِنَ وأوانيَه، والكهنة الخادمين فيه، فيدخلون في جوّ القداسة مع ما يفرضه عليهم ذلك من فرائضَ وواجبات. في المقطع الثاني (آ 16-33) ينصب موسى الخيمةَ، ويجعل فيها الأوانيَ المقدّسة. والمقطع الثالث (آ 34-38) يختتم سفر الخروج بذكر مجد الرب في خيمة الاجتماع. وحضور الرب هذا هو علامةُ موافقته على ما فعل بنو إسرائيل، ودلالةٌ على أنّه سيقودهم عبر البرية الى أرض الموعد. وارتحل الشعب من سيناء.

ج- ملاحظات أدبيّة ولاهوتيّة.

1- ملاحظات أدبية

الملاحظة الأولى: نجد اختلافًا بين تصميم المجموعة الأولى (ف 25- 31) وتصميم المجموعة الثانية (ف 35-40) وهذا أوضح من ذاك. فتصميم المجموعة الثانية يذكر التقدماتِ المجموعة، ثم بناءَ المسكن وما فيه من الداخل وما في خارجه، فيصل أخيرًا الى ملابس الكهنة. أمّا تصميم المجموعة الأولى فيتحدّث عن تابوت العهد والمائدة والمِسرَجة، قبل أن يذكر المسكن، ويتحدّث عن ملابس الكهنة وتكريمهم قبل أن يذكر مذبح البخور. ويتحدّث في النهاية عن الصُنّاع الماهرين، وكان من المفروض أن يذكرهم في بداية الحديث.

الملاحظة الثانية: هناك اختلاف بين النصّ العبرانيّ الماسّوري والنصّ اليونانيّ السبعينيّ في الفصول 35-40. فالنص اليونانيّ يوجز بعض النصوص، ويحذف بعضَها، فيكون لنا 182 آية في النصّ اليوناني، بينما يحتوي النصّ العبريّ 214 آية، وما يلفت النظر هو أنّ النصّ السبعينيّ لا يأتي على ذكر مذبح البخور.
ولنقابل بين النصّ الماسّوري والسبعينيّ منطلقين من هذا الأخير.
السبعيني الماسّوري
ملابس الكهنة 36 : 8 – 38 39 : 1 – 31
نسيج المسكن 37 : 1 – 2 36 : 8 – 9
الغِشاء 37 : 3 – 6 36 : 35 – 38
الرِواق 37 : 7 – 21 38 : 9 – 23
التابوت والمائدة والمِسرجة 38 : 1 – 17 37 : 1 - 24
المذبح والزيت والمِغسلة 38 : 22 – 27 38 : 1 – 7 ،
27 : 29 ، 38 : 8 ،
30 – 32
كميّة المعادن المستعملة 39 : 1 – 9 38 : 24 – 31
ملابس هارون 39 : 11 – 12 39 : 1
إكتمال العمل 39 : 13 - 23 39 : 33 - 43

إنّ نص السُريانيّة البسيطة يتوافق والنصَّ الماسّوري، وكذلك النصّ اللاتيني. ولقد أخذت الترجمات العربيّة بالنصّ الماسّوري. ولكن يبقى السؤال: كيف نفسّر هذا التباينَ بين النصّ العبريّ والنص اليونانيّ بحسب الترجمة السبعينيّة؟ والجواب: كان في متناوَل الكهنة نسخاتٌ عديدة لهذه الفصول (35-40)، فأخذ النصّ الماسّوري بنسخة، والنصّ السبعينيّ بنسخة أخرى.
الملاحظة الثالثة: نظرة الكاتب اللاهوتيّة. الموضوع العامّ الذي نستخلصه هو أنّ كلّ ما صُنع إنّما صنع بحسب أوامر الربّ لموسى. وإذا كان الكاتب يردّد في الفصول (35-40) ما سبق وقاله في الفصول (25- 31) فلكي يدلّ على أنّ كل ما عمل، إنّما عمل بدقة وأمانة بحسب إرادة الله. أمّا المبادرات الفرديّة فلا دورَ لها في هذا المكان. تقول المجموعة الأولى تعملون... تعملون. وتردد المجموعة الثانية: وعمِلوا... وعملوا، كما أمر الرب موسى.
هذا كلّه عمَل الله، وهو أيضًا عمل الانسان الذي يشارك الله في هذا العمل السامي، وتكون هذه المشاركة بالسخاء في العطاء. الرجال تبرّعوا بالخشب والذهب، والنساء تبرّعن بالحُليّ والمَرايا، وهكذا شارك جميع أفراد شعب الله في إعطاء أفضل ما عندَهم، ليكون فعلُ العبادة لائقًا بالله جلَّ جلالهُ.
2- المعاني الكتابيّة

قبل أن ننهي سفر الخروج، نودّ أن نلمّح إلى بعض المعاني الكتابيّة.
أولاً: مجد الله
إنّ عبارة "مجد الله " تدلّ على الله بذاته، كما يكشف عن ذاته في عظمته وقدرته وبهاء قداسته وزَخم كيانه. إنّ عبارة "مجد الله " تدل على تجلّي الله.
يكشف الله عن مجده بتدخّله العجيب وبمعجزاته (عد 14: 22). ظهر مجده في معجزة عبور البحر الأحمر (14: 18)، أو في معجزة المنّ والسلوى فرأى الشعب مجدَ الله (7:16) الآتي الى خلاص أخصّائه. حينذاك يصبح المجد مرادفًا للخلاص (اش 35: 1-4). يتمجّد الرب عندما يخلّص شعبَه وينهضه من الذلّ، عندما يجعل مجدَه وقدرته في خدمة أمانته ورحمته؛ عندما يعيد الربّ بناء صهيون، يتجلّى في مجده (مز 102: 17). مجد الله يتجلّى في عمل الخلاص، وهو يتجلّى أيضًا في عمل الخَلق. يقول سفر العدد: مجد الرب يملأ الأرض كلّها. والعاصفة هي ما يعبّر أفضل تعبير عن تجلّي الله في قوى الطبيعة. "صوت الرب على المياه، إلهُ المجد أرعد، الربّ يعلو المياه الكثيرة، صوت الرب عظيم القوّة، صوت الرب يكسرّ الأرز، يكسّر الرب أرزَ لبنان " (مز 29: 3- 5) ويصوّره المزمور 97: 1-6: " السحاب والضباب حولَه... النار تنطلق أمامَه وتلتهم حولَه خصومه. بروقُه تضيء الكون، وتراهاْ الأرض فترتعد".
ويكشف الله عن مجده في إشعاع كيانه. صلّى موسى: "أرِني مجدك ". فبدا هذا المجد بشكل نار تحيط بالجبل (24: 15 ي؛ تث 5: 22 ي). وإذ اقترب موسى من هذا المجد المتجلّي في السحاب، صار وجهه مشعًّا من مخاطبة الربّ له (29:24) "حتى إنّ بني إسرائيل لم يستطيعوا أن ينظروا الى وجه موسى " (2 كور 3: 7). حلَّ مجد الله على جبل سيناء، وحبه في المعبد، وهو سيحِلّ في هيكل أورشليم بالأخصّ يومَ تدشينه: ملأ السحابُ بيتَ الرب، فلم يستطع الكهنة أن يقوموا بالخدمة بسبب السحاب، لأنّ مجد الرب ملأ بيتَ الرب (1 مل 8: 10- 11).

ثانيًا: السحاب أو الغمام
إنّ السحاب كالليل أو كالظلال يدلّ على الله القريب من الإنسان، كما يدلّ على الله الذي يغطّي وجهَه قبل أن يعاقب الإنسان. السحاب رمزٌ يدلّ على حضور الله، يكشفه عنه ويُخفيه في آن واحد.
لدى قراءتنا سفر الخروج، لاحظنا أنّ عمودًا كان يهدي الشعبَ في مسيرته. "وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود من سحاب، ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود من النار ليضيء لهم " (13: 21) 0 الرب حاضر كلّ آن في شعبه، ليتابع مسيرته، وهو يحميه من أعدائه. حينئذ يتبدّل وجه العمود الذي يرافق بني إسرائيل فيكونُ "مظلمًا من جهة، ومنيرًا من أخرى" (14: 20)، يكون نارًا من جهة، فتحرق الخاطىء، وسحابًا من جهة لتعزّي البارّ.
والسحاب يرتبط بمجد الله ويدلّ عليه. تكلّم الرب على جبل سيناء، فغطّى السحابُ الجبل مدة ستّة أيام، ونزل الله بشكل نار (19: 16 ي). وسيكون السحاب ستارًا يحجب مجد الله عن أعين نجِسة، ولكنّه يساعد الإنسان أن يصل الى الله دون أن يدركه وجهًا لوجه (33: 20). من خلال السحاب الذي على الجبل نادى الربّ موسى (24: 14-18). وإذا كان السحاب يستر مجد الله، فهو في الوقت ذاته يكشف عنه. يقول الكتاب: "إلتفَتوا نحو البرّية، فرأوا مجد الرب في السحاب " (16: 10)، هذا السحابَ الذي كان يقف على باب الخيمة (33: 10) والذي كان يدلّ على تحرّكات شعب الله. إذا ارتفع السحابُ عن المسكِن ارتحل بنو إسرائيل. وإن ظَلَّ السحاب على المسكِن لم يتحرك بنو إسرائيل (41: 34-38). من هذا السحاب سيمتلئ هيكل الرب يومَ يدشّنه سليمان، هذا السحابُ سيرافق الذاهبين الى المنفى (حز 10: 3 ي). بانتظار أن يعود الى هيكل الرب يومَ يتِمّ بناؤه من جديد: حينئذ يبدو مجد الرب والسحاب، كما ظهر في أيام موسى (2 مك 8:2).

ثالثًا: العبادة
العبادة في كلّ الديانات، هي ما يربط بين الإله والإنسان. وفي الكتاب المقدّس يأخذ الله المبادرة، فيكشف عن ذاته للإنسان، فيجيب الإنسانُ الله في فعل عبادة. وفعلُ العبادة هذا يلبّي حاجةً في قلب الإنسان الى خالقه، ويعبّر عن واجب ورسالة دعي إليهما الشعب عندما دعاه الله.
لقد تطورت العبادة على مرّ العصور، وظهرت عناصر مشتركة بين العبادات المختلفة. فهناك الأمكنة المقدّسة والأشياء المقدّسة والأشخاص المكرّسون (معبد، تابوت العهد، مذبح، كاهن)، وهناك أزمنة مقدّسة (الأعياد، السبت) وهناك أعمال عبادة (تطهير، تكريس، ختانة، ذبيحة، صلاة) وهناك ممارسات كالصوم والامتناع عن المحرَّمات...
عبَد الآباء الله فبنَوا له مذابح، وقدّموا له تقدمات. ولما جعل العهد من بني إسرائيل شعبَ الله، تنظّمت عبادتهم وخضعت لشرائع محدَّدة، هي تلك التي نقرأها في أسفار موسى الخمسة.
أمّا مِحور هذه العبادة فتابوت العهد، رمزُ حضور الله وسْطَ شعبه. هذا التابوت كان يتنقّل مع القبائل، ثم ثبت في معبد شيلو (يش 18: 1) أو غيره، قبل أن يثبت نهائيًّا في أورشليم (2 صم 6: 1ي) وفي الهيكل ذاته (1 مل 6: 1ي) الذي يصبح بعد الإصلاح الاشتراعيّ المركزَ الوحيد لأفعال العبادة وتقدمة الذبائح.
لقد أخذ شعب الله طرق عبادته من المحيط الذي عاش فيه. أخذ بعوائد البدو، لمّا كان يعيش حياة البداوة، وأخذ بعوائد بني كنعان، لمّا أقام في وسْطهم. غير أنّه كان يطبع الطقوس التي يتبنّاها بطابَعه الخاصّ، فيغطيها معنًى جديدًا مرتبطًا بتاريخ الخلاص والعهد. وهكذا صارت العبادة تذكيرًا بأحداث الماضي واحتفالاً بما فعله الله ويفعله وسْطَ شعبه. هو الإله القدير الذي ينعش الإيمان في قلوب المؤمنين، ويُغْنيهم بالرجاء الذي يجعلهم ينتظرون يوم خلاص الرب النهائيّ، حين تتّحد الأمم والشعوب لتؤدّي العبادة اللازمة للإله الحقّ.
ذاك كان هدفُ الله، عندما بدأ شعبه مَلْحمةَ الخلاص، مَلْحمةَ الخروج من أرض مصري وعبور البحر الأحمر، والحياةِ في البريّة، فأتى بهم إلى جبل سيناء ليعبدوه هناك بالروح والحقّ، ويتركوا حياة العبوديّة لملوك العالم، ويأخذوا بحياة الحريّة في العبادة للّه الواحد. قال سفر التثنية (6: 13) للمؤمن: "إحذر أن تنسى الربّ الذي أخرجك من أرض مصر، دارِ العبوديّة. الربَّ إلهك تتّقي، وإيّاه تعبد، وباسمه تَحلِف ".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM